تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 18 للقديس كيرلس الكبير
الأصحاح الثامن عشر
عظة 119 الصلاة كل حين بدون ملل
(مثل المرأة وقاضي الظلم) (لوقا 18: 1-8)
وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ، قِائِلاً:«كَانَ فِي مَدِينَةٍ قَاضٍ لاَ يَخَافُ اللهَ وَلاَ يَهَابُ إِنْسَانًا. وَكَانَ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ أَرْمَلَةٌ. وَكَانَتْ تَأْتِي إِلَيْهِ قَائِلَةً: أَنْصِفْنِي مِنْ خَصْمِي!. وَكَانَ لاَ يَشَاءُ إِلَى زَمَانٍ. وَلكِنْ بَعْدَ ذلِكَ قَالَ فِي نَفْسِهِ: وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَخَافُ اللهَ وَلاَ أَهَابُ إِنْسَانًا، فَإِنِّي لأَجْلِ أَنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ تُزْعِجُنِي، أُنْصِفُهَا، لِئَلاَّ تَأْتِيَ دَائِمًا فَتَقْمَعَنِي!». وَقَالَ الرَّبُّ:«اسْمَعُوا مَا يَقُولُ قَاضِي الظُّلْمِ. أَفَلاَ يُنْصِفُ اللهُ مُخْتَارِيهِ، الصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَارًا وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعًا! وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟».
المسيح هو ينبوع كل بركة ” الذي صار لنا حكمة من الله” (1كو 30:1) لأننا فيه صرنا حكماء وممتلئين بعطايا روحية، والآن فكل من هو مستقيم الـرأي سيؤكد أن معرفة تلك الأشياء التي بواسطتها يمكننا أن نفلح في كـل طريقـة تختص بحياة القداسة السامية، والتقدم في الفضيلة، هي هبة مـن الله، وهـي تستحق تماما أن نربحها لأنفسنا. ونجد أحدهم يطلبها من الله قائلا: “أظهر لي يا رب طرقك وعلمني سبلك” (مز 24: 4 س). فالسبل التي تقود أولئك إلى حيـاة غير فاسدة، والذين يتقدمون فيها بحماس، هي سبل عديدة. ولكن هناك سـبيل واحد يفيد أولئك الذين يمارسونه بنوع خاص ألا وهو الصلاة؛ والمخلص نفسه حرص على أن يعلمنا بواسطة المثل الموضوع أمامنا الآن؛ أننـا يجـب أن نستخدمه باجتهاد. فهو يقول ” وقال لهم أيضا مثلاً في أنه ينبغي أن يصلى كل حين ولا يمل”.
وأنا أؤكد أن واجب الذين أوقفوا حياتهم لخدمته ألا يكونوا متكاسـليـن فـي صلواتهم، وأيضا لا يعتبرونها واجبا شاقا ومتعبا، بل بالأحرى أن يفرحـوا، بسبب حرية الاقتراب التي منحها الله لهم، لأنه يريدنا أن نتحدث معه كأبنـاء مع أبيهم. أفليس هذا إذا امتيازا جديرا جدا بتقديرنا؟ فإذا افترضنا أننا نستطيع أن نقترب بسهولة من أحد الذين لهم سلطان أرضي عظيم وكان متاحا لنـا أن نتحدث معه بمنتهى الحرية، أما كنا نعتبر هذا سببا لفرح غير عادي؟ أي شك يمكن أن يكون في هذا؟ لذلك حينما يسمح الله لكل منا أن يقدم طلباته لأجل كل ما نريد وقد وضع أمام الذين يخافونه كرامة حقيقية عظيمة جدا وجديرة بـأن نربحها، فليتوقف كل تكاسل يؤدي بالناس إلى صمت مؤذ، ولنقترب بالأحرى بتسابيح ونبتهج لكوننا قد أمرنا أن نتحدث مع رب وإله الكل، والمسيح وسيط لنا، والذي يمنحنا مع الله الآب تحقيقا لكل توسلاتنا، لأن الطوبـاوي بـولس المبارك يكتب في موضع ما: “نعمة لكم وسلام من الله أبينا ومن ربنا يسوع المسيح ” (2کو 1: 2). والمسيح نفسه قال في موضع ما لرسله القديسين: “إلـى الآن لم تطلبوا شيئا باسمي، اطلبوا تأخذوا” (يو 16: 24). لأنـه هـو وسـيطنا وكفارتنا ومعزينا، والواهب لكل ما نطلب. لذلك فمن واجبنا أن نـصلي بـلا انقطاع (1تس 5: 17)، وبحسب كلمات المبارك بولس، عالمين تماما ومتيقنين أن من نتوسل إليه هو قادر أن يتمم كل شيء. والكتاب يقول: ” ولكـن ليطلـب بایمان غیر مرتاب البتة لأن المرتاب يشبه موجا من البحـر تخبطـه الـريح وتدفعه، فلا يظن ذلك الإنسان أنه ينال شيئا من عند الـرب” (يع 6:1 و7). لأن المرتاب يرتكب فعلاً خطية الاستهزاء لأنك إن لم تؤمن أنـه سـيميل إليـك ويفرحك ويتمم طلبك فلا تقترب منه على الإطلاق، لئلا توجد ملوما من القدير في أنك ترتاب بحماقة. لذلك يجب أن نتحاشي هذا المرض الوضيع.
والمثل الحاضر يؤكد لنا أن الله سيميل سمعه لمن يقدمون صـلواتهم بـلا تكاسل ولا إهمال بل باجتهاد ومثابرة. لأنه إن كان المجيء المستمر للأرملـة المظلومة قد تغلب على القاضي الظالم الذي لا يخاف الله ولا يهـاب إنـسـانا، حتى إنه رغما عن إرادته أنصفها، فكيف من يحب الرحمة ويبغض الإثـم، ومن يقدم دائما يد المعونة لمن يحبونه، فكيف لا يقبل أولئك المتقدمين إليـه نهارا وليلا ولا ينصفهم إذ هم مختاروه؟
بل تعالوا الآن ولنفحص من هو هذا الذي يسيء إليهم، إن فـحـص هـذا السؤال سوف يتولد عنه الكثير من النفع لكل من هم متعلمون جيدا. إن الـذين يسيئون إلى القديسين عددهم عظيم جدا، كما أنهم من أنواع مختلفة. إن الخدام والمعلمين الأطهار الذين يفصلون كلمة الحق باستقامة يهاجمهم أعداء الحـق بعنف، هؤلاء الذين يجهلون التعاليم المقدسة، وهم بعيدون عن كل استقامة، ويسيرون في طرق معوجة بعيدة عن الطريق المستقيم والملـوكي، إن مثـل هؤلاء هم عصابات الهراطقة الدنسين والنجسين، الذين يستحقون أن يـدعوا أبواب الهلاك. هؤلاء يضطهدون ويضايقون كل من يسير باستقامة فـي الإيمان. وكرجال سكاري بالخمر لا يستطيعون الوقوف فيمسكون بمـن هـم قريبين منهم حتى لا يسقطوا على الأرض بمفردهم. كذلك أيضا هؤلاء الـذين بسبب أنهم مقعدون وعرج يجلبون الدمار لغير الثابتين. ينبغي لكل مـن هـم معروفون لدى الله أن يقدموا توسلات من جهة هؤلاء الناس، مقتدين في هـذا بالرسل القديسين الذين صاحوا ضد شر اليهود وقالوا: ” والآن يا رب انظـر إلى تهديداتهم وامنح عبيدك أن يتكلموا بكلامك بكل مجاهرة” (أع 4: 29).
لكن ربما يقول قائل، قال المسيح في موضع ما للرسل القديسين: “أحبـوا أعداءكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم” (لو 6: 27 و28)، فكيـف يمكننـا أن نصرخ ضدهم بدون أن نكون بذلك قد احتقرنا وصية إلهية!
على هذا نجيب قائلين: هل إذن نصلي أن يعطيهم الله القوة والجسارة حتى يهاجموا بشدة أكثر أولئك الذين يمدحون أعماله ولا يسمحون لهـم بالتعليم هؤلاء الذين يقاومون مجد من نوجه له توسلاتنا؟ كيف لا يكون هـذا منتهـى الحماقة؟ لذلك عندما تكون الإساءات المرتكبة في حقنا شخصية، نعتبره مجدا لنا أن نغفر لهم، ونكون مملوءين بالمحبة المتبادلة ونقتدي بالآبـاء القديسين حتى لو ضربونا واحتقرونا، حتى لو أصابونا بكل أنواع العنف فلا نوجه لهم أي لوم ونتسامي على الغضب والغيظ. إن مثل هذا المجد يليق بالقديسين كما أنه يسر الله.
لكن عندما توجه أي خطية ضد مجـد الله، وعندما تتكـس الحـروب والمضايقات ضد الذين هم خدام للرسالة الإلهية، عندئذ نتقدم في الحال إلى الله طالبين معونته صارخين ضد من يقاومون مجده، مثلما فعل أيضا موسـى العظيم، لأنه قال: “قم يا رب فلتتبدد أعداؤك ويهرب مبغـضـو اسـمـك مـن أمامك ” (عدد 35:10 س)، كما تبين أيضا الصلاة التي نطق بها الرسل القديسون أنه ليس أمرا عديم المنفعة لأجل نجـاح الرسـالة الإلهيـة وإضعاف يـد المضطهدين. ويقول الرسل: “انظر يا رب إلى تهديداتهم”، أي أجعل مقاومتهم لنا باطلة، وامنح عبيدك أن يتكلموا بكلامك بكل مجاهرة” (أع 4: 29).
لكن أن يوجد أناس يتاجرون بكلمة الحق ويؤثرون على كثيرين ليتخلّوا عن الإيمان الصحيح ويورطونهم في اختراعات الضلال الشيطاني ويدفعون بهم – كما يقول الكتاب ـ ليتكلموا بأمور تخرج من قلوبهم وليس من فـم الـرب” (إر 23: 16 س)، فهذا ما قاله الرب: “متى جاء ابن الإنسان العله يجد الإيمـان على الأرض؟”. إنه لا يغيب عن معرفته، وكيف يمكن أن يكون هذا وهو الإله الذي يعرف كل الأشياء؟ فهو يخبرنا إذا بحسب كلماته هو نفسه أن “محبـة الكثيرين تبرد” (مت 24: 12)، “وأنه في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمـان الصحيح غير الملوم تابعين أرواحا مضلة وتعاليم شياطين في ريـاء أقـوال كاذبة لأناس موسومة ضمائرهم” (1تي 4: 1 و2). ونحن كخدام أمناء نتقدم إلـى الله ضد هؤلاء متوسلين إليه أن يلاشي ويبطل شرهم ومحاولاتهم ضد مجده.
ويوجد آخرون أيضا ممن يسيئون إلـى خـدام الله. ينبغـي أن نقـاومهم بالصلاة. ومن هم هؤلاء؟ هم القوات الشريرة المضادة، والشيطان عـدونا جميعا، الذي يقاوم بشراسة أولئك الذين يعيشون حسنا، والذي يوقع في مصائد الشر كل من ينام، والذي يزرع فينا بذار كل خطية، لأنه مع أتباعه يحـارب ضدنا بشراسة. لأجل هذا يصرخ المرتم ضدهم قائلاً: “إلى متى تميلون على الإنسان، ستقتلون جميعا كجدار مائل وسياج منحن” (مز 3:61 س) لأنـه مثـل حائط مائل على جانب واحد، ومثل سياج ينحني كأنه تفكك ويسقط حالاً حينما يدفعه أي واحد عليهم، كذلك أيضا ذهن الإنسان بسبب ميله الخاص الكبير إلى محبة اللذات العالمية، فإنه يسقط فيها حالاً بمجرد أن يجتنبه أحد إليها ويغريه بها. ولكن هذا هو عمل الشيطان، ولذلك نقول في صلواتنا لمن هو قـادر أن يخلص وقادر أن يدفع بعيدا عنا ذلك الكائن الشرير: “انصفني من خـصمي”. وهذا ما قد فعله كلمة الله الوحيد الجنس بصيرورته إنسانا، لأنه طرح رئيس هذا العالم من طغيانه علينا، وخلصنا ونجانا ووضعنا تحت نير ملكوته.
لذلك فما أروع أن نطلب بصلاة دائمة، لأن المسيح سيقبل توسلاتنا، ويتمم طلباتنا، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهـر الدهور. آمین.
عظة 120 مثل الفريسي والعشار (لو18: 9-14)
وَقَالَ لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرِينَ هذَا الْمَثَلَ: «إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى الْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا، وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَالآخَرُ عَشَّارٌ. أَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هكَذَا: اَللّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ. أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ. وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ. أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا دُونَ ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ».
يا من تحبون التعليم وتتوقون إلى الإصغاء، اقبلوا مـرة ثانيـة الكلمـات المقدسة، وأبهجوا أنفسكم بعسل الحكمة، لأنه هكذا هو مكتـوب: “الكلمـات الحسنة شهد عسل، وحلاوتها شفاء للنفس” (أم 16: 24 س). لأن عسل النحل حلو جدا وينفع نفس الإنسان بطرق كثيرة أما العسل الإلهي الخلاصي فيجعل أولئك الذين يستقر فيهم ماهرين في كل عمل صالح ويعلمهم طرق التقدم الروحـي، لذلك هلموا كما قلت نقبل ثانية في الذهن والقلب كلمات المخلص لأنه يعلمنـا بأي طريقة ينبغي أن نقدم طلباتنا إليه حتى لا يكون فعل الصلاة بـلا مكافـأة لمن يمارسونه ولكي لا يثير أحد غضب الله المانح العطايا من الأعالي بطلبـه الأشياء التي يتخيل أنه سوف ينال منها بعض المنفعة، لأنه مكتوب: “قد يكون بار يهلك في بره” (جا 15:7). أتوسل إليكم أن تنظروا شاهدا على هذا مصورا بوضـوح فـي المثـل الموضوع أمامنا. إنسان صلى وأدين لأنه لم يقدم صلاته بحكمة، لأنه يقـول: ” إنسانان صعدا إلى الهيكل ليصليا واحد فريسي والآخر عشار”. وهذا يلزمنـا أن نعجب بالترتيب الحكيم للمسيح مخلصنا كلنا في كل ما يفعله ويقوله. لأنـه بالمثل الذي سبقدت قراءته علينا فإنه يدعونا إلى الاجتهاد إلى واجـب تقـديم الصلاة بلا انقطاع لأن الإنجيلي قال: ” وقال لهم أيضا مثلا في أنه ينبغـي أن يصلي كل حين ولا يمل” (لو 18: 1). لذلك ألح عليهم أن يجتهدوا في الصلاة كل حين، ولكن كما قلت، لئلا بصلاتنا بمثابرة ولكن بدون تمييـز نـغـضـب مـن نتضرع إليه، فإنه يعرض لنا بطريقة ممتازة بأية طريقة ينبغي لنا أن نكـون مجتهدين في الصلاة، هو يقول: ” انسانان صعدا إلى الهيكل ليصليا”. أتوسل إليكم أن تلاحظوا هنـا عـدم المحاباة والنزاهة التامة التي للطبيعة التي لا تخطئ، لأنه يـسمـي مـن كـانـا يصليان: ” إنسانان”، فهو لا ينظر إلى الغني أو القوة بل ينظر إلـى التـسـاوي الطبيعي بينهما ويعتبر كل الذين يسكنون على الأرض بشرا، كما لا يختلفـون في شيء بعضهم عن بعض، وماذا كانت إذن طريقة صلاتهما؟ يقول (النص): ” أما الفريسي فوقف يصلي في نفسه هكذا: اللهم أنا أشكرك إني لست مثـل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار”. واضـحة تماما أخطاء الفريسي الكثيرة، أول كل شيء هو منتفخ وعديم الفهـم لأنـه امتـح نفسه، مع أن الكتاب المقدس يصيح عاليا: “ليمدحك الآخر لا فمك، الأجنبي لا شفتاك ” (أم 27: 2 س). لكن يمكن للمرء أن يقول له عن حق: أيها السيد الشريف لاحظ أن أولئك الذين يعيشون في ممارسة الأفعال الصالحة والمقدسة ـ كمـا يمكن للمرء أن يرى ـ هم غير مستعدين بالمرة أن ينصتوا لكلمات المداهنين، بل حتى وإن امتدحهم الناس، ففي الغالب يغطيهم الخجـل، كمـا يخفـضون أبصارهم إلى الأرض ويلتمسون الصمت من أولئك الذين يمتدحونهم. أما هذا الفريسي الذي لا يستحي فإنه يمتدح نفسه ويمجدها علـى أنـه أفـضـل مـن الخاطفين والظالمين والزناة. ولكن كيف فات عليك أن كون الإنسان أفـضل ممن هم أردياء لا يثبت بالضرورة وكأمر بديهي أنه يكون جديرا بالإعجاب، بل حري بك أن تنافس أولئك الذين يفضلونك، فإن هذا هـو الأمـر النبيـل والمكرم والذي يدخل الإنسان في مصاف الذين يمدحون عن استحقاق.
لذلك يلزم ألا تتلوث فضيلتنا بالخطأ، بل ينبغي أن تكون مخلصة وبلا عيب وخالية من كل ما يمكن أن يجلب لوما. لأنه ما المنفعة في أن تصوم مـرتين في الأسبوع إن كنت تفعل هذا (الصوم) فقط كمبرر لجهلك وغرورك وتصير متكبرا وأنانيا ومتشامخا؟ أنت تعطي عشر ممتلكاتك وتتباهى بهذا، لكنك مـن ناحية أخرى تثير غضب الله بإدانتك للناس عموما واتهامك للآخـرين وأنـت نفسك منتفخ رغم أنك لم تكلّل بالشهادة الإلهية للبر، بل على العكـس تـكـس المديح لنفسك، إذ يقول النص: “لأني لست مثل باقي الناس ” . أيها الفريسي هدئ نفسك ” وضع بابا ومزلاجا للسانك ” (انظر مز 3:140 س). فأنـت تكلـم الله الذي يعرف كل الأشياء. انتظر حكم الديان. ليس أحد من أولئك الماهرين في الكفاح يتوج نفسه، ولا ينال أحد الإكليل من ذاته بل ينتظر استدعاء الحكـم. خفض من غلوائك لأن العجرفة ملعونة ومكروهة من الله. لذلك فلأنك تصوم بذهن منتفخ، فبفعلك هذا لن تنتفع شيئا وتعبك سيكون بلا مكافـأة إذ خلطـت الروث مع الطيب. بل حتى حسب ناموس موسى فالذبيحة التي بها عيـب لا تصلح للتقديم الله. لأنه قيل له عن الغنم والبقر التي تقدم ذبيحة ينبغي ألا يكون فيها عيب (انظر لا 22: 21)، لذلك فحيث إن صومك مصحوب بالكبرياء فيجـب أن تتوقع أن تسمع الله يقول: “ليس هذا صوم اختاره يقول الـرب” (إش 5:58). أنت تقدم العشور لكنك بطريقة أخرى تسيء لمن تكرمه، بكونك تدين البـشر عموما. هذا تصرف غريب عن الذهن الذي يخاف الله، لأن المسيح نفسه قال: ” لا تدينوا لكي لا تدانوا، لا تقضوا على أحد فلا يقضى عليكم” (لو 37:6). ويقول أيضا واحد من تلاميذه: ” واحد هو واضع الناموس والديان، فلماذا تدين غيرك”؟ (انظر يع 4: 12). لأن الإنسان ذا الصحة الجيدة لا ينبغي أن يسخر مـن إنسان مريض بسبب أنه ملقى وطريح الفراش، بل بالحري يخاف لئلا يصير هو نفسه ضحية لآلام مشابهة. ينبغي لمن هو في معركة، ألا يمتـدح نفـسـه بسبب أنه أفلت من البلية وغيره سقط فيهـا، لأن ضـعف الآخـرين لـيـس موضوعا مناسبا لمدح أولئك الذين هم في صحة جيدة، بل حتـى وإن كـان الإنسان في صحة قوية أكثر من المعتاد فلا ينبغي أن ينال مجدا بسبب هـذا. هذه هي إذا كانت حالة الفريسي المحب لنفسه.
لكن ماذا عن العشار؟ يقول الرب إنه وقف من بعيد بدون حتى أن يجـرؤ أن يرفع عينيه إلى فوق. ها أنت تراه يمتنع عن كل جسارة في الكلام كمـن ليس له حق في ذلك وهو مضروب بتأديبات الضمير، لأنه كان يخشى أن يراه حتى الله، بسبب إنه كان مهملاً في نواميسه ويسلك حياة الخلاعة والفجور. ها أنت ترى أيضا أنه یدین شقاء نفسه بواسطة تصرفه الخارجي، لأنه بينما وقف الفريسي الأحمق متجاسرا ومنتفخا ورافعا عينيه بلا تردد وهو يشهد لنفـسه ويتباهى، أما الآخر فكان يشعر بالخزي بسبب سلوكه، ويخـاف مـن ديـانـه ويقرع صدره ويعترف بخطاياه، وكأنه يظهر مرضه للطبيب ويتوسل طالبـا الرحمة، ماذا كانت النتيجة؟ لنسمع ما يقوله الديان: ” هذا نزل إلى بيته مبررا دون ذلك “.
لذلك فلنصل بلا انقطاع بحسب تعبير بولس الطوباوي (1تس 17:5)، ولكـن لنحرص على أن نعمل ذلك بطريقة صحيحة. إن محبة الذات لا ترضي الله، وهو يرفض الكبرياء الفارغة والنظرة المتشامخة والانتفاخ، بسب الأمور التي لا قيمة لها، بل حتى ولو كان الإنسان صالحا ومتزنا فلا ينبغي أن يسقط فـي كبرياء مخجلة، بل بالأحرى فليتذكر المسيح الذي يقول لرسله القديسين: ” متى فعلتم كل ما أمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون لأننا إنما عملنا ما كـان يـجـب علينا ” (لو 17: 10). لأننا مديونون الله فوق الكل بالضرورة أن نخدمـه كعبيـد وبطاعة مستعدة في كل الأمور. ورغم أنك تعيش حياة فائقة وممتازة فلا يجب أن تسأل من الرب أجرة بل بالحري أن تطلب منه عطية، وهو لكونه صالحا سوف يعطيك، وكأب محب سوف يساعدك، لذلك لا تمتنع عن أن تقول: اللهم ارحمني أنا الخاطئ، وتذكر من يقول على فم إشعياء: “أظهر خطايـاك أولا لكي تتبرر” (إش 43: 26 س)، وتذكر أيضا إنه ينتهر من لا يفعلون هكذا، ويقول: “هاأنذا أحاكمك لأنك قلت لم أخطئ ” (إر 2: 35 )، افحص كلمات القديسين، لأن أحدهم يقول: ” البار يلوم نفسه في بداية كلامه” (أم 17:18 س)، وآخـر يقـول: “قلت اعترف للرب بإثمي وأنت غفرت لي إثم قلبي ” (مز 5:31 س).
فبماذا سوف يجيب عن هذا أولئك الذين يتبنون آراء نوفـاتوس الجديـدة ويقولون عن أنفسهم إنهم أنقياء؟ أية صلاة يمتدحون؟ هل صلاة الفريسي الذي برأ نفسه أم صلاة العشار الذي أدان نفسه؟ فإن قالوا إنها صـلاة الفريسي، فإنهم يقاومون الحكم الإلهي لأن (الفريسي) قد أدين كمتكبر. ولكـن إن قـالوا إنها صلاة العشار، فلماذا يرفضون الاعتراف بعـدم نقـاوتهم؟ إن الله يبـرر بالتأكيد من يعرفون تعدياتهم جيدا وهم مستعدون للاعتراف بها، أمـا أولئـك الناس (النوفاتيون) فسيكون لهم نصيب الفريسي.
لذلك نقول: “إننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا” (يع 3: 2) ولا يوجد أحد خال من دنس حتى ولو كانت حياته يوما واحدا على الأرض. إذن لنسأل الرحمـة من الله، فإن فعلنا ذلك فإن المسيح سوف يبررنا، هذا الذي به ومعـه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.
عظة 121 الرب يسوع يبارك الأطفال (لوقا18: 15-17):
فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ الأَطْفَالَ أَيْضًا لِيَلْمِسَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمُ التَّلاَمِيذُ انْتَهَرُوهُمْ. أَمَّا يَسُوعُ فَدَعَاهُمْ وَقَالَ:«دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ».
يدبر لنا المسيح كل أساليب النفع، ويفتح لنا طرق الخلاص على مصاريعها، لأن هدفه هو أن يخلص سكان الأرض ويولد فيهم معرفة مـساعي التقـوى، ويجعلهـم ماهرين في كل فضيلة، لكي بامتلائهم بكل ثمر الروح يكونون مقبولين. لذلك فلنر أية منفعة يولدها فينا بما قرئ علينا للتو، لأنكم قد سمعتم الإنجيلي المقدس يقـول إنهـم قدموا إليه أطفالاً ليلمسهم، وعندما منعهم التلاميذ، أخذهم وقال: دعوهم يأتون إلى ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله.
إن أمهاتهم هن اللاتي قدمن الأطفال طالبين بركة ملتمسين لمـسـة يـده المقدسـة لأطفالهن. أما التلاميذ المباركين فقد انتهروهن على فعلتهن هذه، ليس لأنهم غـاروا من الأولاد بل بالأحرى فعلوا هذا على سبيل الاحترام الواجب لمعلمهـم، وإن جـاز القول، لكي يجنبوه أتعابا غير ضرورية، معطين للنظام اهتماما كبيرا
والأطفال إلى الآن يقربون ويباركون من المسيح عن طريق الأيـادي المكرسـة، ونموذج هذا الفعل لا يزال مستمرا إلى هذا اليوم، وقد انحدر إلينا من عادة المسيح كينبوع لهذه البركة. ولكن لا يتم تقديم الأطفال بطريقة غير لائقـة أو مـشوشة بـل بترتيب ووقار ومخافة[1].
وبما أن المسيح قال: “دعوا الأولاد يأتون إلى ولا تمنعـوهم لأن لمثـل هـؤلاء ملكوت الله”، فتعالوا، نعم تعالوا لنفحص بعناية أي نوع من الأشخاص يلزم أن يكون أولئك الذين يريدون الحياة الأبدية والذين هم مغرمون بملكوت السموات، لأنه يوجـد بكل تأكيد من يقول: أي شيء يوجد في الأطفال مما هو جدير بالإقتـداء؟ هـل هـو عجزهم عن الحزم والذكاء؟ كيف يكون أمرا مصدقا أن نؤكد أو نتخيل شيئا من هـذا القبيل؟ ومع ذلك فالمسيح لا يريدنا أن نكون بلا فهم بل يريدنا أن نعـرف بـصورة كاملة كل شيء نافع وضروري لخلاصنا. لأن الحكمة أيضا تعد أنها سوف تعطـي البسطاء ذكاء وللشبان بدء المعرفة والفهم (أم 4:1 س). ونحن نجدها أيضا فـي سـفر الأمثال كمن ترفع صوتها عاليا وتقول: “لكم أيها الناس أنادي، وأنطق بصوتي لبني البشر، أيها الحمقى تعلموا ذكاء، ويا جهال ضعوا قلبا في داخلكم” (أم 4:8 و5 س). إذن يترتب على ذلك أن الجاهل ليس له قلب، كما ينقصه الذكاء، وذلك ليس في الأشياء التي تستوجب اللوم بل في الأمور التي تستحق المديح. لكن المخلص يشرح لنا فـي موضع آخر كيف يمكن للإنسان أن يكون بسيطا وذكيا بأن واحـد. وذلـك بقولـه: “كونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام” (مت 16:10)، ويكتب أيضا بالمثـل بـولس المبارك: “أيها الإخوة لا تكونوا أولادا في أذهانكم بل كونوا أولادا في الشر وأما في الأذهان فكونوا كاملين” (1کو 14: 20).
ولكن من الضروري أن نفحص ما معنى أن نكون أطفالاً في الشر، وكيف يصير الإنسان هكذا، أما في ذهنه فيكون كاملاً. فالطفل بسبب أنه يعرف القليل جـذا أو لا يعرف أي شيء مطلقا، يعفي بعدل من تهمة الانحراف والشر. هكذا أيضا من واجبنا أن نسعى للتمثل بهم بنفس الطريقة، بأن نطرح عنا تماما عادات الشر، لكـي تعتبـر كأناس لا يعرفون حتى الطريق المؤدي للخداع، بل كمن لا يعرفون الخبث والاحتيال، وهكذا يعيشون بأسلوب بسيط وبريء، ويمارسون اللطف والاتضاع الفائق الثمن، كما يمتنعون بسهولة عن الغضب والحقد. ونحن نؤكد أن هذه الصفات هي التي توجد في أولئك الذين لا يزالون أطفالاً.
لانه بينما تكون صفاتنا هكذا في البساطة والبراءة فإنه ينبغي أن نكون كاملين في الذهن، فيكون لنا ذهن مؤسس بثبات في المعرفة الواضحة للذي هو بالطبيعة وبالحق خالق الكون وهو الإله والرب، ولا نعترف بأي إله آخر معه أيا كان جديـذا أو مـا يسمى هكذا كذبا، ونتحاشي ما يجلب علينا الهلاك بانخداعنا بالابتعاد عنـه، بتبنينـا لعادات الوثنيين، لذلك يلزم أن يكون ذهننا ثابتا بقوة وواثقا وغير متزعزع في تمسكه بالإله الحي الحقيقي، ويلزمنا أيضا أن نهرب من الشراك الأخرى و نبتعد عن أحجار العثرة التي يضعها إبليس، وأعني بها أولئك الناس الذين يفسدون التعليم المستقيم عن الله ويزيفون الحق ويرفعون قرنهم عاليا ويتكلمون بالشر ضد الله. إنهم يتقيأون أفكارا من داخل قلوبهم، ويضلون نفوس البسطاء، ويحاربون ضد مجـد ابـن الله الوحيـد، ويقولون إنه ينبغي أن يحصى ضمن المخلوقات، بينما هم جميعا قد جاءوا إلى الوجود بواسطته. هؤلاء يجلبون على رؤوسهم دينونة صارمة وحتمية، ولا يخشون أن يقولوا نفس هذه الأشياء أيضا ضد الروح القدس، لذلك فأيما شخص يقول عنهم إنهم أبـواب جهنم لا يجانبه الصواب. والحكيم بولس يؤكد لنا أيضا أننا ينبغي أن نعرض عن مثل هؤلاء الناس بعيدا قائلاً: ” إن كان أحد يبشركم بغير ما قبلتم فليكن أناثيما ” (غل 9:1). لذلك فالكمال الرئيسي للذهن هو أن يترسخ في الإيمان، وأن يكون فهمنـا غيـر فاسد، والكمال الثاني الذي يجاور هذا الكمال الرئيسي ومماثل له بل ورفيقه الدائم هو المعرفة الواضحة لطريق السلوك الذي يرضي الله والذي نتعلمه من الإنجيل، والـذي هو كامل وبلا لوم، فأولئك الذين يسيرون في هذا الطريق يعيشون حيـاة البـساطة والبراءة كما أنهم يعرفون أية آراء ينبغي أن يتمسكوا بها، وأية أفعال صائبة ينبغـي عليهم أن يفعلوها هؤلاء يدخلون من الباب الضيق، ولا يرفضون تلك الأتعاب التـي تتطلبها التقوى نحو الله، ولا تلك الأتعاب الضرورية لأن يحيوا حياة مجيدة. وهكـذا فإنهم يتقدمون كما يجب إلى اتساع الفيض الذي هو نحـو الله ويبتهجـون بعطايـاه ويربحون لأنفسهم ملكوت السموات؛ بالمسيح الذي به ومعه لله الآب يليـق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمین.
عظة 122 ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ (لو18: 18 – 27)
وَسَأَلَهُ رَئِيسٌ قِائِلاً:«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ». فَقَالَ:«هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي». فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ ذلِكَ قَالَ لَهُ:«يُعْوِزُكَ أَيْضًا شَيْءٌ: بعْ كُلَّ مَا لَكَ وَوَزِّعْ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي». فَلَمَّا سَمِعَ ذلِكَ حَزِنَ، لأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا جِدًّا. فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ قَدْ حَزِنَ، قَالَ:«مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ! لأَنَّ دُخُولَ جَمَل مِنْ ثَقْبِإِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!». فَقَالَ الَّذِينَ سَمِعُوا: «فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» فَقَالَ:«غَيْرُ الْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ».
الذين يؤمنون أن الكلمة الذي أشرق من جوهر الله الآب نفسه هـو الله بالطبيعـة وبالحق؛ فإنهم يقتربون إليه كما إلى إله كلي المعرفة، وهو كما يقول المرتم: “فاحص القلوب والكلي” (مز 7: 9) ويرى كل ما يجري في داخلنـا لأن كـل شـيء عريـان ومكشوف أمام عينيه (عـب 4: 13) بحسب تعبير بولس الطوباوي. ولكننا لا نجد جموع اليهود يميلون إلى هذا لأنهم مع رؤسائهم ومعلميهم كانوا في ضلال، ولم يروا بعيون أذهانهم مجد المسيح بل نظروا إليه بالحري كواحد مثلنا أقصد كمجرد إنسان ولـيـس بالحري الله الذي قد صار إنسانا، لذلك فإنهم تقدموا إليه ليجربوه وينصبوا له فخـاخ مكرهم وهذا يمكنكم أن تتعلموه مما قد قرئ الآن. لأنه يقول: ” وسأله رئيس قائلاً: أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال له يسوع لمــاذا تـدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله . والآن فذلك الذي يدعى هنا رئيس والذي تخيل في نفسه إنه عالم بالناموس، والذي افترض أنه قد تعلمه بدقة، تخيل أنه يستطيع أن يتهم المسيح باحتقار الوصية التي نطق بها موسى الحكيم جدا، وبأنه يدخل شرائع أخرى من عنده لأن هدف اليهود كان أن يثبتوا أن المسيح عارض وقـاوم الوصـايا السابقة بقصد أن يؤسس ـ كما قلت ـ وصايا جديدة بسلطانه الخاص تتعارض مـع تلك الوصايا الموجودة سابقا، حتى يكون لمعاملتهم الشريرة نحوه حجة خادعة. لذلك تقدم (الرئيس) وتظاهر بالتكلم بلطف لأنه دعاه معلما ونعته بالصالح، فأفصح عـن رغبته في أن يكون تلميذا، إذ يقول: ” ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية “. لاحظوا كيف أنه خلط التملق مع الغش والخداع كمن يخلط المر مع العسل، لأنه ظـن أنـه بهـذه الطريقة يمكنه أن يخدعه. وعن مثل هؤلاء الناس قال واحد من الأنبيـاء القديسين: “لسانهم رمح نافذ، كلمات أفواههم غاشة، يكلم صاحبه بسلام، لكن توجد عداوة فـي نفسه (إر 9: 8 س). وعلى هذا النحو أيضا يتكلم عنهم المرنم الحكيم ويقـول: “فمهـم مملوء لعنة ومرارة ” (مز 7:10 س)، وأيضا: “كلماتهم ألين من الزيت وهـي سـيـوف مسلولة” (مز 21:55).
لذلك تملق الرئيس يسوع وحاول أن يخدعه فتظاهر أنه يتخذ موقفا متعاطفا معه، ولكن بماذا أجاب العالم بكل شيء وهو كما هو مكتوب: “الأخذ الحكمـاء بمكـرهم” (أي 13:5)، “لماذا تدعوني صالحًا، ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله”. ها أنت ترى کیف برهن المسيح أن ذلك الرجل ليس حكيما ولا متعلما رغم أنه رئيس مجمع اليهود وكأنه يقول له: ” إن كنت لا تؤمن أنني أنا الله ورداء الجسد قد جعلك تضل، فلمـاذا تدعوني بأوصاف تليق فقط بالطبيعة الفائقة (الإلهية) وحدها، بينمـا أنـت لا تـزال تفترض أنني مجرد إنسان مثلك ولست فائقا على حدود الطبيعة البشرية؟” فإن صـفة الصلاح بالطبيعة توجد في الطبيعة التي تفوق الكل، أي في الله فقط وهو (الصلاح) الذي لا يتغير؛ أما الملائكة ونحن الأرضيون فنكون صالحين بمشابهتنا له أو بالحري باشتراكنا فيه. فهو الكائن الذي يكون، وهذا هو اسمه (انظر خر 14:3 و15) وذكره الدائم إلى كل الدهور؛ أما نحن فإننا نوجد ونأتي إلى الوجود بأن نصير مشتركين في مـن هو كائن حقا، لذلك هو صالح حقا أو هو الصلاح المطلق، أما الملائكة والبشر ـ كما قلت -هم صالحون فقط بصيرورتهم مشتركين في الإلـه الـصـالح لـذلك فلنضع الصل اح على أنه الصفة الخاصة بالله وحده الذي فوق الكل. وهو متصل جوهريـا بطبيعته وهو صفته الخاصة. وكأنه يقول له: ” فإن كنت لا أبدو لك أننـي الله حقـا، فأنت قد نسبت إلى عن جهل وحماقة الخصائص والفضائل التي للطبيعة الإلهية، فـي نفس الوقت الذي تتخيل إنني مجرد إنسان أي من لم يلبس الصلاح أبـدا، ولا صـفة الطبيعة غير المتغيرة، بل يحصل على الصلاح فقط بموافقـة الإرادة الإلهيـة “. إذن فهذا هو مغزى ما قاله المسيح.
لكن ربما لا يوافق على صحة هذا الشرح أولئك الذين فسدت أذهانهم بمشاركتهم لشر آریوس، لأنهم يجعلون الابن أقل من الله الآب في السمو والمجد، أو بالأحرى هم يجادلون بأنه ليس هو الابن، لأنهم لفظوه عن أن يكون إلها بالحق وبالطبيعة، بـل واستبعدوه عن أن يكون قد ولد حقا، لئلا يؤمن الناس أنه مساوي حقا في الجوهر لمن ولده، لأنهم يؤكدون ـ كما لو أنهم حصلوا على مبرر لتجـديفهم ـ مـن الفقـرة الموجودة أمامنا الآن فيقولون: ها هو قد أنكر بوضوح وبصريح العبارة أنه صالح، وأفرز الصلاح جانبا على أنه خاص بالله الآب فقط، ولكن مادام (الابن) هو بـالحق مساو للآب في الجوهر وقد خرج منه بالطبيعة، فكيف لا يكون هو أيضا صـالحا إذ هو الله؟ إذا فلتكن هذه إجابتنا على الذين يقاوموننا، حيث إن كل تفكير صحيح ودقيق إنما يعترف أن الابن له نفس جوهر أبيه، فكيف لا يكون صالحا وهو إلـه؟ إذ لا يمكن إلا أن يكون إلها مادام له نفس الجوهر مع من هـو بالطبيعـة الله. لأنهـم بالتأكيد، مهما كانت الجسارة التي سقطوا فيها شديدة فلن يقدروا أن يثبتوا أنه من أب صالح خرج ابن غير صالح. وعندنا على هذا شهادة المخلص نفسه الذي قـال: “لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارا ردية” (مت 18:7). فكيف يخرج نبت رديء من جذر صالح، أو كيف يمكن أن يتدفق نهر مر من نبع عذب؟ هل كان هناك أبدا وقت ما لم يكن فيه الآب موجودا بينما نحن نعرف إنه هو الآب الأزلي؟ وهو أب لأنه قد ولـد، ولهذا السبب فهو يحمل هذا الاسم (آب)، وهو لم يحمل هذا الاسم مثل من يستعير هذا اللقب بتشبهه بشخص آخر، لأن منه تسمى كل أبوة في السماء وعلى الأرض (انظر أف 15:3). لذلك فنحن نخلص إلى أن ثمرة الإله الصالح هي الابن الصالح. وبطريقة أخرى، كما يقول بولس الحكيم جدا: ” هو صورة الله غير المنظور” (كو 15:1)، وهو الصورة لأنه يظهر في طبيعته الخاصة جمال ذاك الذي ولـده، فكيـف يمكننا إذن أن نرى في الابن ـ إن كان غير صالح ـ الآب الذي هو صالح بالطبيعة وبالحق؟ إن الابن هو بهاء مجد الآب ومثال شخصه (انظر عب 3:1)، ولكن لو لم يكـن صالحا، كما يقول الهراطقة العديمو الفهم، بينما الآب هو صالح بالطبيعـة فـسيكون البهاء في طبيعته، ولن يملك جلال ذلك الذي جعله يضيء. كذلك الشبه أيـضـا سوف يكون مزيفا أو بالأحرى لا يوجد شبه على الإطلاق، لأنه لن يمثل من هو على شبهه ويترتب على هذا أن ما ليس هو صالحا يكون مضادا لما هو صالح. يمكنني أن أقول الكثير ضد (الهراطقة) في هذه النقطة، ولكن لكي لا يمتد حـديثنا بطريقة غير معقولة، ولا يكون عبئا على أحد، فلن نقول المزيد في الوقت الحاضـر ونمسك كما بلجام حميتنا في هذا الموضوع، لكن في لقائنا القادم سوف نكمل شـرحنا لمعنى هذه الفقرة من الإنجيل إن شاء المسيح أن يجمعنا هنا سويا مرة أخرى، هـذا الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين. آمين. مختلفاً
عظة 123 كيف يخلص الغني؟
أراكم وقد اجتمعتم هنا باجتهاد وغيرة عظيمين، وكما أظن فإنكم قد جئـتم لتطلبوا لكي تأخذوا ما هو لكم. وأنا من جهتي اعترف أننـي وعـنـت فـي اجتماعنا الأخير أن أستكمل ما كان ناقصا في حديثي؛ وأنا قد أتيت لأوفي ما علي كما لأولادي، متوسلا إلى المسيح مخلصنا جميعا أن يمنح نوره الإلهـي لذهني ويعطي نطقا للساني لكي ما انتفع أنا وأنتم معا. لأن بولس كتب يقول: ” يجب أن الحراث الذي يتعب يأكل هو أولا من الأثمار” (2تي 2: 6).
لذلك دعوني أولا أن أذكركم بكل ما سبق أن تأملنا فيه، وبعد ذلـك نتقـدم لنكمل ما تبقى.
فقد قال الإنجيلي الطوباوي: ” وسأله رئيس قائلاً أيها المعلم للصالح مـاذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال له لماذا تدعوني صالحا ليس أحد صـالحا إلا واحد هو الله “، وهكذا إلى ما تبقى من الدرس. لقد سبق لنا أن شرحنا معنـى هذه الفقرة في الإنجيل، وقيل لكم ما فيه الكفاية حول تلك النقطة، لأننا أوضحنا أن الابن صالح بالطبيعة وبالحق مثل ذاك الذي ولده؛ وأن الجـواب: “لمـاذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد هو الله “، قيل بشكل نسبي للسائل. لذلك هيا بنا لنفحص الآيات التي تلي ذلك من الإنجيل.
إذن، ماذا يقول رئيس مجمع اليهود؟ ” ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟” إنه لا يسأل بقصد أن يتعلم، وإلا لكان سؤاله جديرا بكل ثناء، ولكن قصده هو أن يبرهن أن المسيح لم يسمح لهم أن يحتفظوا بوصايا موسى، بل بالأحرى قـاد تلاميذه وأتباعه إلى قوانين جديدة اشترعها من نفسه، لأن رؤساء اليهود بهـذا الإدعاء علموا الشعب الذي تحت سلطانهم قائلين عن المسيح مخلصنا كلنـا: ” به شیطان وهو يهذي، لماذا تستمعون له؟” (يو 10: 20)، لأنهم قـالوا إن بـه شيطان وهو يهذي، بافتراض أنه أقام شرائعه الخاصة ضد تلك التي أعطيـت لهم من فوق من الله (بواسطة موسى). وبالحري ينبغي أن نؤكد أنهم هم الذين كان بهم شيطان وكانوا يهذون بشدة، لأنهم يقاومون رب الناموس، الذي جـاء لا لكي ينقض الوصية التي أعطيت في القديم، بواسطة خدمة موسى، بل لكي يتممها، بحسب كلماته هو نفسه (مت 37:5)، لأنه حول الظل إلى حقيقة.
توقع رئيس المجمع أن يسمع المسيح كأنه يقول: ” كف، أيها الإنسان عـن كتابات موسى، تخلى عن الظل، إنها كانت مجرد مثالات وليس أكثر، اقترب بالأحرى من وصاياي التي في الإنجيل”. لكنه لم يجبه هكذا، لأنه ميز بمعرفته الإلهية هدف ذلك الذي يجربه، ولكن لأنه ليس عنده وصايا أخرى سوى التي أعطيت بواسطة موسى، فإنه وجه الرجل إليها قائلاً لـه: “أنـت تـعـرف الوصايا “. ولئلا يقول الرئيس إن المسيح حوله إلى وصاياه الخاصة، عدد لـه هو تلك الوصايا التي في الناموس وقال له: لا تقتل، لا تزن، لا تشهد بالزور. وما هو الجواب الذي أجاب به هذا المخادع الماكر ومدبر المكائد، أو بالأحرى هذا الشخص الجاهل جدا والأحمق؟ لأنه ظن أنه حتى ولو كان الذي يسأله . الله، فإنه يمكنه مع ذلك أن يتملقه بسهولة ليجيب بحسب رغبته، لكن كمـا يقـول الكتاب المقدس: “الإنسان المخادع لا يربح ” (انظر أم 12: 27 س).
ورغم أنه صوب سهمه بعيدا عن هدفه وفقد فريسته، لكنه تجاسر على أن ينصب له فخا آخر، لأنه قال: هذه كلها حفظتها منذ حداثتي. لذلك فهو يستحق أن يسمع منا هذا الجواب: أيها الفريسي الأحمق: “أنت تشهد لنفسك. شهادتك لیست حقا” (يو 13:8)، ولكن لنترك الآن هذا الجدل، ولنر بأية طريقـة صـدّ المسيح عدوه اللدود والخبيث. فبينما كان يمكنه أن يقول: “طوبي للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات، طوبى للودعاء، طـوبى لأنقيـاء القلـب” (مت 5: 3-8) فإنه لم يقل له شيئا من هذا القبيل، لكن لأن الفريسي كـان محبـا للمال وكان غنيا جدا، فقد انتقل المسيح في الحال لما سوف يحزنه وقال لـه: “بع كل ما لك ووزع على الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعنـي”. كان هذا (الكلام) مصدر عذاب وألم لقلب ذلك الإنسان الجـشـع الـذي كـان يتباهى بنفسه بسبب حفظه للناموس، وهذا برهن على أنه هش وضعيف أيضا وهو عموما غير مستعد لتقبل رسالة الإنجيل الجديدة. ونحن أيضا نتعلم كم هو حق ما قاله المسيح: “لا يجعلون خمرا جديدة في زقاق عتيقة، لـئلا تنـشق الزقاق فالخمر تنصب والزقاق تتلف، بل يجعلون خمرا جديــدة فـي زقـاق جديدة” (مت 17:9)، لأن رئيس المجمع برهن أنه ليس سوى زق عتيق لا يمكنه أن يحفظ الخمر الجديد، بل ينشق ويصير عديم الفائدة، ذلك لأنه حزن مع أنه نال درسا كان يمكن أن يجعله يربح الحياة الأبدية.
أما أولئك الذين قبلوا في داخلهم، بالإيمان، ذلك الذي يجعل كـل الأشـياء جديدة، أي المسيح، فإنهم لا ينشقون إلى نصفين بنوالهم الخمر الجديدة منـه. لأنهم حينما اقتبلوا منه رسالة الإنجيل التي تبهج قلب الإنسان، ارتفعوا فـوق الغني ومحبة المال، وتوطد ذهنهم في الشجاعة، ولم يقيمـوا وزنـا للأشـياء الوقتية بل بالأحرى عطشوا إلى الأمور الأبدية، وأكرموا الفقـر الاختيـاري، وكانوا مجتهدين في محبتهم للإخوة. لأنه كما هو مكتوب في أعمال الرسـل القديسين: “لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها عند أرجل الرسل، فكان يوزع على كل أحد كمـا يكون له احتياج” (اع 34:4 و35).
أما رئيس المجمع فلأنه كان ضعيفا جدا في عزمه، ولم يستطع أن يـذعن لسماع نصيحة بيع مقتنياته، رغم أنها كانت ستكون لخيره ولها مكافئة جزيلة، فإن ربنا كشف المرض الذي كان يربض داخل قلب الرجل الغنى وقـال: “ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جمل من ثقب أبره أيسر من دخول غني إلى ملكوت الله”. ولا يقصد المسيح بالجمل هنا ذلك الحيوان، إنما ذلك الحبل الغليظ، لأنها كانت عادة أولئك المتمرسون أن يسموا الحبل الغليظ جملاً.
لكن لاحظوا أنه لم يقطع تماما رجاء الأغنياء بل حفظ لهم موضعا وطريقاً للخلاص، لأنه لم يقل إنه يستحيل على الغني أن يدخل بل قال إنه يمكنه إنمـا بصعوبة.
عندما سمع التلاميذ الطوباويون هذه الكلمات اعترضوا قائلين: فمن يستطيع أن يخلص؟ وكان احتجاجهم لصالح أولئك الذين لهم أموال ومقتنيات، لأنهـم (التلاميذ) كانوا يقولون: إننا نعرف أن لا أحد سيقتنع بأن يتخلى عن ثروتـه وغناه، فمن يستطيع أن يخلص؟ لكن بماذا أجاب الرب؟ ” غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله”. لذلك فقد احتفظ لأولئـك الـذين يقتنـون ثـروات، بالإمكانية أن يحسبوا مستحقين لملكوت الله لو أرادوا، لأنه حتى ولـو كـانوا يرفضون كلية التخلي عما هو لهم، لكن يمكنهم أن يبلغوا تلك الكرامة بطريقة أخرى. والمخلص نفسه أظهر لنا كيف وبأي طريقة يمكن أن يحدث هـذا إذ قال: “اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلـونكم فـي المظـال الأبدية” (لو 9:16). لأنه لا يوجد شيء يمنع الأغنيـاء لـو أرادوا أن يجعلـوا الفقراء شركاء ومقاسمين لهم في الغنى الوافر الذي يمتلكوه. ما الذي يعيق من له مقتنيات وافرة من أن يكون لطيف المعشر ومستعد أن يوزع على الآخرين مسرعا إلى العطاء، وأن يكون رؤوفا وممتلئا بتلك الشفقة الكريمة التي ترضي الله. إننا سوف نجد أن الحرص على تتميم هذا العمل ليس هو بلا مكافأة ولا عديم النفع، لأنه مكتوب: ” الرحمة تفتخر على الحكم” (يع 13:2). لذلك فإن مخلصنا وربنا كلنا، يهبنا ما يفيدنا بكل حجة وبكل طريقة، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين. آمين.
عظة 124 ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك (لو18: 28-30)
“فَقَالَ بُطْرُسُ:«هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ». فَقَالَ لَهُمُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتًا أَوْ وَالِدَيْنِ أَوْ إِخْوَةً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا مِنْ أَجْلِ مَلَكُوتِ اللهِ، إِلاَّ وَيَأْخُذُ فِي هذَا الزَّمَانِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ».
ذلك الذي هو ينبوع التعاليم المقدسة يجعل هنا أيضا نهرا صحيا يتتفق لنا، كمـا يبدو أن المناسبة نفسها تدعونا أن نقول لمن يفحصون الكلمات الإلهية: “أيها العطاش هلموا إلى المياه” (إش 1:55)، فقد وضع أمامكم أن تشتركوا في نهر البهجة الذي هـو المسيح، لأن داود النبي ذكره بهذا الاسم فقال الله الآب الذي في السماء: “فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون يروون من دسم بيتك ومن نهر بهجتك تسقيهم” (مز 8:35 س).
أما ما هو هذا النهر الذي يتتفق إلينا منه، فهذا هو ما تعلمه لنا بوضوح الـدروس الإنجيلية الموضوعة أمامنا الآن: (إذ يقول الإنجيل) “فقال بطرس ها نحن قد تركنـا كل شيء وتبعناك”؛ ويضيف متى الإنجيلي: “فماذا يكون لنا ؟” (مت 11: 27). لكن قبـل أن ننتقل إلى أي من النقاط الأخرى، لنسأل أولاً عن المناسبة التي أوصلت إلى هـذا الموضوع الحالي. لذلك، حينما قال المسيح مخلصنا كلنا لأحد رؤساء مجامع اليهود: “اذهب بع كل ما لك ووزع على الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعنـي”، سأله التلاميذ: ماذا سينالون من الله (أولئك) الذين حفظوا هذه الوصية، ولأجل منفعـة الآخرين فلقد وضع التلاميذ على أنفسهم توضيح حدود هذا الأمر. لكن ـ بحسب مـا أتخيل ـ ربما يجيب البعض عن هذا: ما هو الذي تخلى عنه التلاميذ عموما لأنهـم كانوا أشخاصا يكسبون ضروريات الحياة بعرقهم وكدهم، ولأن صناعتهم كانت صيد السمك، فهم يمتلكون على الأكثر قاربا وشباكا. ولم يكن لهـم بيـوت جميلـة أو أي مقتنيات أخرى، لذلك فما الذي تركوه أو عوضا عن أي شيء يسألون مـن المـسيح مكافأة؟ بماذا نجيب عن هذا؟ لأجل هذا السبب بالذات يسألون هذا السؤال الضروري جدا، لأنه بقدر ما كانوا لا يمتلكون شيئا سوى ما هو زهيد وتافه القيمة، فإنهم سوف يعرفون الطريقة التي بها يجازي الله ويبهج بعطاياه أولئك الذين لم يتركوا سوى القليل لأجل ملكوت الله راغبين أن يحسبوا جديرين بملكوت السموات لأجل محبـتهم لـه. فالرجل الغني لكونه قد تخلى عن الكثير فإنه يتوقع مكافأة عن ثقة، لكن الذي لا يملك سوى القليل وقد تخلى عنه، هل كان يحق له أن يسأل أية آمال سيمني نفسه بـهـا؟ لأجل هذا السبب فالتلاميذ كممثلين لمن هم في حالة شبيهة بهم، من جهـة أنـهـم لـم يتركوا سوى القليل قالوا: ” هانحن قد تركنا كل شيء وتبعناك”.
كما يلزم أن نلاحظ هذا أيضا أنه لدى التأمل بطريقة صحيحة، فإننا نجد أن ألـم التخلي هو نفسه سواء أكان التخلي هو عن كثير أو عن قليل. هلموا كي نرى المغزى الحقيقي للأمر بمثال بسيط. لنفترض أنه كان على رجلين أن يقفـا عريانين، وفـي فعلهما هذا نزع الواحد منهما عن نفسه ثيابه الغالية الثمن، بينما الآخر خلع فقط مـا كان رخيصا وسهل الاقتناء، ألا يكون ألم التعري واحدا في الحالتين؟ هل يمكـن أن يكون هناك شك حول هذه النقطة؟ لذلك بقدر ما أن الأمر إنما يتعلق بالطاعة والنيـة الحسنة، يلزم أن يوضع هؤلاء الفقراء على قدم المساواة مع الأغنياء، الذين رغـم أن ظروفهم تختلف، لكن كان لهم استعداد متساوي وقبلوا برضا بيع كل ما لهم. كـذلك أيضا الحكيم جدا بولس الرسول تبنى قضيتهم عندما كتب هكذا: ” لأنه إن كان النشاط موجودا فهو مقبول على حسب ما للإنسان لا على حسب ما ليس له” (2کو 8: 12).
لذلك فإن تساؤل الرسل الأطهار لم يكن غير معقول. إذن ماذا قال لهـم المـسيح الذي لا يأخذ بالوجوه؟ ” الحق أقول لكم إن ليس أحد ترك بيوتا أو إخوة أو أولادا أو والدين من أجل ملكوت الله إلا ويأخذ في هذا الزمان أضعافا كثيرة وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية”. هذا إعلان يليق بالله، وقرار مقدس يستحق الإعجاب، بل لاحظوا كيف أنه رفع كل السامعين إلى رجاء أكيد، واعدا ليس فقط بملء العطية السخية التي تغدق على القديسين، بل أيضا مثبتا وعده بقسم، إذ بدأ إعلانه باستعمال كلمـة ” الحـق”، والتي، إن جاز القول، تؤدي دور القسم. وهو لم يكتف بأن ينال وعوده أولئك الـذين احتقروا المال، بل أيضا أولئك الذين تركوا أبا أو أما أو زوجة أو إخوة لأجل ملكوت الله، وقال إنهم سوف يأخذون أضعافا كثيرة في هذا الدهر، وفي الدهر الآتي الحيـاة الأبدية. أما كون أن أولئك الذين يعيشون حياة فاضلة ينالون بالضرورة الحياة الأبدية، فهذا أمر ليس فيه أي شك على الإطلاق. لكن يوجد أولا سؤال ضروري بخصوص من هم الذين تركوا أبا وأما وزوجة وإخوة وبيوتا. وثانيا أيضا يجـب أن نفحـص فحصا دقيقا ما هي الطريقة التي سوف ينال بها من يفعلون هذا، أضعافا كثيرة فـي هذا العالم.
يترك بعض الناس الأب والأم والزوجة والإخوة وكثيرا مـا يعتبرون العاطفـة الطبيعية التي توجبها روابط القرابة كلا شيء لأجل محبة المسيح، والمسيح يعلمنا بأية طريقة يفعلون هذا بقوله مرة: “من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابنا أو ابنه أكثر مني فلا يستحقني” (مت 10: 37)، كما قال في مرة أخرى: ” لا تظنـوا إني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنه ضد حماتها ” (مت 34:10 و 35).
أن رسالة الإنجيل الإلهية عندما تصطاد العالم كله كأنه في شبكة؛ إلى الإيمان بـه وترفعه إلى نور معرفة الله، فيوجد هناك من يدخلون بسرعة، ولكن البعض يقاسـون من خزي مهين إذ يكونون خائفين سواء من آبائهم أو من أمهاتهم، ويعطون اعتبـارا عظيما لغضبهم أو حزنهم، لأنه إن كان هؤلاء الوالدون غير مؤمنين، فلـن يوافقـوا على أن أولادهم أو بناتهم يسلمون ذواتهم لخدمة المسيح، ويتخلون عن الضلال الذي تربوا عليه والذي صار أمرا اعتياديا بالنسبة لهم (أي عبادة الأوثان). وأحيانا عنـدما يكون الأبناء غير مؤمنين ويتخذون موقفا عدائيا (من المسيح) فإنه لا يكون لآبائهم الشجاعة لأن يغيظوهم بأن يسرعوا إلى الإيمان، ويمسكوا بالخلاص الذي بالمسيح. ويمكن أيضا أن يعطي نفس التفسير من جهة الإخوة مع الإخوة والكنه مـع حماتهـا والحماة مع كنتها. أما الأقوياء في الذهن الذين لا يفضلون شيئا على محبـة المـسيح فإنهم يمسكون بالإيمان بغيرة ويحاولون باجتهاد أن يدخلوا إلى بيت الله مـن خـلال العلاقة الروحية، ولا يعيرون انتباها للحروب أو بالأحرى الانقسامات التـي سـوف تترتب على إيمانهم، مع أقربائهم حسب الجسد، وبهذه الطريقة يترك بعـض النـاس البيت والأقرباء لأجل المسيح لكي يربحوا اسمه (انظر مت 19: 29) ويدعوا مسيحيين، أو بالأحرى لأجل مجده، لأن اسمه كثيرا ما يعني مجده.
وبعد ذلك دعونا نرى بأية طريقة ينال الذي يترك بيتا أو أبا أو أما أو إخـوة بـل وربما زوجته، أضعافا ك ا كثيرة في هذا الزمان الحاضر. هل هو سوف يـصير زوجـا لزوجات كثيرات أم سوف يجد على الأرض آباء كثيرين بدلاً من أب واحـد وهكـذا يتضاعف عدد أقربائه الأرضيين؟ ليس هذا هو ما يقوله، بل بالأحرى هو أنه بالتخلي عن هذه الأشياء الزمنية والجسدية فإنه سوف ينال ما هو أعظم جدا فـي قيمتـه، أي سوف ينال أضعاف المرات ما صرف النظر عنه. ولنأخذ من فضلكم الرسل الأطهار كأمثلة لنا، فنقول عنهم إنهم كانوا أشخاصا غير متميزين بحسب المركز الدنيوي، ولم تكن لهم مهارة في الفصاحة وفي الإلقاء، وليس لهم لسان بليغ ولا كلمات فخمة بـل بالعكس كانوا غير مدربين على الكلام وبحسب المهنة كانوا صيادي سمك، وكانوا يقتاتون من تعبهم. لكن كل ما كان لهم قد تركوه كي يكونوا ملازمين للمسيح دائمـا وخداما له ولم يستطع أي عائق أن يعيقهم أو يجتذبهم بعيدا في انشغالات أخـرى أو مطالب دنيوية. وإن كانوا قد تركوا كل شيء، فما الذي ربحوه؟ نعم لقد امتلئوا مـن الروح القدس، ونالوا سلطانا على الأرواح النجسة ليخرجوها وصنعوا معجزات، حتى إن ظل بطرس كان يشفي المرضى، وصاروا بارزين بين الناس فـي كـل مكـان متقدمين في المجد، وجديرين بالاقتداء (بهم)، وصاروا مشهورين وهم أحياء، وكذلك فيما بعد (انتقالهم)، لأنه من هو الذي لا يعرف أولئك الذين علموا العالم سر المسيح؟ من لا يعجب من إكليل المجد الذي وهب لهم؟
لكن ربما تقول: ” هل يلزم أن نصير كلنا مثلهم؟ على هذا السؤال نجيب أن كـل واحد منا أيضا نحن الذين آمنا بالمسيح وأحببنا اسمه، إن كنا قد تركنـا بيــا نـال المنازل التي فوق وإن كنا قد تركنا أبا فسوف نربح ذلك الآب الذي في السموات. وإن كان أحد قد ترك من إخوته فسوف يقبله المسيح أخا له، وإن ترك زوجـة فـستكون الحكمة التي تنزل من فوق من عند الله هي رفيقته في البيت. لأنـه مـكـتـوب: “قـل للحكمة أنت أختي وأجعل الفهم صديقك” (أم 4:7 س)، وبواسطتها سوف تثمـر ثـمـارا روحية جميلة، وبواسطتها سوف تصير شريكا في رجاء القديسين وتنضم إلى رفقـة الملائكة. ومع أنك تركت أمك، فسوف تجد أما أخرى أروع بما لا يقاس، أي أورشليم العليا التي هي حرة وهي أمنا جميعا (غل 4: 26).
فكيف لا تكون هذه الأشياء مضاعفة جدا أكثر من تلك التي تركت، لأن تلك التي تركت هي مؤقتة . ساعة الزوال وتتلف بسهولة! لأنها كالندى وكالحلم هكذا تـزول. أما الذي يحسب أهل : هذه الأمور الأبدية فهو يصير لامعا حتى في هذا العـالم بـل ويغارون منه بسبب أنه يكون مزينا بالمجد أمام الله والناس. لذلك فإن هذه الأشياء هي مضاعفة جدا عن كل ما هو أرضي وجسدي. والـذي يعطيها لنا هو ربنا ومخلصنا جميعا الذي به ومعه الله الآب التسبيح والـسلطان مـع الروح القدس إلى أبد الآبدين. آمين.
عظة 125 يسوع ينبئ ثانية بموته وقيامته (لوقا 18: 31-34):
وَأَخَذَ الاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ:«هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَسَيَتِمُّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِالأَنْبِيَاءِ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ، لأَنَّهُ يُسَلَّمُ إِلَى الأُمَمِ، وَيُسْتَهْزَأُ بِهِ، وَيُشْتَمُ وَيُتْفَلُ عَلَيْهِ، وَيَجْلِدُونَهُ، وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ذلِكَ شَيْئًا، وَكَانَ هذَا الأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا قِيلَ.
تكلم النبي الطوباوي داود عن واحدة من تلك الأمور التي لهـا أهميـة عظمـى لمنفعتنا، خصوصا وأنها تشير إلى ما يحدث دائما بالنسبة لأذهان النـاس فيقـول: ” تهيات ولم أنزعج ” (مز 60:118 س). لأن كل ما يحدث على غير توقع، إذا ما كـان متسما بالخطورة، فإنه يعرض حتى أشجع الناس للاضطراب والانزعاج، وأحيانـا يصيبهم بمخاوف لا تحتمل. أما إذا كان قد ذكر قبل حدوثه، فإن وقعه يسهل تجنبـه، وهذا هو على ما أظن معنى ” تهيأت ولم أنزعج”.
لأجل هذا السبب، فإن الكتاب الموحى به من الله، يقول ـ بشكل مناسب جـدا لأولئك الذين سوف يبلغون للمجد بسلوكهم طريق القداسة هكذا: ” يا بني إذا تقـدمت لخدمة الرب أعدد نفسك للتجربة، ووجه قلبك واحتمل” (ابن سيراخ 1:2 و2). إن الكتـاب يتكلم هكذا لكي يعلم الناس أنهم بممارسة الصبر والاحتمال فإنهم سوف يتغلبون على التجارب التي تقابل كل من يعيشون بالتقوى، ويبرهنوا على تساميهم على كـل مـا يمكن أن يزعجهم. كذلك هنا أيضا، فإن مخلص الكل لكي يعد مسبقا أذهان التلاميذ فإنه يخبرهم بأنه سوف يعاني الآلام على الصليب والموت بالجسد بمجرد صعوده إلى أورشليم. وأضاف أيضا أنه سوف يقوم ثانية، ويمسح الألـم، ويزيـل خـزي الآلام بعظمة المعجزة، لأنه أمر مجيد ويليق بالله أن يكون قادرا على كسر رباطات الموت والعودة بسرعة إلى الحياة. لأن القيامة من الأموات بحسب تعبير الحكيم بـولس . تشهد له أنه الله وابن الله (رو 4:1).
لكن يلزمنا أن نشرح ما هي المنفعة التي نالها الرسل القديـسـون مـن مـعـرفتهم باقتراب تلك الأمور التي كانت على وشك الحدوث. إنه بهذه الوسيلة قطع مسبقا كـل الأفكار غير اللائقة وكل فرص العثرة. سوف تسألون: كيف وبـأي طريقـة؟ وأنـا أجيب: إن التلاميذ الطوباويين تبعوا المسيح مخلصنا كلنا في جولاته فـي اليهوديـة ورأوا أنه لم يوجد شيء، مهما كان فائقا على الوصف، وجديرا بالإعجاب لم يستطع أن يعمله. إنه دعا الموتى من قبورهم بعد أن أنتنوا، وأعاد البصر للعميان، وصـنع أيضا أعمالاً أخرى لائقة بالله ومجيدة، وسمعوه يقول: “أليس عصفوران يباعـان بفلس؟ وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم” (مت 10: 29). والآن فهم الـذين قد رأوا هذه الأشياء وتشددوا بكلماته (التي قادتهم) إلى الشجاعة، كانوا على وشك أن ينظروه يحتمل سخرية اليهود، ويصلب ويستهزئ به ويلطم من الخدام. لـذلك كـان ممكنا أن يعثروا بهذه الأمور، ويفكروا في داخل أنفسهم ويقولون: ذلك الذي هو عظيم هكذا في قوته، وله مثل هذا السلطان الإلهي، والذي يجري المعجزات بإيماءته فقـط، وكلمته مقتدرة حتى إنه يقيم الموتى من قبورهم، والذي قال أيضا إن عناية أبيه تصل حتى إلى الطيور؛ والذي هو الابن الوحيد الجنس والبكر ـ كيف أنه لم يعرف ما كان مزمعا أن يحدث؟ هل هو أيضا أخذ في شباك العدو وصار فريسة لأعدائه مـع أنـه وعد أنه سوف يخلصنا؟ فهل أهمل وأحتقر من ذلك الآب الذي بدون مشيئته لا يمكن أن يسقط ولا حتى عصفور صغير؟ ربما قال أو فكر الرسل القديسون في هذه الأشياء فيما بينهم وماذا كانت ستصير النتيجة؟ إنهم أيضا مثل باقي جموع اليهود كانوا سوف يصيرون غير مؤمنين وجاهلين بالحق.
لذلك فإنه أخبرهم مقدما عما كان سوف يحدث، حتى يكونوا على دراية بأنه قـد عرف بآلامه قبل أن تحدث، ومع أنه كان في استطاعته أن يهرب منها بسهولة، إلا أنه مع هذا تقدم لملاقاتها بإرادته. فبقوله: ” هانحن صاعدون إلى أورشليم”، فهو ـ إن جاز القول ـ شهد بقوة، وأمرهم أن يتذكروا ما سبق أن أخبرهم به وأضاف أن كـل هذه الأمور قد سبق أن تنبأ عنها الأنبياء القديسون. لأن إشعياء يتكلم كمـا بلـسان المسيح: “بذلت ظهري للسياط وخدي للطم، وجهي لم أستر عن خزي البـصـاق” (إش 6:50 س). وأيضا يقول عنه في موضع آخر: “مثل خروف يساق إلى الـذبح وهـو صامت، وكنعجة أمام الذي يجزها ” (إش 7:53 س). وأيضا: “كلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه والرب سلمه بسبب خطايانا ” (إش 6:53 س). وكذلك يرسـم لنـا داود الطوباوي في المزمور الواحد والعشرون – كما لو كان صورة مسبقة للآلام علـى الصليب، ويضع يسوع أمامنا متكلما كإنسان معلق على الخشبة (فيقول): “أمـا أنـا فدودة لا إنسان، عار عند البشر ومحتقر الشعب، كل الذين يرونني يستهزئون بـي، يتكلمون بشفاههم ويهزون رؤوسهم قائلين اتكل على الرب فليخلصه” (مز 21: 6 -8 س). لأن بعضا من اليهود كانوا يهزون رؤوسهم الأثيمة ويستهزئون به قائلين: “إن كنت ابن الله انزل من على الصليب ونحن نؤمن بك” (مت 40:27 و43)، وأيضا قال (داود): ” اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا قرعة” (مز 21: 18)، كما يقول في موضع آخر عن أولئك الذين صلبوه: ” ويجعلون في طعامي علقما وفي عطشي يسقونني خلا” (مز 68: 21 س).
لذلك، فمن كل ما كان مزمعا أن يصيبه، لم يوجد شيء لم يسبق الإخبار به قبـل حدوثه، والله بعنايته رتب هذا لمنفعتنا حتى عندما يحين الوقت لحدوثه، لا يعثر أحد، لأنه كان في استطاعة من عرف مسبقا ما كان مزمعا أن يحدث له، أن يرفض التألم كلية. إذن، لم يجبره أحد على ذلك بالقوة، ولا أيضا كانت جموع اليهود أقـوى مـن قدرته، لكنه خضع للتألم لأنه عرف أن آلامه سوف تكون لأجل خلاص العالم كلـه. إنه احتمل في الواقع موت الجسد، لكنه قام ثانية إذ داس على الفساد، وبقيامتـه مـن الأموات غرس في أجساد البشر الحياة النابعة منه، لأنه فيه تم إعادة كل طبيعة البشر إلى عدم الفساد. وعن هذا شهد الحكيم بولس وقال: “فإنه إذ الموت بإنسان، بانـسـان أيضا قيامة الأموات” (1كو 15: 21). وأيضا: “لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيحيا الجميع” (1كو 15: 22). لذلك فلا يحق لمن صلبوه أن يتمادوا في الكبرياء إذ أنه لم يبق بين الأموات، إذ نرى أنه كإله له قوة لا تقاوم، بل بالأحرى عليهم أن يبكوا على أنفسهم بسبب كونهم مذنبين بجريمة قتل الرب، وهذا هو ما وجدنا المخلص يقوله للنسوة اللواتي كن يبكين لأجله: ” يا بنات أورشليم لا تبكين على بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن” (لو 28:23)، لأنه لم يكن من الصواب أن ينحن على من كـان مزمعا أن يقوم من بين الأموات محطما بذلك الفساد ومزعزعا سلطان المـوت، بـل العكس كان يليق بالأكثر أن ينحن على مصائبهن.
سبق مخلص الكل وأعلن هذه الأشياء للرسل الأطهار، لكن الكتاب يقول: “أما هم فلم يفهموا من ذلك شيئا، وكان هذا الأمر مخفى عنهم”، لأنهم لم يعرفوا بعد بالتدقيق ما سبق أن أعلن عنه الأنبياء القديسون، لأنه حتى الذي كان هو الأول بين الرسل لما سمع المخلص يقول مرة إنه سيصلب ويموت ويقوم، ولأنه لم يكن قد فهم بعد عمـق السر، فإنه قاوم (الرب) قائلاً ” حاشاك يا رب، لا يكون لك هذا ” (مت 16: 22)، لكـن الرب انتهره لأنه يتكلم هكذا، لأنه لم يكن يعرف بعد معنى الكتاب الموحي به من الله فيما يختص به. لكن عندما قام المسيح من بين الأموات، فإنه فتح أعينهم كمـا كتـ أحد الإنجيليين القديسين، لأنهم استناروا واغتنوا بالشركة الفياضة مـع الـروح، لأن الذين لم يفهموا قبلاً كلمات الأنبياء، حثوا فيما بعد الذين أمنوا بالمسيح أن يدرسـوا كلام الأنبياء قائلين: ” وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسنا إن انتبهـتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم، إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم” (2بط 1: 19). وهذا أيضا بلغ كماله، لأننا إنما قد استنرنا في المسيح الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين. آمين.
عظة 126 شفاء أعمى قرب أريحا (لو18: 35-43)
وَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَرِيحَا كَانَ أَعْمَى جَالِسًا علَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. فَلَمَّا سَمِعَ الْجَمْعَ مُجْتَازًا سَأَلَ:«مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذَا؟» فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ مُجْتَازٌ. فَصَرَخَ قِائِلاً: «يَايَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!». فَانْتَهَرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ لِيَسْكُتَ، أَمَّا هُوَ فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيرًا: «يَا ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!». فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُقَدَّمَ إِلَيْهِ. وَلَمَّا اقْتَرَبَ سَأَلَهُ قِائِلاً:«مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟» فَقَالَ: «يَاسَيِّدُ، أَنْ أُبْصِرَ!». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَبْصِرْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ». وَفِي الْحَالِ أَبْصَرَ، وَتَبِعَهُ وَهُوَ يُمَجِّدُ اللهَ. وَجَمِيعُ الشَّعْبِ إِذْ رَأَوْا سَبَّحُوا اللهَ.
كل من ليس له فهم بعد ولم يقبل الإيمان بالمسيح، يحق أن تقال له الكلمات التي نطق بها داود: ” هلموا وانظروا أعمال الله، الآيات التـي جعلهـا علـى الأرض” (مز 8:45 س). لأنه صنع آيات ليس بحسب نمط بشري، مع أنه كـان في الهيئة إنسانا مثلنا، لكنه صنعها بالأحرى بسلطان إلهي لأنه كان إلها وهو في الهيئة مثلنا، إذ أنه لم يتغير عما كان عليه، كما يبرهن لنا مغزى الـنـص الذي قرئ الآن من الإنجيل. لأنه يقول إن المخلص ” كان مجتـازا فـصرخ إنسان أعمى وقال: يا ابن داود ارحمني”. فلنفحص تعبير ذلك الإنسان الـذي فقد بصره، إذ هو أمر لا يمكن أن نتجاوزه دون فحص، فربما بفحص ما قيل سنحصل على شيء له منفعة عظيمة جدا بالنسبة لنا.
فبأي صفة يوجه الأعمى صلاته للمسيح؟ هل كما إلى مجرد إنسان، بحسب ثرثرة اليهود الذين رجموه بحجارة قائلين في حماقتهم: “لسنا نرجمك لأجـل عمل حسن بل لأجل تجديف، فانك وأنت إنسان تجعل نفسك إلها ؟” (يو 33:10). لكن ألم يكن واجبا أن يفهم الأعمى أن استعادة البصر لا يمكن أن تتم بوسائط بشرية، بل تحتاج على العكس إلى قوة إلهية وسلطان لا يمتلكه إلا الله وحده؟ لأن ليس شيء مهما كان، غير ممكن لدى الله. لذلك فإنه تقدم إليه كما إلى الله الكلي القدرة؛ لكن كيف يدعوه ابن داود؟ وبماذا يمكننا أن نجيب علـى هـذا؟ على ما أظن ربما يمكن أن نشرح الأمر هكذا: حيث إن الأعمى تربـي فـي الديانة اليهودية وكان من ذلك الجنس بالمولد، فلم تغب عن معرفتـه بـالطبع النبوات الموجودة في الناموس والأنبياء القديسين بخصوص المسيح. فقـد سمعهم ينشدون من كتاب المزامير تلك العبارة: “أقسم الرب لداود حقا ولا يخلف، لأجعلن من ثمرة بطنك على كرسيك” (مز 11:131 س)، وعرف أيضا أن النبي الطوباوي إشعياء قال: ” ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله” (إش 1:11)، وأيضا: ” هوذا العذراء تحبل وتلد ابنـا ويـدعـون اسـمه عمانوئيل” (إش 14:7). لذلك فالأعمى كإنسان أمن في الحال أن الكلمة وهو الله، هو الذي قبل بإرادته أن يولد بالجسد من العذراء القديسة، فاقترب منه على إنه الله وقال: “يا ابن داود ارحمني”. لأن المسيح شهد بأن هذا هو تفكير الأعمى عندما قدم توسله، بقوله له: ” إيمانك قد شفاك “.
إذن فليخز الذين يظنون أنفسهم أنهم ليسوا عميانا مع أنهم كما يقول الحكيم بطرس عميان وقصيرو البصر (انظر 2بط 1: 9)، لأنهم يقسمون الـرب الواحـد يسوع المسيح إلى اثنين، الذي هو نفسه كلمة الآب (لكنه هو الذي صار إنسانا وتجسد، لأنهم ينكرون أن الذي ولد من نسل داود هو حقا ابن الله الآب؛ لأنهم يقولون إن الولادة هي أمر يخص الإنسان فقط ويرفضون في جهلهم العظـيم أنه صار جسدا)، ويحتقرون ذلك التدبير الثمين والذي لا ينطق به والذي به تم فداؤنا، بل وربما يتكلمون بحماقة ضد الابن الوحيد الجنس، لأنه أخلى ذاتـه ونزل إلى قامة الطبيعة البشرية، وكان مطيعا للأب حتى الموت، لكي بموتـه بالجسد يمكنه أن يبطل الموت، ولكي يمحو الفساد وأن يطرح خطيـة العـالم بعيدا. ليت أمثال هؤلاء يقتدون بهذا الأعمى لأنه تقدم إلى المسيح مخلص الكل مؤمنا أنه الله؛ ودعاه الرب وابن الطوباوي داود، وشهد أيضا لمجده بسؤاله إياه أن يعمل عملاً لا يستطيع أن يتممه إلا الله وحده، ويا ليتهم يعجبون أيضا بالثبات الذي به اعترف بالمخلص، لأن هناك بعض الـذين انتهـروه عنـدما اعترف بإيمانه، ولكنه لم يستسلم ولم يتوقف عن صراخه بل أبكم جهل أولئك الذين كانوا ينتهرونه ليسكت. لذلك فعن صواب أكرمه المسيح، إذ دعاه وأمره أن يقترب منه. افهموا من هذا، أيها الأحباء، أن الإيمان يضعنا نحن أيضا في حضرة المسيح، وهكذا يدخلنا إلى الله لكي نحسب نحن أيضا أهلاً لكلامه، لأنه حينما أحضر الأعمى إليه سأله قائلاً: ” ماذا تريد أن أفعل بـك؟” فهـل كـان المخلص يجهل ماذا يريد الرجل؟ لأنه كان واضحا أنه يطلب الخـلاص مـن المرض الذي أصابه؟ كيف يمكن أن يكون هناك أي شك في هذا؟ لذلك فقـد سأله المسيح عن قصد، لكي ما يتعلم أولئـك الـذين كانوا واقفين حولـه والمصاحبين له أنه لم يكن يطلب مالاً، بل بالحري لأنه يعتبره إلها، فإنه سأله عملاً إلهيا، عملاً مناسبا للطبيعة التي تفوق الكل.
إذن، فحينما أعلن عن طبيعة طلبه بقوله: يا سيد أن أبصر، أنـذاك، نعـم! آنذاك، كانت الكلمات التي قالها المسيح بمثابة توبيخ لليهود لعدم إيمانهم، لأنه بسلطان فائق قال: ” أبصر “. مدهش هو هذا التعبير! وهو بالحق جدير بـالله ويفوق كل حدود طبيعة البشر! أي من الأنبياء القديسين تكلم بمثـل هـذا؟ أو استخدم كلمات بمثل هذا السلطان العظيم؟ إذن لاحظوا أن المسيح لم يطلب من آخر القوة على استعادة البصر لذاك الذي كان محروما من النظـر، ولا هـو أجرى المعجزة الإلهية بفعل الصلاة إلى الله، بل نسبها بالأحرى إلـى قوتـه الذاتية، وبإرادته القادرة على كل شيء صنع ما أراده، إنه قال له: ” أبـصر”، وكان الأمر بالإبصار نورا لمن كان أعمى لأنه كان أمرا من ذاك الذي هـو النور الحقيقي.
والآن وقد تخلص من عماه، فهل أهمل واجب حبه للمسيح؟ بالتأكيد لا، إذ يقول (النص) إنه ” تبعه” وقدم له المجد اللائق بالله، لذلك فإنه تخلـص مـن عمى مزدوج، إذ أفلت ليس فقط من عمى الجسد، بل أيضا من عمى الـذهن والقلب، لأنه ما كان ليمجده كإله لو لم يكن قد اقتني البصر الروحي. عـلاوة على ذلك فقد صار واسطة لأولئك الآخرين أن يعطوا للمسيح المجد أيضا، إذ يقول (النص)، وجميع الشعب سبحوا الله. [ لذلك من الواضح من هذا عظم إثم الكتبة والفريسيين، لأنه انتهرهم بسبب رفضهم أن يقبلوه، رغم المعجزات التي صنعها، بينما الجموع مجدته كإله بسبب الأفعال التي صنعها، وهم من جانبهم (أي الفريسيون) لم يقدموا له هذا التمجيد ]، بل جعلوا المعجزة فرصة للإهانة والاتهام، لأنهم قالوا إن الرب عمل المعجزات ببعلزبول، وبتصرفهم هكـذا صاروا سبب هلاك الشعب الذي كان تحت قيادتهم، لذلك احتج الـرب علـى خبثهم بصوت النبي القائل: ” ويل للرعاة الذين يهلكون ويبددون غنم میراثی” (إر 23: 1 س)، وأيضا: “لأن الرعاة صاروا أغبياء ولم يطلبوا الرب من أجـل
ذلك لم يفهم أحد من الرعية فتبددت” (إر 10: 21 س). وهكذا كان حالهم، أما نحن فإننا تحت قيادة رئيس رعاة الكـل، المسيح، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين. آمین.
- يشير القديس كيرلس الكبير بهذه الكلمات إلى العادة القديمة للمسحة، أي خدمة مسح الأطفال المعمدين بالزيت المقـدس. بالطبع كانت الممارسة المعتادة في الكنيسة الأولى هي تعميد الأطفال بالتغطيس الكامل ثلاث مرات، وهو ما تزال الكنيسة الأرثوذكسية تمارسه إلى اليوم.
تفسير إنجيل لوقا – 17 | إنجيل لوقا – 18 | تفسير إنجيل لوقا | تفسير العهد الجديد | تفسير إنجيل لوقا – 19 |
القديس كيرلس الكبير | ||||
تفاسير إنجيل لوقا – 18 | تفاسير إنجيل لوقا | تفاسير العهد الجديد |