مت3: 3 …صوت صارخ في البرية اعدوا طريق الرب

 

“فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً». (مت3: 3)

تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي

 

 كان من عادات الشرق أن يسبق الملك رسول يهيئ له الطريق، والسيّد المسيح كملكٍ روحيٍ أعد لنفسه رسولًا سبق فأنبأ عنه بإشعياء النبي: صوت صارخ في البرّيّة، اعدّوا طريق الرب، قوِّموا في القفر سبيلًا لإلهنا” (إش 40: 3)، وبملاخي النبي: هأنذا أُرسل إليكم إيليّا النبي قبل مجيء يوم الرب (مل 4: 5).

يقول الإنجيلي: “في تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في بريّة اليهوديّة” [1]. لا يفهم من قوله: “في تلك الأيام” أنه بعد رجوعالعائلة المقدّسة من مصر مباشرة، وإنما يقصد بها “في ذلك العصر” أو “في ذلك الزمان” وقد حدّد القدّيس لوقا عماد السيّد بنحو ثلاثين من عمره حسب الجسد (لو 3: 23)، وقد سبقه القدّيس يوحنا بأشهرٍ قليلة حينما بلغ الثلاثين من عمره، السن القانوني للخدمة الكهنوتيّة عند اليهود.

كان القدّيس يوحنا يكرز “في برّيّة اليهوديّة“، ولم تكن برّيّة قاحلة، إنّما كانت تضم ست مدن مع ضياعها (يش 15: 61-62)، لكنها منطقة غير مزدحمة ولا مُحاطة بالحقول والكروم كبقيّة البلاد.

لم يخدم القدّيس يوحنا ككاهنٍ في هيكل سليمان، لكنّه خرج إلى البرّيّة ليفضح ما وصلت إليه الطبيعة البشريّة، التي تخلّت عن عملها المقدّس كهيكل لله فصارت مملوءة جفافًا؛ صارت برّيّة قاحلة وقفرًا محتاجة إلى المسيّا الملك أن ينزل إليها ليرويها بمياه روحه القدّوس، فيجعلها فردوسًا تحمل ثمار الروح. يقول إشعياء النبي على لسان الطبيعة البشريّة المتعطّشة لعمل المسيّا الملك: يسكب علينا روح من العلاء، فتصير البرّيّة بستانًا” (إش32: 15)، “تفرح البرّيّة والأرض اليابسة ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس، يزهر إزهارًا، ويبتهج ابتهاجًا ويُرَنِّم (إش 35: 1-2). هكذا يقدّم القدّيس يوحنا البشريّة كقفرٍ للملك، فيحوّلها فردوسًا أبديًا، بل ويجعلها هيكله المقدّس. لقد حُرم يوحنا المعمدان من خدمة الهيكل الكهنوتية ليهيّئ الطريق لرئيس الكهنة الأعظم ربّنا يسوع، الذي يجعل من برّيتنا هيكلًا جديدًا سماويًا.

لعلّ داود النبي قد رأى بروح النبوّة هذا المنظر، فتهلّلت نفسه فيه، إذ قدّم لنا في ذات البرّيّة مزموره الثالث والستين، فيه يقول: عطشت إليك نفسي، يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء… التصقت نفسي بك. يمينك تعضدني (مز 63: 1، 8). لقد رأى داود النبي جموع التائبين على يديّ يوحنا المعمدان في هذه البرّيّة، وقد التهبت قلوبهم بالعطش، وعطش جسده لمياه نعمته… فجاء السيّد لتلتصق هذه النفوس به، وتستند بقوّته بكونها يمين الرب.

ويرى القديس أمبروسيوس أن البرّيّة التي كرز فيها القدّيس يوحنا المعمدان هي الكنيسة التي قال عنها النبي إشعياء لأن بنيّ المستوحشة أكثر من بنيّ ذات البعل (إش 54: 1) فقد جاء كلمة الله حتى تثمر من كانت قبلًا مستوحشة وبرّيّة.

كيف هيّأ القدّيس يوحنا المعمدان الطريق الملوكي؟ بالمناداة بالتوبة، قائلًا: “توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات” [2]. كان كأسد يزأر في البرّيّة، فخرجت إليه أورشليم وكل اليهوديّة وجميع الكورة المحيطة بالأردن [5]. كانت كلماته أصيلة، ينطق بكلمة الرب كما هي بلا تنميق بشري أو مداهنة أو تدليل، تنبع عن قلب أمين وصادق، يحيا بما ينطق به اللسان، فكان للكلمة فاعليّتها. حقًا إن سرّ جاذبيّة رسالة يوحنا هو اختفاؤه في كلمة الله، وإعلان رسالته خلال حياته العمليّة.

التوبة” في اليونانيّة “ميتانية” وتعني تغيير الاتّجاه، فيعطي الإنسان لله الوجه لا القفا خلال اتّحاده بالمسيّا وذلك بعدما حوّل القفا لا الوجه نحو الله (إر 2: 27). لقد التقى شاول الطرسوسي بالآب خلال المسيّا القائم من الأموات، فتغيّر قلبه وفكره وكل اشتياقاته.

لقد “اقترب ملكوت السماوات“، فصار على الأبواب، إذ جاء السيّد المسيح ليسكن فينا، ولم يعد بعيدًا عنّا. وكما يقول الرسول بولس: “الكلمة قريبة منك، في فمك وفي قلبك (رو 10: 8). أمّا طريق التمتّع بهذا الملكوت فهو إدراكنا بالحاجة إلى عمل المسيّا فينا؛ فإذ يَدين الإنسان نفسه ينفتح القلب لاستقبال عمل المسيّا فيه. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[جاء يوحنا ليقودهم إلى التوبة لا لكي يُعاقَبوا، وإنما خلال التوبة يدينون أنفسهم مسرعين إلى نوال المغفرة… فإنهم ما لم يدينوا أنفسهم لا يقدرون أن يطلبوا نعمته، وبعدم طلبهم هذا لا يمكنهم نوال المغفرة[103].]

 

يقول القديس أمبروسيوس: [كثيرين يتطلّعون إلى يوحنا كرمز للناموس، بكونه يقدر أن ينتهر الخطيّة، لكنّه لا يقدر أن يغفرها[104].]

لقد وصف إشعياء النبي القدّيس يوحنا المعمدان، قائلًا: “صوت صارخ في البرّيّة، أعدّوا طريق الرب. اصنعوا سبله مستقيمة” [3].إنه الصوت الذي يسبق “الكلمة الإلهي”، وكما يقول الآب غريغوريوس الكبير: [من حديثنا تعرفون أن “الصوت” يكون أولًا عندئذ تُسمع “الكلمة”، لهذا يُعلن يوحنا عن نفسه أنه “صوت”، إذ هو يسبق “الكلمة”. فبمجيئه أمام الرب دُعيَ “صوتًا”، وبخدمته سمع الناس “كلمة الرب” إنه يصرخ معلنًا: “اصنعوا سُبله مستقيمة”… إن طريق الرب للقلب يكون مستقيمًا متى استقبل بتواضعٍ كلماته للحق، يكون مستقيمًا إن مارسنا حياتنا في توافق مع وصاياه. لذلك قيل: إن أحبّني أحد يحفظ كلامي ويحبّه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلًا (يو 14: 23). أمّا من يرفع قلبه بالكبرياء، ومن يلتهب بحُمّى الطمع، ومن يلوث نفسه بدنّس الشهوة يغلق باب قلبه ضدّ مدخل الحق، ولئلا يقتني الرب المدخل فإنه يحكم الإغلاق بالعادات الشرّيرة[105].]

يكمّل معلّمنا لوقا البشير هذه النبوّة بقوله: “كل وادٍ يمتلئ، وكل جبل وأكمة ينخفض، وتصير المعوجّات مستقيمة، والشعاب طرقًا سهلة، ويبصر كل بشرٍ خلاص الله (لو 3: 5-6). ما هذه الوديّان التي تمتلئ خلال التوبة إلا وديان الأمم المنسحقة والمعترفة بحاجتها للمخلّص، هذه التي تمتلئ بمياه الروح القدس الواهبة للحياة. وما هذه الجبال والأكَمَة التي تنخفض إلا كبرياء إسرائيل ويهوذا، فقد تشامخ اليهود وظنّوا أنهم أبرار. فقد جاء يوحنا ليحطّم هذا الكبرياء والتشامخ حتى يستقبل المتّواضعون خلاص الله، فيصلح حال النفوس المعوجّة، وتتغيّر طبيعتها التي كانت كالشعاب القاسية لتصير سهلة. بهذا فإن خلاص الله مقدّم لكل البشر، اليهود والأمم!

*     ليُعدّ طريق الرب في قلوبنا، فإن قلب الإنسان هو عظيم ومتّسع، كما لو كان هو العالم. انظر إلى عظمته لا في كمّ جسداني، بل في قوّة الذهن التي تعطيه إمكانيّة أن يحتضن معرفة عظيمة جدًا للحق. إذن فليُعد طريق الرب في قلوبكم خلال حياة لائقة وبأعمال صالحة وكاملة، فيحفظ هذا الطريق حياتكم باستقامة، وتدخل كلمات الرب إليكم بلا عائق[106].

العلامة أوريجينوس

كانت صرخات يوحنا لا تخرج من فمه فحسب، وإنما تنطلق من كل حياته، تعلنها حياته الداخليّة ومظهره الخارجي، حتى ملبسه كان أشبه بعظة صامتة وفعّالة، وأيضًا طعامه. يقول الإنجيلي: “كان لباسه من وبَر الإبل وعلى حقويه منطقة من جلد، وكان طعامه جرادًا وعسلًا برّيًا” [4].

يندهش القديس يوحنا الذهبي الفم كيف يتحدّث الإنجيلي عن رسالة القدّيس يوحنا المعمدان التي تنبأ عنها إشعياء النبي ليعود فيتحدّث عن ملابسه وطعامه! لقد قدّم هذا المظهر ليتذكّر اليهود إيليّا النبي الغيور، فقد جاء كإيليّا يسبق الرب. بهذا المظهر أيضًا قدّم لنا درسًا في الحياة النسكيّة والبعد عن الحياة المدلّلة، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليتنا ننسى هذا النوع من الحياة المدلّلة والمخنّثة، فإنه لا يمكن أن تقوم الندامة مع الحياة المترفة في وقت واحد. ليعلِّمك يوحنا هذا الأمر بثوبه وطعامه مسكنه[107].]

لم يلبس يوحنا الملابس الطويلة كالفرّيسيّين، ولا الملابس الناعمة كحاشية الملك، وإنما ارتدى الملابس اللائقة بالدعوة للتوبة.

واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم” [6].

إذ كان يوحنا يكرز بالتوبة كانت الجموع تأتي إليه تطلب العماد على يديه، معترفين بخطاياهم. لقد عرف اليهود أنواعًا من المعموديّات منها معموديّة المتهوّدين الدخلاء[108]. أمّا معموديّة يوحنا فجاءت رمزًا للمعموديّة المسيحيّة، جاء بها القدّيس يوحنا المعمدان ليهيّئ بها الطريق أمام معموديّة العهد الجديد. لم يكن لمعموديّة يوحنا أن تهب البنوّة لله، الأمر الذي انفردت به المعموديّة المسيحيّة لدخول السيّد المسيح “الابن الوحيد” إليها؛ ولم تكن تحمل في ذاتها القدرة على غفران الخطايا والتقدّيس، إنّما ما حملته من قوّة فقد استمدّته كرمز من قوّة المرموز إليه، كما حملت الحيّة النحاسيّة قوّة الشفاء خلال الصليب الذي ترمز إليه.

*     كان يوحنا يعمدّ بالماء لا بالروح القدس، فبكونها عاجزة عن غفران الخطايا، تغسل أجساد من يعتمدون بالماء، أمّا نفوسهم فلا تقدر أن تغسلها. إذن لماذا كان يوحنا يعمّد…؟ إنه في ميلاده كان سابقًا لمن يولد، وبالتعميد كان سابقًا للرب الذي يعمّد، وبكرازته صار سابقًا للمسيح![109]

الأب غريغوريوس (الكبير)

*     لنعالج باختصار الأنواع المختلفة للمعموديّة:

موسى كان يعمدّ لكن في الماء، في السحابة والبحر، لكنّه فعل هذا بطريقة رمزيّة.

يوحنا أيضًا عمّد، حقًا ليس بطقس اليهود، وليس فقط في الماء وإنما لمغفرة الخطايا، لكنها لم تكن بطريقة روحيّة كاملة، إذ لم يضف أنها “في الروح”.

يسوع عمّد ولكن في الروح، وهذا هو الكمال!

توجد أيضًا معموديّة رابعة، تتم بالاستشهاد والدم، الذي اعتمد بها المسيح نفسه والتي هي مكرّمة جدًا عن الباقين…

ومع ذلك توجد معموديّة خامسة وهي عاملة بالأكثر، معموديّة الدموع، حيث كان داود يُعوّم كل ليلة سريره ويغسل فراشه بدموعه (مز 6: 6)[110].

القديس غريغوريوس النزينزي

فاصل

تفسير القمص أنطونيوس فكري

آية (3): “فان هذا هو الذي قيل عنه بإشعياء النبي القائل صوت صارخ في البرية اعدوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة.”

الاقتباس من (إش3:40) ومن الترجمة السبعينية بالذات. صوت صارخ= هو صوت المعمدان. فهو كان صوتًا يوجه النظر ليسوع، يدعو الناس للتوبة فيكونوا مستعدين لقبول الرب يسوع. إصنعوا سبله مستقيمة= مرادفة لتوبوا. أي من ارتفع قلبه بالكبرياء أو من التهب قلبه بالطمع أو الشهوة فليغير طريقه. والعكس فمن كان يشعر بيأس أو صغر نفس فليكن له رجاء منذ الآن (إش4:40).

فاصل

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى