تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 11 للقديس كيرلس الكبير

عظة (70) الصلاة الربانية لو11: 1-4

(لو 11: 1-4): ” وإذ كان يصلي في موضع لما فرغ قال واحد من تلاميذه: يا رب علمنا أن نصلي كما علم يوحنا أيضا تلاميذه. فقال لهم: متى صليتم فقولوا: آبانـا الـذي فـي السماوات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. خبزنا كفافنا أعطنا كل يوم. واغفر لنا خطايانا لأننا نحن أيضا نغفر لكل من يذنب إلينـا ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير”.

أيها الحارون والملتهبون بالروح، ها قد أتيتم الآن أيضا، ونحن نرى ساحة الله المقدسة وقد غصت بالمستمعين الشغوفين، وهدف اجتماعكم بلا شك هـو هدف تقوي، فقد اجتمعتم معا لكي تتلقوا التعليم، ومـوزع العطايـا الإلهيـة سيشبعكم هو أيضا بالأمور التي ترغبون أن تحسبوا أهلاً لنوالها، وسيهيئ لكم مائدة روحية، ويصرخ قائلاً: “تعالوا كلوا خبزي واشربوا من الخمـر التـي مزجتها لكم” (أم 9: 5) وكما يقول المرنم: “خبز يقوي قلب الإنسان، وخمر عقلي يفرحه” (مـز 104: 15). لذلك فلنقترب الآن من المائدة المهيأة أمامنا، أي لنقترب من معنى دروس الإنجيل: ولنلاحظ بانتباه شديد ما هي الفائدة التي تعطيها لنا، وما تولده فينا من الصفات اللازمة للكرامة اللائقة بالقديسين.

يقول الكتاب، إن المسيح “كان يصلى على انفراد” ومع ذلك فهو الله، وهو ابن الله الذي هو فوق الكل، وهو الذي يوزع على الخليقة كل الأشياء التي بها تزدهر وتحفظ في الوجود، وهو ليس في إحتياج على الإطلاق إلى أي شيء، لأنه هو ممتلئ كما قال عن نفسه. وقد يتساءل أحدهم قائلاً: ” إذن فما الـذي يحتاجه ذلك الذي له، بحق طبيعته، كل ما للآب”؟ لأنه قال بوضوح: “كل ما للآب فهو لي” (يو16: 15). ولكن خاصية الآب هي أن يكون ممتلئا مـن كـل صلاح ومن تلك الامتيازات التي تليق بالألوهية، وهذا أيضا هو مـا للابـن. والقديسون إذ يعرفون هذا يقولون ” ومن ملته نحن جميعا أخـذنا” (يو 1: 16). ولكن إن كان يعطي من ملئه الإلهي الخاص، فلأي شيء يمكن أن يحتاج؟ وما الذي يحتاج أن يأخذه من الآب، كما لو لم يكن له من قبل؟ وما الذي يصلي لأجله إن كان هو ممتلئا ولا يحتاج إلى شيء مما للآب!

نجيب على هذا فنقول: إنه بحسب طريقة التدبير في الجسد، فهـو يـسمح لنفسه أن يمارس الأعمال البشرية حينما يريد، وكما تستلزم المناسـبة دون أن يلام لأنه فعل هذا. فإن كان قد أكل وشرب ونام، فلمـاذا يكـون مـن غيـر المعقول ـ وهو قد وضع نفسه إلى مستوانا، وأكمل البر البشري ـ أن يقـدم الصلاة أيضا؟ ومع ، لك فهو بالتأكيد غير محتاج إلى شيء، لأنه ” ممتلئ” كما سبق أن قلنا. فلأي سبب إذن، ولأي واجب ضروري ونافع، قد صلى هو؟ لقد فعل هذا لكي يعلمنا ألا نتراخي في هذا الأمر بل بالحري أن نكون مـداومين على الصلاة وبإلحاح شديد، ولا نقف في وسط الشوارع. فهذا مـا اعتـاد أن يعمله بعض اليهود، أي الكتبة والفريسيون. ولا نجعل هذا فرصة للتباهي، بل بالحري نصلى على انفراد وبهدوء، أي نتحدث بيننا وبين الله وحده، بذهن نقي غير مشتت. وهذا قد علمنا إياه بوضوح في مكان آخر عندما تكلم عن الـذين يتظاهرون بصلواتهم، قائلاً: “إنهم يحبون أن يصلوا قـائمين فـي زوايـا الشوارع، وفي المجامع… أما أنت فمتى صليت فادخل مخدعك وأغلق بابـك وصل إلى أبيك الذي في الخفاء, وأبوك الذي يرى في الخفاء سوف يجازيـك” (مت 6: 5-6). لأنه يوجد قوم يربحون لأنفسهم شهرة التقـوى، وهـم يلتفتـون باهتمام إلى المظاهر الخارجية، وهم من الداخل ممتلئون مـن مـحبـة المجـد الباطل. هؤلاء عند دخولهم الكنيسة, قبل كل شيء يجولون بأنظارهم في كـل اتجاه لينظروا عدد الواقفين هناك وليروا إن كـان هنـاك نـظـارة كثيـرون، وبمجرد أن يسروا بعدد الحاضرين، يرفعون يدهم إلى جبهتهم، ليس مرة فقط بل مرات عديدة يصنعون علامة الصليب الثمين، وهكذا إذ ينـسجون صـلاة طويلة حسب خيالهم الخاص، فإنهم يثرثرون بصوت عال كما لو كانوا يصلون للناس وليس الله. لمثل هؤلاء نقول كلمات المخلـص “قـد اسـتوفيتم أجركم” (مت6: 5).. لأنكم تصلون لتتصيدوا مديح الناس، وليس لتطلبوا أي شيء من الله. لقد تحققت رغبتكم، فقد مدحتم كأنكم أتقياء، ونلتم المجد الباطـل، إلا أنكم اشتغلتم في عمل لا ثمر له، لقد زرعتم فراغا وستحصدون عـدما. هـل تريدون أن تروا نهاية ما تصنعونه؟ اصغوا إلى قول المرنم داود: “الله قد بدد عظام الذين يرضون الناس” (انظر مـز 53: 5), والمقصود بالعظام طبعـا لـيس عظام الجسم، لأنه لا يوجد أمثلة لأي أناس حدث لهم هذا، ولكن المقصود هو ملكات الفكر والقلب التي بها يصنع الإنسان الصلاح. فقوات النفس إذن هـي الغيرة التي تؤدي إلى المثابرة، والشجاعة الروحية، والصبر والاحتمال، هـذه الصفات يبددها الله من هؤلاء الذين يهتمون بإرضاء الناس.

لذلك، فلكي نبتعد عن هذه الطرق الخاطئة، ونهـرب مـن الفخـاخ التـي يتعرض لها الذين يسعون إلى إرضاء الناس، ولأجل أن نقدم الله صلاة مقدسة، بلا لوم، وغير مدنسة، فقد قدم المسيح لنا نفسه مثالاً، إذ اعتزل عـن أولئـك الذين كانوا معه، وصلى منفردا. لأنه من الصواب أن يكون رأسنا ومعلمنا في كل عمل صالح ونافع، ليس آخر سوى المسيح الذي هو بكر بين الجميع، وهو الذي يقبل صلوات الجميع، والذي يمنح، مع الله الآب، أولئك الذين يسألونه، كل ما يحتاجون إليه، لذلك فإن رأيته يصلى كإنسان، فذلك إنما لكي تتعلم أنت كيف تصلي، وإياك أن تبتعد عن الإيمان والاعتقاد أنه إذ هو بالطبيعة الله الذي يملأ الكل، فإنه صار مثلنا ومعنا على الأرض كإنسان، وتمم كـل الواجبـات البشرية حسبما اقتضى التدبير، ولكنه مع ذلك فهو الجالس في السماء مـع الآب، يوزع من ملئه الخاص، كل الأشياء للجميع, ويقبل الصلوات من سكان الأرض، ومن الأرواح التي فوق، والجميع يكللونه بالتسابيح، فهو بصيرورته مثلنا لم يتوقف عن أن يكون إلها، ولكنه استمر رغم ذلك، كما كان قبلاً, لأنه يليق أن يكون دائما هو هو كما كان قبلاً، وكما تشهد الكتب المقدســة، لـيـس معرضا حتى إلى “ظل دوران” (یع 1: 17).

ولكن لأن ما تبقى يحتاج إلى حديث طويل، لذلك نتوقف الآن عن الحديث، حتى لا يصير كلامنا مملا للسامعين، ثم نعود فنشرحه لكم بمعونة الله عنـدما يجمعنا المسيح مخلصنا جميعنا هنا في المرة القادمة، الذي به ومعـه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى دهر الدهور آمين.

عظة (71) أبانا الذي في السموات

كل تواق للمعرفة يحتسبه ربنا يسوع المسيح جدير بكل ثناء، لذلك يقـول: “طوبي للجياع والعطاش إلى البـر لأنهم يشبعون” (مـت 5: 6). لأنه . من اللائق أن نجوع ونعطش باستمرار لهذه الأمور، التي بها يصبح الإنسان محبـا للأمجاد المقدسة، وغيورا في كل عمل صالح. لمثل هؤلاء، يكشف المسيح الطريق الذي يمكنهم به أن يحققوا رغبتهم، ولكن معرفة كيف نصلي هـي نافعة للأتقياء أكثر من كل شيء آخر للخلاص، حتى لا نقدم طلبـات غيـر مرضية الله القدير. كما كتب لنا الحكيم بولس “لأننا لسنا نعرف ما نصلي لأجله كما ينبغي” (رو 8: 26). دعنا إذن نقترب من المسيح معطـي الحكمـة، ونقول ” علمنا أن نصلي” (لو 11: 1)، فلنكن مثل الرسل القديسين الذين فوق كل شيء سألوه هذا الدرس الهام والخلاصي.

في اجتماعنا السابق، سمعنا الإنجيل الذي قرئ يقول عن المسيح ، مخلصنا جميعا إنه ” وإذ كان يصلي في موضع”. وخاطبناكم شـارحين بحـسـب مـا استطعنا، سر التدبير الذي بسببه صلى المسيح، وحينما وصلنا في مناقشتنا إلى هذه النقطة، أرجأنا ما تبقى إلى فرصة أخرى مناسبة. وها قد حانت الفرصـة الآن، فدعونا نتقدم إلى ما يتبع، فالمخلص يقول: “فمتى صليتم فقولوا أبانا ” وأحد الإنجيليين القديسين الآخرين يضيف ” الذي في السموات” (مت 6: 1).

يا للجود الفائق! … ويا للطف الذي لا يبارى، وهذا يليق بالله وحده! إنـه يمنحنا مجده الخاص، فهو يرفع العبيد إلى كرامة الحرية، فيكلل حالة الإنسان بمثل هذه الكرامة التي تفوق قوة الطبيعة، ويحقق ما سبق وأخبر به بواسـطة صوت المرنم قديما: “أنا قلت أنكم آلهة وبنو العلي كلكم” (مز 81: ‎6‏ س). فهو هنا يحررنا من مستوى العبودية واهباً لنا بنعمته ما لم نكن نملكه بالطبيعة، ويسمح لنا أن ندعو الله أباً لنا بعد أن أدخلنا في مرتبة البنين. وهذا – مع كل الامتيازات الأخرى- قد نلناه من الرب. حسبما يشهد بذلك الحكيم يوحنا الإنجيلي لذ يكتب: “الى خاصته جاء وخاصته لم تقبله. وأما كل الذين قبلوه
فاعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه. الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله” (يو 1: 11-13) لأننا قد خلقنا في البنوة؛ بواسطة تلك الولادة التي حدثت فينا روحيا “لا من زرع يُفنى بل بكلمة الله الحية الباقية إلى الابد” كما يقول الكتاب”(1بط 1: 23). وأيضاً هذا ما يعلنه أحد الرسل القديسين قائلا: “شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه” (يع 1: 18).

والمسيح نفسه يشرح بوضوح في موضع آخر طريقة هذا الميلاد قائلاً: “الحق أقول لك، ما لم يولد الإنسان من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو 3: 5) إذ بالحري – لأنه يحق أن نكلمكم عن تلك الأمور التي هي سريّة – فالمسيح نفسه قد صار في نفس الوقت كلا من الطريق والباب، وسببا لنعمة وهبت لنا! وهى نعمة مجيدة هكذا وجديرة بأن تحصل عليها. وذلك باتخاذه صورتنا. فبالرغم من حقيقة كونه هو الله وهو حر تماما إلأ أنه اخذ صورة عبد (فى 2:‏ 7)؛ ليهبنا ما له؛ ويثرى العبد بامتيازاته الفائقة، فهو
وحده بالطبيعة حر تماما لأنه هو وحده ابن الآب أي من ذاك الذي هو العالي وفوق الكل والذي يسود على الكل والذي بالطبيعة وبالحقيقة حر تماماً. لأن كل الأشياء التي خلفت تخضع بعتق العبودية لمن خلقها وها مرنم المزامير يُرتل له قائلا: “لأن كل الأشياء متعبد لك” (مز 118: ‎19 س‏ ). ولكن كما أنه في التدبير نقل إلى نفسه ما هو لنا هكذا فقد أعطانا أيضا ما هو له. ويشهد لنا بذلك بولس الحكيم جاء خادم أسراره، عندما يكتب هكذا قائلا: “فانكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا انتم بفقره” (2كو 8: 9). لأن أخذه ما لنا – أي حالة الطبيعة البشرية – هو افتقار بالنسبة لله الكلمة. اما أخذنا ما له فهو غنى للطبيعة البشرية. وواحدة منها هي كرامة الحرية. وهي هبة تليق خاصة بمن قد دعوا إلى البنوة، وهذه أيضا هي هبة منه كما ذكرت لأنه قال لنا “لا تدعوا لكم أبا على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السموات. وانتم جميعا إخوة” وهو ايضا نفسه كذلك، من أجل محبته اللانهائية للبشر، لا يستنكف أن يدعونا إخوة قائلا هكذا “أخبر باسمك اخوتي” (مز 22: 22).‏ فلأنه صار شبيهاً بنا لهذا بعينه قد ربحنا الأخوة معه.

لذا فهو يوصينا أن تكون لنا دالة ونصلي قاتلين: “أبانا” نحن ابناء الأرض والعبيد والخاضعون له بحسب ناموس الطبيعة. هو الذي خلقنا ندعوه هُو الذي في السماء “أبا”. إنه لمن المناسب جدا أن يجعل الذين يُصلُون يفهمون هذا أيضا أنه إذا كنا ندعو الله “أبا” وقد حسبنا أهلاً لهذه الكرامة السامية جدا. ألا ينبغي علينا أن نسلك في سير وبلا لوم تمامًا وأن نحيا هكذا كما يرضي أبانا، والا نفتكر في شيء أو أن نقول شيئا لا يليق أو لا يتناسب مع هذه الحرية التي مُنحت لنا.

وهكذا يقول أحد الرسل القديسين: “وان كنتم تدعون أبا الذي تحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحد, فسيروا زمان غربتكم بخوف” (1بط 1: 17). إنه لأمر خطير للغاية أن أحزن وغضب أبا لنا بالإنحراف وراء الأمور غير المستقيمة. فكيف يتصرف الآباء الأرضيون أو ما هو شعورهم نحو أبنائهم عندما يرونهم موافقين لرغباتهم؛ سالكين ذلك الطريق الذي يرضيهم؟ إنهم يحبونهم ويكرمونهم؛ ويفتحون لهم بيوتهم؛ ويغدقون عليهم هدايا كثيرة من كل ما يرغبون, ويعترفون بهم كورثة لهم. أما إذا كانوا متمردين غير طائعين. لا يحترمون نواميس الطبيعة غير مبالين حتى ولا بالحب الفطري المغروس فينا فإنهم يطردونهم من بيوتهم ويعتبرونهم غير جديرين بأية كرامة أو تسامح أو محبة، بل إنهم يأبون أن يعترفوا بهم كأبناء، ولا يقرون بأي ميراث لهم.

والآن أدعوكم لنرتفع بتفكيرنا من هذه الأمور الحاصلة معنـا إلـى تلـك السمائية التي تفوقها. فأنت تدعو الله أبا، فأكرمه بطاعة متأهبـة، وقـدم لـه الخضوع الذي يحق له، وعش الحياة التي ترضيه، ولا تسمح لنفسك أن تكون عنيفا أو متكبر ًا، بل على النقيض مذعنا خاضعا، مستعدا بلا أي إبطاء أن تتبع أوامره حتى يكرمك هو بدوره ويجعلك شريكا في الميراث مع من هـو ابنـه بالطبيعة, لأنه إذا كان قد ” بذله لأجلنا، كيف لا يهبنا أيضا معه كـل شـيء” (رو 8: 32) حسب تعبير المبارك بولس. ولكن إن كنت لا تراعـي نـفـسك, ولا تبالي بسخاء النعمة التي أعطيت, فقد برهنت على أنك بلا حياء ـ وإن جـاز القول ـ بلا ملح ـ محبا للذة أكثر من حبك للآب السماوي، فخف إذن لـئلا يقول عنك الله أيضا ما قيل عن الإسرائيليين بفـم إشعياء ” اسـمعي أيتهـا السموات وأصغى أيتها الأرض لأن الرب يتكلم، ربيت بنين ونشأتهم, أما هـم – فعصوا علي” (إش 1: 2).

فظيع ـ من كل ناحية ـ يا أحبائي هو جرم الذين يتمردون، وإثم عظـيم للغاية هو رفض الإنسان (الله). فإذن، لحكمة بالغة ـ كمـا قلـت ـ يمنحنـا مخلص الكل أن ندعو الله ” أبا “, حتى إذ نعرف جيدا أننا أبنـاء الله, نـسـلك بطريقة تليق بمن أكرمنا هكذا، فإنه هكذا سيقبل ابتهالاتنا التـي نـقـدمـها فـي المسيح، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهـر الدهور آمین.

عظة (72) ليتقدس اسمك: لو11: 2

 لكل الذين يشتهون كلمات الله المقدسة، ها هو صوت إشعياء النبي ينـادي: “أيها العطاش جميعا هلموا إلى المياه” (إش 55: 1)، لأن كل من يريد، يمكنه أن يستقى من الينبوع المعطي الحياة. ومن هو يا ترى هذا الينبوع؟ واضح أنـه المسيح وتعاليمه, فهو نفسه قال في موضع ما: “إن عطش أحد فليقبـل إلـي ويشرب” (يو7: 37). فلنأت نحن مرة أخرى كما إلى ينبوع، هلم لـنملأ أنفسنا ونشبع ذواتنا من روضة النعمة، فداود المبارك يتحدث عنـه فـي المزاميـر مخاطبا الله الآب: ” يروون من دسم بيتك، ومن نهر نعمك تسقيهم، لأن عندك ينبوع الحياة” (مز 36: 8). لأن نهر النعم يتدفق بوفرة لأجلنـا، وكـذلك ينبـوع الحياة، أي تلك الحياة التي في المسيح، الذي تكلم عنـه واحـد مـن أنبيائـه بخصوصنا هكذا ” هاأنذا أنحني اليهم كنهر سلام وأفيض عليهم كسيل جـارف بمجد الأمم ” (إش 66: 12 س).

انظروا كيف يروينا المسيح بينابيع غنية من البركات الروحية، فماذا يريـد أن يلقننا من تعاليم بعد ذلك؟ إنه يقول لنا: ” متى صليتم فقولوا: أبانا، ليتقـدس اسمك”، لنتبين بأية طريقة ينبغي أن نفهم هذه أيضا.

هل نحن إذن نصلي حتى أن مزيدا من القداسة يمكن أن يضاف الله كلـي القداسة؟ وكيف لا يكون هذا أمرا سخيفا وغير معقول على الإطلاق؟ لأنه لو أن الله الذي هو فوق الكل كان ينقصه أي شيء، لكان محتاجـا لمزيـد مـن القداسة، لكي يصير کاملاً وغير محتاج إلى أي شيء. ولكن إن كان ممتلئـا، كما يقول هو، وهو كامل من كل جهة في ذاته وبذاته، وهو مـانح القداسـة للخليقة من “ملئه” (إش 1: 11 سبعينية)؛ فما هي الإضافة التي يمكن أن ينالها؟ لأن كل الأشياء هي له، وهو بالغ أعلى الكمال في كل صلاح، لأن هـذه أيـضـا إحدى خواصه بالطبيعة. وبالإضافة إلى ذلك، فمن الجهل والسخف بمكـان أن يتصور الذين يصلون أنهم يقدمون توسلاتهم لا نيابة عن أنفسهم بل نيابة عن الله. فماذا يكون إذن معنى “ليتقدس اسمك”؟

نقول إذن إن البشر لا يبتهلون من أجل مزيد من القداسة الله العلـي علـى الكل، لأن من هو أعظم منه حتى يستطيع أن يعطيه ازدياد؟ ” لأنه بدون أدنى شك الأصغر يبارك من الأكبر” (عب7:7). وإنما هم بالحري يطلبون أن تُمـنـح هذه القداسة لهم وللبشرية كلها، لأنه حينما يكون يقيننا وإيماننا الراسخ أن الذي هو بالطبيعة الله العلي على الكل، هو قدس الأقداس؛ فإننا نعترف بمجـده، وجلاله الأعلى، وعندئذ نحصل على مخافة في قلبنا، ونحيا حياة مستقيمة وبلا لوم، لكي عندما نصير نحن أنفسنا هكذا قديسين، نستطيع أن نكون بالقرب من الإله القدوس ـ لأنه مكتوب: “كونوا قديسين لأني أنا قدوس” (لا 11: 44)، وقد قال أيضا مرة لموسى معلم الأقداس Hierophant : ” سأتقدس فـي أولئـك الذين يقتربون مني” (لا 10: 3). فالصلاة، إذن، هي: ليت اسمك يحفـظ مقدسـا فينا، في أذهاننا وإرادتنا، فهذا هو معنى الكلمة ” ليتقدس”. وكما أن من يعاني من مرض في بصره الجسدي ولا يستطيع أن يرى إلا قليلاً وبصعوبة، فمتى صلی قائلا، ” يا رب الكل، امنحني أن ينيرني نور شعاع الشمس أيضا”، فهو لا يقدم ابتهالاته لأجل الشمس، بل بالعكس، من أجل نفسه، هكذا أيضا إذا قال إنسان: ” أبانا، ليتقدس اسمك”، فهو بهذا لا يطلب أن تحدث أية إضـافة إلـى قداسة الله، لكنه بالحري يطلب أنه هو نفسه يقتني مثل ذلك الذهن والإيمـان، لكي يشعر أن اسم الله مكرم وقدوس. فهذا الفعل (التقديس) هو مصدر الحيـاة وسبب كل بركة، فإذا كان الإنسان ينعطف هكذا نحو الله، فكيف لا يكون هذا مدعاة لأسمى اعتبار، ونافع لخلاص النفس؟ ولكن لا تتخيل أنه حينما يكـون الذين يعتمدون على محبته، جادين في توسلاتهم إلى الله، أنهم يطلبون منه مثل هذه الأمور لأجل أنفسهم فقط، بل اعلم أن غرضهم هو أن يشفعوا لأجل كـل السكان على الأرض، ولأجل كل الذين قد آمنوا من قبل، ومن أجل كل الذين لم يقبلوا الإيمان بعد، ولا اعترفوا بالحق. لأنهم من جهة أولئك الذين آمنوا من قبل، يطلبون لهم أن يكون إيمانهم راسخا، وأن يستطيعوا ممارسة أمجاد الحياة الأفضل والممتازة جدا. بينما من جهة الذين لم يصيروا مؤمنين بعـد، فهـم يطلبون لأجلهم أن ينالوا الدعوة وأن تنفتح أعينهم، وهم في هذا إنما يتبعـون أثر خطوات المسيح، الذي بحسب كلمات يوحنا هو: ” الشفيع عند الآب، لأجل خطايانا، وليس لخطايانا فقط بل لكل العالم أيضا ” (1يو 2: 1). إذن فالـذي هـو الشفيع عن القديسين وعن كل العالم، يريد من تلاميذه أن يكونوا مثله. فـإذن عندما نصلي للآب قائلين: “ليتقدس اسمك”، فنحن نضع في أذهاننا أنه وسـط أولئك الذين لم يحصلوا بعد على نور الحق، ولم يقبلوا الإيمان، ويزدري باسم الله بينهم، لأنه لم يظهر لهم بعد أنه قدوس ومكرم وجدير بالعبادة. ولكن حالما يشرق عليهم نور الحق ويستفيقون بجهد شاق كما من ليل وظلمـة، فحينئـذ يعرفون “من هو”، وكم هو عظيم. ويتعرفون عليه معترفين أنه هـو (قـدوس الأقداس)، ومن ثم يكون لهم عواطف مطابقة وإيمان لائق.

تلك العبارة، أن الله يتقدس بواسطتنا، هو اعتـراف منـا بأنـه ” قدوس الأقداس”. وهذا لا يمنحه أية قداسة إضافية، هذا هو ما ينبغي أن تفهموه. فقـد قال أحد الأنبياء القديسين: “قدسوا الرب فيكون مخافتكم، وإن آمنتم به يصير قداسة لكم” (ای 8: 13 سبعينية).

فهل نحن إذن الذين نجعل الله قدوسا ؟ هل هو عمل الطبيعـة البـشرية أن تمنح أي شيء الله؟ هل الشيء المصنوع ينفع الصانع ؟ هل يتصور أي إنسان أن ذلك الذي من ملئه يوزع مواهبه بغني على المخلوقات، هو نفسه ينـال أي شيء منا ؟ أنصت إلى ما يقوله المغبوط بولس: “أي شيء لك لـم تأخـذه؟” (1كـو 4: 7) لذلك فحينما قال النبي: “قدسوا الرب فيكـون مـخـافتكم ويصير قداستكم”، فإننا نؤكد أن ما يعلمه لنا هو: ” آمنوا أنه القدوس، لأنكم ستهابونه عندئذ، وهكذا سيصير هو نفسه واسطة تقديسكم”.

وقد كتب أيضا عن المسيح مخلصنا جميعا: “قدسوا ذلك الذي قد اسـتهان بنفسه” (إش 49: 7 سبعينية)، لأنه قد استهان بنفسه بأنه لم يعمل حـسابا لحياتـه واضعا إياها من أجلنا. ولكن عندما يقول ” قدسوه ” أي اعترفوا بأنه قـدوس، لأنه هكذا بالطبيعة، كونه هو الله نفسه، وابن الله، لأن القداسة الجوهرية لا تناسب أيا من تلك الأشياء التي أتى بها من العدم إلى الوجود، بل تناسب فقط تلك الطبيعة الفائقة السمو التي تفوق الكل، ولذلك، فإيماننا أنه بالطبيعة قدوس، لأنه هذا هو معنى تقديسنا له ـ ونعترف بالتالي أنه هو الله ذاته. لذلك، فلنصل لأجل أنفسنا وليس لأجل الله قائلين: “ليتقدس اسمك”، لأننا إذا اتّخذنا هذا الموقف، وقدمنا صلوات مثل هذه، بذهن حر، فإن الله الآب سيقبلنا، ومعه المسيح سيباركنا، الذي بواسطته ومعه يليق بالله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى دهر الدهور. آمین

عظة (73) ليأت ملكوتك (لو11: 2)

أولئك الذين يحبون المال الكثير، ويشغلون ذهنهم بالثروة والربح لا يسألون جهدا في اتخاذ كل ما أمكنهم من وسيلة لتحقيق ما يرغبونه ويشتهونه. ولكـن مسعاهم ينتهي إلى عاقبة غير سعيدة. لأنه ـ كما يقول المخلـص ـ ” مـاذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ؟” (مت 16: 26). أما مـن يحبـون كلمة الخلاص، وينقبون الأسفار الإلهية كمن يبحث عن كنز، ويفتشون باهتمام عن الأمور المخفية فيها، فإنهم حتما سيجدون المعرفة المحيية التي تقودهم إلى كل المساعي الفاضلة، وتجعلهم كاملين في معرفة تعاليم الحق. لذلك فلنبحـث نحن عن معنى الفقرة التي أمامنا، وغايتنا هي أن نفهم بذكاء ما أوصـى بـه المخلص. فقد قال إنه ينبغي علينا عندما نصلي أن نفهم هذه الطلبـة “ليـات ملكوتك”. فهو يملك على الكل مع الله الآب، ولا يمكن أن يضاف شيء إلـى مجده الملوكي، كأن يزاد له من الخارج أو كأنه يعطى له بواسطة أخـر، ولا أن ينمو معه مع مرور الزمن، لأن مجده الملوكي أشرق معه بلا بداية، فهـو كائن منذ الأزل وما يزال كما كان، لذلك فلأنه هو إلـه بالطبيعـة وبالحق؛ فبالتالي ينبغي أن يكون كلي القدرة، وتكون هذه الخاصية هي له بلا بداية وبلا نهاية، إذ يقول أيضا واحد من الأنبياء القديسين: ” الرب سيملك إلـى الـدهر والأبد” (خر15: 18)، والمرنم الإلهي يتغنى قائلاً: ” ملكوتـك ملكـوت أبـدي” (مز 144: 13 س). وأيضا: “الله ملكنا قبل الدهور ” (مز 72: 12 س). فإذا كان الله دائم الملوكية وكلي القدرة، فبأي معنى يقدم أولئك الذين يدعون الله أبا ويقولون في توسلاتهم: “ليات ملكوتك”. يبدو أنهم يريدون أن يروا المسيح مخلص الجميع ناهضا مرة أخرى فوق العالم. لأنه سيأتي، نعم سيأتي وينزل كيان، ولكـن ليس بعد في هيئة متواضعة مثلنا، ولا في وضاعة الطبيعة البشرية؛ ولكن في مجد كما يليق بالله، الذي يسكن في نور لا يدنى منه (1تى 6: 12)، ويـأتـي مـع الملائكة. فهكذا قال هو نفسه في موضع ما: “ابن الإنسان سيأتي في مجد أبيه مع ملائكته القديسين” (مت 16: 27). لذلك، أظن أنني ينبغـي أن أضـيـف هـذا أيضا: ” إنه في نهاية هذا العالم، سينزل من السماء، ولكن لا لكي يعلم فيمـا بعد الذين على الأرض، كما قيل في القديم، ولا لكي يريهم طريق الخـلاص، إذ أن أوان هذا قد مضى وفات؛ ولكنه سينزل ليدين العالم. والحكــم بـولس أيضا يشهد لما أقول معلنا هذا: “لأنه لابد أننا جميعا نظهـر أمـام كـرسـي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيـرا كـان لـم شـراً”(2كو 5: 10)

 لذلك. فمنبر الدينونة مرعب، والقاضي لا يأخـذ بـالوجوه. إنـه وقـت المساءلة؟ لا بل هو وقت المحاكمة والمجازاة. والنار معدة للأشرار وعقـاب دائم وعذاب أبدي ـ كيف يمكن إذن للناس أن يطلبوا أن يعاينوا ذلك الوقـت؟ أتوسل إليكم ثانية، لاحظوا، أرجوكم، مهارة المخلص وحكمته العجيبة في كل التفاصيل، لأنه يأمرهم أن يطلبوا في الصلاة أن يأتي هذا الوقـت المرعـب، لكي يجعلهم يعرفون أنه يجب عليهم أن يحيوا ليس بإهمال، ولا بانحلال، ولا أن يخدعوا بالتسيب وحب اللذة، بل على العكس أن يعيشوا كما يليق بالقديسين وبحسب مشيئة الله، لكي تكون تلك الساعة بالنسبة لهم، هي واهبة الأكاليـل، وليس النار والدينونة. أما بالنسبة للأشرار والنجسين، الذين يسلكون حيـاة شهوانية ومنحلة ومرتكبين لكل رذيلة، فلا يناسبهم بـالمرة أن يقولـوا فـي صلواتهم: “ليات ملكوتك”، بل دعهم بالحري يعرفون أنهم بقولهم هذا إنمـا يدفعون الله لقصاصهم، بينما زمن عقابهم لم يحن بعد أو يظهر، وعن هـؤلاء يقول واحد من الأنبياء القديسين: ويل للذين يشتهون يوم الرب، ماذا يكون لكم يوم الرب؟ يوم ظلام لا نور، وقتاما ولا نور له” (عا 5: 18).

فالقديسون إذن يطلبون سرعة مجيء الملك الكامل للمخلص لأنهم جاهـدوا  كما ينبغي، وصاروا أنقياء السريرة، وهم يتوقعون المجازاة عمـا سـبق أن فعلوه. لأنه كما أن الذين ينتظرون عيدا و” فرحا ” علـى وشـك المجـيء وسيظهر بعد قليل، يتلهفون لوصوله، هكذا يفعل هؤلاء أيضا، لأنهم سيقفون ممجدين في حضرة الديان، وسيسمعونه يقول: “تعالوا يا مباركي أبي، رثـوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم” (مت 25: 34). لقد كانوا وكـلاء حكمـاء غيورين أقامهم الرب على أهل بيته ليقدموا لهم الطعام في حينه، وقد وزعـوا حسنا وبحكمة على العبيد رفقائهم مما قد نالوه هم أنفسهم واغتنوا به من قبل، لأنهم وضعوا في قلوبهم قول الرب: “مجانا أخذتم، مجانا أعطوا” (مت 10: 8). وعندما أخذوا منه الوزنة لم يطمروها في الأرض، فلم يكونوا مثـل العبـد الكسلان المتراخي المهمل الذي اقترب من السيد وقال: “يا سيد عر عرفت أنـك إنسان قاس، تحصد حيث لم تزرع وتجمع من حيث لم تبذر، فخفت ومـضيت واخفيت وزنتك في الأرض، هوذا الذي لك” (مـت 25: 42)، بل علـى العكـس تاجروا بها وربحوا كثيرا، وقدموها مع ربحها قائلين: “يا سـيد وزنتـك قـد ربحت عشرة وزنات” (لو 19: 16)، فوهب لهم الدخول إلى كرامات أعظم. لقـد كانوا ذوي غيرة قلبية حارة، ونية مستقيمة شجاعة فلبسوا سلاح الله الكامـل درع البر، وخوذة الخلاص، وأخذوا سيف الروح. لأنه لم يغب عنه أنهـم لا يحاربون ضد لحم ودم، بل ضد رؤساء وقوات، ضد ولاة العالم علـى هـذه الظلمة، ضد أجناد الشر الروحية في السماويات (أف 6: 12)، فكثيرون هم الذين يجدلون لأنفسهم أكاليل الشهادة، وباحتمالهم الصراعات حتى بذل الحياة وسفك الدم، قد صاروا ” منظرا للعالم للملائكة والناس” (1كو 4: 9)، وحسبوا مستحقين لكل إعجاب ومديح. وآخرون صبروا على الأتعاب والاضطهادات مجاهـدين بغيرة حارة لأجل مجد المسيح. وكما يعلن بولس الإلهي: “فقد دخلت نئـاب خاطفة بين قطعان المسيح، وهي لا تشفق علـى الرعية” (أع 20: 29). فعلـة ماکرون، رسل كذبة (2كو 11: 13)، يتقيأون خبث الشيطان وحقده ” ويتكلمـون بأمور ملتوية” (أع 20: 30) ليقودوا نفوس الجهلاء إلى الهلاك ” ويجرحون ذميرهم الضعيف” (1كو 8: 12) هؤلاء بتملقهم سلطات هذا العالم أثاروا اضطهادات وضيقات على أبطال الحق، ولكن الأبطال لم يحسبوا كثيـرا مـا عانوه من آلام لأنهم كانوا ينظرون إلى الرجاء الذي لهم فـي المـسيح، فلـم يكونوا يجهلون أنهم إن كانوا ” يتألمون من أجله فإنهم سيملكون معه” (2تی 2: 12). فهم تيقنوا أنه في زمن القيامة ” سيغير شكل تواضـعهم ليكـون علـى صورة جسده الممجد” (في 3: 21). إنهم آمنوا تماما بما قاله الرب عـن نـهايـة العالم، إنه عندما يظهر لهم ثانية من السماء: “سيضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم” (مت 12: 43).

إذن فيسوغ لهم بحق أن يقولوا في صلواتهم: “ليـأت ملكوتـك”، لأنهـم يشعرون بالثقة أنهم سينالون مجازاة شجاعة إيمانهم، وسيبلغون غاية الرجـاء الموضوع أمامهم.

ليته يكون لنا نحن أيضا نصيب معهم، أن نحسب أهلاً لهذا الميراث العظيم في المسيح، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلـى دهر الدهور آمین.

عظة (74) لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض

توسل داود النبي إلى المسيح مخلص الجميع قائلاً: “اهـدنـي إلـى حقـك وعلمني إنك أنت الله مخلصي” (مز 25: 5)، لأن الذين هم في المسيح بالإيمـان هم الذين يتعلمون من الله، ونحن، من بين هؤلاء، لذلك لنلتمس منه أن يشرح لنا كلماته، لأن كل من يريدون أن يفهموا جيدا دونما خطأ ما يريد الـرب أن يعلمهم، هم في حاجة إلى النور الإلهي، إذ هو المانح لكل حكمـة، ويـشرق بنوره على ذهن وقلب أولئك الذين يسألونه، وها مرنم المزامير يقول أيضا: ” افتح عيني فأرى عجائب من شريعتك” (مز 119: 18). لذلك، فلنفحص أيضا هذا الجزء من الصلاة، لأن ما سنربحه لخلاص النفس ليس قليلاً.

لماذا إذن، أوصى الرب القديسين أن يخاطبوا الله الآب الذي فـي الـسماء قائلين: “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض؟”.

إن هذه الطلبة تليق بالقديسين، وهي مملوءة مديحا أيضا. إنه يليق بالقديسين أن يتوسلوا من أجل أن تسود مشيئة الله الصالحة على الأرض، ومـا الـذي يهدف إليه هذا التوسل سوى أن يعيش كل البشر حياة مختارة تستحق المديح، وأن يمارسوا ويعرفوا كل فضيلة؟ فـنحن نؤكد أن الملائكـة القديسين إذ يصنعون مشيئة الله فإنهم يقيمون في مجد في السماء لأنه مكتوب: “بـاركوا الرب يا جميع قواته، يا خدامه العاملين مشيئته” (مز 102: 21 س). لأنهم بالتزامهم بمشيئة سيدهم وبتتميمهم البر الذي يفوق الأمور البشرية، يحفظـون رتبـتهم العالية، وأما أولئك الذين فعلوا بخلاف ذلك، فقد سقطوا من رتبتهم.

ولكن لكي نسير قدما ونحصر معنى الكلام باختصار، فلنتضرع أن يمـنح الله القوة للساكنين على الأرض، لكي يصنعوا مشيئته ويتمثلوا بالسلوك الـذي يمارسه الملائكة القديسون فوق في السماء، لذلك، فلنتأمل بقدر ما نستطيع بأية طريقة تمارس القوات العلوية ورتب الملائكة القديسين واجبهم بنجاح، كيـف يكرمون الله؟ هل بتقديم ذبائح دموية؟ هل بأطياب وبخور كمـا كـان يفعـل إسرائيل حسب الجسد؟ ولكنني أظن أن هذا غير معقول فكرا وقولاً. لأنه مـن الصواب بالحري أن نؤكد أنهم يتممون خدمة روحية وليست مادية، مقـدمين دائما التماجيد والتسابيح لخالق الكل، ومكملين البر اللائق بالأرواح القديسة. إذن فأولئك الذين يتوسلون في صلواتهم أن تتم مشيئة الله على الأرض، ينبغي بالضرورة أن يحيوا هم أنفسهم بلا لوم، وأن لا يبالوا بهذه الأمور الأرضية، بل أن يتحرروا من كل دنس، ويقفزوا خارجا من حفـرة الإثـم، “مكملين القداسة في خوف الله” (۲کو 7: 1)، وكما يقول بولس الرسول أيضا، أنه حتـى وإن كانوا يسيرون على الأرض، تكون “سيرتهم هي في السموات” (في 3: 20). وفوق كل شيء، فليعرف أولئك المنتمون إلى الجماعة اليهودية، ولكـنـهم قـد اغتنوا بالبر الذي في المسيح بالإيمان، أنه من اللائق جدا أن يتمموا كلمة الله، وأن يتخلوا عن الخدمة التي تتكون من المظاهر والرموز، ويختاروا بالأحرى الخدمة الروحية، النقية وغير المادية، كما يقول المخلص في موضع ما: “الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا لأن الأب طـالـب مثل هؤلاء الساجدين له” (يو 4: 24).

أما كون الطريقة الناموسية للخدمة ليست هي ما يطلبه الله، فإنه أمر ليس من الصعب أن نراه من الكتابات النبوية والرسولية. لأنه يقول بفم إرميا النبي: ” لماذا تأتون لي باللبان من شبا وقصب الذريرة من أرض بعيدة؟ محرقاتكم غير مقبولة وذبائحكم لا تلذ لي” (إرة: ٢٠ س) ويقول بصوت داود: ” لا أخذ من بيتك ثورا ولا من حظائرك جداء… هل أكل لحـم الثيـران أو أشرب دم التيوس” (مز 49: 9 س). كما أن المغبوط بولس يوضح أيضا أن خدمة الناموس هي بلا قوة للتبرير فيقول: “ولكن أن ليس أحد يتبرر بالناموس عند الله فظاهر ” (غلا 3: 11). إذن، فمشيئة الله التي نصلي لأجـل أن تكـون علـى الأرض، ليست هي أن نتطابق مع الناموس وأن نحيا بحسب خشونة الحرف، بل أن نجتهد أن نحيا بالإنجيل. وهذا يتم بإيمان صحيح بلا عيـب، وبحيـاة مقدسة لها الرائحة الحلوة لكل فضيلة ولها برهان بشهادة السلوك الـصالح النبيل في كل ما هو ممتاز.

ولكي أشرح لكم بطريقة أخرى معنى ما هو موضوع أمامنا، فنحن نقـول إن أولئك الذين يتوسلون قائلين: “لتكن مشيئتك كما في السماء كـذلك علـى الأرض”، إنما يصلون أن يروا توقف الخطية. لأن نـاموس موسـى أعطـي للإسرائيليين ليكون مؤدبا لهم، ولكن الذين استلموه قـدموا اهتمامـا ضئيلاً بوصاياه، وكانوا ” محبين للذات دون محبة الله” (2تی 3: 2 -4) وتحولوا ليتبعـوا مشيئتهم الخاصة، فضلوا وراء تعاليم ووصايا الناس، وقـال الله عـنـهم فـي موضع ما: ” هذا الشعب يقترب إلي، ويكرمني بشفتيه، وأما قلبهم فأبعدوه عني وصارت مخافتهم مني باطلة، بينما يعلمون تعاليم ووصايا الناس” (إش 39: 13).

وقال عنهم أيضا بفم إرميا: اسمعي أيتها الأرض، هاأنذا جالب شرا علـى هذا الشعب ثمر أفكارهم لأنهم لم يصغوا لكلامي، وشريعتي رفضوها (إر 6: 19). هكذا كانت حالة اليهود، ولكن الشعوب الأخرى التي انتشرت فـي كـل الأرض كانت في ضلال بطرق مختلفة، “لأنهم عبدوا المخلوق دون الخالق” (رو 1: 5)، وإذ أذلوا عقولهم بالخضوع للأرواح النجسة، لذلك انقادوا بواسطتهم بسرعة وبدون فهم إلى كل ما هو دنيء، وكل نوع من الشر كان مكرما بينهم “الذين مجدهم في خزيهم “، كما يقول الكتاب (في 3: 19).

فالقديسون يبتهلون من أجل جميع الناس أيا كانوا، من إسرائيل كما من الأمم ليحسبوا مستحقين للسلام الذي من الأعالي، وأن يجدوا راحة القلب بعد البؤس الذي كانوا يقاسونه حينما كانوا واقعين في حبال الإثم الذي لم يكن لهم إمكانية الفرار منه: وإذ ينالون البر الذي في المسيح بالإيمان، يمكنهم أن يصيروا أطهارا، وناجحين في كل عمل صالح. من أجل هذا يصلون قائلين: ” لـتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض “، لأن مشيئة إله الكل ـ كما سبق وقلت ـ هي أن يحيا سكان الأرض بقداسة وتقوى وبلا لوم، إذ يغسلون مـن كل دنس، وهم مثابرون على التمثل بالجمال الروحي للأرواح العلويـة فـي السماء، حتى أن الكنيسة على الأرض، كونها هي المثال المنظور والصورة “لكنيسة الأبكار” التي في الأعالي، تصير مرضية للمسيح، الذي به ومعـه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى دهر الدهور آمين.

عظة (75) أعطنا كل يوم خبزنا الضروري

أولئك الذين يقتنون الثروات الأرضية يدعون أصحابهم الذين يودون أن يكرموهم إلى بيوتهم، ويضعون أمامهم المآدب الفاخرة، قاصدين بذلك أن يعطـوهم الفرصـة ليمتعوا ذواتهم، مع أنهم لم يعدوا لهم شيئا أكثر مما يشبع شهيتهم للطعام المادي. أمـا مخلصنا رب الكل، فلا يقدم لنا مأدبة نستمتع بها جسديا، فهذا ليس بنافع لنا، بل قـد يكون ضارا حتى للجسد نفسه، وإنما هو يقدم ولائم روحية لقلوب أولئك الذين يريدون أن يحيوا بالتقوى، مانحا إياهم تعليم الإنجيل الخلاصي الذي به يصير الإنسان ممثلنا من كل صلاح ووارثا للحياة الأبدية، وما قد قلته، تعلمه لنا بوضوح هذه الفقرة التـي أمامنا الآن، والرب يقول: “متى صليتم ينبغي أن تقولوا: “أعطنا كـل يـوم خبزنا الضروري”.

ولكن ربما يعترض البعض قائلاً: إنه ليس من المناسب ولا من اللائق بالقديسين أن يطلبوا من الله هذه الأمور الجسدانية، ولذا قد يأخذون ما قيل بـالمعنى الروحـي، ويؤكدون أنهم لا يسألون الخبز الأرضي أو ما هو للجسد، بل ذلك الذي نـزل مـن فوق، من السماء فأعطى الحياة للعالم. وأنا أيضا بلا أدنى شك أقول: إنه من الأليـق جدا بالقديسين أن يسعوا بكل جهد ليحسبوا مستحقين للعطايا الروحية، ولكن من جهة أخرى ينبغي لنا أن نفهم أنه حتى إذا ما كانوا يطلبون مجرد الخبز العادي إلا أنـه لا لوم عليهم البتة في ذلك إذا كانوا يسألونه من الله حسبما يدعوهم المخلص أن يفعلـوا هكذا، لأن هذا يليق بتقوى حياتهم. فيجب علينا أن نمعن النظر في المعنى المتـوارى لهذه الكلمات وما يحتويه من تعليم.

فالرب إذ أوصاهم أن يسألوا من أجل الخبز، أي من أجل خبز يوم واحـد، فهـذا برهان واضح على أنه لا يسمح لهم بامتلاك أي شيء، بل يطلب منهم أن يمارسـوا الفقر اللائق بالقديسين. فالطلب ليس من حق من يمتلكون بل لمن هم بـالحري فـي حاجة لم يحتاجه الجسد بصورة ضرورية، ولا يستطيع أن يعمل بدونه. فإذا افترضنا أن واحدا ليس محتاجا إلى شيء، وطلب من الله العالم بكل شيء قائلاً: “أعطنا خبز اليوم”، فإنه يبدو بطبيعة الحال كمن يأخذ باستهزاء، أو ربما كمن يجعل الوصية مدعاة للسخرية، ويتصور كما يفعل البعض أن “الرب لا يبصر وإله يعقـوب لا يلاحـظ” (مز 94: 7).

 ولكن بهذه الوصية نفسها ـ طالما هم يسألون ما ليس عندهم نفهـم أن الـرب لا يروم لتلاميذه أن يبتغوا الغنى الأرضي، وهو ينهاهم في مناسبة أخـرى قـائـلاً لهـم بوضوح: “لا تقلقوا من أجل حياتكم ماذا تأكلون أو ماذا تشربون، ولا أجسادكم ماذا تلبسون لأن هذه الأمور كلها تطلبها الأمم، ولكن اطلبوا أولا ملكوت الله وبره، وهـذه كلها تزاد لكم، لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها ” (مت 6: 25 -33)

وكلمة ” إيبي أوسيوس ” التي تطلق على الخبز، يشرحها البعض بمعنى ما هو آت، أي المزمع أن نعطاه في العالم الآتي بالمفهوم الروحي أيضا، فـي حين أن آخرين يعطون للكلمة معنى مغايرا. ولكن إذا كان حقا أن الخبز الذي يـشـار إليه في هذه الطلبة سيعطى في العالم الآتي، فلماذا يضيفون: “أعطنا كل يـوم”؟ لأن من هذا نرى أنهم يلتمسون مؤونتهم اليومية، وهم يسألون لا كأناس محبين للثروة بل كأحرار من كل هم أرضي. فمعنى ” إيبي أوسيوس ” إذن ما هو ضـروري وكـافي. والرسول المغبوط بولس قد استخدم هذا التعبير مع تحوير طفيف عندما تكلـم عـن المسيح مخلص العالم قائلاً عنه: ” أنه أعـد لنفـسـه شـعبا خاصا مستعملاً “بيرى أوسيوس” بدلاً من ” إيبي أوسيوس” قاصدا بذلك ” شـعب كفء لا يعوزه الكمال” فهم عندما يطلبون قوت يومي فحسب (كفافهم) يعرفون أنهم يقدمون طلبتهم كأناس أحرار من شهوة الغني بل ويحسبونه فخرا لهم أن يكونوا معدمين تماما من كل الأشياء الأرضية.

لأنه يليق بمن تعينوا للخدمة الكهنوتية أن يكونوا خالين من كـل هـم وإنـشغال دنيوي، غير منقادين وراء تلك الأمور التي تغرق الناس في الهموم وتلقى بهم كما في حمأة، في قاذورات الشهوات العالمية: “لأن محبة المال أصل لكل الشرور”. ومـن الصواب أن أقول لمن يبتغون أن يقلعوا عن مثل هذه العيوب أنهم ينبغي أن يتركـوا للعالم ما يخصه وأن يجحدوا كل الأمور الجسدية، وأن يطلبوا من الله فقط مـا هـو ضروري لقوام الحياة، متحدين عجز الجسد الـذي لا يكـف عـن طـلـب الطعـام، ومستعدين ـ لو كان ذلك جائزا ـ أن يهربوا منه تماما، وبذا يمكن أن تطول الحياة، بل وأن يتقبلوا هذا بفرح عظيم، بقبول هذا التجرد.

لأنه كما أن أولئك الذين يعرفون كيف يجاهدون المصارعات الجسدائية، ويبرعون في ألعاب المسابقات، يتجردون حتى من ثيابهم، ويقفون بشهامة صامدين أمام شـدة بأس مقاوميهم، كذلك القديسون إذ يتخلصون من كل الهمـوم الدنيويـة والـشهوات الجسدانية، بل ولا يبالون حتى أن يقتنوا وفرة من القوت، متجردين ـ كما قلـت لمقاومة إبليس وكل أعوانه أعداء الحق، فإنهم يكرسون أنفسهم تماما للجهاد الموضوع أمامهم في الخدمة الكهنوتية، فينالون النصرة كمجاهدين.

وهذا ما يقوله أيضا الرسول الإلهي بولس في إحدى رسائله (2تی 2: 4) عن أولئـك الذين يحاربون في الجسد: “ليس أحد وهو يتجند يرتبك بأعمال الحياة لكي يرضـي من جنده”، لأنه ليس من محارب يذهب إلى معركة وهو محمل بأشياء زائـدة عـن الحاجة، بل فقط تلك المعدات الضرورية المناسبة للمحاربين.

إذن يليق بالقديسين، كأناس أعطي لهم أن يجاهدوا ليس فقط ضد: “دم ولحم بـل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة عالم ظلمة هذا الـدهـر مـع أرواح الـشـر فـي السماويات” (أف 6: 12)، يليق بهم أن يمنطقوا حسنا أحقـاء ذهـنـهم حتـى لا يكونـوا معرضين لضربة أولئك الخصوم الذين يقاومونهم ويحاربون ضـد الرسـالة التـي يكرزون بها. ومن اللائق بهم أيضا أن يكونوا ذوي غرض واحد في حياتهم، بمعنـى أن يفكروا ويسعوا فقط فيما يرضى الرب، وأن لا يسمحوا بأن يتسرب إليهم شيء من هذا العالم، بل إذ يكونون كلهم مقدسين بالتمام وبلا لوم، فإنهم يجعلون حياتهم ذبيحة
مقدمة الله، لأنه مكتوب أن “كل تقدمة كاهن تحرق بكمالها ” (لا 6: 23). لأن حياة محبي العالم تكون منقسمة (بسبب هم العالم) بحسب تعبير القديس بولس”، أما حياة القديسين فليست كذلك، إذ أنهم كرسوا حياتهم بالكامل وتقدسوا تماما، فتنبعث منهم رائحة طيبة أمام الله.

وهذا هو ما نقول عنه إنه ” محرقة كاملة ” أو ” تُحرق بكاملها ” ولكـن إذا وجـد شيء ما غير مقدس في أية تقدمة فإنه يلوث الذبيحة ويغيرها ويقسمها أو بـالحري يختلط النجس بالطيب. وتتلاشى رائحته الطيبة، فمحبة المال إذا تسربت إلـى حيـاة القديسين فهي تكون كشيء كريه الرائحة، وكذلك القلق من أجل أمور الجسد، لأن الله في كل مكان قد وعد القديسين أنهم لن يكونوا في عوز إلى شيء.

فإذا كنا لا نثق أنه سيمنحنا هذا، فقد صرنا شركاء اليهود في عدم إيمانهم، لأنـه عندما أخرج الله الكلي القدرة لهم ماء من الصخرة، بطريقة إعجازية لا يعبر عنها . تذمروا عليه قائلين: ” هل يقدر الله أن يرتب مائدة في البرية ؟” (مز 78: 19).

ولماذا لا يقدر، ولماذا لا يعطي ما قد وعد به؟ لأنه إذا كان النـاس ذو الـسجايا الحسنة يكونون دائما أوفياء لما تنطق به أفواهم، فكيف يكون الله الذي هو أسمى من الجميع غير صادق فيما وعد به، بل إن البشر بعد أن يعدوا بشيء صالح، كثيرا مـا يعجزون أن يوفوا بما وعدوا، أما هو الذي لا يشوبه ضعف، بل هو رب القـوات، الذي يفعل كل ما يريد بلا مشقة بل بكل سهولة، كيف لا يتمم كل ما يعد به البشر. إذن فلنسأله ونحن ” ملقين كل همنا عليه” (1بط 5: 7)، ما يكفي لحياتنا، أي الطعـام والكساء وكل ما يقوم بضروريات الحياة متجنبين كل رغبة في الغنى، لأن ذلك يهدد حياتنا بالدمار، وإن كانت هذه هي إرادتنا فإن المسيح يقبلنا ويباركنا، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

عظة (76) واغفر لنا خطايانا، لأننا نحن أيضا نغفر لكل من أساء إلينا

(لو11: 4)

إن إشعياء النبي المبارك عندما كان يتنبأ عن طريق الخلاص بالكرازة بالإنجيـل، نطق هكذا قائلاً في موضع ما: ” وستكون هناك طريق مستوية يقـال لـهـا الطريـق المقدسة” (إش 35: 9 س)، لأنها تقود أولئك الذين يسلكون فيها إلى القداسة بعبادة روحيـة أعلا من الناموس.

ويحضرنا كذلك ما يقوله المسيح لمن يحبونه: ” الحق أقول لكم، إن لم يزد بـركم على الكتبة والفريسيين، فلن تدخلوا ملكوت الله” (مت 5: 10). وأقول إنه من واجب من دعوا بالإيمان إلى معرفة مجد المسيح مخلصنا جميعا، وقد اتخذوه رأسـا لـهـم أن يفرحوا في تمثلهم بأعماله، وأن يكونوا جادين في أن يجعلوا نورهم يضيء بالـسيرة المقدسة التي لم تكن لهم قبل أن يأتوا إلى الإيمان: “لأن كل الأشياء قد صارت جديدة في المسيح” (2کو 5: 17).

فالرب يطلب من تلاميذه أن يكونوا ودعاء بطييء الغضب، حتى يستطيعوا أن يقولوا بلا لوم في صلواتهم: ” واغفر لنا خطايانا لأننا نحن أيضا نغفر لكل من أساء إلينا “.

يا لعظمة حكمة الله العجيبة وعمق غنى معرفته الفائقة ! إنه يطلب منهم أولاً أن يسألوه الغفران عن خطاياهم التي ارتكبوها، وبعد ذلك أن يعترفوا أنهم يغفرون أيضا كلية للآخرين، وكأنهم يسألون الله أن يطيل أناته عليهم كما يفعلون هـم أيـضـا مـع الآخرين، وأن يعاملهم بمثل اللطف الذي يمارسونه هم مع العبيد. إنهم يتوسلون أن ينالوا نفس الكيل من الله الذي يعطي بعدل، ويعرف كيف يظهر الرحمة لكل إنسان.

فتعالوا بنا نسعى لندرك بوضوح أكثر معنى هذه الصلاة، بالتعمق في هذا المقطع الذي أمامنا والتدقيق فيه. فكما قلت: إن الرب أوصانا عندما نتقـدّم إليـه أن نقـول: ” اغفر لنا خطايانا”. فلنفحص معا من فضلكم ما هي المنفعة التي تنالهـا مـن هـذه الصلاة. فالذين يتوسلون إلى الرب هكذا، ليسوا متشامخين، وهم لا يرتلون في أنفسهم أمورا عظيمة، ولا يتعالون على الضعفاء، بل كما يقول الكتاب ” هم قضاة لأنفسهم” (أم 13: 10 س). فهم ليسوا مثل ذلك الفريسي، الجاهل والمتكبر، الذي تجاسر حتى على أن يجعل الرب نفسه شاهدا له، حسبما يقول ذلك المثل “انسانان صعدا إلى الهيكـل ليصليا، واحد فريسي والآخر عشار، أما الفريسي فوقف يصلي في نفسه هكذا: اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العـشـار، لصوم مرتين في الأسبوع وأعشر كل ما اقتنيه، وأما العشار فوقف من بعيد لا يـشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع على صدره قائلا: اللهم ارحمني أنـا الـخـاطئ، أقول لكم إن هذا نزل إلى بيته مبررا دون ذلك” (لو 18: 10 – 14).

فانظروا كم هو مهلك للنفس أن يتعالى الإنسان بنفسه على الضعفاء، متوهمـا أن سلوكه غير معرض للوم من أي ناحية مطلقا. بل بالحري ينبغي علينا أن نضع فـي اعتبارنا على الدوام وتفكر: “إننا في أشياء كثيرة نعثر جميعا” (يع 3: 2). بل ويمكننا أن نقول إننا دائما نخطئ، وأحيانا حتى بغير إرادتنا، لأنه مكتوب: ” مـن يـستطيع أن يدرك خطاياه؟” (مز 18: 12 س)، وها هو منشد المزامير المغبوط يتوسل إلى الله بحرارة وبصراحة تامة قائلاً: ” من الخطايا المستترة طهرني، ومن المتكبرين احفظ عبدك فلا يتسلطوا علي، حينئذ أكون بلا لوم، وانتقى من خطية عظيمة” (مز 18: 23 س).

وكذلك أيضا أيوب الذي كان مثالاً عظيما في الصبر، نراه يقدم ذبائح عن خطايـا أبنائه، غير المعروفة، أو بالأحرى غير المكتشفة، قائلاً: “ربما أخطأ بنـي وجـثفوا على الله في قلوبهم” (أى 1: 5)، ونذكر أيضا بولس ذا للحكمة العالية الذي عندما كتـب قائلا: “فإني لست أشعر بشيء (من الخطأ) في ذاتي”، استدرك قائلا “لكننـي لـست بذلك مبررا، ولكن الذي يحكم في هو الرب” (1كو 4: 4). إذن من النافع لنا جدا وعلى الدوام أن نخر ساجدين أمام الله الذي يحب كل مـا هـو صالح ونقول: “أغفر لنا خطايانا”، فهو قد قال بفم أحد أنبيائه للقديسين: “اعتـرف أولاً بتعدياتك لكي تتبرر ” (إش 43: 26 س). وإذ لم يكن هذا المبدأ مجهولاً لدى المغبوط داود، فقد أنشد هكذا في مزاميره: “قلت أعترف للرب بذنبي، وأنت غفرت اثم قلبي” (مز 31: 5).

لأن الله سريعا ما يرضى على الإنسان ويتراءف على من لا يتناسون ذنوبهم، بل يسقطون على وجوهم أمامه ويسألونه الغفران، إلا أنه شديد بحق وعدل علـى قـسـاة القلوب والمتكبرين، وعلى كل من يسعى بمنتهى الجهل أن يبرئ نفسه مـن اللـوم. فالرب قد قال لمن هو على مثل هذا الحال: ” هاأنذا أحاكمك لأنك قلت، إني لم أخطئ” (إر 2: 35)، لأنه من يمكنه أن يفتخر بأن له قلبا نقيا؟ أو من يقدر أن يتجاسر ويقول إنه برئ من الخطايا؟ إذن فالطريق المؤدي إلى الخلاص والذي ينقذ الجادين في الـسير من غضب الله، هو الإقرار بالذنوب، وأن نقول في صلواتنا لمن يبرر الأثيم: “اغفر لنا خطايانا “.

هناك أيضا طريقة أخرى ننتفع بواسطتها: فأولئك الـذين يعترفـون بـحـق أنهـم أخطأوا، ويريدون أن ينالوا الصفح من الله، فهؤلاء بالضرورة يهابونه باعتباره أنـه هو الذي سيكون الديان، فهم لا يمكنهم أن ينسوا أنهم سيقفون أمام كرسي دينونـة الله الرهيب، وكما يكتب بولس الحكيم جدا: “لأنه لابد أننا جميعا نظـهـر أمـام كـرسـي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرا كان أم شرا” (2کو 5: 10).

إن أولئك الذين يضعون في اعتبارهم أنهم لابد أنهم سيقفون أمام كرسـي الـديـان ويعطون حسابا عما فعلوا، وأنهم إذا أخذوا بجريرة ما، فسوف يقاسون عقابا مريـرا، أو سيمدحون إذا ما كانوا قد سلكوا سلوكا حسنا وعاشوا حياة فاضلة في الجسد علـى الأرض. مثل هؤلاء، من جهة، سيتوقون إلى الصفح عما ارتكبوا من خطايـا حـتـى ينجو من العذاب الذي لا نهاية له والعقوبة الأبدية، ومن جهة أخرى، فإنهم يهتمون بـأن يحيوا باستقامة ويسيروا سيرة لا عيب فيها، حتى يمكنهم أن ينالوا الإكليل اللائق بحياتهم الفاضلة، لأنهم بهذا سيتلطف بهم الديان، ولن يذكر لهم شيئا مما عملوه من سيئات، فالرب يقول: “شر الشرير لا يؤذيه يوم يتوب عن شره” (حز 33: 12 س).

ولكن لا يتوهم أحد، أنه يحق لكل الناس بلا تفرقة أن يقولوا: ” اغفر لنا أثامنـا”، من فإنه لا يليق بمن يستمرئون البقاء في شرورهم أن يقولوا: ” اغفر لنا خطايانا “، بل لمن تخلوا عن رذائلهم السابقة راغبين بكل جدية أن يحيوا كما يليق بقديسين، وإلا فـلا شيء يمنع فعلة الشر، ضاربي الآباء وقاتلي الأمهات، والزناة والسحرة، وكـل مـن ارتكب مثل هذه الجرائم الأشد شناعة، أن يستمر في فعلها ويعزز وجـود دوافعهـا الشريرة كما هي بدون تغيير، وينجس نفسه بكل الأفعال الدنيئة، ثم يتقـدم إلـى الله بجسارة ويقول: “اغفر لنا خطايانا “. لهذا السبب فإن مخلص العالم ورب الكل لم يختم هذه العبارة عند هذا الحد، بل أمرنا أن نضيف قائلين: “لأننا نحن أيضا قد غفرنا لكل أساء إلينا”. فإن هذا لا يتناسب إلا مع الذين قد اختاروا لأنفسهم الحياة الفاضـلة، وساروا بلا تراخ في طريق مشيئة الله، تلك التي هي . كما يقول الكتـاب: “صالحة ومرضية وكاملة ” (رو 12: 2). هؤلاء يتحلون بطول الأناة، ولا يلومون الذين أسـاءوا إليهم. وحتى إذا ما أساء إليهم أحد، فإنهم لا يفكرون في هذا الأمر. فبطء الغـضـب هـو فضيلة ممتازة، وهو ثمرة تلك المحبة التي قال عنها الرسول الحكــم إنهـا: “تكميـل الناموس” (رو 13: 10).

ثم تأملوا معي في جمال هذه الفضيلة الفائقة ولو بالمقارنة مع قبح الرذيلة المضادة لها، لأن الغضب في الواقع هو مرض خطير، ومن استسلم له بفكره صار إنسانا حاد الطبع، نكذا، عنيفا، وعنيدا، ومرتعا خصبا للغضب والصياح، وإذا ما استمر المـرء على هذا الحال وقتا طويلاً لكان من الصعب شفاؤه، بل، وأكثر من ذلك نجده دائمـا ينظر بعين شريرة لكل من أساء إليه فهو يترقبه بحقد شديد، متطلعا إلى متـى وأيـن يمكنه أن يلحق الضرر به، وهذا في أغلب الأحيان لا يكون كيلا بكيل، بـل مـرات كثيرة يكون الانتقام أشد من الإساءة بكثير.

إن مثل هذا الإنسان لا يكف عن تدبير المكيدة في الخفاء. ألا يكون مثل هذا قـد عرض نفسه لكل العيوب، بل ويكون مبغضا الله ومرفوضا منه، وبالتالي يكون فـي غاية البؤس ؟ كما هو مكتوب: “أما سبل الغضوب فهي إلى الموت” (أم 12: 28 س). ولكن الإنسان البسيط القلب غير الغضوب يتسم أول ما يتسم بالاحتمـال، إلا أن الاحتمال الذي يمارسه البشر ليس بنفس القدر كالذي يأتي من فوق ومن الله، فإنـسـان الله الذي لا يستسلم قلبه لانفعال الغضب، بل يسود عليه ويتحكم في نفسه أمـام كـل إثارة مكثرة تنشأ فيه. إنه صفوح وعطوف على كل رفقائه، لطيف وودود ومترفـق بضعف قريبه ـ وهذه كانت سجايا تلاميذ المخلص ـ وها هو المغبوط بولس يكتب قائلاً: “نشتم فنبارك، نضطهد فنحتمل، يفترى علينا فنعظ” (1كو 4: 12 ، 13 ). لأنهم تمثلوا بربهم: ” الذي إذ شتم لم يكن يشتم عوضا، وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يـسلم لمـن يقضي بعدل” (1بط 2: 23). فنحن إذن ينبغي علينا أن نطلب من الله مغفرة خطايانا التي ارتكبناها عندما نكون نحن أنفسنا قد سبقنا وغفرنا لمن أساء إلينا في أي شيء، بشرط أن تكون خطيتهم ضدنا وليس ضد مجد الله الكائن على الكل، لأنه ليس لنـا سـلطان على هذه الأخيرة، بل على تلك التي تكون قد ارتكبت ضدنا نحن، وهكذا، بالـصفح لإخوتنا عما عملوه في حقنا فإننا يقينا سنجد المسيح مخلص الكل مترفقا بنا مستعدا أن يظهر رأفته، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلـى دهـر الدهور أمين.

عظة (77) ولا تدخلنا في تجربة (لو 11: 4)

هلموا يا جميع من تحبون أن تكمَّلوا المشيئة الإلهية، ويا من تشتاقون بغيرة حارة أن تسلكوا حياة لا عيب فيها، هلموا لنقترب من الله الكائن على الكـل، ونتوسل إليه قائلين: ” عرفني يا رب طرقك وعلمني سبلك” (مز 24: 4 س)، لأن كل حكمة وفهم هما منه، معرفة كل صلاح تأتينا من فوق من العرش الفـائق العلو، كما من ينبوع، ولا يستطيع إنسان أن يكمل أي شيء يستحق المدح مـا  لم يأخذ القدرة على ذلك منه.

وهذا ما يعلمنا إياه الرب نفسه قائلاً: “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا ” (يو 15: 5). فالرب الذي يعطي لكل الناس كل الأشياء التي يمكنهم أن يفتخـروا بها عن حق، هو نفسه يقودنا الآن إلى أمر آخر من تلك الأمور الضرورية  لخلاصنا. فهو يوصينا عندما نقف للصلاة أن نقول “لا تدخلنا في تجربة”.

بهذه الكلمات يختم القديس لوقا الصلاة، أما القديس متى فنجـده يـضيف: “لكن نجنا من الشرير” (مت 6: 13)، ويوجد تقارب كبير بين كلا النصين: فمن الواضح أن من لا يدخلون في تجربة، فهم أيضا ينجون من الشرير… وإذا قال أحدهم: إن عدم الدخول في التجربة يساوي النجاة منها، فمثل هذا لا يكون قد حاد عن الصواب. ولكننا لنتأمل في هذا: هل يريـد مخلص ورب الكـل لأحبائه أن يكونوا جبناء؟ أو أن يكونوا متكاسـلين وأذلاء مفـضلين تجنـب النضال عن الفوز بإكليل المجد؟

والروح القدس يقول في سفر المزامير: “تشدّدوا ولتتشجع قلوبكم يا جميع المتكلين على الرب” (مز 30: 24 س). والمخلص نفسه يقول في موضع ما: “طوبى للمضطهدين من أجل البر لأن لهم ملكوت السموات” (مـت 5: 10)، فـإن كـان الرب يتوج ذاك الذي يضطهد بمثل هـذه الكرامـات العظيمـة، وإن كـان الاضطهاد هو بلا شك تجربة، فبأي معنى يوصيهم الرب أن يتفادوا التجربة؟ إن الذين يدخلون المباريات الرياضية ويوجدون مستحقين للتك ريم وتصفيق الأيدي، لا يحصلون على ذلك من فراغ أو بدون بذل مجهود أو هم نائمون على بساط الراحة، بل بعد كد وعناء شديدين في تدريبات عنيفة.

كذلك فالرجل المتضلع جيدا في فن التكتيك الحربي، والشجاع المحنك فـي المعارك، لا يعرف في السلم، بل عندما يرى هذا الإنسان منازلاً شديد البأس مقابل عدوه. فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا نرى الرب وكأنه يعوق محبيه عـن الدخول في الجهاد بجعلهم يقولون: “لا تدخلنا في تجربة “؟ نجيب على هذا بقدر ما يمكننا من فهم، فنقول: إن الرب لم يرد لتابعيه أن يكونوا مستضعفين أو كسالى في أي طريق آخر، بل إنه يستحثهم أن يكونوا شجعانا في كل الأمور الجديرة بالمديح قائلاً لهم: ” ادخلوا من الباب الـضيق لأنه ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية وقليلون هم الذين يجدونه” (مت 7: 13).

فينبغي إذن أن يكون لنا غيرة روحية دائمة وطول أناة، وأن يكون لنا فكر ثابت لا يتزعزع في الملمات مهما كانت، مثلما كان للمغبوط بـولس عنـدما قال: ” من سيفصلني عن محبة المسيح، أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف”؟ (رو 8: 35). ولكن حتى إذا ما تسلّحنا بهذه النية وبلغنا إلى هذه الدرجات من الشجاعة، إلا أنه ينبغي علينا أن نفكـر بـاتـضـاع عـن أنفسنا، ونكون ” مساكين بالروح” حسب قول المخلص (مت 5: 3)، ولا نتصور دائما أننا دائما سنتغلب على كل التجارب بالضرورة. لأنه يحـدث أحيانـا أن يداهم عقل الإنسان فزع لا يحتمل، ينزل به إلى خوف سـاحق، كمـا يفعـل الشيطان المبغض لكل خير، وإن عنف التجربة قد يهز أحيانا عقل أشد الناس شجاعة. مثلما تفعل لطمات الأمواج العنيفة التي لا تطاق، فتحطم أمتن السفن بناء وأكبرها حجما. وهكذا فإن العدد الكثيف من القذائف التي ترشقها أيـدي العدو من شأنها أن تجعل أشد الجنود بسالة يولي الإدبار، إذ لا ينبغي لأحد أن يثق في نفسه بزيادة غير مبال بمصادمة التجارب مهما كان شجاعا ورابـط الجأش، بل بالحري يجب أن نعرف ضعف ذهننا، وليكن لنا مخافة متزنة لئلا نكون مثار سخرية أمام الذين يجربوننا بكوننا غير قادرين على تحمـل شـدة القتال.

لذلك، فلنصل أن لا تجرب، لأنه أمر صعب أن نفر من التجربة، كما أنـه أمر صعب بالنسبة لمعظم الناس أن يصمدوا إلى النهاية، ولكن إذا ما دعـت الضرورة وألقينا فيها رغما عنا، فلابد أن ندخل المعركة باذلين أقصى جهدنا ونصارع من أجل نفوسنا، غير هيابين البتة، بل بالعكس فإننا نتذكر ما قاله لنا المسيح مخلص الكل: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجـسـد ولكـن الـنفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجـسـد كليهما في جهنم” (مت 10: 28). وكما كتب أيضا ذلك الرسول القديس الذي قال: ” طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة، لأنه إذا تزكي ينال إكليل الحيـاة الـذي وعد به الرب للذين يحبونه” (يع 1: 12).

هناك، على أي حال، أنواع عديدة من التجـارب: منهـا اثنتـان عـامتـان وشائعتان ومنتشرتان جدا في كل مكان، ومن اللائق بنا أن نخبركم بهمـا: إذ توجد في العالم هرطقات كثيرة، ويوجد رسل كذبة، ومعلمون كذبة، الـذين إذ يجمعون البدع التافهة ويثقلون أنفسهم بها، وإذ يفتخرون بفنون حكمـة هـذا الدهر، فإنهم يزيفون لغة الكرازة المقدسة، ويكثرون مـن أقـوال التجـديف مغالطين أنفسهم، وكما يقول المزمور: ” يرفعون إلى العلا قـرنهم متكلمـين بالإثم ضد الله” (مز 74: 5 س). أجل وضد الله الكلمة خالق الكل، الـذي بحـسب زعمهم، يحسبونه من بين تلك الأشياء التي خلقها. ويقولون أنه عبد وليس ابنا، وانه مخلوق وليس ربا… وهؤلاء إذ يقاومون المناضلين مـن أجـل الحـق، يضطهدون أولئك الذين اختاروا التمسك بالتعليم الصحيح، والذين يدافعون عن المجد الإلهي، والذين يسعون أن يكللوا كلمة الله الوحيد الجنس ويقدموا لـه التسبيح بأسمى عبارات التقديس. لذلك عندما تقابلك تجربة من هذا النوع فـلا تطرح عنك درعك، ولا تكن كجندي يفر من المعركـة أو كمـصـارع عـديم المهارة والشجاعة، ولا تشتهي سلاما في غير أوانه، يكون سببا في دمار فـي المستقبل، بل تذكر أن المسيح مخلص الكل، قد قال: ” لا تظنوا أنـي جنـت لألقي سلاما على الأرض، وما جئت لألقي سلاما بل سيفا” (مت 10: 34). وحتى إذا ما كان للمضطهدين سلطان دنيوي، فلا تخف من الأذى الذي يمكنهم أن يلحقوه بك، ولا حتى من خطر سفك الدم وضياع الحياة، لكـن تـذكر أيـضـا نصيحة الرسول القديس الذي يقول: “فإذن الذين يتألمون بحـسـب مـشيئة الله فلیستودعوا أنفسهم لخالق أمين” (1بط 4: 19)، وأيضا: “فلا يتألم أحدكم كسارق أو فاعل شر أو متداخل في أمور غيره، ولكن إن كان كمسيحي فلا يخجل، بل يمجد الله من هذا القبيل” (1بط 4: 15). لأنه أمر طبيعي أننا إن كنا نتألم ظلما من أجل اسمه، فنحسب مستحقين لكرامات أبدية. فالجهاد لا يكون بدون مكافـأة، والتعب ليس باطلاً، فكما قال القديس بولس: “لأن الله ليس بظالم حتى ينـسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه” (عب 6: 10). فهـذه إذن هـي الصراعات الموضوعة لكل الذين يتقون الله، لإعطاء الدليل على من يعـرف كيف يحتمل الضيقات بصبر. فالشهداء المغبوطون قد فازوا بأكاليل البر بعـد أن “جاهدوا الجهاد الحسن وأكملوا سعيهم وحفظوا الإيمان” (2تی 4: 7).

ثم أن هناك أنواعا أخرى من التجارب، بجانب هذه، يمكننا أن نقول إنهـا عامة على الكل ولكنها تختلف من واحد لآخر، فكما يقول واحد مـن الرسـل القديسين: “لا يقل أحد إذا جرب إني أجرب من قبل الله، لأن الله غير مجرب بالشرور، وهو لا يجرب أحدا، ولكن كل واحد يجرب إذا انخدع وانجذب من شهوته، ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية، والخطية إذا كملت تنتج موتـا” (يع 1: 13 -15). يوجد إذن، جهاد، وخطر جسيم، قد وضع على كل واحـد حـتـى لا يسقط في الخطية، وينحرف عن جادة الصواب، ويتوه في ارتكاب الأعمـال الخاطئة. إن قوة الشهوات عنيفة جدا، ومثيرة لحروب جمة وأهـواء شرسـة ولدات دنيئة وعديدة ضد ذهن الإنسان؛ فالبعض قـد ينغلبـون مـن الـشهوة الجسدية، وينحرفون إلى أحط أنواع الخلاعة، وآخرون قد ينساقون في حـب الربح المادي، إلى أن يصيروا فريسة لحب الاكتناز الخسيس الذي يقـودهم أخيرا إلى أشنع الجرائم.

لذلك، يليق بنا حسنا، نحن المعرضين لمثل هذه الشرور الخطيرة حتى . وإن لم نكن قد سقطنا فيها بعد ـ أن نصلي قائلين: ” لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير “. نه جيد للإنسان أن يكون بمنأى من كـل شـر، أمـا إن هاجمتك التجربة، وأن شجاعا ولا تقبل الهزيمة، وأقمع الجسد، وألجم العقـل واطلب المعونة من الله، فتحوز الأمان بالقوة الممنوحة لك من الأعالي. تشدد وتقو ولا تكن ضعيفا أو سهل الوقوع في فخاخ العدو، بل كن حذرا، كن محبا لله أكثر من حبك لأي لذة أخرى، فهو حينئذ سوف يعينك ويهبك النصرة، فهو مخلص الكل ورب الكل، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان، مع الروح القدس إلى دهر الدهور، آمین.

عظة (78) مثل صديق نصف الليل(لو11: 5 ـ 10):

“ثم قال لهم: من منكم يكون له صديق ويمضي إليه نصف الليل ويقول له: يا صديق أقرضي ثلاثة أرغفة، لأن صديقا لي جاءني من سفر وليس لي مـا أقدم لـه فيجيب ذلك من داخل ويقول: لا تزعجني! الباب مغلق الآن وأولادي معي في الفراش. لا أقدر أن أقوم وأعطيك. أقول لكم: وإن كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقة فإنه مـن أجـل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج. وأنا أقول لكم: اسألوا تعطوا. اطلبوا تجـدوا. اقرعـوا يُفتح لكم.

من مع إن لغة الكتاب الإلهية الموحى بها دائما عميقة، فلا ينكشف معناهـا لمـن عندهم مجرد رغبة فقط أن يفهموها، بل لأولئك الذين يعرفون أن يفحصوا أغوارها جيدا، وقد اغتنوا بالنور الإلهي في ذهنهم، ذلك النور الذي بواسطته يبلغون إلى معنى الحقائق الخفية. لذلك فليتنا نطلب الفهم الذي يأتي من فوق، الله، استنارة الروح القدس، حتى نبلغ إلى منهج سليم لا يخطئ. وبهذا المنهج يمكننا أن نرى الحق الذي تحويه الفقرة التي أمامنا.

قد سمعنا ما قاله المخلص في المثل الذي قرئ علينا، الذي لو فهمناه جيـدا فسنجده محملاً بالفوائد! إن تسلسل الأفكار فيه عجيب جدا، لأن مخلص الكـل قد علمنا بناء على طلب الرسل القديسين ما هي الطريقة التـي ينبغـي أن نصلى بها. ولكن قد يحدث لأولئك الذين تعلموا منه هذا الـدرس الخلاصـي الثمين، أن يقدموا صلواتهم أحيانا بحسب النمط الذي أعطـي لـهـم، ولكـنـهم يفعلون ذلك بملل وكسل. وهكذا حينما لا يستجاب لهم بعـد صـلاتهم للمـرة الأولى أو الثانية، فإنهم يكفون عن تقديم التوسلات وكأنها لا تجـديهم نفعـا، ولذلك، فلكي لا يحدث معنا هذا، ولكي لا نعاني من الأذى الناتج عن صـغر العقل هذا، فإنه يعلمنا أن نواصل ممارسة الصلاة باجتهاد. وبواسطة المثـل يبين لنا بوضوح أن الملل في الصلاة هو خسارة لنا. بينما الصبر في الصلاة هو نفع عظيم لنا، لأنه من واجبنا أن نثابر دون أن نستسلم للتراخـي. وهـذا يعلمنا إياه بقوله: ” إن كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقه فإنه من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج “.

والآن فلننتقل إلى الحق الذي أعلنه في صورة مثل. كن لجوجا في الصلاة، اقترب من الله المحب الشفوق، واستمر في ذلك على الدوام، وإذا رأيـت أن عطية النعمة قد تأخرت، فلا تستسلم للضجر، ولا تيأس من جهة نوال البركة المتوقعة، لا تتخلى عن الرجاء الموضوع أمامك، ولا تقل في داخلك بغبـاء: “إنني قد تقربت مرات من الله، ولم أحصل على أي شيء مطلقا، لقد بكيت ولم أنل شيئا، لقد تضرعت ولم أستجب، طلبت لأجل كل شيء ولم يتحقق شيء”. بل فكر بالحري في داخلك هكذا: ” إن ذلك الذي هو الخزانة الجامعـة لكـل صلاح، يعرف حالنا أكثر مما نعرف نحن، ويعطي كل إنسان قدر ما يحق له وما يناسبه “. فأحيانا أنت تطلب ما يعلو قامتك وتريد أن تحصل علـى تلـك الأشياء التي لا تستحقها بعد. أما الواهب نفسه، فيعلم الوقت المناسـب لمـنح هباته.

إن الآباء الأرضيين لا يحققون لأولادهم رغباتهم في الحال، ولا يعطـونهم إياها بدون تمييز، ولكنهم يبطئون غالبا رغم الإلحاح عليهم، وهذا ليس بسبب شح أيديهم ولا لأنهم لا يعتبرون ما هو الذي يسر سائليهم، بل لأنهم يعتبرون ما هو نافع وضروري لأجل سلوكهم الحسن.

فكيف إذن لذلك المعطي الغني والسخي، أن يهمل الإنجاز الواجب للنـاس، الذي يصلون لأجله، إلا إذا كان ـ طبعا وبدون شك ـ يعلم أنه لن يكون نافعا لهم أن ينالوا ما يسألونه ؟ لذلك، فينبغي أن نقدم صلواتنا الله، عـن معرفـة، وبمواظبة، وحتى إذا كان هناك بعض الإبطاء في الاستجابة، فاستمر بـصبر مثل جامعي الكرم، وتأكد أن ما نحصل عليه بدون عناء، ونربحه بسهولة فهو عادة يكون محتقرا، أما ما نحصل عليه بكد فهو يهبنا سعادة أكبر ويكون ملكا ثابتا لنا.

ولكنك ربما تقول: ” إنني أتقدم إلى الله كثيرا متوسلاً ولكن بدون نتيجة، أنا غير متكاسل في التضرعات، بل مثابر ولحوح جدا، فمن الذي يضمن لي أنني سأنال ما أطلب؟ من الذي يضمن لي أن تعبي لن يكون باطلا؟”. ” وأنا أقـول لكم”. هكذا يتكلم معطي المواهب الإلهية نفسه إليك قائلاً: ” وأنـا أقـول لـكـم اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم، لأن كل من يطلب يجد ومن يقرع يفتح لـه”. وهذه الكلمات: ” وأنا أقول لكم” لها كل قوة القسم. ليس أن الله يكـذب حينمـا يكون الوعد غير مصحوب بقسم. بل لكي يوضح أن ضعف إيمانهم قائم على غير أساس. وهو أحيانا يثبت سامعيه بقسم. لذلك نجد المخلص في مواضـع كثيرة يسبق كلماته بعبارة ” الحق الحق أقول لكم”. لذلك فعندما يجعل وعـده قسما فانه يصبح أمرا غير برئ من الإثم أن لا نصدقه.

لذلك فحينما يدعونا الرب أن نسأل، فهو يأمرنا ببذل الجهد لأننا بواسـطة الجهد، نجد دائما ما نحتاج إليه، خاصة إذا كان ما نطلبه يناسبنا أن نحـصل عليه. فذلك الذي يقرع، لا يقرع مرة واحدة فقط ولكن مرة ومرات يهز الباب، إما بيده أو بحجر، لدرجة أن صاحب البيت يصبح غير قادر علـى احتمـال ضجيج القرعات فيفتح له، حتى ولو ضد إرادته. فتعلم إذن مما يحدث حولنا، الطريقة التي بها تحصل على ما هو نافع لك. اقرع وكن لجوجا واسأل، فإنـه هكذا ينبغي أن يعمل كل من يسأل أي شيء من الله. كما أن الحكيـم بـولس يقول: “صلوا بلا انقطاع” (1تس 5: 7).

نحن في احتياج إلى صلاة لحوحة لأن اضطرابات الأمور العالمية المحيطة بنا كثيرة جدا، لأن الحية المتعددة الرؤوس تضايقنا كثيرا، وتورطنا أحيانا في صعوبات غير متوقعة، حتى تحدرنا إلى الحضيض وإلى الخطية بأنواعها. زد على ذلك، فهناك أيضا ناموس الشهوة الطبيعي المختبئ في أعضائنا الجسدية، والذي يحارب ناموس ذهننا كما يقول الكتاب: (رو 7: 23)، وأخيرا هناك أعداء تعاليم الحق، أي عصبة الهراطقة الدنسين النجـسين، الـذين يقـاومون مـن يرغبون أن يتمسكوا بالتعاليم الصحيحة.

لذلك فالصلاة المستمرة والجادة، هي ضرورية جدا، وكمـا أن الأسلحة وآلات الحرب هي ضرورية للجنود ليتمكنوا من قهر أعدائهم، هكذا الصلاة بالنسبة لنا، لأنه كما يقول الكتاب: أسلحتنا ليست جسدية بل قادرة بالله (2کو 10: 4). وهذا ما ينبغي أن أضيفه، أيضا، لأنه يفيدنا في اللجوء إلى الصلاة سريعا. فالمخلص ورب الكل تراه مرة ومرات يقضي الليل كله في الصلاة، عنـدما كان على وشك أن يجتاز آلامه الخلاصية على الصليب الثمين، نجده يحنـي ركبته ويصلي قائلاً: ” يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس” (مـت 26: 39). هل حدث هذا لأن الذي هو “الحياة” كان خائفا من الموت؟ هل كان هذا لأنه لم يكن له مهرب من الشبكة، ولا خلاص من الفخ حتى أن يد اليهود كانت أقوى من قوته؟ كم هو رديء أن نفكر هكذا؟ فهو بالطبيعة الله ورب القوات، ورغم إنه كان مثلنا في الشكل؛ فقد احتمل الآلام على الصليب لأنه هو معيننا كلنـا. فهل كان يحتاج إلى الصلاة إذن؟ ولكنه فعل هذا لكي نتعلم أن التوسـل أمـر لائق ومملوء بالمنافع، وأنه يجب أن نكون مداومين على الصلاة حينما تصيبنا أي تجربة وحينما تضغط علينا قوة الأعداء كموجة عنيفة.

ولكي نلقى ضوءا آخر على هذا الأمر، نضيف: أن حديث الإنسان مع شرف عظيم للطبيعة البشرية. وهذا ما نفعله في الصلاة، إذ قد أوصانا الـرب أن نخاطب الله كآب، ونقول: “يا أبانا”، فإن كان أبا، فبالضرورة هـو يـحـب أولاده ويدللهم ويكرمهم، ويحسبنا أهلاً لرحمته وصفحه. فاقتربوا إذن بإيمـان مع مثابرة، واثقين أن من يسأل المسيح بلجاجة فهو يسمع له، ذلك الـذي بـه ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين. الله

عظة (79) الآب يهبنا العطايا الروحية (لو 11:11-13)

“فمن منكم وهو أب يسأله ابنه خبرا أفيعطيه حجرا؟ أو سمكة أفيعطيـه حية بدل السمكة؟. أو إذا سألة بيضة أفيعطيه عقرباً؟. فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري الآب الذي من السماء يعطي الـروح القـدس للـذين يسألونه “.

حب التعلم والشوق إلى الاستماع أمر يليق بالقديسين، ولكن ينبغـي علـى أولئك الذين لهم هذا الفكر أن يتذكروا ويختزنوا في مخازن قلبهم مـا يقولـه أولئك المحنكون في تعليم العقيدة المستقيمة، والذين تمكنهم دراستهم من إدخال الناس في الحق. وهذا نافع لنفوسهم لأجل تقدمهم الروحي إلى جانب أنه يفرح المعلم نفسه، كالبذرة التي تبهج الفلاح عندما تبزغ بعد أن تدفن جيدا في التربة وتفلت من أن تكون طعاما للطيور.

لعلكم تذكرون حديثنا الماضي، الذي كلمناكم فيه عن فائـدة الـصـلاة بـلا انقطاع، وعن التوسل المستمر في تقديم طلباتنا إلى الله، وأنه ينبغي ألا نستسلم لصغر النفس، وألا نضجر لو تأخر في منح عطيته معتبرين أنه يعرف ما هو لفائدتنا، وأنه لا يمكن أن ينسى الوقت المناسب لمنح عطاياه السخية.

وفي درس هذا اليوم، يعلم المخلص نقطة أخرى نافعة جدا لبنياننـا. فمـا هي؟ لنكشفها لكم كبنين. يحدث أحيانا أن نقترب من إلهنا السخي، متوسـلين إليه لأجل أمور متنوعة بحسب رغبة كل واحد ولكن هذا يحدث أحيانا بـدون تمييز، وبدون فحص جيد لما هو لنفعنا، وما إذا كان ما سيمنحنا الله إياه هـو حقا بركة، أو أن ما سنناله سيكون لضررنا؟ وهكذا بسبب قلة تبصرنا وسـوء تصورنا نقع في شهوات مشحونة بالدمار، وهي تلقي بـروح هـؤلاء الـذين يفكرون فيها في شرك الموت وشباك الهاوية، لذلك، فحينما نسأل الله أي شـيء من هذا النوع، فإننا لن نناله بل بالعكس فإننا نقدم طلبة لا تستحق سوى السخرية.

ولماذا لا يمنحنا الله طلبتنا؟ هل يضجر إله الكل من منح العطايا لنا؟ حاشا.

وقد يقول أحدهم، لماذا إذن لا يعطي حيث أنـه سـ فـي العطـاء ؟! بالأحرى ها أنت قد سمعته يقول: “أم أي إنسان منكم إذا سـأله ابنـه خبـزا يعطيه حجرا “(مت 7: 9)”. أنظره وهو يصور لنا هذا التشبيه مما يجرى وسطنا، إن المعنى هو هكذا: أنت أب ولك أولاد، وتشتك العاطفة الطبيعيـة نحـوهم، وتريد أن تفيدهم بكل الطرق، لذلك، متى رأيت ابنك يطلب خبزا فللتو تعطيـه إياه وبكل مسرة، إذ تعلم منك طعاما صحيا، ولكن إن حدث بـسبب قـصور الفهم والإدراك أن يأتي طفل صغير وهو لا يقدر أن يميز جيدا ما يبصره، أو لا يعرف فائدة الأشياء المختلفة التي تقابله أو طريقة استخدامها، ثـم يـسـال حجرا ليأكل، فالرب يقول، هل تعطيه؟ أم تجعله يكف عن مثل هـذه الرغبـة التي تؤدي إلى أذيته؟

ونفس التفكير والاستنتاج يطرحه الرب عن مثل الحية والسمكة والبيـضة والعقرب. إن سأل الابن أباه فإنه سيعطيه إياها، ولكن إن رأى حيـة وأراد أن يمسك بها، فإنه للتو سيبعد يد الطفل عنها. وهكذا إذا ما أراد بيـضة، فإنـك ستمنحه إياها في الحال، بل وستشجعه على طلب مثل هذه الأشياء، حتى يتقدم الطفل وينمو في القامة، ولكن إن رأى عقربا زاحفا نحوه وجرى الطفل إليـه ظائًا أنه شيء جميل وهو يجهل الضرر الذي سيلحق به، فإنك بطبيعة الحـال توقفه ولا تدع الأذى يلحقه من هذا الحيوان المهلك. وعندما يقول الرب: ” وأنتم أشرار”، فهو إنما يقصد أن أذهان البشر تتأثر بالشر، وليست باستمرار منحازة مثل إله الكل، تجاه الصلاح. وعندما يقول: “تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السموات يهـب الـروح الـصـالح للـذين يسألونه”، فإنه يقصد ” بالروج الصالح: النعمة الروحيـة لأنهـا مـن جميع الجوانب، صالحة، وإذا ما نالها الإنسان، فانه يصير مغبوطا جـدا ويستحق الإعجاب به.

لذلك، فإن أبانا السماوي، مستعد تماما أن يسكب عطاياه علينا، حتى أن كل من لم ينل ما طلبه، يكون هو نفسه السبب في ذلك، لأنه يسأله ما لن يعطيـه الله له. فإن الله يريد أن نكون قديسين وبلا لوم، وأن نمضي بإقدام واستقامة في كل عمل صالح، وأن نبتعد عن كل ما يدنس، وعن محبة اللذة الجسدية، وأن نرفض الاهتمامات العالمية، وألا ننهمك في مشغوليات عالمية، وألا نحيا في الخلاعة وفي الإهمال وألا نبتهج بالملذات الجامحـة، ولا نمـارس حيـاة متسيبة، بل هو يريدنا أن نحيا حسنا وفي تعقل بحسب وصـاياه، واضـعين الناموس الذي أعطانا، كضابط لسلوكنا، صائرين حارين في السعي نحو كـل ما يؤدي رأسا إلى بنياننا، فإن أردت أن تنال شيئا من هذه الأنواع، فتقدم إليه بفرح، فان أبانا الذي في السماء، سيميل بسمعه إليك، لأنه يحب الفضيلة.

امتحن إذن صلاتك لأنك إن طلبت شيئا تصير بنوالك إياه محبا لله، فكمـا قلت، سيهبك الله إياه، ولكن إن كان أمرا غير معقول أومـضـرا لـك، فإنـه سيسحب يده عنك، ولن يمنحك ما ترغب، أولاً لأنه لا يمنح شيئا ذا طبيعـة ضارة ـ فهذا أمر غريب عنه تماما ـ وثانيا حتى لا يصيبك ضرر بنوال هذا الأمر. ودعني الآن أشرح لك كيف يكون هذا؟ ولهذا الغرض سأقدم الأمثلـة الآتية: إنك إذا ما سألت ثروة، فلن تنالها من الله، لماذا؟ لأن الثروة تفصل قلب الإنسان عن الله، فالمال يولد الكبرياء والفجور وحب اللذة، ويأتي بالناس إلـى مهاوي الشهوات العالمية، وعن هذا علمنا واحد من تلاميذ ربنا قائلاً: ” مـن أين الحروب والخصومات بينكم، أليست من هنا من لـذاتكم المحاربـة فـي اعضائكم ـ تشتهون ولستم تمتلكون، تطلبون ولستم تأخذون لأنكم تطلبـون رديا لكي تنفقوا في لذاتكم” (يع 4: 1 -3). كذلك إن سألت قوة عالمية، فالله سوف يدير وجهه عن سؤالك، إذ يعرف أن هذه الطلبة ضارة جدا لمن يحوزهـا. إذ التعسف والاضطهاد يصاحبان دائما ذوى القوة العالمية، هؤلاء الذين يكونون حسب كلامك، في الغالب متكبرين متسيبين منتفخين وكراماتهم دائما وقتية. كذلك إن طلبـت هلاك شخص ما، أو طلبت أن يتعرض لعذابات شـديدة، لأنـه ضـايقك أو أزعجك في شيء ما، فالله لن يمنحك هذه الطلبة. لأنه يريد أن نكون طويلي الأناة، لا نجازي عن شر بشر، بل نصلي لأجل الذين يضايقوننا، وأن نفعـل الصلاح لمن يؤذينا، وأن نحاكيه في شفقته. لأجل هذا مدح سليمان لأنه لمـا صلى الله فإنه قال: “فأعط عبدك قلبا فهيما لأحكم على شعبك وأميز بين الخير والشر” (1مل 3: 6). وقد سر الله بطلب سليمان، وماذا عمـل الله الـذي يـحـب الفضيلة له؟ ماذا قال له؟: ” من أجل أنك قد سألت هذا الأمر ولم تسأل لنفـسـك أياما كثيرة ولا سألت لنفسك غنى ولا سألت أنفس أعدائك بل سألت لنفسك تمييزا لتفهم الحكم، هوذا قد فعلت هوذا أعطيتك قلبا حكيما، ومميزا”. فاسأل من الله عطايا روحية هذه التي يمنحها بلا حصر، اسأل القوة حتـى تقدر بشجاعة أن تقاوم كل شهوة جسدانية. اسأل الله مزاجا غيـر شـهوانيا، أطلب احتمالاً، وداعة، واطلب أم كل صلاح أي الصبر، أطلب طبعـا هادئـا وقناعة وقلبا نقيا، واطلب بالأكثر الحكمة التي تأتى منه. هذه الأشياء سيمنحها لك سريعا، هذه التي تخلص النفس، وتجعل فيها ذلك الجمال الأفضل، وتطبع فيها صورة الله. هذا هو الغنى الروحاني، هذه هي الثروة التي لا ينبغـي أن نتخلى عنها، هذه التي تعد لنا نصيب القديسين، وتجعلنا أعضاء فـي شـركة الملائكة القديسين، هذه تكملنا في التقوى، وسريعا ما تقودنا إلى رجاء الحيـاة الأبدية، وتجعلنا وارثين الله لملكوت السموات، بمعونة المسيح مخلصنا جميعا، هذا الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القـدس إلـى دهـر الدهور آمین.

عظة (80) يسوع يخرج شيطاناً أخرس (لو 11: 14 – 18)

” وكان يخرج شيطانا وكان ذلك أخرس، فلما أخرج الشيطان تكلـم الأخرس فتعجب الجموع. وأما قوم منهم فقالوا: ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين. وآخرون طلبوا منة آية من السماء يجربونه. فعلم أفكارهم وقال لهم: كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب وبيت منقسم على بيت يسقط. فإن كان الشيطان ينقسم على ذاته فكيف تثبت مملكة؟ لأنكم تقولون: إنى ببعلزبول أخرج الشياطين”.

يقول الكتاب المقدس ” غرت غيرة للرب” (1مل 19: 10)، وأنا أيـضـا أقـول هكذا، مركزا انتباهي بدقة على دروس الإنجيل المطروحة أمامنا، ليتضح أن لسان إسرائيل المجنون هو وقح ومسيب بالشتائم، مطغي بغضب شديد غيـر منضبط، ومقهور بحسد لا يمكن إخماده. انظر كيف كانوا يصرون بأسـنانهم على المسيح مخلص الكل لأنه جعل الجموع يتعجبون من معجزاتـه الإلهيـة الخارقة العديدة، ولأن الشياطين كانت تصرخ من قوتـه وسـلطانه الفائقين الإلهيين، وأظن أن هذا هو ما رنم به داود مخاطبا له: “. عـظـم قـوتـك سيوجد أعداؤك كاذبون” (مز 65: 3 سبعينية).

أما عن السبب الذي جعل هؤلاء الناس يقاومون المجد الذي يظهر به، فإن هذا الفصل سيعلمنا إياه بوضوح، فيقول: “أحضروا إليه إنسانا بـه شيطان أخرس”. والشياطين الخرساء يصعب على القديسين أن ينتهروها، كمـا أنـهـا أكثر عنادا من الأنواع الأخرى، وهي وقحة جدا، ولكن لا يصعب شيء على إرادة المسيح الكلية القدرة، والذي هو مخلصنا كلنا. فللحال أطلق الرجل الذي أحضروه إليه حرا من الروح النجس الشرير، ومن كان لسانه من قبل مغلقـا بواسطة باب ومزلاج، اندفع مرة أخرى إلى الكلام المعتاد. لأن الإنجيل قـال عنه إنه أخرس، كما لو كان بدون لسان، أي بلا نطق، ولم يكن سبب الخرس نقص طبيعي ولكن بسبب عمل الشيطان. ولما لم يكن المجنون يستطيع الكلام طبعا فإن المسيح لم يطلب منه أن يقر بالإيمان كعادته. ولما أجـرى المـسيح هذا العمل المعجزي فإن الجموع مجدته بتسابيح، وأسـرعت لتتـوج صـانع المعجزة بكرامة إلهية.

يقول الكتاب إن بعضا من الكتبة والفريسين الذين امتلأت قلـوبـهم بـسم الكبرياء والحسد، وجدوا في المعجزة وقودا لمرضهم، فلم يمجدوا الرب، بـل عكفوا على العكس تماما. لأنهم جردوه من الأعمال الإلهيـة التـي عملهـا، وعزوا هذه القوة الفائقة إلى الشيطان، وجعلوا بعلزبـول هـو مـصـدر قـوة المسيح، فقالوا: “ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين”، وأخـرون إذ أصيبوا بشر مقارب لهذا، اندفعوا بدون تمييز إلى جرأة الكـلام الـوقح، وإذ كانوا ملدوغين بمنخاس الحسد، طلبوا منه أن يريهم آية من السماء، كما لو كانوا يريدون أن يقولوا له: ” إن كنت قد طردت روحا خبيثا ووقحا فهذا أمر غير جدير بالإعجاب، إن ما فعلته لا يدل على قدرة إلهية، إننا لم نر بعد شيئا يشبه المعجزات القديمة، أرنا بعض الأفعال التي تدل ـ بدون أي شك إنها معمولة بقوة من فوق. إن موسى جعل الناس يعبرون البحر بعـد أن انفلقـت المياه وصارت كسد، وضرب الصخرة بعصاه فصارت منبعا للأنهـار حـتـى تدفقت الينابيع من حجر صوان. وبالمثل فإن خليفته يشوع جعل الشمس تقـف في جبعون، والقمر في وادي أرنون، ووضع قيودا علـى مـجـاري الأردن، ولكن أنت لم ترنا أفعالاً مثل تلك. إنك أخرجت شيطانا للنـاس. ولكـن هـذا السلطان يمنحه بعلزبول رئيس الشياطين للناس، إنك قد استعرت منـه قـوة صنع هذه الأشياء التي تتسبب في إعجاب الناس الجهلاء الأميين. بهذا الشكل تظهر جرأة القوم الذين يتصيدون الأخطاء، واتضح الآن من رغبتهم فـي أن يعمل آية من السماء أنهم يضمرون مثل هذه الأفكار عنه.

بماذا أجاب المسيح على هذه الأمور؟ أولاً، هو في الواقع يبرهن على أنـه إله بمعرفته بما تهامسوا به خفية في داخلهم، لأنه مكتوب أنه ” علم أفكارهم”، وهذا العمل يخص الله تماما، أي معرفة ما في الفكر وما في القلب وما يتكلم به الناس في الخفاء. ولكي يبعدهم الرب عن هذه الجريمة الفظة، فإنه يقـول لهم: “كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وكل بيت منقسم على ذاته يسقط، فإن كان الشيطان ينقسم على نفسه فكيف تثبت مملكته؟”. ولعله كـان يقـول لهؤلاء المثرثرين الأغبياء: ” إنكم قد جانبتم الصواب، ابتعدتم عنه جدا، وأنتم بلا شك تجهلون طبيعتي. إنكم لا تلتفتون إلى عظمة قوتي وجـلال قـدرتي، موسى كان خادم الناموس ولكن أنا المشرع له، لأنني الله بالطبيعة، كان هـو خادم الآيات، ولكن أنا الصانع والمجري لها، أنا الذي فلقـت المـيـاه فـعبـر الشعب. أنا الذي أظهرت الحجر الصوان كينبوع للأنهار. أنا الـذي جعلـتُ الشمس تقف في جعبون، وقوة أوامري هي التي أوقفـت القمر فـي وادي أرنون. أنا الذي وضعت قيودا على مجاري الأردن.

والآن أنا أسألكم، فلو أن المسيح قال لهم مثل هذه الكلمات، لكان من غيـر المستبعد أن نتصور أنهم كانوا سيتقدون بـالأكثر بنيـران الحـسد، وكانوا سيقولون: ” إنه يعطي نفسه العظمة فوق مجد القديسين، إنه يفتخر بنفسه أعلى من الآباء البطاركة المشهورين، الذين يقول عنهم إنهم ليسوا شيئا، وينتحـل لنفسه مجدهم”. وكانوا سيضيفون كلمات أخرى تعطي الفرصة للجهال للاندفاع الشرير ضده.

لذلك وبحكمة فائقة، فإنه لا يتكلم عن تلك الأحداث، ولكن يتقدم لمحاجاتهم آخذا مادة للكلام من الأمور المعتادة، ولكنها تحمل قوة الحق فيها، فيقول: “كـل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وكل بيت ينقسم على ذاته يسقط، وإذا انقسم الشيطان على ذاته كيف تثبت مملكته؟”، إن مـا يثبـت الممالـك هـو ولاء الأشخاص وطاعة أولئك الذين تحت الصولجان الملكي، والبيوت تثبت إن لـم يناقض سكانها الواحد الآخر، بل بالعكس يتوافقون في الإرادة والفعل. وهكـذا أظن أنا، إن الذي يثبت مملكة بعلزبول أيضا هو أن يمتنع عن عمل ما يضاد نفسه، فكيف يمكن إذن لشيطان أن يخرج شيطانا؟ إذن نستنتج مـن ذلـك أن الأرواح الشريرة لا تخرج من الناس باتفاقها مع بعض، ولكن ضد رغبتهـا، فالرب يقول: إن الشيطان لا يحارب نفسه ولا يهين أتباعه ولا يسمح لنفسه أن يؤذى حامل سلاحه الأخصاء، بل على العكس هو يساعد مملكته. بقى علـيكم أيها اليهود أن تفهموا أنني أسحق الشيطان بقوة إلهية. هذا ما يجب علينا أن نقتنع به نحن الذين نؤمن بالمسيح وقد ابتعدنا عن شر اليهود، لأنه ماذا يستحيل على اليد اليمني القادرة على كل شيء؟ وأي شـيء يكون عظيما أو صعبا عليه هو الذي يستطيع أن يفعل كل شيء بإرادته وحده؟ هو الذي يثبت السموات وأساسات الأرض، خالق الكل، كلي القـدرة، كيـف يمكنه أن يحتاج إلى بعلزبول؟ إنها أفكار لا يسوغ النطق بهـا! هـذا شـر لا يطاق! شعب أحمق لا يفهم! ومن العدل أن يقال عن الإسرائيليين: “لهم عيون ولا يبصرون ولهم آذان ولا يسمعون”. (مر 8: 18)، لأنهم مع أنهـم يبـصرون الأعمال المعجزية التي يقوم بها المسيح، والتي تمت على يد الأنبياء القديسين، الذين سمعوا عنهم، وعرفوهم من قبـل، إلا أنهـم اسـتمروا فـي عنـادهم لذلك كما يقول الكتاب: “هم يأكلون من ثمـر طـرقهم ” (أم 1: 31). يجب علينا أن نجتهد في تعظيم المسيح بتمجيدات لا تنتهي، وهكذا نرث مملكة السماء، بنعمة المسيح نفسه، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مـع وجموحهم، الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

عظة (81) إخراج الشياطين بروح الله (لو11: 19-26)

“فإن كنت أنا ببعلزبول أخرج الشياطين فأبناؤكم بمن يخرجون؟ لذلك هم يكونون قضاتكم. ولكن إن كنت بإصبع الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله. حينما يحفظ القوي دارة متسلحا تكون أمواله في أمان. ولكن متى جاء من هو أقوى منه فإنـه يغلبه وينزع سلاحه الكامل الذي أتكل عليه ويوزع غنائمة. من ليس معي فهو علي ومن لا يجمع معي فهو يفرق. متى خرج الروح النجس من الإنسان يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة، وإذ لا يجد يقول: أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه. فيأتي ويجده مكنوسا مزينا. ثم يذهب ويأخـذ سبعة أرواح أخر أشر منه فتدخل وتسكن هناك فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله! “.

إن إله الكل في توبيخه لكبرياء اليهود، وأيضا لجنوحهم المستمر واندفاعهم إلى العصيان، يتكلم بصوت إشعياء: “اسمعي أيتها السماوات، وأصغي أيتهـا الأرض، لأن الرب تكلم، ولدت بنين ونشأتهم، أما هم فرفضوني” (إش 1: 2). لأنهم رفضوا الله الآب باستخفافهم بالابن بطرق متعددة، الذي رغم أنـه ولـد منه بالطبيعة، إلا أنه فيما بعد صار مثلنا لأجلنا، ودعاهم إلـى النعمـة التـي بالإيمان، لعلهم يكملون الوعد الذي أعطي لآبائهم، حتى تمجد الأمـم الله مـن أجل الرحمة (انظر رو 15: 8). إن كلمة الله الوحيد الجنس صار إنسانا حتى يكمل وعد البركة المعطى لهم، ولكي يعرفوا أنه هو الذي سبق الناموس فـصوره، وهو الذي تنبأ عنه جماعة الأنبياء القديسين مسبقاً، وقد أجرى هذه الأعمـال الإلهية وانتهر الأرواح الشريرة. ومع أنه كان من الواجب عليهم أن يمجدوه كصانع معجزات، كواحـد لـه القوة والسلطان الفائقين للطبيعة، وبدرجة لا تقارن، إلا أنهـم علـى العكـس احتقروا مجده قائلين: ” هذا لا يخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين”. وبماذا أجاب المسيح عن هذا؟ ” إن كنت أنا ببعلزبـول أخـرج الـشياطين، فأبناؤكم بمن يخرجونهم”.

وهذا الموضوع قد شرحته لكم باستفاضة في اجتماعنا الماضي.

أما بخصوص شر اليهود الذين يثرثرون عبثا ” ضده ” والذين يلزم توبيخهم أكثر ببراهين عديدة ومقنعة، فانه يضيف إلى ما سبق أن قاله، اعتبارا آخر لا يمكن الرد عليه وما هو؟ فهذا ما سأذكره لكم الآن كما لأولادي: كان التلاميذ يهوذا، وأولاذا لليهود بحسب الجسد، ولكنهم حصلوا من المسيح على السلطان لإخراج الأرواح النجسة، فكانوا يحررون أولئك الذين تسلطت عليهم الأرواح، وذلك بدعائهم عليهم بهذه الكلمات: “باسم يسوع المسيح”، وبـولس أيـضـا بسلطان رسولي، أمر ذات مرة روحا “نجسا” قائلاً: “أنا أمرك باسـم يـسـوع المسيح أن تخرج منه” (أع 16: 18). لهذا فهو عندما يقول إن أولادكم يدوسـون بعلزبول باسمي، وذلك بأن ينتهروا أتباعه ويطردونهم مـن هـؤلاء الـذين (يسكنون) فيهم، فماذا يكون القول إنني أستمد هذه القـوة مـن بعلزبـول إلا تجديف واضح مقترن بجهل عظيم؟ لذلك فهو يقول إنكم ستدانون وتوبخـون اسطة إيمان أبنائكم، لأنهم قد أخذوا مني سلطانا وقوة على الشيطان، وإنهـم ضد إرادته يخرجونه من الذين كان يسكنهم، بينما أنتم تقولون إنني أسـتخدم قوته في صنع المعجزات الإلهية. أما وقد ثبت أن ما تقولونه ليس صحيحا، ولكن بالعكس هو فارغ وهراء ومجرد إفتراء، فقد أصبح من الواضح أننـي أخرج الشياطين بأصبع الله (مت 12: 18)، وهو يقصد باصبع الله، الروح القدس. لأن الابن يسمى يد الله الآب وذراعه، فالأب يعمل كل الأشياء بالابن، وبالمثل فإن الابن يعمل بالروح. فكما أن الأصبع يمتد إلى اليد، كشيء ليس غريبـا عنها ولكن يختص بها بالطبيعة، هكذا أيضا “الروح القدس”، لكونه مساو فـي الجوهر فهو مرتبط في وحدانية مع الابن رغم أنه ينبثـق مـن الله الآب لأن الابن يعمل كل شيء بالروح المساوي. وهنا المسيح يقول عن قصد إنه يخرج الشياطين بأصبع الله متكلما كإنسان، لأن اليهود بسبب ضعف وغباء ذهنهم لن يحتملوه إذا قال: ” إني بروحي الخاص أخرج الشياطين”.

فلكي يهدئ من استعدادهم الشديد للغضب، وميل ذهنهم للعجرفة والجنون، فإنه يتكلم كإنسان، مع أنه هو الله بالطبيعة، وهو نفسه الذي يعطي الروح من الله الآب لأولئك الذين يستحقونه، ويستخدم كملك خاص له، تلك القوة الخارجة منه، لأن الروح مساو له في الجوهر، ومهمـا قيـل إن الله الأب يعملـه، فبالضرورة يعمله الابن في الروح. لذلك فإذا قال إنني وقد صـرت إنـسـانا، وأصبحت مثلكم، أخرج الشياطين بروح الله، فإن الطبيعة البشرية قد بلغت في أنا أولاً إلى ملكوت الله. وقد صارت مجيدة بتحطيمها قوة الشيطان، وبانتهارها الأرواح النجسة والفاسدة. فهذا هو معنى الكلمات: “قد أقبل علـيكم ملكـوت الله”. أما اليهود فلم يفهموا سر تدبير الابن الوحيد في الجسد، رغم أنهم كـان ينبغي أن يتأملوا أنه بواسطة كلمة الله الوحيد الجنس الـذي تجـسـد دون أن يتوقف عن أن يكون كما كان دائما ـ فقد مجد طبيعـة الإنـسـان، بأنـه لـم يستنكف من أن يأخذ وضاعتها على نفسه لكي يسكب عليها غناه الخاص. وكما كان ضروريا، كما بينت لكم، أن الجدال في هذا الموضـوع سـوف يقودنا إلى اعتبارات أخرى متعددة، فإن المسيح يستخدم مقارنـة بسيطة وواضحة، وبواسطتها سيرى من يريد أن يرى، أنه قد قهر رئيس هذا العالم، وكما يقال ـ قطع أوتار رجليه ـ ونزع عنه القوة التي يمتلكها، وقدمه فريسة لتابعيه (أي التلاميذ). لهذا يقول: “حينما يحفظ القـوي داره متسلحا، تكـون أمواله في أمان، ولكن متى جاء من هو أقوى منه وغلبه، فانـه يـنـزع منـه سلاحه الكامل الذي اتكل عليه ويوزع غنائمه”. وهذا كما قلت توضيح بسيط، ومثال للأمر مشروحا بحسب ما يحدث في الأمور البشرية. فإنه طالما يحصل الإنسان القوي على التفوق، ويحرس ممتلكاته الخاصة، فلن يكون في خطـر من النهب، ولكن متى جاء من هو أقوى وأشد منه وهزمه، فإنه يسلبه. وهـذا هو ما صار إليه مصير عدونا المشترك، الشيطان الأثيم، الحيـة المتعـددة الرؤوس، مخترع الخطية. لأنه كان قبل مجيء المخلص. في قـوة عظيمـة وكان يوقع ويقود إلى حظيرته قطعانا ليست له، ولكنها تخص الله الذي فـوق الكل، (ويأخذها) كلص مغتصب ووقح جدا. ولكن حيث إن كلمـة الله الـذي فوق الكل، والمانح لكل قوة، ورب القوات، اقتحمه، بأن صار إنسانا، فإن كل ممتلكاته اندحرت، وغنيمته وزعت، لأن القدماء الذين كانوا قد وقعوا بواسطة شراكه في عدم التقوى وفي الضلال، قد دعاهم الرسل القديسين إلى معرفة الحق، وأتوا بهم إلى الله الآب وذلك بالإيمان بابنه.

هل تريد أن تسمع وتتعلم أنت أيضا أمرا مقنعا آخر بجانب هذه الأمـور؟ فهو يقول: “من ليس معي فهو علي، ومن لا يجمع معي فهو يفـرق”. إنـه يقول: أنا قد أتيت لأنقذ كل إنسان من أيدي الشرير، لأخلص من مكره أولئـك الذين اقتنصهم، لأطلق المسجونين أحرارا، لأضئ للذين في الظلمـة، لأقـيم الساقطين، لأشفي منكسري القلوب، ولأجمع معا أبناء الله الذين تشتتوا خارجا. هذا هو مجيئي. أما الشيطان فهو ليس معي بل بالعكس هو ضـدي، والـذي ينظم شروره ضد أهدافي، كيف يمكنه أن يمنحني قوة ضد نفسه؟ كيـف لا يكون غباء مجرد تصور احتمالاً كهذا؟

أما السبب الذي جعل جمهور اليهود يسقطون في مثل هذه الأفكـار عـن المسيح، فإنه هو نفسه أوضحها بقوله: ” متى خرج الروح النجس من الإنسان، فيذهب ويحضر سبعة أرواح أخر أشر منه، فتصير حالة ذلك الإنسان الأخيرة أشر من أوائله”. فطالما كانوا تحت العبودية في مصر، ، وكانوا يعيشون بحسب عادات وقوانين المصريين التي كانت ممتلئة نجاسة، فإنهم عاشوا حياة دنسة، وكان يسكن فيهم روح شرير، لأنه يقيم في قلوب الأشـرار. ولكـن حينمـا خلصوا برحمة الله بواسطة موسى وأخذوا الناموس كمعلم، ودعاهم إلى نـور معرفة الله الحقيقية، فإن الروح النجس والفاسد طرد منهم عندما ذبحوا الحمل الذي كان رمزا للمسيح ودهنوا دمه على الأبواب فهرب المهلك. ولكن لأنهـم لم يؤمنوا بالمسيح بل رفضوا المخلص، فإن الروح النجس هاجمهم ثانية، لأنه وجد قلوبهم خاوية وخالية من أي مخافة الله، ومكنوسة كما كانت، فأخذ مسكنه فيهم. لأنه كما أن الروح القدس عندما يبصر قلب أي إنسان خاليـا مـن أي نجاسة ونقيا، فانه يسكن فيه ويستريح، هكذا أيضا الروح النجس اعتـاد أن يسكن في نفوس الأشرار، لأنهم كما قلت يكونون خالين من كـل فـضيلة ولا توجد فيهم مخافة الله، ولذلك صارت أواخر الإسرائيليين أشر من أوائلهم، كما قال تلميذ المخلص: “لأنه كان خيرا لهم لو لم يعرفوا طريق الحق من أنهـم بعدما عرفوا يرتدون عن الوصية المقدسة المسلمة لهم، قد أصابهم مـا فـي المثل الصادق، كلب قد عاد إلى قيئه وخنزيرة مغتسلة إلى مراغـة الحمـاة” (2 بط 2: 21 -22).

فلنهرب إذا من أن نكون مثل اليهـود، وليتمجـد المـسيـح الـذي يعمـل المعجزات، منا نحن، ذاك الذي به ومعه الله الآب التسبيح والملك، مع الـروح القدس إلى دهر الدهور آمین.

عظة (82) آية يونان النبي (لو 11: 29 -36)

” وفيما كان الجموع مزدحمين ابتدأ يقول: هذا الجيل شرير. يطلـب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك يكون ابن الإنسان أيضا لهذا الجيل. ملكة التيمن ستقوم في الدين مع رجال هذا الجيل وتدينهم لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان وهوذا أعظم من سليمان ههنـا. رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان وهوذا أعظم من يونان ههنا!”.

ليس أحدا يوقد سراجا ويضعه في خفية ولا تحت مكيال، بل على المنـارة لكـي ينظر الداخلون النور. سراج الجسد هو العين، فمتى كانت عينك بسيطة فجسدك كلـه يكون مملوءا نورا.. ومتى كانت عينك شريرة فجسدك يكون مملوءا ظلاما. فإن كان جسدك كله مملوءا نورا ليس فيه جزء مظلم، يكون كله مملوءا بالنور كمـا حينمـا يضيء لك السراج بنوره “.

نتج الطلب من خبثهم، لذلك لم يمنح لهم كما هو مكتوب: ” الأشرار سيطلبونني ولا يجدونني” (هو 5: 6 س) … دعونا نرى الأقوال التي قالها الله لموسـى ومـا هـي الحقيقة التي تشير إليها؟ وهذا ما يلزم أن نفحصه بالتأكيد، لأني أقول إنـه لا يوجـد شيء من كل ما تحويه الكتب المقدسة، غير نافع للبنيان. فعندما أقام إسـرائيل مـدة طويلة في مصر ونشأ على عوائد سكانها (في ذلك الوقت)، فإنه ضل بعيدا عـن الله، وصار كمن سقط من يد الله، وأصبح حية. والحية تشير إلـى الـشخص ذو النزعـة الخبيثة جدا بطبعه، ولكن لما أمسك الله به ثانية فقد أعاده إلى حالته الأولى وأصـبح عصا أي غرس الفردوس، لأنه دعي إلى معرفة الله الحقيقيـة واغتنـي بالـنـاموس كوسيلة لحياة فاضلة.

 وصنع الله أيضا أمرا آخرا له صفة معجزية مساوية. لأنه قال لموسى: “ادخـل يدك في عبك. فأدخل يده في عبه ثم أخرجها من عبه، وإذا يده صارت برصاء مثـل الثلج؟ ثم قال له: رد يدك إلى عبك فرد يده إلى عبه ثم أخرجها من عبه وإذا هي قـد عادت مثل لون جسده” (خر 4: 6 -7 س).

لأنه طالما كان إسرائيل متمسكا بعادات آبائه، وكان يظهر فـي أخلاقـه نمـوذج الحياة الفاضلة التي كانت له في إبراهيم وإسحق ويعقوب، فإنه كان كأنه في حـضن الله، أي تحت رعايته وحمايته، ولكن بتخليه عن فضيلة أجداده، فإنـه صـار كأنـه أبرص، وسقط في النجاسة لأن الأبرص هو نجس بحسب ناموس موسى، ولكن عندما قبله الله ثانية، ووضعه تحت حمايته، فانه تخلص من برضه، وخلع عنه نجاسة الحياة المصرية (الوثنية). ولما حدثت هذه المعجزات أمامهم، فإنهم صدقوا موسـي عنـدما قال: ” الرب إله آبائكم أرسلني اليكم” (خر 3: 15).

لذلك لاحظوا، إنهم لم يتخذوا من إظهار المعجزات سببا لتصيد الخطأ. فلم يشتموا موسى الإلهي، ولم يجمحوا بلسان متسيب ويقولوا إنه صنع المعجزات التي صنعها أمامهم بواسطة بعلزبول، ولم يطلبوا آية من السماء محتقرين أعماله المقتدرة. ولكـن ها أنت تنسب إلى بعلزبول أعمالاً مكرمة ومعجزية، ولم تخجل من أن تأتي بآخرين وبنفسك أيضا إلى الهلاك عن طريق تلك الأمور نفسها (المعجزات) التي كان ينبغـي أن تجعلك تحصل على إيمان ثابت بالمسيح. ولكنه لن يعطيك آيـة أخـرى لكـي لا يعطي القدسات للكلاب ولا يطرح الثرر أمام الخنازير. لأنه كيـف يمكـن لـهـؤلاء المفترين بشدة على المعجزات التي صنعها (المسيح) أمـامهم للتـو، أن يستحقوا معجزات أكثر؟ بل على العكس فنحن نلاحظ الكرامين المهـرة حينمـا يجـدون أن الأرض بطيئة في إعطاء الثمر، فإنهم يرفعون يدهم عنها، ويرفضون أن يحرثوهـا مرة أخرى، حتى لا يتكبدوا خسارتين معا: خسارة تعبهم، وخسارة البذار.

ومع ذلك، فقد قال، إنه ستعطى لهم آية يونان فقط والتي يقصد بهـا الآلام علـى الصليب والقيامة من الأموات. لأنه يقول: “كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة ليال” (مت 12: 40). ولكـن لو أنه كان ممكنا أن المسيح لا يريد أن يقاسي الموت بالجسد على الصليب لما كانت قد أعطيت هذه الآية لليهود، ولكن حيث إن الآلام التي احتملها لأجل خلاص العـالم كانت لابد منها، فقد أعطيت هذه الآية لأولئك العديمي الإيمان لأجل دينونتهم. وأيضا عندما كان يكلم اليهود في مرة أخرى قال لهم: ” انقضوا هذا الهيكل وأنا في ثلاثة أيام أقيمه” (يو 2: 19). وكما أتصوره، فان إبطال الموت وملاشاة الفساد بالقيامة من الموت التي هي آية عظيمة جدا تدل على قوة الكلمة المتجسد وسـلطانه الإلهـي ـ يـتم البرهنة عليها بشكل كاف بالنسبة للناس الجادين، بواسطة جنود بيلاطس الذين عينوا لحراسة القبر، وقد رشوهم بأموال كثيرة ليقولوا إن تلاميذه أتوا ليلا وسرقوه (مت 28: 13). فهي إذن آية ليست بدون منفعة، بل هي كافية لإقنـاع كـل سـكان الأرض أن المسيح هو الله، وأنه قاسى الموت في الجسد بإرادته وحده، إذ أنه أمر رباطات الموت أن ترحل وأباد الفساد. أما اليهود فلم يؤمنوا أيضا بالقيامة، ولهذا السبب قيـل عـنـهم بحق، إن “ملكة التيمن ستقوم في يوم الدين ضد هذا الجيل”.

وهذه المرأة رغم أنها بربرية، فقد بحثت بشغف لتسمع سليمان، ولهذا الغرض سافرت مسافة طويلة جدا لتصغي إلى حكمته في طبيعة الأمور المنظورة والحيوانات والنباتات. أما أنتم فرغم أنكم حاضرون الآن وتستمعون إلى الحكمة ذاته، الذي أتى إليكم عن أمور غير منظورة وسماوية. وهو يؤكد ما يقوله بالأعمال والمعجزات، فإنكم تتحولـون بعيدا عن كلامه ولا تبالون بطبيعة كلامه العجيبة. فكيف إذن لا يكون هنا أعظـم مـن سليمان، أي في شخصي أنا؟ وأرجوا أن تلاحظوا ثانية مهارة لغة الرب: فلمـاذا يقـول “هنا” ولا يقول “في أنا” ؟ هو يقول ذلك لكي يحثنا أن نكون متضعين حتى لو كانـت قـد وهبت لنا مواهب روحية. وإلى جانب ذلك فإنه من المحتمل أن لو سمعه اليهود يقـول: ” يوجد أعظم من سليمان في شخصي أنا”، لكانوا قد تجرأوا أن يتكلموا عليه بطريقتهم المعتادة ويقولون: ” انظروا إنه يقول إنه أعظم من الملوك الذين تملكوا علينـا بمجـد”. لذلك، فالمخلص ـ لأجل التدبير ـ يستخدم لغة مناسبة ويقول “ها هنا” بدلاً من “في أنا”. ويضيف الرب على ذلك قائلاً: إن رجال نينوى سيقومون يوم الدين ويدينون اليهـود.

لأنهم كانوا شرسين وأمميين ولا يعرفون الرب الذي هو الله بالطبيعـة وبـالحق، ولـم يسمعوا قط أية نبوات من موسى، وكانوا يجهلون عظمة أخبار النبوة، ومع أن هذه كانت هي حالتهم الذهنية إلا أنهم تابوا بمناداة يونان، كما يقول الرب. إذن فقد كان هؤلاء الرجـال أفضل جدا من الإسرائيليين، وسوف يدينهم. ولكن انصتوا إلى الكلمات نفسها: “رجال نینوی سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان، وهوذا أعظـم مـن یونان ههنا “.

“ليس أحدا يوقد سراجا ويضعه في خفية ولا تحت المكيال، بل على المنـارة، لكـي ينظر الداخلون النور” (لو 11: 33).

ماذا كان القصد بالنسبة لهذه الكلمات؟ إنه يقاوم اليهود باعتراض مأخوذ من غبائهم وجهلهم، لأنهم قالوا إنه يعمل معجزات لا ليؤمن به الناس أكثر، ولكن لكي يـصير له أتباع كثيرون، ويحصل على ثناء وتصفيق أولئك الذين ينظرون أعماله الخارقة. والرب يدحض هذا الافتراض باستخدام السراج كمثل، فهو يقول إن السراج يكون دائما مرفوعا وموضوعا على المنارة، فيكون نافعا لمن يبصرونه. ولنتأمل الآن النتيجة التي يشير إليها هذا الكلام. فقبل مجيء مخلصنا، كان الشيطان ـ أب الظلمة ـ قد أظلم العالم، وجعـل ، كل الأشياء سوداء بقتام عقلي، ولكن وبينما العالم في هذه الحالة، فإن الآب أعطى ابنـه ليكون نورا للعالم، ليسطع علينا بنور إلهي، ولينقذنا من الظلمة الشيطانية. ولكـن أيهـا اليهودي، إن كنت تلوم السراج لأنه غير مخفي، ولكن على العكس هو موضـوع علـى منارة، وهو يعطي نوره لمن ينظرون؛ عندئذ يمكن أن تلوم المسيح لأنه لا يريد أن يكون مختفيا، بل على العكس أن يراه الجميع، منيرا أولئك الذين في الظلمة، وليفـيض علـيـهم بنور معرفة الله الحقيقية. فهو يصنع معجزاته لا لكي يعجـب بـه النـاس، ولا يسعى بواسطتها إلى الشهرة، بل بالحري لكي نؤمن أنه بينما هو الله بالطبيعة، إلا أنـه صـار إنسانا لأجلنا، دون أن يكف عن أن يكون كما كان (أي إلها)، ومن فوق الكنيسة المقدسـة كمنارة تشع بالتعاليم التي ينادي بها هو، فإنه يعطى نورا لأذهان الجميـع بـان يملأهـم بالمعرفة الإلهية.

عظة (83) طهارة الداخل (لو 11: 37 -41)

” وفيما هو يتكلم سأله فريسي أن يتغدى عنده فدخل واتكأ. وأمـا الفريسي فلما رأى ذلك تعجب آنة لم يغتسل أولا قبل الغداء. فقال له الرب: أنتم الآن أيهـا الفريسيون تنقون خارج الكأس والقصعة وأما باطنكم فمملوء اختطافا وحبثا. يا أغبياء أليس الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضاً؟. بل أعطوا ما عندكم صدقة فهوذا كل شيء يكـون نقياً لكم”.

يخبرنا الحكيم جدا بولس بحق، ” إن المسيح جاء إلى العالم ليخلص الخطاة ” (1تی1: 5) فهذا كان هدفه، ولأجل هذا الغرض، أوضع ذاته لدرجة أنه أفـرغ نفسه من مجده، وظهر على الأرض في الجسد، وتحدث مع الناس لأنه كـان لائقا به، لكونه الخالق ورب الكل أن يعطى يدا منقذة لأولئك الذين سقطوا في الخطية، ويظهر لأولئك الذين كانوا تائهين في الضلال، طريقا يقودهم مباشرة نحو كل عمل صالح وإلى إمتياز أفعال الفضيلة.

وقد قال واحد من الأنبياء القديسين بخصوص الذين دعوا بالإيمـان إلـى معرفة مجده: ” ويكون الجميع متعلمين من الله” (إش 54: 13 س). إذن كيف يقودنا إلى كل أمر نافع؟ ذلك بأنه ينزل بنفسه ليصير مـع الخطـاة، بـل وأيضا بارتضائه أحيانا أن يهبط إلى مستوى تلك الأمور التي لا تناسبه، حتى يمكنـه بذلك أن يخلص كثيرين، وهذا ما يمكن أن نتعلمه من فصل الإنجيل الموضوع أمامنا الآن: إذ يقول إن أحد الفريسيين سأله أن يتغذى في بيته فـدخل واتكـأ ليأكل، كيف لا يكون واضحا لكل أحد أن زمرة الفريسيين كانت دائما طبقـة شريرة ودنسة، وهم مكروهون، وحاسدون، ومتحفزون للغـضب، وعنـدهم كبرياء فطري، ويتجاسرون دائما بالكلام ضد المسيح مخلصنا جميعا؟ لأنهـم اعترضوا على معجزاته الإلهية، وحشدوا فرق مـشيرين أشـرار ليخططـوا لموته. كيف يكون المسيح إذن ضيفهم؟ أما كان يعلم خبثهم؟ ولكن كيف يمكننا تأكيد هذا ؟ لأنه كإله، هو يعلم كل الأشياء فما هو التفسير إذن؟ التفسير هـو أنه كان مهتما بنوع خاص أن يحذرهم، وفي هذا فهو يشبه أمهر الأطباء. لأن الأطباء المهرة يستخدمون علاجاتهم مع المرضى بأخطر الأمراض ـ الـذين يصارعون ضد المرض الذي يعانون منه ـ حتى يسكنوا هجماته الضارية، أما الفريسيون وإذ هم قد استسلموا بلا رادع إلى ذهن مخـدوع، فكـان مـن الضروري أن يحدثهم المسيح بما هو لازم ونافع لخلاصهم، فقد قال هو نفسه في مكان ما: ” إنه لم يأت ليدعو أبرارا بل خطاة إلى التوبة ” (مت 9: 13)، كما قال أيضا: “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى” (مت 9: 12).

لذلك فالفريسي لغرض ما في نفسه يدعو (المسيح) إلى وليمـة، ومخلـص الجميع يقبل هذا، كما قلت، من أجل التدبير، ولكنه جعل هذا الأمـر فرصـة لإعطاء تعليم، وهو لا يضيع وقت اجتماعهما للتلذذ بالطعام والمشهيات، بـل لكي يجعل المجتمعين هناك يزدادون فضيلة. أما الفريسي الأحمق، فقد أوجـد لنفسه فرصة للحديث، لأنه تعجب أن (يسوع) لم يغتسل قبل الغذاء، إذن هـل تعجب الفريسي كأنه فعل شيئا هو يستحسنه كأنه لائق بالقديسين؟ لم تكن هذه هي نظرته، فكيف يمكن أن تكون هكذا؟ وحدث العكس فقـد كـان ممتعـضا أنه كانت للمسيح شهرة بينهم كإنسان بار ونبي، إلا أنه لم يكن يمـاثلهم في عاداتهم غير المعقولة لأنهم يغتسلون قبل الأكل كما كانوا يطهرون أنفسهم من كل نجاسة. ولكن كان هذا أمرا في غاية السخف، لأن الاغتسال بالمـاء نافع جدا لإزالة وسخ الجسد، ولكن كيف يستطيع أن يطهر الناس مـن دنـس الفكر والقلب؟

أيها الفريسي الأحمق، احتجاجنا هو هذا: أنت تتفاخر كثيرا بمعرفتك للكتب المقدسة وتقتبس دائما من ناموس موسى، لذلك فأخبرنا في أي موضع كتـب لك موسى عن هذه الفريضة؟ أي وصية أمر بها الله تطالب الناس بأن يغتسلوا قبل الأكل؟ إن مياه الرش قد أعطيت فعلاً بأمر موسى لتطهـر مـن القـذارة الجسدية، كمثال للمعمودية التي هي بالحق مقدسة ومطهرة، وهذا يتم بالمسيح. وأيضا أولئك الذين كانوا يدعون إلى الكهنوت، كانوا يغتسلون بالمـاء، لأنـه نفسه هكذا فعل موسى الإلهي مع هارون واللاويين معه، فالناموس يعلن بواسـطة الاغتسال الذي تم في مثال وظل، أنه حتى كهنوت الناموس ليس فيه ما يكفي للتقديس، ولكن على العكس ـ يحتاج إلى معمودية إلهية ومقدسـة للتطهيـر الحقيقي، وأكثر من ذلك يرينا ببراعة أن مخلص الجميع هو كاف أن يقدسـنا بحق، نحن جيل المكرسين الله ومختاريه بواسطة المعمودية المقدسة والثمينـة، وفضلاً عن ذلك، من الواضح أنه لم يأمر في أي موضع بالاغتسال قبل الأكل كأمر واجب. إذن فلماذا تتعجب ولماذا تمتعض أيها الفريسي؟ إنه هـو الذي أمر بالفريضة في القديم، لم يخالف ما قاله موسى. وكمـا قلـت فـإن الناموس الذي تجعله وسيلة للحصول على الكرامة، لم يعطك مثل هذه الوصية في أي موضع.

ولكن ماذا يقول المخلص؟ لقد وجد الفرصة ليوبخهم قائلاً: “أنتم الآن أيها الفريسيون، تنقون خارج الكأس والقصعة؛ وأما بـاطنكم فمملـوء اختطافـا وخبثا”، لأنه كان من السهل على الرب أن يستخدم كلمات أخرى بقصد تهذيب الفريسي الأحمق، ولكنه انتهز الفرصة لأن يمزج تعاليمه بالأشياء الموجـودة أمام أعينهم. وحيث أنه كان وقت الغذاء، والجلوس حول المائدة، فإنه استخدم الكأس والقصعة كوسيلة مقارنة واضحة، وبين أن أولئك الـذين يخدمون الله بإخلاص يجب أن يكونوا أنقياء وأطهارا، ليس فقط من النجاسـة الجـسدية، ولكن أيضا مما هو خفي في داخل العقل. وبالمثل أيضا، فإن الأوانـي التـي تستخدم على المائدة يجب أن تكون نقية ليس من الأقذار الخارجية فقط، بـل من الداخلية أيضا. لأنه يقول: ” أليس الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضا “، وهو يقصد بهذا أن الذي خلق الجسد خلق النفس أيضا، وبما أن كليهما همـا صنعة إله واحد محب للفضيلة، فلهذا يلزم أن يكون نقاؤهما واحدا.

ولكن لم تكن هذه عادة الكتبة والفريسيين، لأنه مـا أن ذاع صيتهم أنهـم أطهار، حتى صاروا شغوفين أن يعملوا كل شيء، فإنهم مضوا بوجوه معبسة شاحبة اللون من الصوم، وكمـا يقـول المخلـص: “يعرضـون عـصائبهم ويعظمون أهداب ثيابهم” (مت 23: 5)، و”يصلون قائمين فـي الـشوارع لكـي يظهروا للناس” (مت 6: 5)، راغبين أن ينالوا المدح من الناس لا مـن الله، وأن يستجدوا استحسان الناظرين. وباختصار فبينما هم يبينـون للنـاظرين أنهـم يمارسون بالضبط نمط حياة الفضيلة التي بحسب الناموس، نجدهم قد ابتعـدوا بكل طريقة ممكنة عن أن يكونوا محبين الله. قد كانوا ” قبورا مبيـضـة مـن الخارج ” كما قال المخلص عنهم التي: “من لخارج تظهر جميلة وهـي مـن داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة” (مت 23: 27).

أما المسيح فلا يريدنا أن نكون مثلهم، ولكن أن نكـون عـابـديـن بـالروح وقديسين وبلا لوم في النفس والجسد كليهما. لأن واحد من شركتنا يقول أيضا: “نقوا أيديكم أيها الخطاة وطهروا قلوبكم يا ذوى الرأبين” (يع 4: 8)، ويرنم داود النبي في موضع ما ويقول: “قلبا نقيا اخلق في يا الله وروحا مستقيما جدد في داخلي” (مز 51: 10). ويتكلم أيضا إشعياء النبي كما لو كـان فـي شـخص الله ويقول: “اغتسلوا، تطهروا، اعزلوا شر أفعالكم من أنفسكم من أمـام عينـي كفوا عن فعل الشر” (إش 1: 16). لاحظوا دقة التعبير لأن كلماته هي: ” مـن أمام عيني، اعزلوا شر أفعالكم من أنفسكم”. لأنه يحـدث أحيانـا أن يهـرب الأشرار من أعين الناس، ولكنهم لا يقدرون أن يهربوا من عيني الله. علينـا إذن ما دام الله يرى الخفيات، أن نعزل الشر من أمام عينيه.

أما الفريسيون، فلم تكن لديهم أية معرفة عن حياة القداسة هذه، فأي دواء يقدمه لهم المخلص بعد توبيخاته؟ بأية طريقة يشفيهم من ضربتهم، إنه يقول: ” أعطـوا ما عندكم صدقة، فهوذا كل شيء يكون نقيا لكم” إننا نؤكد أنه توجد طرق كثيرة
للسلوك الفاضل كالوداعة والاتضاع وما إليها من فضائل، فلماذا لم يذكر هذه، وأوصى الفريسيين أن يكونوا رحماء؟ أية إجابة نقدمها؟ إن الفريسيين كانوا بخلاء جدا، وعبيدا للربح القبيح، ويجمعون بطمع كنوزا من المال. وهـا رب الكل يقول في موضع عنهم: “كيف أن صهيون المدينة الآمنة الملانة بـالحق صارت زانية! كان العدل يببيت فيها، وأما الآن فالقاتلون! فـضتك صـارت زغلاً، وتجارك يخلطون الخمر بالماء، ورؤساءك متمردون ولغفاء لصوص، يحبون الرشوة ويسعون وراء العطايا، لا يقضون لليتيم ودعـوى الأرملـة لا تصل إليهم ” (إش 1: 21 -23). لذلك فهو يكشف عن قصد هذا الـداء المتملّـك عليهم ويمزق طمعهم من جذوره، حتى إذا ما شفوا من شره وبلغوا نقاء الفكر والقلب يصيرون عابدين حقيقيين.

لذلك فقد تصرف المخلص في كل هذه الأمور بحسب خطة الخلاص، فـإذ دعي إلى وليمة، فإنه منح طعاما روحيا، ليس فقط لمن دعاه، بل ولجميع الذين كانوا في الوليمة معه. ليتنا نصلي إليه من أجل هذا الطعام الروحي، لأنـه هو ” الخبز الحي النازل من السماء والواهب حياة للعالم” (يو 6: 51)، هذا الذي به ومعه، الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

عظة (84) الحق ومحبة الله (لو11: 42-44)

” ولكن ويل لكم أيها الفريسيون لأنكم تعشرون النعنع والسذاب وكل بقل وتتجاوزون عن الحق ومحبة الله. كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك!. ويل لكم أيها الفريسيون لأنكم تحبون المجلس الأول في المجامع والتحيات في الأسواق. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لانكم مثل القبور المختفية والذين يمشون عليها لا يعلمون”.

أولئك الذين يراعون الوصايا المقدسة ـ لا يجرؤون بأية طريقة أن يسيئوا إلى إله الكل، لأنهم يشعرون بصدق المكتوب: “لأن من حفظ كل الناموس وإنما عثـر فـي واحدة فقد صار مجرما في الكل لأن الذي قال لا تزن قال أيضا لا تقتل، فان لم تزن ولكن قتلت فقد صرت متعديا الناموس” (يع 2: 10 ـ11). لذلك فإن من يتعـى وصـية واحدة فقد تعدى الناموس، أي أن هذا يبرهن أن ذلك الإنسان هو بلا ناموس. أمـا إن احتقر أي إنسان تلك الوصايا، وخصوصا تلك التي هي أكثر أهمية من البـاقي فأيـة كلمات يجدها قادرة أن تنقذه من العقاب الذي يستحقه؟ لذلك فقد استحق الفريسيون هذه الانتقادات الحادة التي أثبتها عليهم الرب بقوله: “ويل لكم أيهـا الفريسيون! لأنكـم تعشرون النعناع والشذب وكل بقل وتتجاوزون عن الحق ومحبة الله، كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتغاضوا عن الأخرى”، أي ألا تتركوا تلك. إنهم بينما حذفوا الواجبات التي كان ينبغي بنوع خاص أن يعملوها ـ كأنها بلا أهمية ـ مثل الحق ومحبة الله ـ نجدهم يراعون باهتمام وبتدقيق أو بالحري يأمرون الناس الخاضعين لـسلطاتهم أن يراعوا تلك الوصايا التي هي فقط وسيلة للحصول على إيراد كبير لأنفسهم. ولكـي أوضح لكم هذه الأمور بأكثر تفصيل، يا أحبائي، فإنني يلزم أن أتكلم كما يلي: أوصى ناموس موسى الإسرائيليين أن يعطوا العشور للكهنة، لأنه يقول: “لا يكـون لبنـي لاوي ميراث مع بني إسرائيل، وقائد الرب هي نصيبهم” (تث 18: 1). لأن كل ما يوهب من أي واحد لأجل مجد الله، أقصد من عشوره، فهذه يفرزها الله لأولئك الذين كـان عملهم هو الخدمة، وكان هذا هو نصيبهم، ولكن إذ كان الفريسيون جشعين أكثر مـن غيرهم ومولعين بالربح القبيح، فإنهم كانوا يأمرون أن قانون العشور هـذا يلـزم أن يراعي بتدقيق شديد وعناية، حتى إنهم لا يغفلون حتى الأعشاب الرديئة والتافهة؛ بينما استخفوا وأهملوا ما كان يجب أن يحفظوه، أي الوصايا الأساسية التـي أعطاهـا موسى، مثل الحق، والذي يقصد به العدل في القضاء، وكذلك وصية محبة الله. لأنـه كان يمكن أن يحتسب قضاء عادلاً وحكما مستقيما؛ لو أنهم اعتبروا كل ما أوصى به أنه ومراعاة بالتساوي، وألا يهملوا الأشياء التي لها الأهمية الأولـى، ولكننا نجدهم يعطون تدقيقا شديدا فقط لتلك الأمور التي تؤول لمنفعتهم. ومراعـاتهم لمحبة الله كانت ستجعلهم يتجنبون إغضابه من أية جهة، والخوف من كسر أي جزء مستحق اهتماما مهما كان من الناموس.

ولنوضح (ما قلناه) بطريقة أخرى، فيمكن أن يقول قائل إن هذا القضاء قد يحكـم أحكاما عادلة، ولا يقرر بشأن أي أمر مهما كان، قرارا غير عـادل. وهـذا أيـضـا تغاضى عنه الفريسيون، لأن الروح يوبخهم بصوت داود في قوله: “قام الله في مجمع الآلهة، وفي وسط الآلهة يقضي، حتى متى تقضون جورا فتقبلون وجوه الأشـرار؟” (مز 82: 1 ـ2). كما اتهمهم أيضا بصوت إشعياء قائلاً: ” كيف صارت المدينة الأمينـة صهيون، الملأنة بالحق صارت زانية؟ كان العدل يبيت فيها أما الآن فالقاتلون. فضتك صارت زغلاً، وتجارك يخلطون الخمر بالماء، ورؤساؤك متمردون شركاء اللصوص يحبون الرشوة ويجرون وراء العطايا، لا يقضون لليتيم، ويهملون دعوى الأرملـة؟” (إش 1: 21 -23 س). لأن الحكم بغير عدل ليس هو صفة أولئك الذين يمارسـون محبـة الإخوة، بل هو بالحري ذهن شرير، وبرهان واضح على السقوط في الخطية. لـذلك يقول: ” بينما تعشرون النعناع والشذب وكل بقل، وتأمرون بأن تحفظ الوصـية مـن جهة هذه الأمور بدقة شديدة. فإنكم لا تعطون أي اهتمام بأمور الناموس الأكثر أهمية، أعني تلك الوصايا التي هي ضرورية أكثر ونافعة للنفس، والتي من خلالها تظهرون أنفسكم مكرمين ومقدسين ومملوئين بكل مديح كما يليق بأولئك الذين يريدون أن يحبوا الله ويرضونه “.

ثم يضيف الرب ويلاً آخر لمن تكلم عنهم سابقا بقوله: ” ويل لكم أ أيها الفريسيون لأنكم تحبون المجلس الأول في المجامع والتحيات في الأسواق”. فهل هذا التوبيخ مفيد للفريسيين فقط؟ ليس هو كذلك، لأن فائدته إنما تمتد لتشملنا نحن أيضا، لأنه حقا أن الكاملين في أذهانهم، والمحبين للسلوك المستقيم، يجدون في توبيخ الآخرين طريقـة لسلامهم هم أيضا، لأنهم بلا شك سوف يتجنبون أن يتشبهوا بهم، وألا يعرضوا أنفسهم أن يسقطوا في أخطاء مماثلة. لذلك فالاتهام الذي يوجهه المسيح ضد الفريسيين بأنهم يسعون إلى التحيات في الأسواق، والمجالس الأولى في المجامع والاجتماعات، يبـين أنهم كانوا مولعين بالمديح، ويشتهون أن يمتعوا أنفسهم بتباهي فارغ وتشامخ زائـف. وماذا يمكن أن يكون أسوأ من هذا؟ أو كيف لا يتحتم أن يكون مثـل هـذا الـسـلوك مكروها من أي إنسان، باعتباره سلوكا منتفخا ومزعجا، وخاليا من ثنـاء الفضيلة، ويقصد به فقط أن يختلس الشهرة بالكرامة؟ وكيف لا ينبغي أن يكون أقل بكثير جـدا من سلوك الذين هم مساكين بالروح، ودعاء، دمثين، لا يحبون الانتفاخ بل لطفاء، لا يخدعون الناس بالمظاهر الخارجية الزائفة، بل هم بالحري عابدون حقيقيون، مزينون بذلك الجمال العقلي الذي يطبعه فينا الكلمة الإلهي بواسطة كل فضيلة وقداسة وبر. لأنه إن كان يجب أن نبرهن أننا أفضل من الآخرين وليس ما يمنع ذلك ـ فلنـدع الحكم لنا بالتفوق يعطى لنا من الله، وذلك بأن نزيد عليهم من جهة السلوك والأخلاق وبمعرفة حكيمة للكتب المقدسة لا يشوبها عيب. لأنه، أن يكرمنا الآخرون بالتحيـة، وأن نجلس في أماكن أعلى مرتبة من أصدقائنا، فهذا لا يثبت علـى الإطـلاق أننـا أشخاص جديرون بذلك. لأن هذا يمتلكه كثيرون من الذين هم بعيـون جـدا عـن الفضيلة. بل هم محبون للذات ومحبون للخطية، وهم يغتصبون الكرامات مـن كـل إنسان، إما بسبب امتلاكهم لثروة كبيرة أو سلطة عالمية.

أما كوننا نستحوذ على إعجاب الآخرين دونما فحص أو تروى، وبدون أن يعرفوا حالتنا الحقيقية، فهذا لا يزكينا أمام الله الذي يعرف كل الأشياء، هـذا مـا يوضـحه المخلص على التو بقوله: ” ويل لكم! لأنكم مثل القبور المخفية والذين يمشون عليها لا يعملون”. إنني أرجوكم أن تلاحظوا قوة المثل بوضوح شديد، فأولئك الذين يعتبرونـه شيئا عظيما وبشغف أن تكون لهم المتكآت الأولى في المجامع، هؤلاء لا يختلفون في شيء عن القبور المختفية المزينة حسنا من الخارج ولكنها ممتلئة من كل نجاسة. إنني أرجوكم أن تلاحظوا هنا أن الرياء يلام بالتمام، فهو مرض ممقوت أمـام الله وأمـام الناس. لأن كل ما يظهر به المرائي ويفكر أنه يكون عليه فهو ليس هكذا، بـل هـو يستعير شهرة الصلاح. وبهذا فهو يحكم على دناءته. لأن نفس الشيء الـذي يمدحـه ويعجب به، هو نفسه لا يمارسه. ولكن ليس ممكنا أن تخفى رياءك لمدة طويلة، لأنه كما أن الأشكال التي ترسم في الصور تبهت لأن الوقت يجفف الألوان، هكذا أيـضنا المراؤون، فإنهم يوبخون في داخلهم حالاً أنهم ليسوا شيئا في الحقيقة.

يجب علينا إذن أن نكون عابدين حقيقيين، وليس كمن يرغبون فـي أن يرضـوا الناس لئلا نخيب عن أن نكون خداما للمسيح، وهكذا يقول بولس المبارك في مكـان ما: “أفاستعطف الآن الناس أم الله؟ أم أطلب أن أرضي الناس؟ فلو كنت بعد أرضي الناس لم أكن عبدا للمسيح” (غل 1: 10). لأن الافتراضات في أمور السمو الأخلاقي هي سخيفة، وغير جديرة بالاعتبار أو الثناء، لأنه كما يرفض ما هو مزيف ومغشوش في العملات الذهبية، هكذا المرائي ينظر إليه باحتقار من الله ومن الناس. أمـا الإنـسـان الصادق فيلاقي إعجابا، مثل نثنائيل الذي قال عنه المسيح: ” هوذا إسرائيلي حقا لا غش فيه” (يو 1: 47). من هو هكذا فله تقديره أمـام الله، ويحـسـب جـديرا بالأكاليـل والكرامات، وله رجاء مجيد معطى له منه، وهو “رعية مع القديسين وأهل بيت الله(أف 2: 19).

فلنهرب إذن من مرض الرياء، وليسكن فينا بالحري ذهن نقي وغير فاسد، ومتألق بالفضائل المجيدة، لأن هذا سوف يوحدنا بالمسيح الذي به ومعه الله التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.

عظة (85) ويل لكم أيها الناموسيون (لوقا 11: 45-48)

” فأجاب واحد من الناموسيين وقال له: يا معلم حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضاً. فقال: وويل لكم أنتم أيها الناموسيون لأنكم تحملون الناس أحمالاً عسرة الحمل وأنتم لا تمسون الأحمال بإحدى أصابعكم. ويل لكم لانكم تبنون قبور الأنبيـاء وآباؤكم قتلوهم. إذا تشهدون وترضون بأعمال آبائكم لأنهم هم قتلوهم وانتم تبنون قبورهم”.

 إن التوبيخ هو دائما أمر عسير أن يحتمله أي إنسان، ولكنه ليس بغيـر فـائـدة للعاقلين، لأنه إنما يقودهم إلى التزام ممارسة تلك الأشياء التـي تجعلهـم مـستحقين للكرامة، وتجعلهم محبين لاقتناء الفضائل، أما الذين يسرعون إلـى الـشـرور بكـل اهتمام، والذين جعلوا قلوبهم ضد قبول النصح، فإنهم ينجرفون بسرعة إلـى خطايـا أعظم عن طريق نفس الأسباب التي كان يجب أن تجعلهم أكثر تعقلاً، بل إنهم يتقستون اسطة كلمات الذين يحاولون أن ينفعوهم. وكمثل لهذه الحالة من التفكير أنظر إلـى أولئك الذين يدعون بالناموسيين عند اليهود. كان مخلص الجميـع يـوبـخ الفريسيين كأناس منحرفين بعيدا عن الطريق الصحيح وواقعين في ممارسات غير لائقـة، إذ وبخهم على كونهم منتفخين، ومرائين، ومحبين للتحيات في الأسواق، وراغبين فـي الجلوس في المتكات الأولى في المجامع، بل ودعاهم أكثر من ذلك قبور تظهر جميلة من الخارج، ولكن من الداخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة (مـت 23: 27). وعندما قال هذه الكلمات، تذمرت فئة الناموسيين الأغبياء، ونهض واحـد مـنهم وعـارض تصريحات المخلص وقال: ” يا معلم حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضا “.

يا له من غباء عظيم! أي عمي في العقل والفهم من جهة كل شيء ضروري! إن هؤلاء الناس يعرضون أنفسهم للتوبيخ، بل بالأحرى أن قوة الحـق أظهـرتهم أنهـم مستحقون كذلك لنفس الاتهامات كالفريسيين، وأنهم يفكرون مثلهم ويشاركونهم فـي أعمالهم الشريرة ما داموا يعتبرون أن ما يقوله المسيح عن الآخرين قد قيل ضدهم هم أيضا، وإلا فأخبرني لأي سبب تغضب! لأنه حينما يوجه أي لوم إلى الفريسيين فأنت تقول إنك أيضا تشتم، إذن فأنت تعترف بأعمالك، وأنت تدرك طبعا في نفـسـك بـأن سلوكك مثلهم. ولكن إن اعتبرت هذا توبيخا واجبا لهم على أي شيء من هذا النـوع، ورغم ذلك فإنك لا تغير سلوكك، فإن سلوكك هذا هو الذي يستحق اللـوم. إن كنـت تكره التوبيخ كما لو كان شتيمة، فاظهر نفسك أنك أسمى من الأخطاء التي تتهم بها أو بالحري لا تنظر إلى كلمة التقويم على أنها شتيمة. ألا ترى أن هؤلاء الذين يشفون أجساد الناس يتحدثون مع المرضى عن الأسباب التي أدت إلى أمراضهم ويستخدمون الأدوية المؤلمة ليوقفوا ما حدث، ومع ذلك فلا يغضب منهم أحد لهذا السبب ولا يعتبر أحد أن ما يقولونه شتيمة، ولكنك أنت ضيق الفكر في تقبل النصائح ولا ترضـي أن تتعلم ما الأوجاع “ني تؤذى قلبك. كان من الأفضل جدا أن تحـب التـوبيخ وأن تطلب لأجل التخلصي من أمراضك ولأجل شفاء قروح نفسك، وكان من الأفضل جدا بالحري أن تقول: “اشفني، خلصني فاخلص، لأنك أنت هو تسبيحي” (إر 17: 14).

لا شيء من هذا النوع يدخل عقل الناموسيين ولكنهم تجاسروا أن يقولوا: ” بقولـك هذا تشتمنا نحن أيضا ” معتبرين بجهلهم أن اللوم الذي هو لمنفعتهم وفائدتهم، شـتيمة. لماذا إذن أجابهم المسيح؟ إنه جعل توبيخه لهم أكثر شدة وأوضح كبريـاءهم الفـارغ بقوله هكذا: ” ويل لكم أيها الناموسيين، لأنكم تحملون الناس أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل وأنتم لا تمسون الأحمال بأحد أصابعكم”. إنه يصوغ نقاشه ضدهم بمثل واضح، لأنـه كان أمرا معترفا به أن الناموس عسر الحمل للإسرائيليين.

كما اعترف بذلك أيضا التلاميذ الإلهيون بأنهم كانوا ينتهرون أولئك الذين سـعوا لجعل الداخلين إلى الإيمان أن يعودوا إلى فرائض الناموس، لأنهم قالوا: “فالآن لماذا تجربون الله بوضع نير على عنق التلاميذ لم نستطع نحن ولا آباؤنا أن نحملـه؟” (أع 15: 10). والمخلص نفسه علمنا هذا مناديا بقوله “تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلـب فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت 11: 28 -29). إذن فهو يقول إن الذين تحت الناموس هـم متعبون وثقيلو الأحمال، بينما يدعو نفسه وديعا، كما لو كان الناموس ليس فيه شيئا من هذه الصفة، لأنه كما يقول بولس: “لأن من خالف ناموس موسى فعلى فم شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة” (عب 10: 28). لذلك فهـو يـقـول، ويـل لكـم أيهـا الناموسيون، لأنكم بينما تحملون الناس أحمالاً عسرة الحمل وغير ممكـن رفعهـا، تضعونها على أولئك الذين هم تحت الناموس، وأنتم أنفسكم لا تلمسونها. لأنهم بينمـا يأمرون بأن تحفظ شريعة موسى بدون انتهاك، ويحكمون بالموت على الذين يستخفون بها، فإنهم هم أنفسهم لا يظهرون أي مبالاة لواجب تنفيذ فرائضها ــ وإذ اعتـادوا أن يفعلوا هكذا، فإن بولس الحكيم يعنفهم أيضا بقوله: ” هوذا أنت تسمى يهوديا وتتكـل على الناموس وتفتخر بالله، وتعرف مشيئته وتميز الأمـور المتخالفـة متعلمـا مـن الناموس، وتثق أنك قائد للعميان، ومهذب لمن هم بلا فهم، ومعلــم للأطفال، ولـك صورة العلم والحق في الناموس، فأنت إذا الذي تعلم غيرك ألست تعلم نفسك؟ الـذي تكرز أن لا يسرق أتسرق ؟ الذي تقول أن لا يزني أتزني؟ الذي تستكره الأوثـان أتسرق الهياكل؟ الذي تفتخر بالناموس ابتعدي الناموس تهين الله؟” (رو 2: 13 -17). لأن المعلم يصير مرفوضا ويخزى إذا كانت تصرفاته لا تتفق كلماته، ويحكـم عليـه المخلص بالعقاب الشديد، لأنه يقول: “إن من علم وعمل يكون عظيما، أما من يعلـم ولا يعمل فإنه يدعى صغيرا في ملكوت السموات” (مت 5: 19). ولنفس السبب يكتب لنا تلميذ المخلص ويقول: “لا يكن فيكم معلمين كثيرين يا إخوتي عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم، لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا ” (يع 3: 1). 

وهكذا بعد أن أظهر المخلص هذه العصبة الرديئة من الناموسيين فانـه يواصـل حديثه لينطق بتوبيخ عام لكل رؤساء اليهود فيقول ” الويل لكم ! لأنكم تبنـون قبـور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم، فأنتم إذن تشهدون وترضون بأعمال أبائكم، لأنهم هم قتلوهم وأنتم تبنون قبورهم”. دعنا إذن نفحص بعناية ماذا يقصد المخلص، لأن ما هو العمل الشرير الذي يمكننا أن نقول إنهم أجرموا فيه ببنائهم قبور القديسين؟ ألم يصنعوا بهذا تكريما متميزا لهؤلاء القديسين؟ فمن وقت لآخر كان أسلاف اليهود يسلمون للمـوت الأنبياء القديسين الذين يأتونهم بكلمة الله ويقودونهم إلى الطريق الصحيح، أما أبناؤهم فإذ اعترفوا أن الأنبياء كانوا قديسين ورجالاً مكرمين فإنهم يشيدون قبورا ومدافن لهم، كما لو كانوا يمنحونهم كرامة تليق بالقديسين. إذن، فأباؤهم ذبحوهم، أما هم فبإعتقادهم أنهم أنبياء ورجالاً قديسين صاروا قضاة لآبائهم الذين ذبحوهم، لأنهم بعزمهم علـى تقديم الكرامة لأولئك الذين قتلوا فإنهم بهذا يتهمون آباءهم بخطئهم فيما عملوه. أما فإذ أدانوا آباءهم بسبب هذه الجرائم القاسية، فقد صاروا على وشك أن يقترفوا ذنـب جرائم مساوية، ويرتكبوا نفس الأخطاء، أو بالحري أخطاء أكثر شناعة منهـا لأنهـم ذبحوا رئيس الحياة المخلص والمنقذ للجميع، وأضافوا أيضا لشرهم نحوه أعمال قتل أخرى، ممقوتة. فها هم قد قتلوا إستفانوس، لا كمتهم بأي شيء رديء بـل بـالحري بسبب نصحه لهم إذ كلمهم بما هو في الكتب الموحى بها، وجرائم أخرى بجانب هذه ارتكبوها ضد كل قديس كان يبشرهم برسالة الإنجيل الخلاصية. لذلك فإن الرب يبكت الناموسيين والفريسيين بكل طريقة، كأناس يكرهون الله، وهم دائما منتفخون ومحبون للذة أكثر من محبة الله، ومن كل وجه يرفضون أن يخلصوا، لهذا أضاف المسيح تلك الكلمة: “ويل” كشيء يختص بهم، الذي به وله ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.

تفسير إنجيل لوقا – 10إنجيل لوقا – 11تفسير إنجيل لوقاتفسير العهد الجديدتفسير إنجيل لوقا – 12
القديس كيرلس الكبير
تفاسير إنجيل لوقا – 11تفاسير إنجيل لوقاتفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى