إش 26: 8 إلى اسمك و إلى ذكرك شهوة النفس
“فَفِي طَرِيقِ أَحْكَامِكَ يَا رَبُّ انْتَظَرْنَاكَ. إِلَى اسْمِكَ وَإِلَى ذِكْرِكَ شَهْوَةُ النَّفْسِ.“(إش 26: 8)
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
يقدم لنا النبي في هذا المزمور تحليلاً رائعًا لحياة الإنسان الصّدّيق الذي يجد لذته وحمايته ومجده في الرب؛ وفي نفس الوقت يدعونا للصلاة السرية في المخدع مع الاهتمام باحكام الله ووصاياه والطاعة له للتمتع بخلاصه المجاني.
أ. أحكام الله أو وصاياه ليست ثقلاً على نفس الصديق إنما هي علة استقامته، لذا يطلبها ويشتهيها بفرح وبهجة قلب، قائلاً: “في طريق احكامك انتظرناك” [8]. كأن الوصية أو كلمة الله هي موضوع رجاء ولذة وفرح للنفس. وكما يقول المرتل: “بطريق شهاداتك فرحت كما على كل غنى… بفرائضك أتلذذ… شهاداتك هي لذّتي” (مز 119: 14، 16، 24).
لعل سر فرح الصدّيق وبهجته بالوصية أنه يكتشف أعماقها فيجدها تلاقٍ مع المسيح كلمة الله وتمتع به كسّر خلاص وحياة وكما يقول القديس أغسطينوس: [نفهم أنه ليس طريق أسرع ولا أأمن ولا أقصر ولا أعلى من المسيح بخصوص شهادات الله، هذا “المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم” (كو 2: 3). لذلك يقول (المرتل) أنه يجد فيه بهجة عظيمة كما في كل غنى. هذه هي الشهادات التي بها اكّد لنا إلى أي مدى يحبنا (المسيح)[283]…].
ب. سّر فرح الصدّيق، اتحاده بالله مخلصه وتمسكه باسمه القدوس وتذكاره: “إلى اسمك وإلى ذكرك شهوة النفس، بنفسي اشتهيتك في الليل. أيضًا بروحي في داخلي إليك أبكر” [8-9].تدرك النفس أنها في ليل هذا العالم تعتاز إلى نور المخلص ليشرق عليها بل وفيها. أنها تطلبه في الليل لأنها ذاقت الأمرّين طوال تعب النهار وآلامه غير المنقطعة، فتُريد أن تلتقي به داخلها لتجد فيه راحتها وسلامها وشبعها بكونه شهوة نفسها. تطلب منه أن تتمتع بكل قبلات (نش 1: 2)، وتناجيه قائلة: “حلقه حلاوة وكله مشتهيات؛ هذا حبيبي وهذا خليلي يا بنات أورشليم” (نش 5: 16).
تشتهيه النفس لتلتصق به كل ليل هذا العالم حتى تشرق عليها الأبدية فتبقى معه في احضانه أبديًا.
إنها تطلبه داخلها، تبحث عنه لتجده يطلبها، تُبكر إليه لتجده يُبكر إليها. تُناجيه: “إليك أُبكر، عطشت إليك نفسي يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء، لكي أبصر قوتك ومجدك كما قد رأيتك في قدسك” (مز 63: 1-2). أما هو فيجيب: “أنا أحب الذين يُحبونني، والذين يبكرون إلىّ يجدونني؛ عندي الغنى والكرامة؛ قنية فاخرة وحظ” (أم 8: 17-18).
ج. أما نهاية الصّديق فهي تمتعه بالمجد الإلهي، الأمر الذي يُحرم منه الأشرار، إذ يقول النبي: “في أرض الاستقامة يصنع شرًا ولا يرى جلال الرب” [10]. يتمتع الصديق بمجد الرب وجلاله وينعكس بهاء الرب عليه ليصير أيقونة له، بينما يُحرم الشرير من التمتع بهذه العطية الأبدية.
v مطوّب ومثلث الطوبى بل ومتعدد الطوبى أولئك الذين يُحسبون أهلاً أن يروا ذاك المجد! عن هذا يقول النبي: “لينزع الشرير فلا يرى جلال الرب” [10 LXX].
الله لا يسمح أن يُنزع أحد منا أو يُستبعد عن رؤيته. فإننا إن كنا لا نتمتع بذلك فسيأتي وقت فيه نقول لانفسنا: “كان خير لنا لو لم نولد”. لأنه لماذا نحن نعيش؟ ولما نتنفس؟ ماذا نكون إن فشلنا في التمتع بمشاهدة ذلك ولم نُمنح معاينة الرب؟! إن كان الذين لا يرون نور الشمس يحسبون الحياة أمرّ من الموت فماذا يكون حال المحرومين من مثل هذا النور؟!
v يليق بنا أن نفهم أنه من أجل هذا الكمال “نكون مثله لأننا سنراه كما هو” (1 يو 3: 2). تُمنح هذه العطية عندما يُقال: “تعالوا يا مباركى أبي رثوا الملكوت المعد لكم” (مت 25: 34). عندئذ يُنتزع الأشرار كي لا يروا جلال الرب، فيذهب الذين على اليسار إلى العذاب الأبدي، بينما يدخل الذين على اليمين إلى الحياة الأبدية[285].
v يقول يوحنا: “أيها الأحباء، نحن الآن ابناء الله، ولم يظهر بعد ما سنكون، إنما نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو” (1 يو 3: 2). يبتدىء هذا الشبه يتشكل فينا من الآن، بينما يتجدد الإنسان الداخلي يومًا فيومًا حسب صورة خالقه[286].
هكذا يصير الله سّر مجد صدّيقيه ليس فقط في العالم الآتي وإنما يبدأ مجدهم الآن في داخلهم بمعاينتهم مجد الله وجلاله كعربون للقاء معه أبديًا وجهًا لوجه، ويصير الله نفسه علة حرمان للأشرار؛ يكون ملك السلام لمؤمنيه ونارًا آكلة لجاحديه. يقول الرسول:” لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة” (2 كو 2: 16). لهذا يكمل إشعياء النبي قائلاً:
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (8) ففي طريق أحكامك يا رب انتظرناك إلى اسمك و إلى ذكرك شهوة النفس.
الأتقياء ينتظرون الرب وهو يجري أحكامه وهو ينصر شعبه ولكنه قد يؤدب. لذلك علي شعبه أن ينتظر بثقة خلاصه، ينتظر وهو ينفذ وصاياه، فالوصية ليست ثقلاً بل هي علة فرح الإنسان المستقيم (مز 119 : 14، 16، 24 ) وفي تحقيق الوصية تلاق مع المسيح نفسه. والانتظار معناه أيضاً تسليم لأحكام الله بدون تذمر. ومن يسلم أمره لله منفذاً وصاياه يتمتع به كسر خلاص وحياة.
تفسير سفر إشعياء 26 للقمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير سفر إشعياء 26 للقمص أنطونيوس فكري