تفسير انجيل لوقا أصحاح 7 للقمص متى المسكين

الأصحاح السابع

( د ) تحتنات الرب يسوع (7: 1-50)

هذا الأصحاح مليء بصور لعاطفة المسيح حينما ينسكب حنانها على كل من يأتي إليه أو حتى يقابله، ولكن أشدها وضوحاً التي نالها قائد مائة في تحاور بديع على أثره رفع المسيح إيمان هذا الأممي أكثر مما رأى في كل إسرائيل. أما أشدها قوة وبأساً تلك التي نالتها الأرملة في ابنها الوحيد الميت، حينما لمس المسيح النعش فوقف وأمر الميت أن يقوم فقام. فلما رأى ذلك تلاميذ يوحنا أخبروه: أيكون هو المسيا الآتي؟ فقال لهم: اذهبوا واسألوه وما كان داع لسؤال، فالعمي يبصرون والصم يسمعون والعرج يمشون والبرص يطهرون والموتى أيضاً يقومون، أفليس هذا هو عمل المسيا؟ وهاجت نفس المسيح الحساسة وفاضت مراحمه تجاه يوحنا وما حدث له فأخذ ينشد له أنشودة مديح رفع بما يوحنا فوق جميع الأنبياء.

لكن الفريسيين ما رأوا ولا سمعوا ولا اعتمدوا ولا شهدوا؛ بل رفضوا الخلاص واحتقروا مشورة الله الباديـة لعيون الغمي. فأخذ المسيح بالتالي يندب حظ هذا الجيـل الـذي ما ساوى متفرجي سيرك الأسواق والأعياد، فيوحنا جاءهم ناسكاً عابداً لا يأكل ولا يشرب فقالوا عليه: به شيطان، وجاءهم المسيا على مستوى الإنسان يأكل ويشرب فنعتوه بالبطنة والإغراق في شرب الخمر. وهكذا ماتت الحكمة من إسرائيل.

ثم يقص ق. لوقا قصة فريسي غني متعظم بفريسيته وغناه، دعا المسيح ليأكل معه، وجاءت امرأة خاطئة متجزئة على الرب، لأن الرب أحب الخطاة فأحبوه، وانتهزت فرصة انشغال القوم بالأحاديث فجاءت متخفية من وراء الرب وبكت بكاء التوبة على رجلي الرب فبللتها بدموعها ثم مسحتها بشعر رأسها تبركاً من الجسد المقدس. ولكن يبدو أن الفريسي كان يعرف هذه المرأة والله يعلم متى وأين؟ فلام لجهلـه كيـف لم يعـرف أنهـا خـاطئـة أمـا المـسـيـح فـأكرم المرأة وأعطاهـا غفراناً بقدر حبها، كثيراً بكثير، ولما لام المتكئون كيف لإنسان أن يغفر الخطايا، فقال للمرأة كلمة سر المسيا: «إيمانك خلَّصك» اذهبي وسلام الرب معك، وهذا هو الرب .

والعجيب يا إخوة أن مثل هذه الخاطئة تُدرك أن المسيح جاء من أجلها فجاءت إليه مطمئنة (إيمانك)، فخرجت بكل بركات الصليب والقيامة: الغفران والخلاص معاً، وكسب صاحب الوليمة الدينونة لنفسه.

1 – شفاء عبد قائد المائة (10-1:7)

(مت 5:8-13)

حادثة هامة يقدمها ق. لوقا لخزانة الإنجيل لتدخل تقليد الكنيسة من جهة التعامل مع الغرباء والذين يدينون بغير الدين. هو أممي قائد مائة، ولكن بحسب اعتراف شيوخ إسرائيل بني مجمعاً لهم. شيء غريب على مسامعنا أن أجنبياً يبني مجمعاً لليهود، فإما أنه كان رجلاً غنياً جداً، وإما أنه كان له سلطان أن يفعل ذلك بأمر الملك (هيرودس)، ولكن كان فوق ذلك محبا لأمة غريبة عليه وعلى عبادته. هذا كله أدركه المسيح، ولكن الغريب في الأمر أن قائد المائة هذا أظهر إيماناً بالمسيح يستحق فعلاً ما مدحه به المسيح، وشرح إيمانه أن المسيح بسلطانه الذي من عند الله يأمر أن يشفى عبده فيكون، دون أن يتحرك المسيح، على مثال ما يأمر هو عسكره فيذهب هذا ويأتي ذاك. فكان له ما أراد تماماً إذ شفي العبد الذي له دون أن يذهب المسيح أو حتى يجيء قائد المائة، إذ اعتبر نفسه غير مستحق أن يمثل بين يدي المسيح. شيء من التواضع لا يليق بضابط ذي رتبة، فإيمانه كان أعلى من كل إسرائيل، واتضاعه كان أكثر من عبد: «ففتح بطرس فاه وقال: بالحق أنا أجد أن الله لا يقبل الوجوه. بل في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده. «(أع 35,34:10)

ولكن نستشف من توسط شيوخ يهود بين قائد المائة والمسيح رائحة تنصر يهود مقبلة، ومن حالة إيمان قائد المائة انفتاح باب الخلاص للأمم على سعة. فالقديس لوقا يرسم في قصصه إرهاصات بناء الكنيسة العتيد أن يكون، وفي نفس الوقت يشير إلى ما يجب أن يكون.

أما المشكلة الحقيقية التي واجهت العلماء فهي الفوارق الكبيرة في قصة ق. لوقا (1:7-10)، وذات القصة لقائد المائة نفسه كما جاءت في إنجيل ق. متى (5:8_13). فالقديس متى يضغط القصة ويختصرها في أقل كلمات، وق. لوقا يفردها ويضيف ويعلل. ولكن الذي استقر إليه رأي العلماء أن كلاً من ق. متى وق. لوقا أخذ من مصدر مختصر للغاية، وقام كل منهما بحسب قراءات أخرى بتكميل القصة كما بلغته وكما سمعها وقرأها. فالتقليد الأصلي والقديم جداً واحد.

1:7 «ولما أكمل أقواله كلها في مسامع الشعب دخل كفر ناحوم».

واضح أن ق. لوقا أراد أن ينتقل من جو العظة، إلى بقية رواية الإنجيل، ونرى هذه النقلة أيضاً بعينها في إنجيل ق. متى: «فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بجيت الجموع من تعليمه لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة.» (مت 7: 28 و29)

2:7 «وكان عبد لقائد مئة، مريضاً مشرفاً على الموت، وكان عزيزاً عنده».

«قائد مئة»:

وهو اللقب اليوناني لقائد المئة، ويضعها ق. مرقس باللاتينية (مر 39:15). ولكن يقول العلماء: إنه لم يكن هناك ضباط رومانيون في الجليل قبل سنة 44م، لذلك يقول العالم مارشال إنه يلزم أن يكون هذا القائد من جند هيرودس الملك الذين تدربوا على النمط الروماني. وهو على كل حال ليس يهودياً ولا حتى يعتبر “بروزيليت” أي دخيلاً. وكان المريض عبـدأ عنـد قائد المائة الذي تشفع من أجله، وكان مشرفاً على الموت ولذلك لم يحمل ويذهب به إلى المسيح مما دعا القائد لإرسال وساطة. غير أن إنجيل ق. متى يقول: إن قائد المائة ذهب إلى المسيح بنفسه. وكان هذا العبد محبوباً لديه. والكلمة اليونانية تظهر أن القائد يكن له احتراماً وحبا وقرباً، وهذا يكشف لهفة القائد عليه. ولكن لا يفوت علينا إلى أين يرمي ق. لوقا بهذا، فهو يريد أن يظهر للكنيسة أن العبد ليس وضيعاً ولا منبوذا في البيت بل ينبغي أن يكون على حد لغة ق. لوقا intimate عزيزاً قريباً كريماً محبوباً كصديق أو كابن.

3:7 «فلما سمع عن يسوع، أرسل إليه شيوخ اليهود يسألونه أن يأتي ويشفي عبده».

«شيوخ اليهود»:  πρεσβυτέρους

وهـم الطبقة العلمانية التي تترأس على الشعب، أو ربما يكونون أعضـاء السنهدرين. ولكن في البلاد الصغيرة يكونون جماعة تساعد السنهدرين. وجاءت هنا خلوا من “أل التعريف، لذلك تعني بعضاً منهم، لأن هذه الجماعات كانت تتكون من سبعة أعضاء.

«يشفي عبده»: 

وهنا أيضاً يستخدم ق. لوقا هذا الفعل الذي يصلح أيضاً لمعنى الخلاص، ولكنه هنا يفيد الخلاص من الهلاك، أو أن يقيمه بسلام. وجاءت بهذا المعنى في سفر الأعمال: «وأن يقدما دواب ليركبا بولس ويوصلاه سالماً: »(أع 24:23). واختيار هذه الكلمة ربما كان لخطورة المرض. وهو اصطلاح يوناني بديع، لأننا نحن كلنا نحتاج إلى هذه الدياسوزين” أي أن نصل بسلام، لأن وضعنا في العالم يشكل نفس الخطورة المحيقة بهذا العبد المحبوب.

4:7 «فلما جاءوا إلى يسوع طلبوا إليه باجتهاد قائلين: إنه مستحق أن يفعل له هذا».

«طلبوا إليه باجتهاد»: παρεκάλουν αὐτὸν σπουδαίως 

يأتي فعل طلبوا إليه باليونانية في الصيغة الدائمة ليوضح مدى إلحاح شيوخ اليهود في الضغط على الطلب، لا كأن المسيح يرفض الطلب، ولكن رغبة منهم لتزكية السؤال. وبعدها تأتي كلمة باجتهاد لأن الأمر يخصهم نوعاً ما، إذ أنهم أفصحوا بعد ذلك أن هذا القائد الشريف بنى المجمع الذي يعبدون فيه، وإلى هذا الحد أصبحوا مديونين لهذا الرجل الكريم. وهنا تتضح العلاقة الحميمة بين هؤلاء الشيوخ الذين يخدمون في هذا المجمع وبين هذا الضابط المنفتح والسخي.

«مستحق»: Ἄξιός

الاستحقاق بالحقيقة يليق بالله وحده، ولكن تستخدم هذه الكلمة للتعبير عن مدى استحقاق الإنسان ولكن فيما هو دون الله . هنا بعيدة كل البعد عن القيمة اللاهوتية التي لها. وإنما تشير إلى ذيوع صيت هذا الإنسان بين الشعب وزملائه. وينصب الاستحقاق هنا على «أن يفعل له هذا» أي أن يذهب المسيح ويشفي عزيزه الذي على شفا الموت. فهي

5:7 «لأنه يحب أمتنا، وهو بنى لنا المجمع».

«أمتنا»:

وهـو اصطلاح يستخدمه اليهـود بـالمفرد ليرفعـوا مـن قـدر اليهوديـة فـوق بقيـة الأمـم (بالجمع):

«فقالوا إن كرنيليوس (قائـد مـئـة آخـر ) قائد مئة رجلاً بـاراً وخائف الله ومشهوداً لـه مـن كـل أمـة  اليهود …» ، (أع 22:10)، وخاصة أنه بنى المجمع في موضعهم (كفرناحوم). ومعروف في التاريخ القديم أن الأمم كانت تتبارى في إصلاح المجامع اليهودية. ولكن أن يبني رجل أممي مجمعاً بأكمله لليهود فهذه أول مرة نسمع بها، ولكن معروف أنه كان بين رجال البوليس والأمن من الأمم رجال أغنياء. وقد انتقل هذا إلى الكنيسة على يد كرنيليوس الذي اعتمد على يد ق. بطرس: « وهو تقي وخائف الله مع جميع بيته، يصنع حسنات كثيرة للشعب، ويصلي إلى الله في كل حين. »(أع 2:10)

6:7 «فذهب يسوع معهم. وإذ كان غير بعيد عن البيت، أرسل إليه قائد المئة أصدقاء يقول له: يا سيد، لا تتعب. لأني لست مستحقا أن تدخل تحت سقفي».

 استجابة المسيح تعني قبول وساطة شيوخ المجمع، وبالأكثر استعداده للذهاب بل ومعرفته المسبقة بما سيتم من جهة شفاء ذلك العبد المحبوب، بل إن مجرد تحرك المسيح نحو بيت قائد المئة يعني تماماً شفاء العبد في مفهومنا الروحي واللاهوتي. لأن تحرك المسيح هو في الحقيقة في وزنه اللاهوتي أكثر من قل كلمة فيبرأ الغلام! ولكـن هنـا لمـا عـرف قائد المئة بتحرك المسيح لم يقو على ضبط أعصابه إذ هاج عليه اتضاعه: كيف يتعب المعلم الذي كان في نظره صاحب سلطان أقوى من سلطانه، فأرسل على عجل سفارة من بعض الأصدقاء يتوسلون لدى المسيح أن لا يتجشم تعب الذهاب إلى بيته، معللاً رجاءه هذا بأنه غير مستحق أن يحل المسيح تحت سقفه، وهذا شعور عجيب حقاً من إنسان أممي ضابط بوليس.

«أصدقاء»: 

كلمة محبوبة عند ق. لوقا صدر بما إنجيله إلى إنسان يحمل الاسم منسوباً إلى الله: «العزيز ثاوفيلس »أي: “محب الله” أو “عزيز الله”. وواضح أنهم أصدقاؤه هو وغالباً من بني جنسه. وقد جاءت هذه الكلمة في نفس الأصحاح: «جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فتقولون إنه محب للعشارين والخطاة.» (لو 34:7)

«يا سيد لا تتعب»:

اصطلاح دارج عند ق. لوقا والأناجيل الأخـرى (مر 35:5، مت 36:9). وهـذا القـول شبيه بقول ق. بطرس: «أخرج من سفينتي يا رب لأني رجل خاطئ» (لو 8:5)، وقرين لقول المعمدان: « لست أهلاً أن أحل سيور حذائه» (لو 16:3). لأن سلطان المسيح باعتباره الآتي من الله صورة مرعبة للنفس التي تستطيع أن تميز الإلهيات. لذلك كان المسيح يتمادى في وده ووداعته وبساطته حتى يرفع عن الناس هذا الإحساس: «تعلموا ، لأن وديع ومتواضع القلب» (مت 29:11)، «أنا إنسان قد كلمكم بالحق» (يو 40:8). ولكن استطاع المسيح بالحق أن يترك لنا صورته والإحساس به حاملاً الإحساسين معاً: وداعته ولطفه وبساطة نفسه، وعظمة وسلطان مجده معاً وبآن واحد. وكل مرة نقف أمامه يجرفنا أحد الإحساسين: فإما وداعته الشديدة حين نكون في حالة الوداعة، وإما سلطانه القاهر مع مجده حينما نقع في الضيقة ونحتاج منه المعونة سريعاً، عجيب هو الرب فهو يستطيع أن يقترب إلينا يرفع الفوارق، ويستطيع بآن واحد أن يتراءى كالله بلا فارق .

7:7 «لذلك لم أحسب نفسي أهلاً أن آتي إليك. لكن قل كلمة فيبرأ غلامي».

للأسف لم يذكر ق. متى في إنجيله شيئاً من هذا بل قال إن قائد المئة جاء إلى المسيح بنفسه، وقد سبق وعللنا السبب في هذه المفارقة الواضحة وهي أن كلاً من ق. متى وق. لوقا أخذ من مصدر واحد القصة مختصرة للغاية فملأها كل منهما من مصادر أخرى، فاختلفت القصة في مفرداتها ولكن جوهرها واحد؛ إذ يتركز قلب القصة في أن قائد المئة في إنجيل ق. متى اعتبر أنه ليس أهلاً أن يأتي المسيح تحت سقف بيته، أما في إنجيل ق. لوقا فأضاف قائد المئة أنه هو أيضاً ليس أهلاً أن يأتي إلى المسيح، لذلك رأى أن كلمة واحدة يقولها المسيح تكفي أن تشفي الغلام. ويبدو أن هذا التقدير الفكري الإيماني كان أحد مواريث إسرائيل عن عمل الله بالكلمة، فداود يصرح بها: «أرسل كلمته فشفاهم ونجاهم من تهلكاتهم» (مز 20:107)، الأمر الذي نفذه المسيح أمام تلاميذه المنزعجين من هياج البحر وعنف الرياح: «يا معلم يا معلم إننا نملك» (لو 24:8)، فالمسيح بكلمة واحدة نجاهم من هلاك أكيد إذ صرخ في البحر أن إبكم والريح أن تخرس فتوقف البحر وصمتت الريح. وهذه المعجزة من أهم البينات التي تكشف عن المسيح كخالق، وفي أمر قائد المئة كمُحي من الموت.

8:7 «لأني أنا أيضاً إنسان مُرتب تحت سلطان، لي جند تحت يدي. وأقول لهذا: اذهب فيذهب، ولآخر: انت فيأتي، ولعبدي: افعل هذا فيفعل».

الصورة التي تصورها قائد المئة عن المسيح مبدعة حقا، فقد رأى في نفسه أنه مرتب تحت سلطان ولـه سـلطان أن يأمر فيطـاع في الحال، والفكـر واضح في رأس هـذا الضابط المتسـع الخيـال والإيمان، أولاً إذ اعتبر أن المسيح هو من الله وهذا هو السلطان الأعظم الذي يتحرك المسيح بمقتضاه، وثانياً، أن المسيح هو نفسه صاحب نفس السلطان. فالله إذ هو قادر أن يقول كلمة فيخلق ويحيي ويميت، فالمسيح جاء وله هذا السلطان عينه، فأصبح من العبث أن يتعب هذا الرب المبارك ويأتي إلى بيت قائد المئة، أو حتى يأتي إليه قائد المئة إذ المسيح قادر أن يقول كلمة فيكون كل ما يريد المسيح وكل ما يتمناه ذلك الضابط التقي. صورة صادقة أقوى ما يكون الصدق، فلما سمع المسيح هذا التفسير تعجب حقا لأنه حق.

9:7 «ولما سمع يسوع هذا تعجب منه، والتفت إلى الجمع الذي يتبعه وقال: أقول لكم: لم أجد ولا في إسرائيل إيماناً بمقدار هذا».

 حينما استمع المسيح إلى قول هذا الضابط العجيب اندهش من قدرة اتساع خياله وإيمانه الذي به قيم قدرة المسيح على مستوى الجندية الشديدة الانضباط والخضوع والطاعة، الأمر الذي لميا تميزه المسيح وجده على نوع من الصحة الإيمانية الفريدة من نوعها، لأن هذا النظام الذي يحكي الضابط عنه أنه مستوى التعامل الذي يحياه مع مرؤوسيه ربما يكون أقرب ما يمكن إلى حقيقة التدبيرات السماوية. غير أن المسيح هو بذاته الكلمة الإلهية التي تخضع لها السموات والأرض بلا جنود أو توسطات من أي نوع. ولكن سرعان ما قاس المسيح هذا الإيمان لهذا الضابط بإيمان الكتبة والفريسيين والعلماء ورؤساء اليهود فوجد أن الموازنة منعدمة، فأعلى وصف إيماني سمعه المسيح من نيقوديموس، وهو رئيس كبير من معلمي الناموس الفريسيين، بخصوص شخصية المسيح هو ما قاله: «نعلم أنك قد أتيت من الله معلماً» (يو2:3). وانتهى الحوار مع نيقوديموس على أساس يائس: «إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟» (يو 12:3)، وقبلها: «الحق الحق أقول لك: إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا» (يو 11:3)!!

ومن هذه النوادر التي قابلتنا في الإنجيل من أشخاص أمميين سواء الكنعانية التي قال لها المسيح: « عظيم إيمانك» (مت 28:15)، أو هذا الضابط الذي قال له إنه ولا في إسرائيل وجدت إيماناً بمقدار هذا، من هذا نُدرك أن الأمم شاركوا حقا في استقبال المسيح وأكرموا مجيئه فتأكد لنا لماذا «أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 16:3). وقول الرب: «لي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضاً فتسمع صـوتي وتكـون رعيـة واحـدة وراع واحـد!!» (يو 16:10). وكـان همه الأعظـم  يوم تراءى لتلاميذه بعد القيامة للمرة الأخيرة: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم …» (مت 19:28)

10:7 «ورجع المرسلون إلى البيت، فوجدوا العبد المريض قد صحَّ».

لقد تم شفاء العبد كما أراد قائد المئة ودون أن يذهب المسيح ولا نسمع أنه قال كلمة، ولكن بمجرد إرادة المسيح ثم الشفاء مثلما حدث للأرملة الفينيقية السورية التي شفى المسيح ابنتها بسبب إيمانها وبدون كلمة (مر24:7-30)

2 – إقامة ابن الأرملة من الموت (17-11:7)

(إنجيل القديس لوقا وحده)

قصة قدمها ق. لوقا ليبني عليها بعد ذلك الرد الاستعلاني فيما يخص مجيء المسيا، لإثبات حقيقة من هو لتلاميذ يوحنا المعمدان: «والموتى يقومون»

وفي هذه القصة يكشف المسيح عن مدى حنانه وعطفه على أرملة فقدت زوجها، وابنها وحيـد محمول على نعش، وتصادف أن المسيح كان داخلاً المدينة ومودعو الميت خارجون به، فتقدم المسيح بدون أن يسأله أحد ولمس النعش فتوقف سير الحاملين وابتدر الشاب بأن ثـم فقـام. وهكذا استعلن المسيح في هذه القصة كحامل لسلطان الله على الإقامة من الموت. لذلك نجد القوم في النهاية يعتريهم الخوف ويعطون المجحمد لله. ولكن الذي يهم ق. لوقا في هذه القصة هو أن يكشف أن الناس قد تمهد ذهنهم بأن هذا هو زمان افتقاد الله وقيام نبي عظيم، الأمر الذي سيرد به المسيح على سؤال المعمدان: هل هو الآتي أم ينتظرون آخر؟

ولكن لا نعدم رؤيا تخص حاضرنا وكنيستنا، فالمنظر يتراءى وكأن الكنيسة قد أصابها ما أصاب أرملة نايين، تودع أولاداً أعزاء إلى مصيرهم المحتوم، ليس إلى القبر بل إلى ما هو أصعب من القبر: إلى حياة بلا مسيح ولا رجاء. وإذ بنا نرى المسيح يوقف هذا المشهد الحزين ويلمس روح الضياع واليأس فتتوقف مسيرة الموت ويأمر بكلمة فينهض شباب الكنيسة لنهضة تملأ أطراف الدنيا.

ألا يتحنن قلبك يا سيد وتفتقد الكنيسة وهي متغربة وحدها تبكي قتلاها ضحايا موبقات العصر التي أتقن الشيطان صنعها؟

11:7 «وفي اليوم التالي ذهب إلى مدينة تدعى نايين، وذهب معه كثيرون من تلاميذه وجمع كثير»

نایین

مدينة يقول عنها يوسيفوس المؤرخ إنها أدومية تقع في شرق الأردن، ولكن هي الآن مدينة صغيرة تُدعى نن Nen في سهل يزرعيل على بعد 6 أميال جنوب شرق الناصرة على الحافة الشمالية لجبل حرمون الصغير. وكان يرافق المسيح عدد كبير من تلاميذه مع جمع كثير وكل هؤلاء صاروا شهوداً لهذه المعجزة. وكان منظراً مألوفاً أن يرى المسيح سائراً في الطرقات ومن مدينة إلى مدينة، يحيط به جمع كبير من تلاميذه وبقية التابعين للمسيح بصورة دائمة.

12:7 «فلما اقترب إلى باب المدينة، إذا ميت محمول، ابن وحيد لأمه، وهي أرملة ومعها جمع كثير من المدينة».

كانت القبور لكل مدينة توجد خارجها، وفعلاً فإن آثار قبور لا تزال موجودة ناحية الجنوب الشرقي لمدينة نايين. والمشكلة أن التقليد لا يقول إن المدينة كان لها باب ولكن لا توجد أي أبحاث أثرية في هذه المنطقة. كان الحزن يلف كل الجماعة التي خرجت مع الميت المحمول، والتأثر البادي على الجماعة يكشف فداحة الخسارة بالنسبة لهذه الأرملة، فالابن كان وحيدها والزوج قد مات. لذلك كان البكاء والنحيب مؤلماً للغاية.

وقول القصة إنه كان مع الأرملة التي خرجت تدفن وحيدها جمع كثير يعطي الانطباع عن مركز هذه الأرملة العزيز جداً عند أهل المدينة وفداحة خسارتها.

13:7 «فلما رآها الرب تحنن عليها وقال لها: لا تبكي».

«الرب»: κύριος 

هذا اللقب يستخدم للتعبير عن الله وعن المسيح في مواضع متبادلة. ولقب الرب رسخ في الكنيسة الأولى للتعبير عن المسيح إذ أقامه الله ليكون هو الرب: «فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم ربا ومسيحاً» (أع 36:2) بمعنى مسيا الرب. وأول مرة ذكر فيها اسم الرب” منسوباً للمسيح بالمفهوم الكامل أي بمفهوم الله كان من فم المسيح نفسه في إنجيل ق. مرقس: «وإن قال لكم أحد لماذا تفعلان هذا فقولا الرب محتاج إليه فللوقت يرسله إلى هنا.» (مر 3:11)

«تحنن عليها»:

ويبدو أن ق. لوقا أخذ هذا الاصطلاح عن ق. مرقس (1: 41 و 6: 34 و 8: 2 و 9: 22 )

«وقال لها: لا تبكي»:

ويمكن أن يقول هذه الكلمة التوسلية أي إنسان وهو لا يملك ما يعزي، ولكن المسيح قالها لأنه عالم أنه سينزع عنها الدموع بل والحزن كله، فهو المعزي الوحيد الذي ينزع الدموع والأحزان كلها بأن يجتث أصولها وأسبابها ودواعيها، فهو المحيبي ومعطي الحياة مع بمجة الخلاص وأفراح الأبدية.

وهو حينما قال: «فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم» (يو 23:16)، قالها وهو عالم أنه هو سيكون فرح الحياة التي لن يكون فيها حزن لموت بعد! «من كان حيا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد.»(يو 26:11)

14:7 «ثم تقدم ولمس النعش، فوقف الحاملون. فقال: أيها الشاب، لك أقول قم».

بعد أن قال للمرأة لا تبكي كان حتماً . عملاً سيصنع ينهي على البكاء، وبتؤدة تقدم المسيح حتى صار بجوار النعش المحمول. وهكذا وقفت الحياة بجوار الموت فأصبح من المحتم أن يفر الموت ويخلي السبيل للحياة. ولكي يكمل المسيح فعل الحياة في الجسد الميت لمس النعش، فسرت الحياة في الحال وأزاحت الموت، وقام الشاب يستفسر ماذا حدث لأن روحه استدعيت من الهاوية لتلبس جسدها وتستعيد حياتها. كان النعش بدون غطاء كعادة اليهود، فلما قبل الجسد الروح قام للتو فكان أول من وقعت عينا الشاب عليه هو المسيح الذي تحنن عليه. 

15:7 «فجلس الميت وابتدأ يتكلم، فدفعه إلى أمه».

لقد أطاعت الروح كلمة صاحب القيامة من الأموات، قامت في الحال وأقامت معها الجسد المسجى والملفوف بلفائف الموت. ولماذا يتعجب القوم أو يندهش القارئ، فالمسيح دفع ثمن هذه القيامة بموته الذي كان مزمعاً أن يموته فكان ثمناً لكل قيامة منذ آدم وإلى آخر الدهور. لأن الموت الذي ماته المسيح كان فعلاً متغلغلاً في جسد البشرية فائقاً على المكان والزمان لأنه كان فعلاً إلهياً. فالذي مات هو ابن الله بالجسد مـن أجـل كـل جـسـد كـان وسيكون. بل إنه بموته داس الموت وألغى سطوته، فمـن أمـن بالمسيح ومات فهو لا يموت ولا يسود عليه الموت بل هو لقيامة محققة  بالروح: «إني أنا حي فأنتم ستحيون» (يو 19:14)، «من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حيا (بالروح) وآمن بي فلن يموت إلى الأبد.» (يو 11: 25 و26) 

نعم لقد أقام الشاب من الموت رب القيامة، وتكلّم الشاب شهادة لروح القيامة الناطق في لسانه. أما القول أنه دفعه إلى أمه، فعودة إلى معجزة إيليا وابن الأرملة (1مل 23:17)، والمقيم من الموت في القديم هو هو الذي أقام في الجديد وهو الذي سيقيمنا جميعاً في ملء مجيئه للمجد.

16:7 «فأخذ الجميع خوف، ومجدوا الله قائلين: قد قام فينا نبي عظيم، وافتقد الله شعبه».

 إزاء هذا العمل الفائق على الطبيعة والذي لم يألفه الناس قط أخذ أهل الميت والمشيعين خوف، ولكن لم يعجزوا عن إدراك أن الله العامل هذه المعجزة العظمى أن يقوم ميت بالأمر وبكلمة واحدة، فاعتبروا الله هو الذي افتقد شعبه وأرسل هذا النبي العظيم. لم يطرأ على ذهنهم أن يكون نبي قد قام من الأموات مثل إيليا مثلاً الذي عرف عنه أنه أقام ميت أرملة صرفة صيدا. ولكن تيقنوا أن الله افتقد شعبه بقيام هذا النبي العظيم. ولكن الذي يسترعي اهتمامنا أنهم قيموا هذا النبي بأنه عظيم لأن المعجزة التي تمت أمام أعينهم عظيمة جـداً وبكل معنى، وتفوق قدرة كل الأنبياء خاصة أن المسيح أمر الميت بسلطان وليس بتوسّل لدى الله، الشيء الذي لم يسمع به قط والذي فيه إشارة خفية أن الناطق نطق بقوة الله.

«افتقد الله شعبه»: 

الكلمة اليونانية تفيد معنى الزيارة، أي أن الله زار شعبه، وهـي أقـوى مـن كلمـة الترجمة العربيـة افتقد”، فالافتقاد يمكن أن يتم عن بعد. فالله يفتقد شعبه وهو في السماء. ولكن هنا تعني أن الله قام بزيارة شخصية لشعبه. والحقيقة أن الشعب كله كان على أشد الانتظار أن يحدث هذا: أن يفتقدهم بنفسه.

17:7 «وخرج هذا الخبر عنه في كل اليهودية وفي جميع الكورة المحيطة».

وطبعاً هذا الخبر هو إقامة الميت ابن الأرملة. وطبعاً كل اليهودية يضاف إليها الجليل فهي جميع الكورة المحيطة بمكان المعجزة وهي مدينة نايين التي يظن أنها خارج اليهودية وقريبة من الأردن. والقصد من هـذا هـو وصـول خـبر المعجزة إلى مكان سجن يوحنا المعمدان حيث كان مسجوناً في منطقة ماخيروس شرق الأردن، وخارج اليهودية. الذي إذ سمع هذه الأخبار فكر أن يكون هذا هو المسيح وأراد أن يستوثق من هذه الأخبار وصحة نسبتها للمسيا” الذي جاء يوحنا مرسلاً أمامه ليعد له الطريق.

ويمتاز الأصحاح السابع بتدوين العلاقة بين المسيح والمعمدان. فالجزء الأساسي في هذا الأصحاح ينقسم إلى ثلاثة أجزاء تختص بذلك:

الجزء الأول: (18:7-23): رد المسيح على سؤال المعمدان.
الجزء الثاني: (24:7-28): شهادة المسيح ليوحنا المعمدان.
الجزء الثالث: (29:7-35): الرفض الكبير: رفض يوحنا المعمدان ورفض المسيح أيضاً.

وتأتي هذه التسجيلات مطابقة تقريباً لما جاء في إنجيل ق. متى (11: 2-19) مما يوحي بأن كلاً من ق. متى وق. لوقا أخذ من مصدر واحد.

الجزء الأول:

3 – رد المسيح على سؤال المعمدان (23-18:7)

(مت 1:11_6)

حينما جاء تلاميذ يوحنا يسألون المسيح هل أنت الآتي أم ننتظر آخر كان رد المسيح من واقع ما رأوا وسمعوا من الآيات ذات القوات العظيمة حتى إلى أن الموتى يقومون، وأن المساكين يبشرون. وهذا بدوره يأتي تتميماً لقول إشعياء النبي: «حينئذ تتفقح عيون العمي، وآذان الصم تتفتح، حينئذ يقفز الأعرج كالأيل (الغزال) ويترتم لسان الأخرس» (إش 35: 5و6)، «ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترثم وفرح أبدي على رؤوسهم، ابتهاج وفرح يدركاتهم، ويهرب الحزن والتنهد» (إش 10:35). وهنا يمتاز ق. لوقا كونه يقدم تلاميذ يوحنا بسؤالهم واضحاً، ويصف المعجزات التي تمت في حضرتهم. ويأخذ العلماء على المعمدان كونه يناقض ما سبق أن قاله وامتدح به المسيح. ولكن في رأينا أن الذي أجبر المعمدان على هذا السؤال الحال الذي تردى فيه نتيجة اضطهاد هيرودس وسجنه، مما زعزع فكره. ولم يكن يدري المعمدان أنه بسجنه وقطع رأسه كان يتنبأ عن صليب المسيا.

18:7 «فأخبر يوحنا تلاميذه بهذا كله».

كانت أخبار أعمال المسيح والقوات التي صنع قد بلغت يوحنا المعمدان بواسطة تلاميذه لأنه كان في السجن. فقـد كـان يوحنـا وقتئذ مسجوناً كمـا يخبرنا ق. متى: «أما يوحنـا فلما سمع في السجن بأعمال المسيح أرسل اثنين من تلاميذه وقال له: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟» (مت 11: 2و3). وقد سبق ق. لوقا أيضاً وأخبر عن سجن المعمدان (لو 20:3). وواضح من كلام ق. متى أن تلاميذ المعمدان كان متيسراً لهم زيارة معلّمهم المعمدان في السجن بدون صعوبة.

19:7 «فدعا يوحنا اثنين من تلاميذه، وأرسل إلى يسوع قائلاً: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟»

الشرح الذي نقدمه هنا هو من واقع الحال كما سجله الإنجيل بأن يوحنا قد أُلقي في السجن بانتظار الموت المحتم، والتلاميذ من حوله في فزع لأن معلمهم كان عزيزاً وكبيراً في أعينهم. فإن كان الآباء الأوائل قد تجاوزوا الواقع المر وقالوا بأن يوحنا إنما أرسل التلميذين ليشدد قلبيهما برؤية المسيح، وأنه هو لم يكن يشك في من مدحه ووصفه بأنه الحمل الذي يرفع خطية العالم والعريس الذي جاء لتفرح به البشرية، وهو الصديق للعريس الذي يفرح بفرحه. كذلك جاء بعض العلماء في عهد الإصلاح ليقولوا بقـول الآباء. ولكن جمهرة العلماء واللاهوتيين الكبار رأوا في هذا الشرح محاولة لتقديس الأشخاص وإخفاء نقائصهم، الأمر الذي لم يمارسه الكتاب المقدس منذ البدء حتى النهاية، منذ توبيخ موسى بشدة إلى توبيخ بطرس بشدة أكثر بسبب انحراف أفكارهم عن حق الله. لذلك لا نرى في هذه القصة إلا عثرة من العثرات الكثيرة التي واجهها المسيح من الكتبة والفريسيين والكهنة ورؤساء الكهنة ورؤساء الشعب والتلاميذ والأقارب وحتى أهل بيته. 

إرسالية حزينة من داخل سجن مظلـم وأخبار انتقام ورائحة موت، نفسية المعمدان أسد البرية الصارخ برجاء الآتي وإنذارات التوبة وقوة المغفرة بدأت تنهار تحت ظلم هيرودس وكيد نساء القصر. فإن كان يوحنا هو إيليا، فإيزابل جاءت وراءه والموت بين يديها. لقد ارتاع المعمدان من الأخبار التي كانت تصله كل يوم، فرفع نظره نحو من جاء يكرز لحياته، الأقوى منه والعريس الذي جاء ليفرح به قبل أن يعتزل وينقص. أين هو؟ وأين أنا؟ ألم يسمع بما ألم بي في سجني وهو القادر وبالروح القدس يعمل؟ فلماذا أهملني بهذا المقدار؟ ألعله يكون ليس هو الآتي الذي ننتظره؟ وهل علينا أن ننتظر آخر؟ لقد أدرك يوحنا كل شيء عن المسيح ولكن شيئاً واحداً أخفي عن عينيه: الصليب!! فالموت الذي كان يخشاه المعمدان كان هو مسرة المسيا. فإن كان المسيح يرى في الصليب تكميل الرسالة، فليس كثيراً على من أعد له الطريق أن يلقى في سجن، والخلاص الذي جاء المسيح يسعى إليه ليس هو الخلاص من السجون وأيدي الملوك والولاة!

ولكن لم يحتمل المعمدان أكثر من هذا، فأرسل تلميذين يسأل: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر يأتي ليخلصنا من الضيقة! وهكذا عثر الجميع في يسوع ويسوع وحده كان بلا عثرة.

20:7 «فلما جاء إليه الرجلان قالا: يوحنا المعمدان قد أرسلنا إليك قائلاً: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟»

القديس لوقا وحده هو الذي يذكر وصول الرجلين إلى المسيح وتقديم سؤال معلمهما الحزين، وربما شفعاه بوصف حال المعمدان في السجن. وقد أوضح التلميذان بقولهما: «أم ننتظر آخر» بالمتكلم في صيغة الجمع أنهما انضما إلى معلمهما بذات السؤال. لأنه إن كان المعمدان قد أصابه القلق من الوضع السيئ الذي تردى فيه، خاصة وأنه حدث نتيجة لقول الحق الذي جاء ليعلنه للجميع، فتلاميذه لا بد أنهم قد بلغوا نفس الوضع، بالرغم من ولائهم لمعلّمهم.

21:7 «وفي تلك الساعة شفى كثيرين من أمراض وأدواء وأرواح شريرة، ووهب البصر لعميان کثیرین» .

كان من العسير على التلميذين أن يصلا في الحال إلى المسيح، فالجمع الواقف حشد كبير، مرضى وحاملو مرضى بالمئات ومتألمون يتوجعون وعمي يصرخون ويهتفون. فوقف التلميذان ينظران ويتأملان ويفحصان ساعة من ساعات المسيا. وكأن إشعياء يتلو صفحاته على عجل، وكل ما ينطقه إشعياء يرسمه المسيح بيديه وبكلمة من فمه. وكان المنظر أخاذاً ورهيباً، فالمحمولون على الأذرع وعلى النقالات بلمسة أو بكلمة يقومون ويقفزون ويجرون، كذلك كـل أنـواع الأمراض التي توقف الحركة أو تشل الأعضاء أو تصم الآذان أو تعمي العيون، بالإضافة إلى الأرواح الشريرة التي كان كثير منها يخرج صارخاً بلا لمسة وبلا كلمة، فحضرة المسيح أكلة. فلما وصلا إلى المسيح وكلماه كان قد حدث مئات من الأشفية والمعجزات .

22:7 «فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأخيرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما: إن العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشرون».

يشترك الإنجيليان ق. متى وق. لوقا في نفس كلمات المسيح التي قالهـا للتلميذين. وتلاحظ أن المسيح قدم شفاء العمي: «العمي يبصرون» كأكبر علامة سجلت في الأنبياء وخاصة إشعياء على عمل المسيح: «حينئذ تتفقح عيون العمي وآذان الصم تتفتح، حينئذ يقفز الأعرج كالأيل (كالغزال) ويترنّم لسان الأخرس» (إش 35: 5 و6). ويعود إشعياء ويكرر شفاء العمي والصم في أيام المسيا: « ويسمع في ذلك اليـوم الصـم أقوال السفر وتنظر من القتام والظلمة عيون العمي ويزداد البائسون فرحاً بالرب ويهتف مساكين الناس بقدوس إسرائيل.» (إش 29: 19.18)

أما تأكيد المسيح على بشارة المساكين بالفرح الإلهي فكانت ذات قيمة خلاصية قائمة بحد ذاتها توازن جميع معجزات الأشفية من كل الأمراض. وهذه أيضاً ذكرها كعلامة أولى وعظمى على عمل مسحة الله لقدوس إسرائيل: «روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين …» (إش 1:61). أما قيامة الموتى فكانت من أهم القوات التي عملها المسيح في حياته، لأنها كانت تأكيداً لقوة القيامة التي حملها المسيح في طبيعته: «والموتى يقومون» وهذه أيضاً لم تغب عن إشعياء: «تحيا أمواتك تقوم الجثث (بعد نتن) استيقظوا ترنموا يا شگان التراب.» (إش 19:26)

أما المرض الوحيد الذي فات على نبوات إشعياء ولم يذكره، وكان من الأمراض الهامة التي شفاها المسيح، فهو “البرص وهو الداء عدم الشفاء. وكون البرص يطهر يعني أ أن لا تكون له علاماته المميزة ظاهرة.

والآن ما معنى حدوث هذه الأحداث الجليلة من جهة شفاء الأمراض العديدة وإقامة الموتى التي ذكرها إشعياء كعلامة لمجيء أيام الخلاص وعمل المسيا، وها هي تُجرى تباعاً وبلا عدد؟ إن المسيح نفسه يعرضها بأسمائها ليؤكد بنفسه أن الخلاص قد بدأت أيامه والملكوت قد انفتحت أبوابه. ولكن كان غاية ما ينتظره يوحنا أن تبدأ أيام الدينونة لتحصد الخطاة كتبن يحرق بالنار، ولكـن عـوض الدينونة سمع المعمدان أن المساكين يبشرون. وهذه أعظم علامات المسيا حتى اليوم!

23:7 «وطوبى لمن لا يعثر في».

«يعثر في»:

العثرة إما أن يكون لها المعنى المتعدي أي أن تكون سبباً في إعطاء أفكار أو أعمال أو أقوال تُزل الآخرين إلى الخطية أو تجعلهم يسقطون عن الحق أو الإيمان، أو يكون لها معنى الفعل اللازم، أي أن الإنسان يعثر بنفسه أي يخطئ في حق الله أو المسيح أو القديسين فيزل عن الحق الذي فيهم وبهذا يسقط عن الإيمان. وهذه هي التي قصدها المسيح «يعثر في» أي يخطئ إلى رسالتي أو ينكر الإيمان بي أو يستنقص من تعليمي، أو بأكثر توضيح أن لا يقبـل أنـني “الآتي” الذي تنبأ عنه الأنبياء، لأن علامات مجيئي ومسيانيتي معمولة ومنظورة ومسموعة ينطق بها العمي والصم والذين أقامهم المسيح من الموت!! وبهذا تكون العثرة في تساوي عدم الإيمان بي.

وهكذا أصبح المسيح نفسه حجر عثرة وكل من عثر فيه سقط ويدان في اليوم الأخير، بل ولا يزال وإلى أن يجيء المسيح، وسيبقى الإيمان بالمسيح هو المحك الذي يؤدي إلى قبول الإيمان والخلاص أو العثرة والسقوط. وحينئذ سيستعلن في النهاية كل من آمن وخلص، وكل من عثر ورفض.

ولكن قول المسيح: «وطوبى لمن لا يعثر في» هو كلمة سرية مرسلة للمعمدان تبشر بأن المسيح يدرك مسبقاً أنه سيقبل الرسالة ويؤمن لأن الوعد والنبوة بقداسته لن تخيب، خاصة وأن المسيح أفرغ جزءاً كبيراً من الأصحاح السابع لمديح يوحنا من الآية (24) إلى الآية (35).

الجزء الثاني:

4 – شهادة المسيح ليوحنا المعمدان (24:7-28)

(مت 7:11-15)

لقد حرص المسيح بنوع من العاطفة الحميمة أن يقول هذا الجزء من التعليم الخاص بمديح يوحنا المعمدان على أعلى مستوى من الصراحة والوضوح في غياب تلميذيه حتى لا يؤثر عليهما أو على يوحنا بمديحه من جهة الإيمان”، وهذه هي عادة المسيح، ألا يستجدي الإيمان ولا يضغط. والكلمات التي قالها المسيح هنا متشابهة في كل من إنجيل ق. متى (7:11-15) والقديس لوقا (24:7-28).

والذي حرص المسيح أن يعلنه عن يوحنا المعمدان هو سمو أخلاقه كونه نبيا بالحقيقة وقديساً، صاحب قوة إيمان ورسالة وإقناع، مما يستحق انتباه الشعب فعلاً. وهو يقصد بذلك أن يرد على من يتشككون في شخصه وخاصة تلاميذه وسامعيه لما رأوا وسمعوا كيف جزع المعمدان في السجن وأرسل يسأل إن كان هو الآتي. فالمسيح يرد بوضوح. على المتشككين بقوله: ماذا خرجتم لتنظروا، هل قصبة تحركها الريح، بمعنى أن المعمدان ليس إنساناً ذا رأيين أو هو شخصية مهزوزة تهزه الظروف أو السجن. فالحقيقة المضمرة هي أن المعمدان لمما رأى نفسه قد ألقي في السجن فهم أنه قد توقف . أن يعدّ الطريق للاتي أمامه، فهوذا الطريق قد انسد وتوقف مرة واحدة في السجن. فالسؤال ليس عن حقيقة الآتي وكأنـه في شـك ـت أنـت الآتي وأنـا بالـتــالي الذي يعد الطريق أمامك وأنت ابن الله والملك السماوي المقتدر، فلماذا أنا في السجن الآن؟ فهل يوجد آت آخر وطريق آخر؟ فالشك أصاب العملية برمتها، لأنه إن كان هو المرسل أمامه فلماذا أنا في السجن إن كنت أنت الآتي”؟

أما لماذا لم يسرع المسيح لنجدته، فلأن المسيح كان يرى في سجنه وموته إعداداً عالياً في الطريق نفسه للجلجثة: «ولكنني أقول لكم: إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا، كذلك ابن الإنسان أيضاً سوف يتألم منهم.» (مت 12:17)

وإن كان الآباء الأوائل قد تباروا في نفي الخطأ عن المعمدان في سؤاله عن هل المسيح هو الآتي أم ننتظر آخر كعادة الآباء في تقديس الأشخاص، إلا أن المسيح أعطانا الطريق الأصح في شرح مثل هذه المواقف الصعبة، بأن لا نتهيب أن ننسب الخطأ للقديسين ولكن نبحث عن الأسباب والدوافع، ففيها الدفاع الأقوى لوضع خطأ القديسين في مركز الصواب!! فيبقى القديسون قديسين ويبقى الخطأ خطأ؛ بل تمادى المسيح في تزكيته للمعمدان بأن رفعه إلى أكثر من نبي لأنه جاء ليكمل نبؤة ملاخي النبي (1:3) من جهة مجيء المرسل من قبل الرب الذي أُنيط به إعداد طريق الرب أي المسيح. وبسبب هذه الرسالة اعتبره المسيح أنه أعظم إنسان ولد من امرأة، علماً بأن عمل المعمدان كان لإعداد الدخول إلى الملكوت، فهو بالتالي بعد المسيح مباشرة، فالمعمدان أعد والمسيح فتح الملكوت.

والقديس لوقا عاد في الأصحاح (16:16) وذكر علانية بفم المسيح أن المعمدان كان سبباً مباشراً لاغتصاب الملكوت: «كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا ومن ذلك الوقت يبشر بملكوت الله وكل واحد يغتصب نفسه إليه» (لو 16:16). والقديس متى يذكر كرازة المعمدان بملكوت الله بمنتهى الوضوح: وفي تلك الأيـام جـاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية قائلاً: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات .» (مت 3: 1و2)

وواضح من كلام المسيح أنه يحاول أن يرسم أمام الجموع الحركة الكبيرة والخطيرة التي : قام بها المعمدان في إعداد ملكوت المسيا القادم منذ بدء خدمة المعمدان، مما لا يماثله في هذا أعظم نبياً آخر.

وقول ق. لوقا في (16:16) مـن فـم المسيح، الذي كرره ق. متى في (12:11) يكشف المعنى المقصود: أي أن يوحنا بواسطة إعداد القلوب بالتوبة والعودة إلى الله جعل اشتياق الناس يهتاج لدخول ملكوت المسيا الذي أعلن عنه، والاشتياق للملكوت يصاحبه جهـد وعبادة وتقـوى وتغصـب بلغ الاغتصاب بالعراك الروحي كما رأينا في سمعان الشيخ وحنة النبية، كنموذج لألوف غيرهم أعدوا أنفسهم للملكوت وبقـوا في انتظـاره بفارغ الصبر. وقـول المسيح أن مـن أيــام يوحنـا الملكـوت يغصب والغاصبون يختطفونه يصور لنا عاصفة جامحة من الروح اجتاحت قلوباً تمسكت بالله حتى الموت في عبادة كما سمعناها في حنة: «لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً» (لو 37:2). هؤلاء اختطفوا الملكوت اغتصاباً، فاليهود إن أخلصوا الله فقدوا التعقل في اقتحام السموات، فما بالك ويوحنـا قـد أوصلهم إلى قلب الله حقا وفي حضرة المسيح صاحب الملكوت؟ فبإيمانهم تخطوا الحواجز واختطفـوه مـن يـد المسيح. والمسيح وهو يقولها كان في غاية الارتياح والافتخار بإيمانهم وقدراتهم التي فاقت كل الحدود.

24:7 «فلما مضى رسولا يوحنا، ابتدأ يقول للجموع عن يوحنا: ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحركها الريح؟»

بعد ما عرض المسيح على تلميذي المعمدان ما يؤكد لهما وليوحنا أنه الآتي بحسب الأنبياء بمقتضى أعمال حجزت منذ الأزل للمسيا، لم ولن يعملها أحد غيره: فالعمي يبصرون والصم يسمعون والموتى يقومون؛ شيء لم تسمع به أذن بشر ولا خطر على قلب بني آدم، ولما اطمئن المسيح أن التلميذين قد ذهبا إلى حال طريقهما، ابتدأ المسيح بعاطفة حانية لم نعهدها فيه تجاه نبي آخر أو إنسان، ليمدح المعمدان بكلمات غاية في الوضوح والقوة والوثوق وكأنها نياشين مرصعة بالنجوم، ويكشف أخلاق المعمدان المقدسة وعمله الذي عمله، ليقطع خط الرجعة لأي انحراف في تقدير شخصية المعمدان يظهر في زمانه أو أي زمان جاء بعده.

وفي الاستفهام الذي وضعه يبدأ ينفي المسيح عن المعمدان الشخصية المهزوزة التي تتحرك في اتجاه الريح كالقصب (البوص) النامي على شاطئ الأردن. وصـف متقن سبق أن وصـف بـه الـرب حـال إسرائيل: «ويضرب الرب إسرائيل كاهتزاز القصب في الماء ويستأصل إسرائيل عن هذه الأرض الصالحة التي أعطاها لآبائهم …» (1مل 15:14)

25:7 «بل ماذا خرجتم لتنظروا؟ أإنساناً لابساً ثياباً ناعمة؟ هوذا الذين في اللباس الفاخر والتنعم هم في قصور الملوك».

ومن السؤال الأول الذي يختص بعدم اتزان الشخصية إلى السؤال الثاني الذي يختص بأولئك الذين لا عمل لهم إلا تغيير مراكزهم ووظائفهم كالذين هم في مناصب عالية تحت إمرة الملوك. من مركز حسن إلى مركز مرموق أو مـن حـال ضيق إلى حـال سعة. والمسيح يسأل أولئك الذين خرجـوا بالفعـل يستفسرون عـن حـال هـذا النبي الصارخ في البرية، ومـاذا رأوه فيـه مـن لبـاس خشـن وشخصية سامقة وإرادة حديدية. لأن من لباس إيليا الخشن ومنطقته الجلد التي يأتزر بها تبين أنه ناسك عابد لا يميل ولا يلين، يستهزئ بالتهديد ولا يبالي بالصعاب حتى ولو كانت بيـد مـلـك وامرأة غانية شريرة كإيزابل.

26:7 «بل ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيا؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي!»

لأول وهلة خرجوا بالفعل فرأوا نبيا صارخاً في البرية يوعي إسرائيل بالآتي الذي يحمل مستقبل إسرائيل كله في يديه. ولكن في نظر المسيح كان المعمدان أفضـل مـن نـبي | لأنه لم يجئ ليتنبأ كباقي الأنبياء، ولكن ليختم على النبوة ويسلمها ليد الذي هو بذاته روح النبوة: «فإن شهادة يسوع هي روح النبوة» (رؤ 10:19). فكل الأنبياء تنبأوا عن مجيء المسيا، أما المعمدان فسار أمامه ليعد طريقه. وكل الأنبياء تكلّموا في ضباب الرؤيا، أما المعمدان فحمل مصباح النور وأضاء بيده الطريق للنور الحقيقي الآتي من بعده. وكل الأنبياء أعطوا الويل لإسرائيل عما عملت يداه واقترفت كهنته والرؤساء، أما المعمدان فجاء ليبشر بقرب الملكوت والتوبة والإعداد للدخول. وكل الأنبياء خدموا الآتي من بعيد، أما المعمدان فوضع يديه عليه ورأى الروح نازلاً عليه وشهد له أن هذا هو ابن الله.

27:7 «هذا هو الذي كتب عنه: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك!»

 يشير المسيح إلى قول النبي ملاخي (1:3) وهـو نقـلا عـن الأصـل العبري وليس السبعيني حيث يتكلم يهوه عن ملاكه الذي سيرسله أمام نفسه!! وهو هنا يخاطب مسيا، ولكن كلمة ملاكي هنا تفيد “مرسل” وليس الملاك ذو الأجنحة، لذلك من الخطأ رسم المعمدان بأجنحة. والمعنى المقصود حرفياً أن يهوه سيُعد مرسلاً أمام وجهه كما ظهر بوضوح في (مت 3:3): «فإن هذا هو الذي قيل عنه بإشعياء النبي القائل صوت صارخ في البرية أعدوا “طريق الرب” اصنعوا سبله مستقيمة» وأكد هذا القول المعمدان نفسه في رده على الكهنة واللاويين: «أنا صوت صارخ في البرية: قوموا طريق الرب، كما قال إشعياء النبي» (يو 23:1). والمسيح نفسه يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب ولكن يقصد نفسه: «هذا هو الخبز النازل من السماء، لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت» (يو 50:6)، كذلك قوله: «هذا هو الخبز الذي نزل من السماء (متكلّماً عن نفسه). ليس كما أكل آباؤكم المن وماتوا. من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد» (يو 58:6). فيهوه يتكلّم : نفسه حينما يقول يعد طريقك قدامك مشخصاً بالمسيا، وحقا قد استعلن المسيا يهوه في نفسه: «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو 9:14)، «أنا والآب واحد.» (يو 30:10) 

وفي الحقيقة نجد قول ملاخي النبي: «هاأنذا أرسل ملاكي (المرسل) فيهيئ الطريق أمامي، ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تسرون به هوذا يأتي قال رب الجنود» (مل 1:3)، نجد أن الإشارة واضحة أن المرسـل هـو إيليا نفسه (مل 5:4). سيأتي أمـام يـهـوه “أمامي” الذي تحقق في “المسيح” باعتباره المكني عنه بيهوه.

ويلاحظ أن المسيح نفسه قد وافق على قول ملاخي هذا بقوله عن المعمدان (ملاك العهد = يوحنا): « كان هو السراج الموقد المنير وأنتم أردتم أن تبتهجوا (أن تُسروا به) بنوره ساعة.» (يو 35:5)

28:7 «لأني أقول لكم: إنه بين المولودين من النساء ليس نبي أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه».

 هنا يلزم أن نلاحظ أن التعميم في المولودين من النساء عاد وخصصه المسيح في الأنبياء فقط فالمعنى: ليس في الأنبياء المولودين مـن النساء أعظم المعمدان، حيث العظمة هنا هي عظمة الأخلاق والسلوك والمسئوليات التي سلمها الله لأصحابها، وهي هنا الكشف عن وعد الله المكتوم منذ الدهور في  شخص المسيا القادم والمناداة له.من هي شخص

ثم معنى الأصغر في ملكوت الله تفيد الإنسان الذي أنعم عليه بالميلاد من فوق من الروح القدس أي قبل التبني الله في ملكوت الله. فمهما كان هذا صغيراً بمعنى الرتبة والمواهب والمسئولية، ومهما كانت هذه قليلة وصغيرة فهو أعظم من يوحنا لأن يوحنا يتبع العهد القديم، عهد الناموس. فالفارق هنا هو الفرق بين مستوى العهد القديم ومستوى العهد الجديد، حيث العهد الجديد يمتاز بالمجانية المطلقة وعطية الروح القدس والشركة مع الآب والابن، الأمور التي لا يعرفها وبالتالي لا يحصل عليها أصحاب العهد القديم. فلو أن المعمدان هو أعظم شخصية في العهد القديم ولكنه بالنسبة لملكوت الله الذي دعا إليه وبشر به يحسب خارجه. وهو نفسه عبر عن ذلك أعظم تعبير: «من له العروس (أبناء الملكوت) فهو العريس (المسيح) وأما صديق العريس (العهد القديم بكل أنبيائه وقديسيه) الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحاً من أجل صوت العريس. إذا فرحي هذا قد كمل. ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص»(يو30,29:3) بمعنى أن المعمدان بلغ منتهى عظمته بأن رأى المسيح النور الأعظم وحسب، وبعدها انحدر راجعاً إلى ضباب العهد القديم. أما تعبير المسيح عن النسبة بين المسيح أي الملكوت والمعمدان أي قمة العهد القديم فهي هكذا: «كان هو السراج الموقد المنير وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة» (يو35:5)  أما أنا (المسيح): «أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة» (يو 12:8). وكأنها مقارنة بين الظل والنور، أو نور المصباح في ضياء نور الشمس، حيث المصباح هو الضوء المنبعث من الأرض والشمس هي النور المنبعث من السماء بمفهومها الإلهي كما عبّر عنها المعمدان نفسه: «الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع والذي من الأرض هو أرضي ومن الأرض يتكلم. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع.» (يو 31:3)

 والقصد المضمر عند المسيح من قول هذه الآية الحارسة هو أن ، مديح يوحنا بأنه نبي وأفضل من نبي وأنه أعظم المولودين من النساء، هذا المديح كله لا يقارن بإنسان صغير يدخل ملكوت الله، بمعنى أن الذي يهم ليس المديح ولا العظمة بل الدخول إلى ملكوت الله. لأنه يقيناً إن المعمدان سيدخل ملكوت الله حسب الآية: «متى رأيتم إبراهيم وإسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله وأنتم مطروحون خارجاً» (لو 28:13). والمعنى الأكثر شمولاً هو أنه ليس بكرازة يوحنا يمكن أن يدخل أحد ملكوت الله بل بكرازة الصليب. فمهما كان يوحنا عظيماً ولكن خدمته بدون الصليب لا تكفي شيئاً.

الجزء الثالث :

5 – الرفض الكبير رفض يوحنا المعمدان ورفض المسيح أيضاً (29:7-35)

(مت 16:11-19)

هذا هو الجزء الثالث من المقطع الرئيسي في الأصحاح السابع. وفيه يعطي المسيح حكم قضاء على رجال هذا الجيل الذين رفضوا المعمدان لأنه ناسك، ثم رفضوا المسيح لأنه محامل يأكل ويشرب مع محبيه ومريديه. ووصفهم ببعض صبية السوق الذين يزمرون ليرقص سامعوهم ثم ينوحون لهم ليولولوا. فلما زمروا لم يرقصوا، ولميا ناحوا لم يولولوا. هكذا ما استجابوا لنسك المعمدان وصرامته، ولا استجابوا للطـف المسيح وحلو معشره وفرح مجلسه!

ثم قال المسيح مثلاً أو حكمة تقول إن الحكمة تبررت من بنيها، أي بالرغم من جهالة هؤلاء وأولئك الذين رفضوا المعمدان والمسيح، فهناك من كان حكيماً مذعناً للحكمة والحكماء فقبلوا المعمدان وقبلوا المسيح. بمعنى أن أولاد الجهالة هم أصحاب الرفض وأولاد الحكمة هم أصحاب القبول والإيمان.

وقد أوضح المسيح أن الذين رفضـوا هـم الكتبة والفريسيون المدعوون حكماء إسرائيل أصحاب الحكمة التي فقدت مصدرها إذ تحثوا على الله وعبادته الصادقة، في حين أن العشارين والخطاة وبقية عباد الله من الشعب الفقير المزدري قبلوا ورحبوا.

والذي يلفت نظرنا هنا أن المسيح بقوله هذا وضع المعمدان في المحك الشعبي على مستوى نفسه، فالذي قبل الأول قبل الثاني، والذي رفض الأول رفض الثاني. وهذا يثبت عرضاً أن المعمدان نجح في الإشارة الصحيحة نحو المسيا فتقبلوه. والمسيح هنا لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى سمو مركزه عن المعمدان. ولكن مضمون الحكمة التي قالها المسيح إن هؤلاء الرافضين لا قبلوا المناداة بالتوبة والندم اللازمين للغفران، ولا قبلوا الدعوة إلى الفرح والبهجة التي للخلاص. وهذا صحيح ومنطقي، فالذي لا يتوب لا تغفر خطاياه ولا يخلص ولن يفرح بل يحل عليه غضب الله.

29:7 «وجميع الشعب إذ سمعوا والعشارون برروا الله معتمدين بمعمودية يوحنا».

هنا يختتم المسيح هذه الرواية التاريخية الخاصة بيوحنا (علماً بأن يوحنا كان في السجن)، لكي يدخل في الآيات (31-35) التي سيصف بما حال رجال هذا الجيل.

ولكن في هذه الآية يسبق المسيح ويمتدح الذين سمعوا للمعمدان وخضعوا وأطاعوا واعتمدوا وتابوا وغفرت لهم خطاياهم بحسب الناموس القديم، وهم عامة فقراء الشعب والعشارون، ولكن ق. لوقا يذكر هنا كلمة «جميع الشعب » تجاوزاً، إذ يقصد عامة الشعب البسيط ولكن يخصص العشارين هنا لأنهم صورة تركي خدمة المعمدان الذي جاء ليدعو الخطاة إلى التوبة. ويذكر المسيح هنا حال الذين خضعوا واعتمدوا أنهم برّروا الله، لأن كل من يعترف بخطاياه ويعتمد إذ يقرر أنه خاطئ يبرر الله بالمقابل. ولكن يبدو أن المعنى أكثر عمقاً إذ يعني أن الذين سمعوا المسيح يمتدح المعمدان هكذا أعطوا المجد لله لأنهم قد سبق واعتمدوا من يوحنا هذا.

30:7 «وأما الفريسيون والناموسيون فرفضوا مشورة الله من جهة أنفسهم، غير معتمدين منه».

هنا الموقف المخالف للفريسيين والناموسيين، حيث الناموسيون هم المشتغلون بالناموس، وإذ الناموس هو القانون فالكلمة تعني محاميي وقضاة الأمة The Lawyers وباليونانية …nomiko كما جاءت أيضاً في (لو 25:10). وعبارة «مشورة الله » تعني: خطة الله للخلاص”، إذ أن عمل المعمدان وهو مكمل لعمل المسيح، فهما معاً خطة الله للخلاص. وذلك فيما يخص أنفسهم فقط، ولكن من ذا الذي يعطل خطة الله للخلاص!!(5) وهكذا رفضوا العماد من يوحنا، وقد احتسب هذا رفضاً ليوحنا والمسيا معاً.

32.31:7 «ثم قال الرب: فيمن أشبه أناس هذا الجيل، وماذا يشبهون؟ يشبهون أولاداً جالسين في السوق ينادون بعضهم بعضاً ويقولون: زمرنا لكم فلم ترقصوا. نحنا لكم فلم تبكوا».

فإذا وضعنا في الاعتبـار قـول المسيح السابق في الآية (29:7) أن «جميع الشعب إذ سمعوا والعشارون برروا الله معتمدين بمعمودية يوحنا» يكون معنى قول المسيح من كلمة «هذا الجيل» هو جيل الرافضين أو الذين أغلقوا قلوبهم من جهة الإيمان بالمسيح والمحسوبين أنهم «جيل فاسق وشرير»

كلمة «أشبه» تعني: “أمثل كمثل، وجعل الشبه هنا أو التمثيل بأولاد يلعبون في السوق لعبة فريق يزمر فالآخر يرقص، ثم يعود فينوح فالفريق الآخر يبكي، بمعنى أن اللعبة تقوم على الفعل ورد الفعل المناسب، ولكن عصى الفريق الآخر فلم يرد على الفعل. وهنا بدأ الفريق الأول يوبخ الفريق الآخر. ويبدو أن كلمة “زمرنا” تُفيد اللعب بآلات الطرب مثلما في الأفراح فيرقص الفريق الآخر للطرب. ثم نحنـا تفيد أصوات الحزن والولولة كما في المآتم فيبكي الفريق الآخر. والبكاء هنا يبدو أصلاً القرع على الصدر مع إخراج صوت البكاء.

والمعنى أن المعمدان جاء بنبرات الحزن والبكاء والندم والتوبة فلم ينصاع الجيل الشرير، ثم جاء المسيح بالحب والفرح والبهجة فلم يمتثل الجيل الشرير للفرح والبهجة لأنهم لم يمتثلوا أولاً للتوبة، ولم ينصاعوا للخضوع والطاعـة لـصـوت الله، لا في التوبة ولا في الفرح. وهكذا رفض الجيـل الشـرير مشورة الله للخلاص.

35-33:7 «لأنه جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزاً ولا يشرب خمراً، فتقولون: به شيطان. جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فتقولون: هوذا إنسان أكـول وشريب خمر، محب للعشارين والخطاة. والحكمة تبررت من جميع بنيها».

وها المسيح هنا يشرح المثل الذي ضربه عن الأولاد الذين يلعبون في السوق، فالمعمدان معروف عنه أن طعامه كان جراداً وعسلاً بريا، وهكذا امتنع هذا الناسك العملاق عن طعام الناس فلا خبز ولا لحم وخمر. ويلاحظ أن كلمة “خبز” بالأرامي هي: “لحيم Lehem.

ويبدو أن النساك قديماً في العهد القديم كانوا يمتنعون عن أكل الخبز (اللحم) والخمر بناء عن تدبير في البرية مع بني إسرائيل حتى تنفتح عيون قلوبهم لمعرفة الرب :

+ «ولكن لم يعطكم الرب قلباً لتفهموا وأعيناً لتبصروا وآذاناً لتسمعوا إلى هذا اليوم. فقد سرت بكم أربعين سنة في البرية لم تبل ثيابكم عليكم ونعلك لم تبل على رجلك. لم تأكلوا خبزاً ولم تشربوا خمراً ولا مسكرا لكي تعلموا أني أنا الرب إلهكم.» (تث 29: 4-6)

وأيضاً فليكن في علم القارئ أن النبوة التي قيلت عن المعمدان حتى قبل أن يولد تتضمن أنه سيعطى من الله أن لا يشرب خمراً أو مسكراً لأنه سيكون عظيماً أمام الله: «لأنه يكون عظيماً أمام الرب وخمراً ومسكراً لا يشرب ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس» (لو 15:1). وهنا نحن أيضاً أمام تعليم سرّي غاية في العمق وهو أن الروح القدس يوازن الخمر والمسكر، فالراحة والعزاء الذي يسببه الخمر والمسكر يعطيه الروح القدس. لذلك يعطي بولس الرسول بإلهام الله وصيته الروحية السرية العجيبة: «ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح» (أف 18:5). فالروح القدس في العهد الجديد كفيل أن يملأ القلب والفكر والروح بالفرح والعزاء والراحة النفسية عوض الخمر والمسكر في العهد القديم. فإن كان الخمر يريح الجسد فالروح يريح النفس، غير أن الخمر ليست من المحرمات في العهد الجديد فهي قد تكون ضرورية للجسد: «لا تكن فيما بعد شراب ماء بل استعمل خمراً قليلاً مـن أجـل معدتك وأسقامك الكثيرة» (1تي 23:5). ولكن إذا حل الروح القدس في الخمر بالدعاء  صار الخمر لخلاص النفس والجسد والروح إذ يتحول بالسر إلى دم المسيح، فلا نعود نشرب خمراً بعد (مقدار ملعقة واحدة صغيرة) بل روحاً وحياة أبدية، فالمادة التي كانت قديماً تعري للخطية والهلاك صارت في العهد الجديد بالروح القدس تغفر الخطايا وتحب الحياة الأبدية. 

وبذلك وعليه، يبدو أن المعمدان كان لا يشرب خمراً ومسكراً ليعد الطريق إلى من سيضـع الـروح القدس في الخمر ليتحول إلى مغفرة وحياة.

– غير أن الكلام ضد الخمر والمسكر لدى الجهلاء هو خبل وهلوسة، لذلك لم يتورع اليهود من أن ينعتوا المعمدان ـ لأنه لا يأكل الخبز (اللحم) ولا يشرب الخمر ـ أن به شيطاناً، خاصة أنه يدعو إلى التوبة، والتوبة مكروهـة جـداً لدى المعتزين بعلمهم ودرجاتهم وسيادتهم على الشعب. وهكذا رفضـوا مشورة الله من جهة أنفسهم.

أما قولهم في المسيح إنه محب للعشارين والخطاة، فلماذا يعيرونه بالمحبة وهي رد فعل محبة هؤلاء العشارين للمسيح؟ وهذا هو قانون المحبة عند المسيح: «أحب الذين يحبونني . والذين يحتقرونني يصغرون» (أم 17:8؛ 1صم 30:2). ولو أنه أثبت أنه سباق في حبه: «نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً »(1يو 19:4). ويكفي عاراً على إسرائيل أن المسيا لميا جاءهم، لم يستقبله بالترحاب والحب وسار وراءه وآمن به إلا العشارون والخطاة، وهذه المحبة هي شهادة التأهيل للملكوت التي أعطاها للمرأة الخاطئة: «قد غفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً» (لو 47:7). إن محبة المسيح للعشارين والخطاة وحبهم له هونت عليه عار الصليب وآلام الموت!

ولكن يعود المسيح فيزكي الحكمة لدى الذين خضعوا للمناداة بالتوبة وغفران الخطايا إذ جعلهم من بني الحكمة لأنهم بالنهاية قبلوا المسيح وصاروا مخلصين فتبنّاهم الله لنفسه. وبقول المسيح إن الحكمة تبررت من بنيها إنما يلفت ق. لوقا نظرنا للآية (29:7) عن الذين لميا سمعوا المسيح يمتدح المعمدان «برروا الله»، بمعنى أن الذين برروا الله إنما هم الذين صاروا أبناء الحكمة وبالضرورة تبنّاهم الله بالنهاية.

ثم ما هي الحكمة بمقتضى ما شرح المسيح في هذه الآيات السالفة إلا “مشورة الله” التي رفضها الفريسيون والناموسيون، والتي قبلها أولئك الذين برروا الله معتمدين بمعمودية يوحنا فقبلوا الآتي؟

6 – المرأة التي كانت خاطئة (36:7-50)

إنجيل القديس لوقا وحده

هذه ه هي القصة التي يقدمها ق. لوقا كختام لهذا الفصل من الأصحاح السابع كنموذج لما أخرجه اليهود على المسيح من أنه محب للخطاة، الأمر الذي جلب عليه استهزاء المتزمتين المرائين الذين وصفهم المسيح في إنجيل ق. متى: «قال لهم يسوع: الحق أقول لكم: إن العشـارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله، لأن يوحنا جاءكم في طريق الحق فلم تؤمنوا به وأما العشارون والزواني فآمنوا به، وأنتم إذ رأيتم لم تندموا أخيراً لتؤمنوا به.» (مت 21: 31و32)

والقصة هنا تقوم على أساس العلاقة التي ربطت المسيح بالخطاة من ناحيته بالعطف الشديد ومن ناحيتهم بالحب الجارف الذي ورثهم الخلاص. ولكن وفي أثناء الرواية أورد المسيح مثلاً صار معياراً لما تم مع هذه المرأة السعيدة. ويقوم المثل على مديونية اثنين أحدهما دينه ثقيـل جـداً والثاني خفيف، فسامحهما الدائن معاً إذ ليس لكليهما ما يوفيه. وللأسف وقع المثل بحذافيره على الفريسي الذي عمل للمسيح وليمة دعاه إليها ولم يوف للمسيح حق الضيف بل أهمله، ثم جاءت هذه المرأة السعيدة وقدمت للمسيح مشاعرها الفياضة بالانسحاق والحب معاً مع تذلل شديد ففازت دون المضيف بالمديح والحب الكثير والغفران الأكثر مع شهادة بخلاص يوازي إيمانها!

كل هذا والفريسي المضيف كان مشغولاً في فكره كون المسيح ليس نبيا بالضرورة لأنه سمح لهذه النجسة أن تلمسه، بينما انشغل المحيطون بفكر تجديف نسبوه للمسيح كونه غفر لها خطاياها، فالله وحده غافر الخطايا. وهنا كشف المسيح سر إيمان المرأة الذي اجتذب لها الغفران من قلب الله وكان هو سر حبها!!

وعلى هذه القصة قامت أبحاث ومناقشات كثيرة بين العلماء: جون براون، ودوود، وزاهـن، وشورمان، وولهوزن، وبولتمان، وبراومان، وولكنس، وهـورد مارشال، واحتدم النقاش والنقد للقصة من كل نواحيها، ولكن في النهاية برهن العالم مارشال صدق القصة ومناسبتها الصحيحة.

36:7 «وسأله واحد من الفريسيين أن يأكل معه، فدخل بيت الفريسي واتكاً».

دعوة غريبة على أفهامنا نوعاً ما، لأننا لم نتعود على رقة المعاملة أو المجاملة من الفريسيين، ولكن الحقيقة أن كثيراً من الفريسيين كانوا يحبون المسيح ويؤمنون به. وغالباً هذه الدعوة تأتي بعد خدمة المجمع يوم السبت، حيث يتبارى أغنياء الفريسيين في دعوة كبار الحاضرين في المجمع لمشاركتهم اللقمة، وغالباً بنوع من الدعاية وتزكية الذات. وربما تكون المجاملة هنا صحيحة، ولكن يتضح من القصة أن هذا الفريسي قد أهمل ضيافة المدعو نوعاً ما. وكان المدعوون يجلسون حول مائدة أرضية (بدون أرجل طويلة) وجلوسهم يكون على أرائك، أي مقاعد أرضية وكانت تسمى الديوان divans وكانوا يتكئون عليها . والملاحظ أن المسيح قبل الدعوة لأن الكرازة لم يحجزها المسيح عن أحد وإن كان قد اختص بها الخطاة الذين يطلبون الخلاص. ولميا اتكأ المسيح كان يجلس حسب العادة على جانبه بحيث تصبح رجلاه خلفه وهو جالس.

37:7 «وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة، إذ علمت أنه متكئ في بيت الفريسي، جاءت بقارورة طيب» .

واضح من نص الآية أن المرأة التي نحن إزاء قصتها ليست خاطئة بل كانت خاطئة، بمعنى أنها كانت تمارس الخطية علناً، لأن القول «امرأة في المدينة» يعني أن الجميع يعرفونها. ولكن حدث أن هذه المرأة استطاعت أن تقلع عن سيرتها وهي الآن لا يجوز أن نسميها خاطئة بل كانت خاطئة. والذي تضمره القصة أنها تقابلت مع المسيح وأعانها على استرداد عافيتها الروحية فتابت وسارت في خوف الله، ولكنها صمّمت أن تكافئ من أعانها على التوبة بجدية تعبر بها عن شكرانها، فذهبت وباعت ما باعته واشترت قارورة طيب، وبحثت عن المسيح حتى علمت أنه في بيت هذا الفريسي، فتجرأت ودخلت الدار ـ وهذا غير جائز بالمرة – ولكنها اعتماداً على من يدافع عنها اقتحمت غير هيابة.

38:7 «ووقفت عند قدميه من ورائه باكية، وابتدأت تبل قدميه بالدموع، وكانت تمسحهما بشعر رأسها، وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب».

الذي نريد أن نلفت النظر إليه في البداية أنه لا يصح أن نوازن أو نقارن بين هذه القصة عنـد القديس لوقا التي جاءت بعيداً عن رواية الآلام، وما جاء في إنجيل ق. مرقس أو إنجيل ق. يوحنا، والأفضل جداً أن نأخذ كل قصة بحد ذاتها. وعمل هذه المرأة عند ق. لوقا واضح أنه ليس بداية توبة بل نهاية توبة وثمرتها، فلولا توبتها ما تجرأت ودخلت بيت الفريسي الذي لم يسمع عن توبتها إذ يعرفها معرفة سابقة أنها خاطئة. ولولا توبتها ما تجرأت وحملت قارورة الطيب لتدهن رجلي الرب. فهنا عرفان بالجميل وذكران بالفضل السابق وإعلان عن توبة كملت جهاراً نهاراً وأصبحت للفخر وليس للخزي. أما الدموع فهي دموع التوبة الحلوة التي هي عند المسيح أثمن من قارورة طيب. أما مسحها بشعر رأسها لرجلي السيد المبتلتين بالدموع فهو أغلى ما تملك المرأة من تكريمها، فشعر رأسها هو قمة كرامة المرأة (1کو 15:11). ولكنها بنوع من الخبث المحمود نالت قوة بلمسها لجسد المسيح واحتوت في رأسها قداسة وبركة لم تزل تقدسها حتى اليوم.

وإن كان القديس غريغوريوس الكبير (الروماني) في الكنيسة الغربية قال إن هذه المرأة هي بعينها مريم المجدلية، ولكن إذ ليس من برهان، نقول نحن إن مريم المجدلية لم تكن أكثر من هذه المرأة خطية وتوبة وقداسة. وعلى كل حال فقد قدمت هذه المرأة نموذجاً فاخراً لحب الخطاة للمسيح وفرصة لإعلان حب المسيح للخطاة. أما تقبيل المرأة لقدمي المخلص فهي علامة عهد أن تظل أمينة لقدم الذي انتشلها من طريــــق الـضـلال. والعجيـب أن الرب لم ينتهرهـا لأنـه أحـب الخطـاة. أمـا دهـن القدمين بالطيب فهو أعجب مسحة، لأن المسحة تكون للرأس كما نعرفها عند ق. مرقس: «وفيما هو في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص وهو متكئ جاءت امرأة معها قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن فكسرت القارورة وسكبته على رأسه …» (مر 3:14). ولكن يشترك في دهن القدمين إنجيل ق. يوحنا: «فأخذت مريم منّا من طيب ناردين خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع ومسحت قدميه بشعرها» (يو 3:12). والعجيب أن يقول أحد العلماء (زاهن): إن دموع المرأة كانت دموع الفرح بسبب التوبة والغفران.

39:7 «فلما رأى الفريسي الذي دعاة ذلك، تكلم في نفسه قائلاً: لو كان هذا نبيا لعلم من هذه الامرأة التي تلمسه وما هي! إنها خاطئة».

العجيب بالنسبة لنا الآن أننا نعرف متأكدين أنه أكثر من نبي، لأن المسيح علم ما يتكلم به هذا الفريسي في قلبه. فحتى النبي لا يعرف ما يتكلم به الناس في قلوبهم إلا بإعلان سماوي خاص وطبعاً وصلتنا هذه الحقيقة من أحد الذين تابعوا القصة من شهود العيان.

كان معروفاً في الناموس أن من يلمس الزانية يتنجس، فالفريسي إذ رأى المسيح يتقبل من المرأة ما صنعته به أخذها شهادة ضد المسيح أنه ليس نبيا كما كان يذاع عنه ، وإلا كان قد أدرك بالشفافية النبوية أنها زانية، غير عالم أن المسيح كان يقرأ ما يدور بذهنه، وهنا بادره المسيح بما يثبت أنه قد قرأ ما في ضميره.

42-40:7 «فأجاب يسوع وقال له: يا سمعان عندي شيء أقوله لك. فقال: قل يا معلم. كان لمداين مديونان. على الواحد خمسمئة دينار وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يوفيان سامحهما جميعاً. فقل: أيهما يكون أكثر حبا له؟»

لقد ضاعت حسابات الفريسي وخسر الرهان فيما قرره في نفسه، فقد أثبت المسيح أنه ليس نبيا فقط بل وعالماً ما في الصدور، وأنه يدرك من هذه المرأة وما هي وأنها خاطئة، ولكن بالرغم من ذلك لم يقبل فقط أن تلمسه بل وقد رحب بكل ما فعلته أكثر مما رحب بضيافة هذا الفريسي، لأن الذي صنعته المرأة أعظم مما صنعه هو.

وبمخاطبة المسيح للفريسي باسمه يا سمعان يظهر أمامنا خطأ أن ق. لوقا يأخـذ عـن ق . مرقس، لأن هناك استحالة أن يكون سمعان هذا في إنجيل ق. لوقا هو سمعان الأبرص عند ق. مرقس، لأن الأبرص لا يصبح فريسياً حتى ولو كان قد شفي من برصه. غير أن إجابة الفريسي على المسيح بقوله: قل يا معلم (رابي)» فيها أدب واحترام كثير .

أما المثل من جهة الدائن والمديونين فهو مثل من صميم الحياة اليهودية، وقل أن يداين اليهودي دون أن يأخذ الربا فهو ليس دائناً بل مراب. ولكن الدائن هنا يبدو كريماً بما لا يعرفه اليهود لأنه لا يأخذ الربا وحسب بل ويتنازل عن الدين جميعه لميا وجد أن المديونين معدمان وليس لهما ما يوفيانه. فالمثل هنا ينصب على المسيح بحذق ماهر، والتناسب بين ترك الدين الثقيل والخفيف معاً ينطبق على مغفرة الخطايا انطباقاً لا نظير له، حيث الكثرة في الخطية تتساوى مع القلة فيها في عين الله، لأن المسيح هو الدافع لكل الديون ودمه يحتوي خطايا العالم كله ولا يترك خطية واحدة. فالثقيل الخطايا ينال الغفران بقدر قليل الخطايا، سيان، لأنه غني للجميع.

ولا يستغرب القارئ من قول المسيح: «أيهما يكون أكثر حبا له» لأنه في الواقع تكون الكلمة الأكثر لياقة هي من يشكره أكثر. ولكن لا يتعجب القارئ فلا يوجد فعل الشكر” في اللغة العبرية والأرامية. لذلك استخدم المسيح المحبة عوض الشكر عندنا. وفي نظرنا أنه مهما كان الشكر فيه اللياقة ولكنه إن خلا من المحبة فهو كعدمه.

43:7 «فأجاب سمعان وقال: أظن الذي سامحه بالأكثر. فقال له: بالصواب حكمت».

وطبيعي أن يكون رد الفريسي أن الحب سيتحرك في قلب صاحب الدين الأكثر! ولكنه لم يقلها صراحة بل قال: «أظن الذي سامحه بالأكثر» وبما يظهر الفريسي حريصاً في الإجابة أكثر من اللازم. والسبب طبعاً لأن اليهود لم يعتادوا قط مثل هذا السخاء المسيحي!! ولكن على كل حال فقد نجح الفريسي في الإجابة وأعطاه المسيح درجة “الصواب’

46-44:7 «ثم التفت إلى المرأة وقال لسمعان: أتنظر هذه المرأة؟ إني دخلت بيتك، وماء لأجل رجلي لم تعط. وأما هي فقد غسلت رجلي بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها . قبلة لم تقبلني، وأما هي فمنذ دخلت لم تكف عن تقبيل رجلي، بزيت لم تدهن رأسي، وأما هي فقد دهنت بالطيب رجلي».

مقارنة محكمة ببيان وإبداع والمسيح يضع نفسه بين الاثنين: بين سمعان المضيف والمرأة المذمومة. ويرفع القضية على سمعان بصفته المضيف والمتهم في قلبه لسوء سلوك المرأة وهو مسيء للاثنين: للمسيح الضيف والمرأة المظلومة. فثلاثة واجبات أهملها سمعان في حق ضيفه يقابلها ثلاث محاملات قامت بها المرأة. فأولاً لم يقدم سمعان الواجب للضيف عند دخوله بيته بعد رحلة تبدو طويلة بغسل رجليه المتعبتين بالماء الدافئ، والترحاب بقبلة المحبة ثم دهـن الـرأس بزيت الزيتون المعطر لإراحة الأعصاب من وعثاء السفر كعادة القوم في تكريم الضيف.

وفي مقابل إغماط حق الضيف في أصول الضيافة لدى سمعان جاءت المرأة ووقت بدلاً من سمعان هذه الواجبات الثلاثة، إذ غسلت رجلي المسيح بالدموع وقامت بمسحهما بشعر رأسها لمزيـد مـن التكريم، وعوض قبلة المحبة التي رفعها الضيف عن غير حق قامت المرأة بتقبيل قدمي المسيح لا مرة بل مرات ومرات، وعوض دهن الرأس للتكريم الذي أغفله سمعان قدمت المرأة طيبها الفاخر وقامت بدهن القدمين حبا وكرامة وتواضعاً. فقد تمنعت عن تکریم الرأس، التي أهان واجب تكريمها المضيف .

 بهذا الحكم المحكم في أدب الضيافة ومعاملة المسيح قامت القضية بدون قضاء على سمعان فوضع موضع المدين ذي الدين الأصغر، أو الخاطئ ذي الخطايا الأقل إذ وجد حبه قليلاً مسحوقاً لم يتعدّ الدعوة إلا واجباتها. وهي قضية تحمل المضمون في باطن الكلام لا الإعلان المكشوف، لا يستشعرها إلا صاحبها. لم يجبر المسيح على رفعها أمام ضمير المضيف إلا تبجح الفريسي في إدانة المرأة في حضرة الديان.

47:7 «من أجل ذلك أقول لك: قد غفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً. والذي يغفر له قليل يحب قليلاً».

«من أجل ذلك»:

عودة على ما قاله المسيح مقارناً بين ضيافة سمعان العرجاء ومحاملة هذه المرأة السعيدة، يصدر الحكم من ديان العدل الذي يقيس أعمال الضمائر ويزن أقل الصغائر، الذي قاس الأرض بشيره وكال الماء بكفه: يكون أن خطاياها الكثيرة التي استكثرتها لها وازدريت بما قد غفرت وعاد قلبها قلب طفل وجسدها جسد عذراء، ذلك لأنها أحبت كثيراً والحب هو ميزان الأعمال وقياس النيات والضمائر عند الله – والمسيح أضمر ذلك بقوله: «غفرت» كفعل مبني للمجهول والفاعل هو الله طبعاً.

ولكن بالنسبة لذوي الحب القليل فليعلموا مسبقاً أن الغفران يكون بالكيل الضيق، فلا يلومن أحد الله. فرزق الإنسان عند الله يتحدد بمدى اتساع قلبه للمحبة. فالذي ضاق قلبه ضاق رزقه وضـاق خلاصه. والكلام يعود حتماً على صاحب الوليمة، فعلى قدر ضيق حبه يكون الأجر عند الله. ولكن على كل حال لن يضيع أجره، فليس الذي أكرم وفادة المسيح وأطعمه من عرق جبينه كمن رذله وأفاض في رذالته ودبر إيذاءه. فكون فريسي يستضيف المسيح فهذا عجب في إسرائيل.

وإن كان المسيح قد قلب وضع الغفران وجعله سابقاً على المحبة فهو تحقيق لعمل الله الذي يسبق عمل الإنسان على أساس ما قاله ق. بطرس بشأن دم المسيح المعروف قبل تأسيس العالم: «بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم ولكن قد أظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم» (1بط 1: 19و20). هكذا صار غنى غفران الله سابقاً على حقارة حبنا.

48:7 «ثم قال لها: مغفورة لك خطاياك».

كانت مفاجأة جميلة رفعت انتباه صاحب الضيافة وكل المتكئين ليروا المسيح يصدر حكم الله بسلطان، وليروا المرأة المنكسرة وقد نالت وسام الطهارة، ويلاحظ القارئ أن الفعل اليوناني المقابل ل المغفرة” يأتي في زمن الماضي التام ليبدو أنه فعل صدر وانتهى في الماضي. والمسيح هنا يطبق القانون الذي صاغه عن الغفران والحب وقياس هذا على قياس ذلك.

وربما يخرج القارئ بغنيمة من هذه القصة وهذا الحكم لأن ما اعتدنا عليه هو أن نقيس الغفران بالأعمال، وهذه آفة التعليم الذي طوح بنا في مجاهل الجهاد الذي لا قيمة له بجوار المحبة. فالقصة التي أمامنا بصريح العبارة لزانية محترفة ضيعت عمرها في اللهو الحرام، امرأة فاجرة معروفة في المدينة، يعرفها الفريسي وقد تعرف عليها من أول وهلة، فهي علم في المدينة لأنها كانت امرأة الكل. ثابت ولا نعرف ظروف توبتها ولكنها كانت تعرف المسيح وتابعت حركاته. إذن فهي تتلمذت بالنية وأكملت توبتها عند قدميه وقدمت إيمانها مع طيبها فاشتمه المسيح وجميع الحاضرين. وهكذا نضحت سيرتها بالبهجة بعد حزن مقيم وفرحت قلب الله والمسيح ونالت وسام الاستحقاق للخلاص من الطبقة الممتازة لأنه غفر لها كثير. لقد تزاملت مع اللص اليمين ونالت الخلاص بكلمة.

انظروا يا إخـوة فليس أكثر من هذا خطية وليس أكثـر مـن هـذا غفران، والمحبة هي التي قلبت الموازين، والمسيح هو هو وقوله قائم كما هو «والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه» (يو 21:14). فبيعوا حياتكم واشتروا محبة، ولا تسوفوا العمر باطلاً. فاليوم يوم خلاص والساعة ساعة مقبولة.

49:7 «فابتدأ المتكئون معه يقولون في أنفسهم: من هذا الذي يغفر خطايا أيضاً؟»

لقد قدم ق. لوقا في بدء هذه القصة السؤال عن المسيح: «لو كان هذا نبياً» في ضمير سمعان الفريسي، أما الآن فالسؤال الذي يقدمه هو عن مسيانيته: «من هذا الذي يغفر خطايا أيضاً» وكلا السؤالين استنكاري، ويتركها ق. لوقا للقارئ ليرى كيف تصور المسيح في ذهن إسرائيل: مرة أقل من نبي ومرة أقل من الله، كالأعمى الذي لمسه المسيح أول مرة فرأى الناس كأشجار يمشون بانتظار اللمسة الأخيرة التي غابت عنهم كثيراً.

50:7 «فقال للمرأة: إيمانك قد خلصك! إذهبي بسلام».

ويعود المسيح يكلم المرأة ليعطينا الدرس الأخير، فإن عسر على الفهم الكليل أن يكون المسيح هو غافر الخطايـا كـمـن أعطي أن يعمل أعمال الله، فليكن إيمـان المـرأة هـو الـذي خلصـهـا مـن عـارهـا وخطاياها. ولكن لم يخرج حكم المسيح عن أساسه أنه هو الذي يغفر وهو الذي يخلص، فإن عسر هذا على فهمهم فيكون “إيمان” المرأة بالمسيح أنه غافر ومخلص، هو الذي “خلصها” أو “شفاها سيان كلمة واحدة يونانية  . ولكن يختار ق. لوقا دائماً “الخلاص” مشيراً إلى عمل المسيح الأساسي. فهي

ولكي يكون القارئ فكرة سليمة عن نظرية ق. لوقا في مفهوم الخلاص الذي يؤكد عليه أكثر من مفهوم الشفاء حتى ولو كان الشفاء هو الذي يلح على الفكر، ليذكر قول المسيح للأبرص الذي شفي: «ثم قال له: ثم وامض إيمانك خلصك  » (لو 19:17).

تفسير إنجيل لوقا – 6إنجيل لوقا – 7تفسير إنجيل لوقاتفسير العهد الجديدتفسير إنجيل لوقا – 8
القمص متى المسكين
تفاسير إنجيل لوقا – 7تفاسير إنجيل لوقاتفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى