كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية - القمص متى المسكين

ثمار التأمل

+ « أما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام ، طول أناة، لطف صلاح، إيمان، وداعة، تعفف» (غل 5: 22)

+ «من يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية » (غل 6: 8)

+ «روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب» (إش 11: 2)

عرضنا في الفصل السابق بعضاً من نتائج التأمل من الناحية النفسية العقلية المطلقة کالدهش ورؤية الله والإتحاد بالله . أما في هذا الفصل فسنعرض ثمار التأمل من الناحية السلوكية وما تسبغه حياة التأمل على الفرد من صفات روحية فاضلة تجدده وتقدمه للمجتمع الإنساني شخصاً جديداً ذا طابع خُلُقٍ ممتاز ، يضفي على من حوله إشعاعاً من قداسته ، تفوح منه رائحة المسيح الزكية، بينما يشعر في عمق اتضاعه بعدم استحقاقه لأن يحيا بين الناس.

تجديد الحواس :

والواقع أن الشخص يجوز تغييراً عاماً يشمل كل حياته الداخلية والخارجية معاً، وتنتقل حواسه إنتقالاً واضحاً من المادية إلى الروحانية، فالعين بعد أن كانت تجد مسرتها في الجمال المخلوق سواء كان في مناظر الطبيعة الخلابة أو الحيوانات والطيور الرشيقة البديعة أو بهاء الوجوه البشرية، تجدها قد انتقلت إنتقالاً مجيداً من هذه الماديات الزائلة وهذا الجمال الزائف المتغير والمتقلب إلى أصل الجمال وخالقه، ذلك الجمال الحق الذي لن يتغير قط أو يعتريه شبه تغيير، فتجد العين مسرتها في التأمل إلى ما هو وراء كل جمال، إذ تستطيع أن تری جمال الله في كل شيء؛ وهكذا تنتقل من المخلوق إلى الخالق ومن الأشياء الزائلة إلى رؤية الحق الثابت.

وكذلك ينتقل السمع من تعلقه بالأصوات المحسوسة إلى الترقي لسماع أصوات التسبيح والتمجيد، التي تعجز الأذن المادية الضعيفة عن أن تبلغ إليها بينما تكون الأذن الروحية قد وصلت إلى حساسية رقيقة تتسمع بها أنغاماً أخرى آتية من الأبدية، عذبة حلوة غاية في الرقة وغاية في القوة تحطم الفضاء في جبرؤوت وتخترق أصوات ضجيج العالم اللاهي، لتصل إلى أذن القلب المرهفة ، لتقود النفس بعذب ألحانها إلى التأمل في السعادة المعدة. وكذلك تنتقل الشفاه واللسان إلى التحدث بمجد الله والتسبيح لاسمه الحي. وتنتقل أعضاء الشم إلى تنسم رائحة صفاء الأبدية، وأعضاء الحس إلى الإحساس بوجود الله وتمييز فترات التمتع بالقرب منه وفترات الحرمان بالبعد عنه. 

309- فإذا نال العقل هذه النعمة ، عند ذلك يطرد الروح القدس عن النفس كل المصاعب التي تأتى عليها من شهوات القلب. وهذا الروح، بسبب شركته مع العقل ينزع عن النفس أوجاعها التي امتزجت بالجسد واحدة بعد أخرى. فالعينان تضيئان باستقامة وتنظران بالطهارة, والأذنان تسمعان بسلامة لا بنميمة، و بالرحمة على كل الخليقة. واللسان يتكلم بالطهارة و ينطق بالخير والبركة، إذ لا تكون فيه إرادة جسدانية. واليدان تتحركان للصلاة وعمل الخير والعطاء، و يكمل عليهما قول داود النبي : «إن رفع يدي ذبيحة مسائية». والبطن أيضاً تتحرز من المآكل والمشارب التي تكون بشراهة وشهوة وكل ما هو فوق الحاجة ، فيتم قول بولس الرسول : «إن أكلتم أو شربتم … يكون لمجد الله». والرجلان أيضاً يضبطهما القلب الذي امتلأ بالنعمة ويحركهما بفعل الروح القدس ليخدما الأمور الحسنة . وهكذا يصير الجسد بحواسه مشابهاً لذلك الجسد العتيد أن يقوم به الصديقون يوم القيامة .

أبا أنطونيوس الكبير

310- يحدث دائماً في زيارة النعمة الإلهية أن يمتلىء الإنسان بعبيق عطر وحلاوة مبهمة تفوق الإدراك والتحليل حتى أن النفس من فيض السرور تنتقل إلى حالة مذهلة وتنسى أنها تحيا في هذا الجسد.

يوحنا كاسيان

أما هذه الحلاوة وهذه الرائحة العطرة فهي تعابير مادية لا تتناسب قط مع حقيقة هذه المواهب الروحية التي تنكشف الحواس النفس عندما تبلغ الدرجة الروحانية . وكم مرة حاول الروح القدس أن يشرح لنا جمال السماء وحلاوة العشرة مع الله وأوصاف العريس السمائي بتعابير مادية لعلنا نستطيع إدراك حقيقة أمرها.

فيقول الروح القدس:

– «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب» ! ( مز34: 8)

– «لرائحة أدهانك الطيبة إسمك دُهنٌ مُهراق. لذلك أحبتكَ العذارى ….
ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته ..
كم محبتكِ أطيب من الخمر!
وكم رائحة أدهانكِ أطيب من كل الأطياب.
شفتاك يا عروس تقطران شهداً ….
تحت لسانكِ عسل ولبن ، ورائحة ثيابك كرائحة لبنان.
ناردین كل عود اللبان … مع كل أنفس الأطياب.
أنا نرجس شارون سوسنة الأودية.
كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي، ثمرته حلوة في حلقي …
صوت حبيبي هوذا آت طافراً على الجبال، قافزاً على التلال. قد دخلت جنتي يا أختي العروس قطفت مُرّي مع طبي، أكلت شهدي مع عسلي، شربت خمري مع لبني. حلقه حلاوة وكلُّه مشتهيات ، هذا حبيبي …»

(نشيد الأنشاد)

تبدو هذه الأوصاف والتعابير الروحية كأنها ألغاز وكثير من المسيحيين يضعون أمامها علامات استفهام، ولكن الروح لا يقصد قط أن يضع أقوال الله مبهمة، طالما كان في الإمكان شرحها بوضوح أكثر.

فالروح، في هذه الأوصاف والتعابير، قد شرح جمال العريس وجمال النفس وما يبادله كل منهما للآخر من عواطف رقيقة وحب وإعجاب، شارحاً هذه العواطف بأقصى ما يمكن أن تستوضحه أفكارنا ومشاعرنا بواسطة حواسنا المادية. غير أنه قد أغلق علينا فهم هذه الأوصاف جميعاً لأننا ننظر إليها في حدودها المادية فقط ، كأنما هي في متناول الإحساس الجسدي البسيط ! ولكن ليس الأمر كذلك إذ يلزمنا أن ننتقل بحواسنا وتفكيرنا وتصورنا من المادية المغلقة الزائلة إلى الروحانية المطلقة الدائمة، حتى نستطيع أن ندرك قيمة النفس الحقيقية وأوصاف العريس السمائي الحقيقية، ونستجلي بحواسنا الداخلية عظمة الخالق وأمجاد السماء، وحينئذ سوف ندرك معنى آخر للجمال ومعنى آخر للذوق والشم والسمع والإحساس. وعندما نصل حقاً إلى هذا الحد من الإدراك الروحي، فسوف ندرك مقدار طفولتنا الروحية وعجزنا الذي كنا نفهم به هذه الأوصاف التي استخدمها الروح في تعبيراته عن الله : «… ولكن لما صرت رجلاً أبطلتُ ما للطفل، فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز ولكن حينئذ وجهاً لوجه.»  (1کو 13: 11) 

فسفر نشيد الأنشاد، مثلاً ، إذا ما أخذناه كما تراه الحواس البشرية فحسب، لا نجد فيه إلا ما يثيرها فتنحط إلى التلذذ الحسي بالأقوال . أما إذا كانت النفس قد سمت فوق الحواس الجسدية، وتدربت حواسها الداخلية على استجلاء غوامض التعابير الروحية فإنها ترى في هذه الأقوال ـ سواء التي في سفر نشيد الأنشاد أو التي في بقية الأسفار الشعرية – معاني روحية في غاية السمو والرفعة، وهي في واقعها بعيدة كل البعد عن الإحساس الجسدي والتلذذ الحسي البسيط . فإذا وصف حب العريس للنفس بالخمر الطيب مثلاً، يكون هدف الروح من . هذا الوصف ليس اللذة الحسية المتولدة من شرب الخمر بل درجة التأثير التى تستهدف لها النفس من اتصالها بالمسيح من تأثير الخمر الجيد على العقل والجسد ؛ فكما أن العقل يسكر ويخف و يتحرر والجسد يتخدر وتذهب أوجاعه وآلامه، كذلك النفس بسبب الحب المفرط الذي تتذوقه من قربها للعريس السمائي تنسى أوجاعها وآلامها ، والعقل يسكر بحبه و يدخل إلى الدهش الذي هو درجة السكر الروحي. والعجيب أن الدرجات التي يمر عليها العقل في أثناء شرب الخمر إلى أن يصل إلى درجة السكر الكامل، هي ذات الدرجات التي تمر فيها النفس إلى أن تصل إلى الدهش الكامل بالله . إذن، فوصف حب المسيح للنفس بالخمر هو وصف في غاية الدقة والإحكام، ولكن ليس كما يحتمله المعنى البسيط الحسي المباشر وإنما يتعداه إلى المعنى التطبيقي الذي يحتاج إلى سمو في الإدراك النفسي والعقلي، وترفع عن المعاني الحسية البسيطة.

إذن، فنحن لن ندرك حقيقة الروح وحقيقة الأوصاف الروحية في الكتب المقدسة طالما كنا محصورين تحت مادية حواسنا ، ولا سبيل للخروج بها من حيزها الجسدي إلى الحيز المنطلق إلا بالتدرب على الهذيذ والتأمل فننتقل بها ونتدرج من مجد إلى مجد. وعندما نصل إلى مباشرة رؤية هذه الأشياء واستجلاء غوامضها بحواس النفس الداخلية فحينئذ سوف ندرك حقيقة هذه الأوصاف وجمال الحياة الروحية حقاً . الروحي

مواهب الروح :

نقرأ عن مواهب الروح. وفي شعور من الحزن واليأس، نقول إنها أحداث الماضي البعيد وقد مضت وانقضت؛ ولكن ليس الأمر كذلك، فالموهبة هي قوة الكنيسة التي ترافقها في جميع الأجيال إلى الإنقضاء، وهي علامة الروح وثمرته التي تميز عمل الله في كنيسته.

غير أنه لضعف الإيمان وإهمال حياة النسك والعبادة المجردة من الأغراض والشهوات والميول المنحرفة، وبسبب برودة المحبة التي تربط جماعة المؤمنين، صارت النعمة وفاعلية الروح أمراً مستغرباً وعسيراً في هذه الأيام؛ شأننا في ذلك شأن أهل الناصرة: « ولم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم» (مت 13: 58) . فالعيب، إذن، ليس عيب الروح لأن الوعد صادق وأمين : والآيات سوف تتبع المؤمنين يخرجون الشياطين باسمي و يتكلمون بألسنة جديدة، يحملون حيات، وإن شربوا سُمَّا مميتاً لا يضرهم، و يضعون أيديهم على المرضى فيبرأون.» (مر 16: 17)

وليس هو عيب الزمن، لأن المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد. و يقول القديس أنطونيوس :

311- كل من تاجر في الروحيات فإنه ينال قوة الله لأن الله ليس عنده محاباة ولا يأخذ بالوجوه، بل هو في كل الأجيال – جيلاً بعد جيل – يعطيها لمن يعمل بأعمالها … حتى أنه لم يخل قط جيل من الأجيال من بلوغ هذا الحد ولا الأجيال الآتية أيضاً تخلو منه .

أبا أنطونيوس الكبير

كذلك أكد السيد المسيح : «أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20) . إذن، فالعيب هو عيبنا نحن وعيب إيماننا الهزيل وإعراضنا عن الروحيات: «الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً و يعمل أعظم منها.» (يو 14: 12)

والكنيسة ، لشدة إيمانها ، لا تضع حداً فاصلاً بين المواهب و بين الثمار الروحية التي تمنح كنتيجة للسعي في طريق البر؛ أو بعبارة ،أوضح ترى أن هناك علاقة قائمة بين المواهب و بين السعي والإجتهاد في السير بالبر والقداسة ؛ بل تميل بالأكثر إلى الإعتقاد بأن السعي وراء النعمة يقود إلى التقديس ونوال المواهب لمنفعة الآخرين وتثبيت إيمان الضعفاء.

 والقديسون جميعاً هم ورثة المواهب من الأجيال الأولى حتى وقتنا هذا، يشاركهم في ذلك من تقلدوا رتب الرئاسات الكنسية بالطهارة وعاشوا فيها عيشة تليق بكرامتها ، وهم غالباً الذين تُستعلن لهم الرؤى والأحلام والنبوات، إذ تكون لتسلسل البركة الرسولية بوضع اليد أهمية عظمى لحمل وتسليم شعلة النار التي حلت يوم الخمسين.

وكنيستنا تمتاز بجرأتها في طلب المواهب والثمار الروحية لأولادها بلا تردد. وفي إحدى الليتورجيات ( القداسات) القديمة – وهي «ليتورجية عهد ربنا» التي ظل الكهنة يقدسون بها إلى ما بعد القرن العاشر – طلبة خاصة من أجل المواهب وتثبيتها . يقول الكاهن :

«إسند يا رب حتى النهاية الذين لهم مواهب الوحي ، وأيد الذين لهم موهبة الشفاء، وعزّز الذين لهم موهبة الألسنة». ولأنبا أنطونيوس رأي صريح في هذا الموضوع :

312- وإذ صرنا بنين فنحن ورثة الله وشركاء ميراث القديسين، فيا أولادي الوارثين مع القديسين ليست الفضائل بأجمعها بعيدة عنكم بل هي لكم ومنكم وأنتم لستم مخفيين في هذا العالم بل ظاهرون الله ، وروح الله فيكم . ولكن إذا ما نلتم هذه المواهب يا أولادي لا تظنوا أنها من أعمالكم بل هي قوة مقدسة مشتركة معكم في جميع أعمالكم …

313- أطلبوا، باستقامة قلب، هذا الروح الناري ، وحينئذ يُعطى لكم ، لأنه هكذا وصل إليه إيليا التسبيتي وإليشع وكافة الأنبياء ، ولا تفكروا في قلوبكم وتكونوا ذوي قلبين وتقولوا من يقدر أن يقبل هذا لا يا أولادي لا تدعوا هذه الأفكار تخطر على قلوبكم ، بل اطلبوا باستقامة فتنالوه ، وأنا أيضاً أبوكم أجتهد معكم وأطلب لأجلكم أن تنالوه لأني عارف أنكم كاملون وقادرون على نواله . لأن كل من يفلح ذاته بهذه الفلاحة فإن الروح يُعطى له في كل جيل وإلى الأبد. وهو يكشف لكم الأسرار العلوية.

أبا أنطونيوس الكبير

إلا أن الآباء على وجه العموم يحذرون من السقوط في الغرور سواء قبل أن يحصلوا على النعمة أو بعد أن يحصلوا عليها ؛ و يتحفظون أيضاً من ضلالة الشياطين التي تتشبه بملائكة نورانية لتخدع السائرين في الطريق الروحي لتضلهم عن بلوغ الحق. وقد كتب الآباء القديسون تحذيرات وإرشادات كثيرة في هذا الموضوع ليكشفوا بها للسائرين في طريق القداسة والبر أنواع ضلالة الشيطان وحيله وكيفية الغلبة والانتصار عليها. ومنهم من بالغ في وصف حذق الشيطان، ومنهم من حقر أعماله واستصغر قوته. فالقديس مار اسحق مثلاً يدلك على حذق الشيطان بعمره الطويل وخبرته المتنوعة، و يرى وجوب عدم محاورته في أي فکر شرير بل لنهرب منه هروباً في كل ما يعرضه علينا . بينما نرى الشيخ الروحاني يستهزىء بقوته و يصفه بذبابة ضعيفة، وأن إشارة الصليب كافية لحل قوته .

314ـ قال الحكماء : إن الشياطين يرصدون الحركات الطبيعية، لأن الطبع إذا ما بدأ يتحرك طبيعياً حسب الترتيب الذي وضعه له الخالق، تبدأ الشياطين أيضاً أن تعمل ما يشابه الحركات الطبيعية (من حيث الجوع الكاذب والعطش الكاذب ومحبة النوم في غير وقت النوم وتحرك أعضاء الشهوة بلا سبب إلخ. )، لأنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً خارجاً عن ذلك ، وبسبب ذلك خرج كثيرون عن سبيل الحق لأنهم سمحوا لأنفسهم أن يتبعوا الخيال.

315- النظر الحقيقي يتبعه هدوء وذهول في الإلهيات والنظر الخادع يتبعه اضطراب الضمير، وعجلة، وتشويش كثير … لا تطلب من الظلمة إشراقاً ، ولا من الكذب كلاماً عن الحق.

غريغوريوس الكبير

316 ـ لا ينبغي – من غير ضرورة أكيدة – أن نسأل أو نشتهي أن تكون على أيدينا أعجوبة ظاهرة أو استعلان. لأنه إذا لم تكن هناك ضرورة فالرب لا يُظهر قواته ولا يعطي آية ظاهرة بلا سبب …. حتى لا تكون المعونة حقيرة في أعيننا وتتراءى لنا أنها أمر تافه … أما إذا جد أمر يستدعي إظهار قوته فإنه لا يتوانى في إظهار اهتمامه القديسيه ، فهو يتركهم أولاً حتى يُظهروا حرصهم حسب قوتهم بالصلاة ، فإذا عسر عليهم أمر ما ولم يكن في طبيعتهم الكفاية له ، فحينئذ يتممه لهم بعظم قوته . هوذا القديس أمونيوس لما مضى لزيارة العظيم أنطونيوس وضل الطريق، أنظر ماذا قال : «يارب دلني على مغارة عبدك».
وماذا فعل الله معه ؟ سمع نداء يرشده إلى الطريق ! … واذكر أيضاً ما صنع مقاريوس لما كان في الطريق و زنابيله على كتفه قال: «يا رب أنت تعرف أنه ما بقي في قوة»، فوجد في الموضع الذي كان ماضياً إليه!

مار إسحق السرياني

317- قد سطرتُ لك ما طلبت مني لنمو وتدرج المبتدئين وكل من يهوى أن يصعد ذلك السلم الروحاني، حيث كل المواهب معدة ، إن كانت معرفة الخفايا أو موهبة الإستعلانات أو نبوة أو موهبة الألسن أو موهبة الشفاء المثلثة القوى (أي التي لأمراض الجسد والنفس والروح) وغيرها من المواهب التي لم يأذن لي الروح أن أظهرها على الورق من أجل قلة الأمانة وعدم الدراية .

الشيخ الروحاني

من ذلك نرى أن حياة القديسين لم تخل من السعي للحصول على ثمار النعمة، يلهبهم قول بولس الرسول : « جدُّوا للمواهب الحسنى » ( 1كو 12: 31)، ومتشبهين بغيرة الرسل الأطهار: «والآن يا رب أنظر إلى تهديداتهم وامنح عبيدك أن يتكلموا بكلامك بكل مجاهرة بمد يدك للشفاء، ولتجرآيات وعجائب باسم فتاك القدوس يسوع . » ( أع ٤ : ٢٩ و ٣٠)

غير أن من مبادىء الكنيسة الصريحة والقاطعة أن لا تكون المواهب هدفاً لجهادنا الروحي، وإنما تكون – كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم ــ معيناً لنا لبلوغ طريق أفضل: «جدوا للمواهب الحسنى وأيضاً أريكم طريقاً أفضل … المحبة !! المحبة لا تسقط أبداً. أما النبوات فستبطل والألسنة فستنتهي والعلم فسيبطل … متى جاء الكامل … اتبعوا المحبة ولكن جدُّوا للمواهب الروحية.» ( 1كو 13 و 14)

وإذا نلنا الحق في حياة الطهارة والنعمة بالميلاد في جرن المعمودية ، أصبح واجباً علينا استعمال ذلك الحق للسير في طريق البر والقداسة والسعي والتدرب لنوال شعلة الروح الملتهبة المسلمة لنا يوم الخمسين : 

318ـ وذلك الروح الناري العظيم هذا الذي قبلته أنا اقبلوه أنتم أيضاً. أما إذا أردتم أن تقبلوه و يسكن فيكم فقدموا أولاً أتعاب الجسد وتواضع القلب، وارفعوا أفكاركم إلى السماء في الليل والنهار، واطلبوا باستقامة قلب هذا الروح الناري وحينئذ يُعطى لكم بالصلاة.

أبا أنطونيوس الكبير

والأثر المباشر لقبول شعلة الروح القدس الفعّالة، هو أن النفس تتعمق وتتداخل في معرفة الروحيات وتنكشف لها الحكمة بعد أن كانت مستورة عنها بسبب ظلمة الشهوات الجسدية، وتنتقل النفس لتنضم إلى زمرة الروحانيين. ويشدد القديس ديودوخس في تعريفه للنفس التي وصلت إلى هذا الحد بأنها « النفس ذات الطابع الروحاني الصرف » ، وعني بهذا أن النفس لا تتأمل في الروحيات فحسب بل تكون هي ذاتها موضوع تأملها أيضاً ؛ تتأمل وتنطق بالإلهيات لا كأنها أمور غريبة عنها بل من ذات طبيعتها !

319- فأما النفس التي تجد الرب الذي هو الكنز الحقيقي بالصبر والمداومة بإيمان ، فإنها تثمر ثمار الروح وتكمل كل بر ووصايا الرب التي يرتبها الروح فيها بدون تقصير أو عـيب.

أبا مكاريوس الكبير

أقوال الآباء في ثمار التأمل :

حكمة ومعرفة روحانية :

320- من نعمة التأمل وجود صوت التمييز السماوي في العقل … حتى أن كلمات الله تدركها أذن القلب وتعيها … وبنعمة فائقة تفهم أسرار الأمور العليا.

غريغور يوس الكبير

321 – هؤلاء ينالون النظر الحقيقي الذي هو الإفراز (الحكمة الروحية)، الذي ليس شيء أعظم منه في الأمانة المسيحية.

أبا أنطونيوس الكبير

322- هكذا القديسون يا أحبائي في كل الأجيال عندما وجدوا هذا الروح وسكن فيهم رفعوا إلى الرب شكراً عظيماً لأنه لا يسكن إلا في نفوس الطوباويين و يكشف لهم أسراراً عظيمة.

أبا أنطونيوس الكبير

323- إن قوة نعمة الله الروحية تعمل عملها في النفس بأناة وحكمة وتدبير عقلي سري. فإذا صبر الإنسان ينكشف له أخيراً كمال صنيع النعمة جهراً.

أبا مكاريوس الكبير

324 – إن قوة نعمة الله في الإنسان، عندما تُحسب النفس أمينة لقبول الحكمة، تعدها لنوالها بعد جهاد عظيم وصبر كثير وتجارب متنوعة واختبار إرادتها ، فإذا احتملت النفس ولم تحزن الروح القدس وكانت موافقة لها، فإنها تُحسب حينئذ أهلاً لأن تُطلق من شدائدها لتنال ملء الروح وغنى الحكمة التي ليست من هذا العالم.

325- وحتى إلى الآن جميع الذين يحبون الله و يرذلون كل الأشياء لأجله و يواظبون على الصلاة، يتعلمون الأسرار التي لم يعرفوها من قبل لأن الحق يُظهر لهم ذاته و يعلمهم كل ما هو حق.

أبا مكاريوس الكبير

326ـ أما الذين يتقدمون في نعمة الروح ، فإنها تعطيهم تمام الميتوتة عن أوجاعهم و يدخلون إلى راحة النفس حيث يتنعمون بالمعرفة الروحانية، فيفرزون أعمال الشياطين وخطايا البشر يين والأوجاع والأفكار التي فيهم والحروب التي معهم ويحشون أيضاً بزيارة الروح التي تكون عند الأطهار، ومن رائحة ثيابهم يفرزون الطاهر من النجس بواسطة النور الإلهي.

الشيخ الروحاني

حرارة التبشير بأمور الله :

327ـ عندما يحلّق القديسون في تأمل الأمور العليا و يتذوقون جمال الحياة الروحية وثمارها، تجدهم ينتون من ثقل الحياة الجسدية، ويتحمسون لإعلان محاسن السماء لأحبائهم بقدر ما يستطيعون … وذلك لأن عقولهم تكون ملتهبة بحب ذلك البهاء الداخلي الذي لا يستطيعون حتى مجرد وصفه كما رأوه . ولكن عندما يتحدثون عن هذه الأمور تنفذ كلماتهم في قلوب سامعيهم وتشعلها ناراً.

328 – كل من يجني منفعة من التأمل ورؤية المناظر الروحانية يرتبط بضرورة التحدث بها للآخرين (السائرين في طريق التأمل الروحي)، لأن هذه الأمور إنما استعلنت له من أجل منفعة الآخرين أيضاً. فعليه أن يعظ الآخرين و يعتني بتقدمهم.

329ـ حينما يعود الإنسان من تأمله لتأدية فضائله التي يعملها بالجسد ( صلاة . صوم . سجود …. إلخ.) ، تجده يغذّي ذاكرته بحلاوة الله فتدسم نفسه من خارج بحركات خشوعية وشوق مقدس من الداخل، مجتهداً دائماً أن يستعيد تذكرها والتحدث بها.

غريغوريوس الكبير

«لم أكن معـانـداً للرؤيا السماوية، بل أخبرت الذين في دمشق وفي أورشليم حتى جميع كورة اليهودية ثم الأمم أن يتوبوا و يرجعوا إلى الله.» (أع 26: 19 و 20)

بولس الرسول

كشف النفس لذاتها :

330- كلما سما مستوى العقل في تأمل الأشياء الخالدة انزعجت النفس من ا الأشياء والأعمال الزائلة، وانقبضت منها بخوف. وعندما تدرك بعد ذاتها عن النور الحق بسبب آثامها، تكتشف مقدار جرمها وتعديها. وهكذا كلما يستنير العقل يزداد خجل النفس بسبب ما تستوضحه من مقدار جنوحها عن مبادىء الحق.

غر يغوريوس الكبير

331- بمقدار ما يتقدم عقل الإنسان ويمتد نحو الصفاء والنقاوة في التأمل، كلما يظهر له دنسه وعدم نقاوته ، عندما يرى ذاته في وجه مرآة الطهارة الحقة لأنه كلما ترتفع النفس إلى تاورية أعلى وتمتد إلى الأمام، تتوق إلى أشياء أعلى من التي تتممها وتتأكد حينئذ من حقارة وتفاهة الأشياء التي تؤديها. لأن النظرة الحاذقة تكشف خبايا كثيرة. والحياة التي بلا لوم تنشئ حزناً عميقًا على ما فرط من الخطايا.

يوحنا كاسيان

اتساع القلب :

332ـ حينئذ لا تطلبون فقط عن أنفسكم بل وعن الآخرين . لأن كل من قبل هذا الروح لا ينبغي له أن يطلب عن ذاته فقط ولكن عن الغير أيضاً. أما أنا فطلبتي من أجلكم ليلاً ونهاراً ليكون فيكم عظمة لذة هذا الروح الذي قد قبله جميع ا الأطهار.

أبا أنطونيوس الكبير

333- هؤلاء يقودهم الروح ويملأهم هماً وأسفاً على جنس البشر الذين زلوا، فيتشفعون في ذرية آدم كلها وتضطرم فيهم : محبة الروح للطبيعة البشرية حتى أنهم ، لو استطاعوا ، لخطفوا كل نفس إنسان متعب إلى أحشائهم دون تفريق بين جيد ورديء .

أبا مكاريوس الكبير

حفظ ورعاية :

334- وإذا نظر الرب هذه الثمرات الحسنة في النفس فإنه يقبلها إليه كرائحة بخور مختار و يفرح بها مع ملائكته الأطهار، ويحفظها في جميع طرقها لتصل إلى موضع راحتها ولا يقوى عليها الشيطان لأنه ينظر إلى الحارس العلوي المحيط بها . فاقتنوا لكم هذا الروح لكي تخاف منكم الشياطين، وتخفَّ عليكم الأتعاب، وتحلو لكم الإلهيات.

أبا أنطونيوس الكبير

سهولة وراحة :

335 – وإلى العلة الأولى يرجع العقل – أي يرجع إلى التدبير الروحي الكامل ــ فيتأمل في حب الخالق وعنايته وإرادته الصالحة، وتبطل من الإنسان حينئذ كل الشكوك والخوف.

مار إسحق السرياني

336- وليس فقط تكون الحروب عنده كلا شيء بل و يزدري أيضاً باللحم الذي هو سبب القتال. هذا هو تدبير الصلاة وهذه منفعة الهذيذ الإلهي ، وهذا هو العمل الكامل الذي يكون برفعة التأمل بالعقل … ومن هنا نحس بالعقل، أننا بنو الآب السماوي وورثة مع يسوع المسيح.

مار إسحق السرياني

337- هؤلاء يكونون متشبهين بالله في خفة حركاتهم النورانية وسهولتهم ، يصنعون مشيئة الله بفرح وحب الأوقات والأزمنة تكون خفيفة هيئة عليهم مثل دقيقة من ساعة، لأنه من أجل لذتهم ينسون الزمان ويستهينون بالضيقات.

الشيخ الروحاني

338- هذه القوة الروحانية حينما تحل في النفس تعطيها لذة وتملأها فرحاً وسروراً يوماً بعد يوم وتشعل فيها حرارة إلهية.

مار إسحق السرياني

339- الروح القدس ينعش النفس ، و ينفذ في جوهرها ، ويروح و يرطب حتى أعضاء الجسد براحة إلهية لا توصف.

340ـ لأن الذين حسبوا أهلاً لأن ينير المسيح أذهانهم بالروح، يقودهم الروح بهدايات مختلفة ، وتعمل النعمة في قلوبهم سراً، وتكون لهم راحة روحية، فتارةً تعلويهم وتفرح قلوبهم بفرح وسرور لا يوصف، وتارة تجعلهم كالعروس التي تتنعم بحب عريسها، وتارةً تحلّق بهم فيصيرون كالملائكة، ثملين من فرط الإنذهال بالسرائر الإلهية.

أبا مكاريوس الكبير

341 ـ « ومفديو الرب يرجعون و يأتون إلى صهيون بترنم وفرح أبدي على رؤوسهم. إبتهاج وفرح يدركانهم وهرب الحزن والتنهد» (إش 35: 10). النفس ، بالتأمل ، تصل حتماً إلى جزائها السري العالي، الذي على رجائه تعبت وجاهدت كثيراً فتنعم بفرحة الخير الحقيقي وبتنسم رائحة صفاء وهدوء الأبدية وأفراح أخرى غير موصوفة :

سرور خفي في الداخل
فرح وطرب في القلب
إشتياق ملتهب نحو الله
تهليل داخل النفس لا ينقطع

أوغسطينوس

رحمة متسعة :

342ـ وتدبير السيرة الروحانية يتكلل بهذه الأكاليل الثلاثة التوبة والنقاوة والكمال . فسئل القديس ما هي التوبة ؟ قال : هي ترك الأمور المتقدمة والحزن على ما فرط من الخطية بقلب منسحق . وسئل ما هي النقاوة ؟ قال : قلب رحوم على جميع طبائع الخليقة سواء كانت بشراً أو طيوراً أو وحوشاً أو دبابات (ثعابين وحيات)، حتى أنه يكون من مجرد ذكرهم فقط تفيض العينان بالدموع من شدة الرحمة التي تعصر القلب، ولا يحتمل أن يسمع أو ينظر أذية تلحق بإحداها حتى ولو كانت حيواناً مؤذياً لأجل الرحمة الفياضة في القلب بغير كيل بشبه الله.

مار إسحق السرياني

محبة:

«لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا.» (رو 5: 5) 

343- إن الذين يتساقط عليهم ندى روح الحياة «ينزل مثل المطر على الجزاز ومثل الغيوث الزارفة على الأرض» (مز 72: 6)، تنجذب قلوبهم بحب إلهي للمسيح، يأسرهم ذلك الجمال والمجد إلى اشتهاء دائم نحو المسيح.

344 ـ يـكـونـون مسبيين بالجمال الإلهي ، مَرْضَى بالحب، إذ تكون حياة الخلود قد انسكبت في قلوهم، لذلك فإن شهوتهم دائماً في الملك السمائي، واضعينه أمام عيونهم على الدوام، ولكي يصونوا شهوتهم فيه ينحلون من كل محبة العالم وما فيه.

345 ـ فمثل هذه النفوس التي أحبت الرب حباً حاراً لا ينطفىء تستأهل للحياة الأبدية، ومن ثم تُحسب أهلاً أيضاً للإفتداء من الأهواء والشهوات الشريرة، وتنال قوة من الروح القدس وشركة سرية مع المسيح على الدوام.

346 – وأما النفس التي وصلت إلى درجة الحب المشتعل فإنها تعمل أعمال البر بلا إحصاء ، ثم تظهر بسيرتها أنها لم تفعل شيئاً البتة بسبب الحب الحار المشتعل فيها نحو الله. ومع أنها تميت الجسد بالأصوام والسهر، إلا أنها لا تكف عن ممارسة الفضائل كأنها لم تتعب قط. وإذ تُحسب أهلاً لمواهب الروح المختلفة وإنعام مواهب الأسرار السماوية، إلا أنها بسبب حبها المتأجج الله تظهر على الرغم من ذلك كأنها ليست أهلاً لشيء ولا تملك في ذاتها شيئاً.

أبا مكاريوس الكبير

347 – عندما يتذوق العقل حلاوة التأمل يشتعل بالحب.

غر يغور يوس الكبير

وداعة واتضاع :

348- كلما تقدم القديسون في فضيلة التأمل، احتقروا ذواتهم وعرفوا أنهم لا شيء وأقل من لا شئ.

غر يغور يوس الكبير

349- عوض الأفكار الكثيرة التي كانت تتجاذب في النفس ، يمتلىء الإنسان بالأفهام الروحانية ويبتهج الضمير بالتأمل في عظمة الطبيعة الإلهية و بالهذيذ بالثالوث القدوس، و بتذكار دائم لعشق المسيح ونور مجده الإلهي ، و بالهذيذ برتب الملائكة الممجدين ، وذكر الفردوس وأرواح الصديقين الذين كملوا جهادهم. ويخاف الإنسان من الدينونة ويحسب كل إنسان أخير منه . وإذا نظر الناس سواء كانوا زناة أو ظالمين يعتبرهم أفضل منه في ضميره الخفي بالحق وليس بالكلام الظاهر، وبقلب طاهر من كل شيء ينظر كل شيء أنه حسن إذ يكون بضمير الله يفكر و ينظر.

مار إسحق السرياني

350ـ و يصير رحوماً بالحق حتى أنه لا يعرف أن يفرق بين المستحق وغير المستحق، ومتواضعاً بالحق حتى أنه إذا مدح وهو مستحق للمدح ما يستريح قلبه.

مار إسحق السرياني

إحتمال عجيب :

351 ـ وعندما يسكن فيهم روح الله فإنه يريحهم في جميع أعمالهم، ويحلو لهم حمل غير المسيح بلا تعب سواء في عمل الفضائل أو في الخدمة أو في سهر الليالي. لا يغضبون من شتيمة الناس ولا يخافون البتة، لا من إنسان ولا من وحش ولا من غلاء ولا من شيطان ، لأن فرح الله معهم ! ليلاً ونهاراً يربي عقولهم و يغذيها فتنمو النفس بالفرح الدائم.

أبا أنطونيوس الكبير

طهارة:

352ـ والذين امتلأوا من حكمة الروح إذا ما النهبت فيهم الشهوة فلا يستسلمون لها البتة، وإذا رأوا الخطيئة ماثلة أمامهم فإن عقولهم لا تتنجس بها أو تفكر فيها ، لأن أصل الشر وزرعه يكون فيهم جافاً محترفاً، هذه هي درجة العظماء بالنعمة حقاً !

أبا مكاريوس الكبير

زهد:

353- زهد والذين التهبوا بشهوة الروح السماوية المقدسة، الذين شبيت قلوبهم بحب الله وتأججت فيهم النار الإلهية، التي جاء الرب لإلقائها على الأرض ( لو 12: 49)، وهو لا يريد إلا اضطرامها ، هؤلاء جميعاً ينظرون إلى الأشياء التي في هذا العالم – الثمينة والمعتبرة جداً ـ كأنها أشياء كريهة بسبب نارحب المسيح المشتعلة في قلوبهم ليلاً ونهاراً.

أبا مكاريوس الكبير

عدم دينونة : 

354ـ لا يبطل لسانهم من تلاوة المزامير وتهليل الروح حتى أنهم لا يعطون فرصة للشيطان أن يُلقي فيهم سهامه المتقدة، وحينما تمتلىء النفس من ثمار الروح تتعرى تماماً من الكآبة والضيق والضجر، وتلبس الإتساع والسلام والفرح بالله وتفتح في قلبها باب الحب لسائر الناس … تصبر الليل والنهار متحفظة على باب قلبها تطرد كل فكر يوسوس لها بأن هذا صالح وذاك شرير، هذا بار وذاك خاطيء، ترتب حواسها الداخلية وتصالحها مع القلب والضمير لئلا يتحرك واحد منها بالغضب أو بالغيرة على واحد من أفراد الخليقة. أما النفس العاقر الخالية من ثمار الروح فهي لابسة الحقد على الدوام والغيظ والضيق والكآبة والضجر والإضطراب ، وتدين على الدوام قريبها بجيد ورديء.

مار إسحق السرياني

حرارة العبادة :

355 – عندما تزور النعمة الإنسان المبتدىء بالطريق الروحاني ، تزرع في قلبه اتضاعاً، وتجعل أفكاره تحت التراب ، وتمده بالدموع على ذكر خطاياه وتحلّي في قلبه الترتيل، وتعطيه خفة ولذة في خدمته الطويلة، وتحبب له السجود المتواصل، تشعل في قلبه حلاوة ذكر القديسين وأعمالهم وفضائلهم، وتعطيه حرارة للتشبه بأعمالهم ، تحبب له القراءة المستنيرة وتفتح ذهنه لفهم المكتوب وتحرك فيه شعوراً بالندم على خطاياه مع دموع بلا كيل تحبّب للإنسان عمل الخير ومساعدة المرضى والضعفاء والميل إلى الهدوء والصمت … واحدٌ تحرك فيه إحدى هذه الحركات الروحية وآخر تشعله بجميعها، كلّ حسب احتياجه واشتياقه .

الشيخ الروحاني

356ـ حديث للأب صار وفيم ساروفسكي مع تلميذه عن اقتناء الروح القدس : تلميذ الأب صاروفيم: «أنا لا أفهم كيف يمكن للإنسان أن يتأكد أنه موجود وقائم في الروح القدس؟ أو كيف يمكنني أن أتحقق على وجه التأكيد من أن هذا الإستعلان في أنا ؟ »
الأب صاروفيم: «لقد سبق أن قلت لك إن هذا أمر بسيط، ولقد تحدثت لك كثيراً عن حالة أولئك الذين يكونون موجودين في الروح ، وقد سبق أيضاً أن شرحت لك كيف نتحقق من هذا الوجود فينا …. فماذا يعوزك أكثر من ذلك يا صديقي ؟ »
التلميذ : « أنا يلزمني أن أفهم ما سبق أن قلته لي بأكثر وضوح».
صاروفيم: «إسمع يا صديقي ، نحن الآن كلينا في هذه اللحظة موجودين في روح الرب … لماذا لا تنظر إلى؟» 

التلميذ : «أنا لم أعد أستطيع أن أنظر إليك يا أبي، فإن عينيك يشع منها نور كالبرق الخاطف وقد صار وجهك يتوهج أكثر من الشمس ، لقد تأذت عيني من النظر إليك !»

صاروفيم: «لا ترتعب فأنت في هذه اللحظة أيضاً قد صرت مضيئاً كما صار لي، فقد أصبحت أنت الآخر الآن في ملء روح الله وإلا ما كنت قد استطعت أن تراني بما رأيتني فيه».

وانحنى نحوي وأسر في أذني : أشكر الرب على صلاحه اللانهائي نحونا، وهوذا أنت ترى أني لم أعمل شيئاً قط من أجل ذلك حتى ولا إشارة الصليب، ولكن كان يكفي أن ناديتُ الرب مصلياً بفكري ومن قلبي قائلاً: يارب اجعله مستحقاً أن يرى بعينيه حلول روحك الذي تنعم به على خدامك عندما يتراءى لك أن تظهر لهم في بهاء مجدك العجيب». وهكذا ترى يا صديقي ) أن الله استجاب في الحال الصلاة صار وفيم المسكين . فكم ينبغي أن نشكر الله على هذه العطية الفائقة التي منحها لنا كلينا ، علماً بأنه حتى الآباء في الصحاري لم توهب لهم دائماً هذه العطية التي بها استعلن صلاحه. إن نعمة الله كأم مملوءة حباً وحناناً نحو أولادها رأت أن تعزّي قلبك المضطرب بشفاعة أم الله … فلماذا أراك يا صديقي لا تريد أن تحدق في وجهي؟ أنظر في بحرية بدون خوف فالرب معنا الآن ! …

التلميذ : «فلما شجعني بهذه الكلمات تطلعتُ إليه فانمسكت بخوف مقدس ! … تصور أنك رفعت عينيك فجأة من قرص الشمس الوهاج في عزّ الظهر لتحدق في وجه إنسان داخل هذا القرص وهو يتحدث إليك ! ! ! …

كنتُ ألحظ تحرك شفتيه وملامح عينيه وأسمع صوته وأحس بيديه وهو ماسك كتفي، ولكن لم أستطع أن أرى لا يديه ولا باقي جسمه ه فالكل غاب عن بصري ما عدا النور المتوهج الذي يحيط به والذي يشع منه فيسقط على الثلج الذي يغطي الأرض من حوله و يضيء قطع الثلج المتساقطة علينا من السماء ( الوقت شتاء والأب صار وفيم كان يعيش في الغابة في العراء) .

صاروفيم: «بماذا تحس ؟ »

التلميذ : « بسعادة تفوق الوصف ! »

صار وفيم: «أي سعادة ؟ حدد بالضبط ».

التلميذ : «أشعر بهدوء وسكينة وسلام في نفسي لا أجد لها كلمة تستطيع أن تعبر عنها».

صاروفيم: «إسمع يا صديقي، هذا هو سلام المسيح الذي وعد به : سلامي أترك لكم سلامي أعطيكم السلام الذي لا يستطيع العالم أن يعطيه . السلام الذي يفوق كل عقل. ولكن بماذا تشعر أيضاً ؟ »

التلميذ : « بسرور لا حدَّ له داخل قلبي»

صاروفيم : « حينما يأتى الروح القدس ويحل على إنسان ويحيطه بملء وجوده، تفيض النفس بفرح لا ينطق به لأن الروح يملأ كل ما يلمسه بالسرور. فإذا كانت باكورة الفرح السمائي قد ملأت قلبك بهذه اللذة وهذه السعادة ، فماذا نقول في الفرح الذي سنعطاه في الملكوت الذي ينتظر كل الذين ينتظرونه الآن على الأرض !! واعلم يا صديقي أنك وإن كنت قد بكيت أيضاً هنا في زمان غربتك على الأرض فانظر أي فرح أرسله لك الرب ليعزّي قلبك أيضاً الآن هنا . من أجل ذلك ينبغي أن نجاهد في الحاضر حتى نبلغ إلى قياس قامة ملء المسيح ونتشدد أكثر فأكثر لأنه حينئذ يتحول الفرح الجزئي المؤقت الذي نحسه الآن ويُستعلن في ملء كماله ليغمر وجودنا كله بمسرات لا ينطق بها ولا يستطيع أحد أن ينزعها منا !! »

خاتمة مفرحة :

إن بين المنهمكين بأمور العالم وبين المشتغلين بالتاوريا (أي التأمل الروحي) فرقاً : فالأولون تبتدىء أمورهم حلوة بهجة مفرحة ، وتنتهي مرَّة كتيبة مظلمة . أما الآخرون فتبتدىء أمورهم مريرة محزنة مظلمة إلا أنها تنتهي بالفرح والبهجة والسرور والذي ذاق الطريقين يعرف قيمة هذا القول.

مار إسحق السرياني

زر الذهاب إلى الأعلى