رؤ6: 9 و لما فتح الختم الخامس رايت تحت المذبح نفوس الذين قتلوا من اجل كلمة الله…

 

9وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الْخَامِسَ، رَأَيْتُ تَحْتَ الْمَذْبَحِ نُفُوسَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ اللهِ، وَمِنْ أَجْلِ الشَّهَادَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ، 10وَصَرَخُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ:«حَتَّى مَتَى أَيُّهَا السَّيِّدُ الْقُدُّوسُ وَالْحَقُّ، لاَ تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا مِنَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ؟» 11فَأُعْطُوا كُلُّ وَاحِدٍ ثِيَابًا بِيضًا، وَقِيلَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَرِيحُوا زَمَانًا يَسِيرًا أَيْضًا حَتَّى يَكْمَلَ الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُمْ، وَإِخْوَتُهُمْ أَيْضًا، الْعَتِيدُونَ أَنْ يُقْتَلُوا مِثْلَهُمْ. (رؤ 9:6-11)

+++

تفسير ابن كاتب قيصر

 29- (9) حينئذ ولما فتح الختم الخامس رأيت من أسفل المذبح أنفس الناس الذين قتلوا من أجل كلمة الله والشهادة التي كانت عندهم (10) وصرخوا بصوت عظيم قائلين إلى متى يا مالكنا القدوس الصديق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من السكان على الأرض (11) فأعطى للواحد منهم حلة بيضاء وقيل لهم أن يستريحوا هم زمانا آخر يسيرا حتى يكمل أصحابهم العبيد وإخوتهم الذين يقتلون أيضا مثلهم .

 قوله : «وحينئذ ولما فتح الختم الخامس » هذا هو السر الخامس من الأسرار السبعة تحت الختم الخامس من الختوم السبعة وهو متسق في المعنى مع الفص السابع والستين من القسم التاسع من هبوط الشاهدين وحوادثهما.

وقوله : «رأيت من أسفل المذبح أنفس الناس الذين قتلوا أجل من كلمة الله والشهادة التي كانت عندهم» ، قد علمت الرؤية ، وإن الرؤيا إدراك عقلی ، وهي هنا دليل على ما ذهبنا إليه من ذلك وتحقيق له ، فإنه قال : رأيت أنفس الناس الذين قتلوا . وكيف ترى الأنفس لولا إنه أراد الإدراك العقلي ، وهذا صريح جلى . وأما هذا المذبح فلم يتقدم له ذكر ، فيكون الألف واللام فيه للعهد السابق ، وليس القصد به معنى الجمع فتكون الألف واللام للاستغراق والعموم ، كقولك الإحراق عن نار ، أي كل إحراق عن نار فبقى أن تكون هذه الألف واللام دالة على مجرد الماهية المعلومة ، وسيذكر في الفص السابع والثلاثين بعد ذلك إن هذا المذبح من ذهب ، وإنه كائن أمام العرش الأعظم ، وإنه مذبح لرفع البخور لا الذبيحة . ونحن نبحث عنه هنا لأنه أول موضع ذكر ليفهم عنه ما يأتى ذكره بعد ذلك . فنقول ، أولا : إن المذبح والهيكل يرد ذكرهما واحد وعشرون مرة في أربعة عشر فصا ؛ أما المذبح فثماني مرات في سبعة منها ، أولها في هذا الفص التاسع والعشرون ، والسابع والثلاثون مرتين ، والثامن والثلاثون والثامن والأربعون والثالث والخمسون ، والثاني والسبعون ، والتاسع والسبعون وأما الهيكل فثلاثة عشرة مرة في سبعة منها أيضا ، أولها في الخامس والثلاثون ، والثالث والخمسون مرتين ، والثامن والخمسون مرتين ، والحادي والسبعون والخامس والسبعون [4 مرات] والسادس والثمانون ، والمائة والخامس والعشرون [مرتين] وثانيا : هل المذبح يريد به الهيكل ؟ والجواب : إ المراد بهما واحد ، وهو الهيكل الذي يرفع عليه البخور وثالثا : هل لهذا المذبح المسمى بالهيكل وجود في السماء أم هو رمز على شيء آخر ؟ والجواب : إن مثل هذا لا يطلع عليه حقيقة إلا بالوحي ، وإما بقوة الحدس وغلبة الظن وإشارات الدلالة . ويظهر لى إن للهيكل والقبة وجود في السماء إذ لم يدرك من قرينة لفظية أو معنوية استدلال على أن ذلك رمز ، وكذا لم تدرك استحالة وجودهما في السماء ، بل وجدنا أماكن تدل على الوجود ، منها كون المذبح أمام العرش ، فقد قال إنه ذهب ، فهل هو ذهب ؟ لأننا لم تدع إنه مذبح أرضي خشب أو بناء ، بل شيء آخر روحاني يشبه الأرضى أو يشبهه الأرضى . وكذلك لا نقول إنه ذهب من نوع الذهب بل شيء آخر مشبه بالذهب لمعانا ، وقد ذكرناها وسنذكرها . ومنها أن الله تعالى قال لموسى النبي عندما عمل البيت ، أن يعمل على ما يراه في السماء ، فظهر المجموع إن له وجود في السماء . وإن موسى لم يعمل البيت على شكل رؤيا مضمحلة ، بل شكل ثابت الوجود في السماء والله وأعلم.

وأما هذه الأنفس فإنها أنفس الشهداء المسفوكة دماؤهم من أجل كلمة الله والشهادة له بأنه مخلص العالم المستحق التعبد له ، بدليل قوله : « من أجل كلمة الله والشهادة التي كانت عندهم» . أما من أجل كلمة الله فمن أجل إيمانهم بها ، وأما من أجل الشهادة فلأنهم شهدوا للرب يسوع إنه المسيح المنتظر كلمة الله له المجد . وأما قوله التي كانت عندهم فاستدللنا منه على أن الإشارة إلى السهداء منذ دعوة سيد الكل وإلى آخر دولة الدجال التي يكملون بكمالها من اليهود وسائر الأمم ، وسيأتي تفصيلهم في الفصول الآتية اللائقة.

قوله : «وصرخوا بصوت عظيم قائلين إلى متى يا مالكنا القدوس الصديق لا تقضى وتنتقم لدمائنا من السكان على الأرض» ، الصراخ والقول للتعبير عن المقصود ، كما أن السماع إدراك له وهو رمز على حركة أنفسهم لطلب الانتصاف ممن ظلمهم وأراق دماءهم ظلما وعدوانا ، واستبطاء لأخذ حقهم منه . وتأمل أن الدماء لا يقضى لها بل لأصحابها ! فقد حذف الضمير المضاف وألحقه أخيرا بالمضاف إليه ، وتقدير القول : إلى متى يا مالكنا لا تقضى لنا من دمائنا ؟ ولما وقع الفعل على غير من هو له أوهم إطلاق الاسم على غير مسماه . وههنا سؤال ، وهو : كيف جاز لهم أن يسألوا الانتقام ممن ظلمهم أو يستبطئوا ذلك ؟ وعلى هذا آراء ثلاث :

الرأى الأول : أن هذا يناقض فصوصا كثيرة من شريعة الفضل ، منها قوله : « أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى من أساء إليكم» ، فكيف أحب هؤلاء أعداءهم أو باركوا على لاعنيهم أو أحسنوا إلى للمسيء إليهم ؟ ومنها قوله : «طوبی لفاعلي السلامة فإنهم بنى العلى يدعون » ، وقوله : «طوبي للنقية قلوبهم فإنهم يعاينون الله » ، وقوله : «لا تقاوموا الشر البتة»  . وأين طلب السلامة من طلب الانتصاف ؟  وأين   نقاء القلوب وعدم مقاومة الشر من التظلم وطلب الانتقام ؟ ومنها قوله : «صلوا على من يطردكم ويحزنكم لكي تكونوا بني أبيكم الذي في السموات »  ، وقوله : «وإن لم تغفروا للناس خطاياهم ولا أبوكم السماوي يغفر لكم» . وكيف تجتمع الصلاة عليهم والتظلم منهم ؟ أو كيف يمكن الغفران لهم ولم يغفروا لمن أساء إليهم ؟ فهذه النصوص وما شابهها تناقض طلبهم الانتقام عن دمائهم أو يلزم النقيض . فإن قيل لي إن هذه الأوامر إنما يعمل بها في هذا العالم ليجازي العامل بها أحسن الجزاء . فأما من فارق هذا العالم فلا يلزمه بها بعد المفارقة ، والدليل على ذلك؛ قول الإنجيل : « لتكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات المشرق شمسه على الأخبار والأشرار والممطر على الصديقين والظالمين »  ، وهذا عمل الله في هذا العالم لا في عالم المجازاة ؛ فإنه هناك لا يشرق شمسه على الأشرار ولا يمطرهم بل يعذبهم بأفعالهم ، فهو وصف مشترك بينه وبين خلقه ، أعنى عملهم بشريعة الفضل هو في هذا العالم خاصة . قبل في جوابه : هذه الوصايا لا تخلو أن تكون فضيلة للنفس أو رذيلة . فإن كانت فضيلة وجب العمل بها هنا وهناك ، وإن كانت رذيلة وجب تركها هنا وهناك ، ولا خلاف في بطلان هذا ، فثبت الأول وأما الآب السماوي له المجد ، فليس تحت شريعة لا هنا ولا هناك ، تعالى  عن ذلك.

الرأي الثاني : هذه النفوس الطالبة للانتقام ، إن كانت صفحت عمن ظلمها في هذا العالم قبل خروجها منه ، فما لها تعاود المطالبة بما غفرته ؟ وإن كانت لم تصفح ولم تغفر ، فقد أثمت وخالفت هذه النصوص كلها ولم تعمل بواحدة منها .

الرأي الثالث : إن كانت هذه النفوس تجازي بأحسن المجازاة من الله تعالى عن قبولها ظلمها وصبرها في حياة الدنيا ، فلم يبق لها أن تطلب الانتقام ممن ظلمها ، لأنها تصل إلى أضعاف حقها من فضل الله تعالى . وإن كانت لا تجازي ، فما فائدتها في الانتقام ، وأي عائد يعود عليها ، أو أية رأفة تصل إليها من ذلك ؟ وهو أمر قد سلف ومضى.

 فهذه الآراء الثلاث ، والجواب عنها أن طلب هذه النفوس الانتقام ممن ظلمها : إما أن تراد بها الحقيقة أو لا . فإن أريد بها الحقيقة ، وهي طلب الانتقام ممن ظلمها على ظاهره ، فالآراء المذكورة واردة عليه والجواب عن الأول منها أن النصوص ربما أطلقت عامة وأريد بها الخصوص . فما كل عدو يحب أو يبارك عليه أو يحسن إليه ، كالشيطان وأنبياء الكذب وأرباب البدع والمتشككين والدجال ومن يجرى مجراهم ؛ فإن سيمون الساحر مثلا لم يحتمله بطرس الرسول ، ولا أحبه ، ولا أحسن إليه ، ولا بارك عليه ، بل أهلكه هلاكا أبديا . وكذلك حنانيا وامرأته ، وكذلك المعاند الذي أعماه بولس والسبب أن هؤلاء الأشخاص يعظم فسادهم وقحتهم ، فيرجح جانب التخلص منهم على استعمال الرأفة بهم ، كما يرجح طلاق الزانية على مقارنتها ، وإن كان الأصل عدم الطلاق ، بدليل قوله : «وما يزوجه الله لا يفرقه إنسان » وكما منع المغفرة عن المجدف على روح القدس ، ومنع من مخالطة الوثني والعشار ، فهؤلاء الظالمون من هذا القبيل.

وهذا الجواب يصلح أن يكون جوابا أيضا على الرأي الثاني ، لأن المختار فيه أن المظلومين من غفروا لظالميهم وإلا خالفوا تلك النصوص ، لأن هؤلاء الظلمة ليسوا ممن يغفر لهم.

أما جواب الرأى الثالث ، فإن قبول هذه النفوس المجازاة من الله بالحسنى على صبرها ، لا يمنع طلبها الانتصاف لتغاير المعنيين وكونهما فير ممنوع اجتماعهما. 

أما أخذ هذه النفوس بقصاص من ظلمها ، فله فوائد كثيرة ، أولها : أن دماءها لم تهدر والثاني : أن الله انتصر لها ونظر إليها ، وبذل يظهر عدله في تساوي الظالم بالمظلوم في الألم ، وبه يعلم الظالم سوء عاقبة ظلمه، وأن تعديه لم يذهب جزافا. ويجوز أن يكون طلب هذه النفوس الانتقام بإيعاز إلهي ، كما جرى في حل السبت عندما طاف بنو إسرائيل حول أريحا مع يشوع ابن نون سبعة أيام ولم يأخذوا بحله فلم ينكر ذلك عليهم ، بل كان المتنكر لو خالفوا الأمر . أو بإطلاق إلهى كما ترك بنو إسرائيل الختان في اليوم الثامن مدة أربعين سنة في البرية ، مع التأكيد في حفظه والتوعد بالهلاك على تركه ، ثم لم يؤاخذوا عن وهذا في هذا العالم .

وإن لم يقصد الظاهر بل المجاز مما لم ترد عليه الآراء المذكورة ، فالمجاز يعني أن يطلق لفظا ولا يراد به معناه الدال عليه بل معنى يؤخذ من عرضه ، مثال ذلك في الحديث العادي ، يقول الفقير لمن يستجدى منه : إننى مضرور وإن حالي قد رق وإن حاجتى قد مست . بمعنى : أعطنى ما أستعين به . وإذ بان معنى التعريض ما هو ، فمن المعلوم أن الله تعالى يجازي الظالمين بأعمالهم سواء طلب المظلومون ذلك أو لم يطلبوا . فهذا ما يمكن قوله في هذا السؤال والله أعلم بالحق اليقين ، ومن يفيضه عليه من المتقين.

والقدوس من أسماء الله تعالى ، وهو على وزن فعول من القدس، وهو الطهارة لغة، والصديق ، بالتشديد ، هو الدائم الصدق الذي يصدق فوله بفعله والسكان على الأرض لا يريدون بهم العموم بل من ظلمهم فقط.

قوله : «فأعطى للواحد منهم حلة بيضاء» ، الحلة رمز على المدح والثناء والتعويض . وكونها بيضاء فهذا رمز على الفرح والبهجة ، لأن النفوس لا تلبس . ولكن لما كان ذوو الأجساد يتجملون بالثياب ويبتهجون بالملابس الجميلة ، استعير المدح من الثياب ، والفرح من بياضها . وهذه بلاغة ليست لبشر ، لكنها من تعليم الروح الذي نطق في هذا الرسول وكشف له عن هذه الأسرار الغامضة . وباستحقاق منح الشهداء هذه النعم الإلهية ، لأنهم أحبوا كثيرا وصبروا عظيما . وذلك أن الذين دعوهم إلى الكفر كانوا يدعونهم بطريقتين إحداهما : الترغيب ببذل المال والملابس والملاذ والجواهر والذخائر والجاه والقرب من المملكة والتقدم في الدولة والرئاسة الدنيوية ، فإذا أبوا ذلك وأعـدوه كالزبل وما لا يلتفت إليه ، أخذوهم بالطريقة الثانية : وهي الترهيب بأن يخيفوهم ويهددوهم ويعاقبوا غيرهم قدامهم . فإن أصروا ، بسط عليهم أليم العذاب بكل نوع يجزع ذكره ، لا سيما مباشرته واحتماله ، فإن أصروا أيضا ، فالسيف والنار والتغريق والرجم وغير ذلك . فهذا الصبر لهؤلاء القوم يتجاوز طاقة الحديد بل الماس ، فضلا عن البشر ، فلا جرم أن مجازاتهم تفوق الوثف . ولكن عبر لنا عن بعضها بما يطيق المدقق في الفكر والنظر أن يفهم ظاهره.

قوله : «وقيل لهم أن يستريحوا هم زمانا آخر يسيرا حتى يكمل أصحابهم العبيد وإخوتهم الذين يقتلون أيضا مثلهم» ، الراحة من تعب المطالبة بالقصاص. والزمان اليسير يشير به هنا إلى ثلاث سنين ونصف ، بدليل إشارته إليه في معان أخرى : زمانا وزمانين ونصف زمان وتعريف الزمان وأقسامه وأجزائه قد مضى بيانها في الفص الثالث . وأما من هم العبيد ومن هم الإخوة فيحتمـل أربعة وجوه ، الأول : أن يكون العبيد هم الذين باشروا امرأة ثم استشهدوا ، والإخوة هم الأبكار الذين لم يتدنسوا بامرأة الثاني : أن يكون العبيد والإخوة وصفان لهم ، فكلهم عبيد وصلحاء ، وكلهم إخوة في الإيمان والشهادة ، وتكون الواو للجمع لا للعطف والثالث : : أن يكون العبيد هم المستشهدون من الأمم ، والأخوة هم المستشهدون من بنى إسرائيل ، كقول بولس الرسول : «المدح والكرامة والسلم لكل من عمل الصالحات من اليهود أولا ثم من سائر الأمم». والرابع : أن يكون العبيد هم المعترفون الذين لم تكمل شهادتهم ، والإخوة هم الذين كملت شهادتهم وأظن الأرجح هو الأول والله أعلم وأما مقصده ، فإنه كشف عن أن أنفس الشهداء سوف تطالب بالعدل وتطلب الانتصاف والانتقام ممن ظلمها . وذلك إنما يكون عند قيام دولة الدجال ، بدليل قوله لهم أن يستريحوا هم زمانا آخر يسيرا حتى تكمل بقيتهم ، والزمان هو مدة تلك الدولة الملعونة وهي نصف أسبوع، وعن إعطائهم الحلل البيضاء وعن استمهال الله لهم ، فحتى تتم العدة بالمدة.

تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي

“ولما فتح الختم الخامس،

رأيت تحت المذبح نفوس الذين قُتِلوا من أجل كلمة الله

ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم.

وصرخوا بصوت عظيم قائلين:

حتى متى أيها السيد القدوس والحق

لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض؟

فأُعطوا كل واحد ثيابًا بيضًا،

وقيل لهم أن يستريحوا زمانًا يسيرًا أيضًا،

حتى يكمل العبيد رفقاؤهم وإخوتهم أيضا العتيدون أن يُقتَلوا مثلهم” [9-11].

بعد ما كشف الرب لكنيسته خلال الأختام الأربعة ما يسمح لها به من مرارة من اليهود والوثنيين والهراطقة وضد المسيح، كان لا بد أن يكشف لها حال المنتقلين طوال فترة غربتنا على الأرض.

1. من هم؟

“الذين قُتِلوا من أجل كلمة الله، ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم”. يكفيهم أن يُحسبوا شهودًا لكلمة الله.. حملوا آلامه وقبلوا سماته في حياتهم شاهدين له. وإن كنا لا نعرفهم بأسمائهم، لكنهم هم يعرفون بعضهم بعضًا في الفردوس، وكما يقول العلامة ترتليان إذ كان يوحنا في الروح رأى بوضوح أرواح الشهداء، مؤكدا أنها تتعرف على بعضها البعض في الفردوس.

2. أين هم؟ “تحت المذبح”!

هم في الفردوس لم يذهبوا بعد إلى الأمجاد الأبديّة في كمالها وتمامها، لكنهم نالوا نصيبًا مباركًا إذ “أُعطوا ثيابًا بيضًا، وقيل لهم أن يستريحوا زمانًا يسيرًا“. إنهم تحت المذبح يستريحون. وكأن المذبح لا يفارق القديسين وهم لا يفارقونه.

يرون الذبيحة الحقيقية خلال الفردوس، إذ يتمتعون بالمسيح المصلوب، ويقدمون له ذبائح حمد وتسبيح كقول المرتل: “أذبح لك حمدًا” (مز 50: 14)، “لك أذبح ذبيحة التسبيح” (مز 116: 17).

لن تنقطع الذبائح لا بانتقالنا إلى الفردوس، ولا بدخولنا العرس الأبدي، مقدمين له تسبيحا أبديًا وكما يقول الشهيد يوستينوس: [إني أعتبر الصلوات وتقديم الحمد حينما يقدمها أشخاص معتبرون تكون هي وحدها الذبائح الكاملة والمقبولة لدى الله.]

3. ما حالهم؟

يطلبون الانتقام لدمائهم وذلك كما صرخ دم هابيل قدام الرب، ليس حقدًا وغيظًا بل تسليمًا للدينونة العادلة في يد الله، وشوقًا لمجئ الرب. إنهم كالأرملة التي طلبت من القاضي أن ينتقم منصفًا إياها (لو 18: 3). وإذ طلب منهم أن يستريحوا قليلاً إلى يوم الدينونة لذلك يقول الشهيد كبريانوس إنه يليق بالمجاهدين على الأرض أيضًا أن يصبروا على الأشرار حتى يوم الدينونة.

تفسير القمص أنطونيوس فكري

الختم الخامس

رأى يوحنا تحت المذبح نفوس الذين قتلوا من أجل كلمة الله = هذه تشير لفترة إستشهاد. وهنا نرى أين تذهب هذه النفوس ؟ فهى محفوظة عند الله تشتهى اليوم الذى تلبس فيه الأجساد الممجدة. ونلاحظ:-

  1. الله يسمح بإستشهاد البعض هؤلاء أتموا عملهم وسيذهبوا للسماء
  2. الكنيسة على الأرض محفوظة، فأبواب الجحيم لن تقوى عليها.
  3. فك الختوم هو إزالة الغموض عن بعض الأسرار وهنا نرى مكان نفوس الشهداء. هنا لقطة نرى فيه صورة السمائيين.

رأيت نفوس = كيف يرى النفوس ؟ الإجابة أنه كان فى الروح أى حالة روحية سامية بها إستطاع أن يرى الأرواح. وهذا ليس بعجيب، ألم يرى الملايين العذراء وهى فوق كنيستها بالزيتون. أما بعد القيامة فسنلبس أجسادا نورانية (تعكس نور الله) وممجدة (تعكس مجد الله) بها نرى بعضنا البعض.

تحت المذبح:- والسؤال هنا. هل هناك ذبيحة جسد ودم إفخارستية فى السماء؟ الإجابة قطعا لا. فالتناول يعطى لمغفرة الخطايا، وهناك فى السماء سنكون بلا خطية. ولكن وجود مذبح إشارة لأنهم قدموا ذواتهم ذبائح فى إستشهادهم. لكن هل لن يدخل السماء إلا كل من مات شهيدا؟

لا بل لن يدخل السماء إلا كل من مات شهيدا أو قدم جسده ذبيحة حية أى ما أسماه بولس صلب الأهواء والشهوات (رو1:12) + (غل20:2) + (غل24:5).

لذلك نفهم أن المذبح هنا هو الصليب الذى يحمله كل من أراد أن يصير تلميذا للسيد المسيح ويسير وراءه. فالصليب كان هو المذبح الذى قدم عليه المسيح رئيس إيماننا نفسه ذبيحة. بل أن ظل الصليب كان مخيما حتى على المذود حيث ولد ربنا

  1. المجوس قدموا له مرا.
  2. هو ولد وسط حيوانات ستذبح.
  3. الرعاة الذين أتوا لرؤيته (رعاة متبدين) أى رعاة الخراف التى تقدم ذبائح فى الهيكل. أتوا ليروا المسيح، حمل الله الحقيقى الذى كانت خرافهم رمزا له.

وظل الصليب مخيم على الكنيسة منذ نشأتها، وصار سمة لها، على الأرض، لذلك نراه هنا كعلامة إنتصار لمن قبل أن يقدم نفسه:-

  1. ذبيحة حقيقية كالشهداء.
  2. يقدم جسده ذبيحة حية.

وكل من يقبل صليبه بشكر نجده فى السماء تحت راية الصليب أى المذبح.

الشهادة التى كانت عندهم =

  1. من إستشهد، شاهدا بإيمانه بالمسيح.
  2. من تمسك بإيمانه للنفس الأخير، الإيمان غير المحرف والمسلم مرة للقديسين (يه3).

وتنتقم لدمائنا = هل توجد لدى السمائيين شهوة إنتقام؟ قطعا لا. والمعنى :-

  1. متى يارب تعلن قداستك ورفضك للخطية.
  2. متى يارب تعلن سلطانك وتخضع المتمردين عليك.
  3. متى يا رب تقضى بالحق على ظلم الكنيسة وتظهر عدلك.
  4. متى يارب تعلن مجدك ويراه الظالمون فيخجلوا، ونراه نحن فنفرح بك وينعكس مجدك علينا.

هذه هى شهوة قلب الأبرار والسمائيين، أما الأرضيين الجسدانيين الذين لا يفهمون سوى شهوات الجسد فهؤلاء يريدون أن يبقى الوضع على ما هو عليه والله فى إنتقامه يختلف عن البشر. فالله حين أراد أن ينتقم من ظلم شاول الطرسوسى للكنيسة، ومن ظلم الدولة الرومانية، كان ذلك بان قادهم للإيمان، وهكذا مع أريانوس والى أنصنا أشهر وأفظع من عذب المسيحيين.

والله يبدأ بأن يحاول أن يقنع هؤلاء المتوحشين بأن يؤمنوا، فإن لم يؤمنوا يكون إنتقام الله ضدهم صعبا. وهذا ما حدث مع العشرة الأباطرة الرومان الذين عذبوا المسيحيين، فقد كانت نهايتهم كلهم بشعة.

وغالبا فإن هؤلاء الذين تحت المذبح قد شعروا بقرب نهاية الأزمنة من العلامات الواضحة التى أشعرتهم بقرب النهاية، مثل الضيقة العظمى التى ستحدث فى نهاية الأيام. فصرخوا يتعجلون نهاية الأيام، وأن يظهر المسيح مجده، ويحصلون هم أيضا على أجسادهم الممجدة، ويعاينوا مجد الله، ويظهر المسيح كديان يدين هؤلاء المتوحشين وليظهر الحق.

يكمل العبيد رفقاؤهم = مازالت الكنيسة تنمو ومازال هناك أجيال ستولد يكمل بهم جسد المسيح، ويدخل غير المؤمنين المختارين إلى الإيمان وبهم يكتمل جسد المسيح زمانا يسيرا = مر 2000 سنة منذ قيل هذا، فآلف سنة عند الله كيوم واحد.

أن يقتلوا مثلهم = إذا الفرس الأحمر مازال عمله وحربه ضد الكنيسة ممتدا. لا بل إن الضيقة الأخيرة سيكون فيها الإستشهاد بصورة واسعة.

تفسير كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة

بدءًا من الختم الخامس لا يصف القديس يوحنا أحداثًا تتعلق بالأرض وأزمانها .. بل رؤى سمائية بدلالات روحية جديدة؛ فبعد أن حملت الأختام (الثاني والثالث والرابع) مشهدًا للآلام والمرارة التي تعانى منها الكنيسة في رحلة جهادها، ينقلنا الله الرحوم إلى مشهد يهدئ من روعنا يوضح لنا فيه أنه هو العادل والغير ناسى لآلام كنيسته حتى وإن انتظر حينًا.

 

ع9: نفوس الذين قتلوا: كل من قبل الآلام والإستشهاد من أجل الإيمان وكلمة الحق.

تحت المذبح: لما كان المذبح هو أقدس مكان في حياة الكنيسة، حيث يلتقى فيه المؤمن بالمسيح الذبيحة والفادي والمخلص، هكذا أخص الله الشهداء بأقدس مكان مماثل في السماء حيث تواجد المسيح الدائم والمستمر، أي هم أقرب الناس مكانة له تعويضًا، عن آلامهم، فكل من يبذل حياته من أجل الله، صار أكثر الناس قربًا منه وتمتعًا به.

 

ع10: صرخوا بصوت عظيم: نفهم من هذه الكلمات الآتي…

  1. أن القديسين الذين في السماء لهم مشاعر، فالصراخ يأتي تعبيرًا عن شعور.
  2. أنهم يعرفون ما يحدث على الأرض وأن السماء إمتداد لحياتهم فهم لم ينسوا ما حدث لهم.
  3. الله يسمح للقديسين في السماء بالتحدث معه ويجيبهم أيضًا (ع11).

ولهذا كانت عقيدتنا في شفاعة القديسين تعبير عن إيمان كتابى، إذ هم لم ينفصلوا عنا بل تغير شكل حياتهم فصاروا غير مشغولين بشئ سوى الله يتحدثون معه ويذكروننا أمامه.

لا تقضى وتنتقم لدمائنا: ليس من اللائق أن نقول أن أنفس القديسين تحمل معها في السماء الرغبة في الانتقام .. بل هي مناجاة مع العدل الإلهي تقترب من الصلاة … كما قال داود النبي “إلى متى يا رب تنسانى” (مز13)، وهذه المناجاة والصلاة في معناها هي إعلان من الله لنا أنه لا ينسى دم أبنائه كما قال لقايين “دم أخيك يصرخ إلىّ” (تك4: 10).

ويمكننا أيضًا القول بأن هؤلاء الشهداء القديسين لا يطلبون الانتقام من أناس بأعينهم بل الانتقام من كل مملكة الشر، وهذا بالطبع جائز روحيًا.

ع11: لم يجب الله في البداية على طلبهم بل كافأهم مكافأة سمائية عظيمة، فألبسهم أولًا ثيابًا بيضًا رمزًا للبهجة والطهارة والقداسة، ثم أعطاهم من فيض حبه راحة.

زمانًا يسيرًا: أي سوف ينتظرون في حالة المجد والراحة هذه زمانًا قليلًا مقارنة بأمجاد الأبدية.

حتى يكمل العبيد رفقائهم: هنا جاءت إجابة الله على سؤالهم “حتى متى؟” … فالله يعلمهم أن زمن الكنيسة المجاهدة لم يكمل بعد .. ولازالت هناك بعض الاضطهادات التي تصل لحد الإستشهاد.. ولكن حينما يأتي الزمن المحدد وتستكمل الكنيسة شهادتها تأتي القيامة العامة وتستعلن دينونة الأشرار ومكافأة الأبرار.

† ليتنا لا نهتز مما يمر بالكنيسة من ألم … فهذا نصيبها طالما ظلت شاهدة للمسيح ضد العالم، بل نضع كل ثقتنا ورجاءنا في المسيح ووعوده، ونعلم أنه في تدبير حكمته أن لكل شيء تحت السماوات وقت … فلنتشدد بالصبر والثقة في مجازاة الله العادلة، وليعطنا الله نعمة أن نكمل أيام غربتنا في سلام.

رؤ6: 8 سفر الرؤيا رؤ6: 10
الرؤيا – أصحاح 6
تفسير رؤيا 6 تفاسير سفر الرؤيا

 

 

  •  

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى