تفسير المزمور 10 للقديس أغسطينوس

عظة في المزمور التاسع (ب)
العاشر بحسب تقسيم العبرانيين

(اعتبرت الترجمات اليونانية واللاتينية أن المزمورين 9 و 10 يشكلان مزمورًا واحدًا)

20- لما كان المسيح الدجال أو الإنسان الخاطئ سيرتفع، على ما يُعتقد، إلى مرتبة عالية من المجد الباطل، ويبسط سلطانا عظيمًا على جميع الناس وعلى مختاري الله، حتى أن كثيرين سيضعفون ويُساورهم شك بأن الله لم يعد يكترث للبشر، يُعبّر النبي، بشكل من الأشكال، بعد ضرب الأوتار (سلاه) عن الشكوى والنحيب من تأخر الدينونة، فيقول: «لماذا يا ربّ تقف بعيدا؟» (10: 1). وكما لو ان السائل استنار لتوّه، أو كما لو انه سأل عما كان يعرف جوابه، لا طلبًا لمعرفته، أضاف: «إنّك تحتجب في يوم الضيق» (10: 1)؛ أي إنّك تحتجب في الوقت المناسب، وتوقظ الضيق لتضرم في القلوب الشوق إلى مجيئك؛ فكلما اشتد عليهم العطش الذي يُضنيهم، كلما طاب ينبوع الحياة؛ وهذا ما مكن النبي من أدراك أسباب ذلك التأخّر، فنسمعه يقول : يضطرم البائس بطغيان الشرير (10: 2). لا يُصدق، أن رؤية الخطأة تُحرق البائسين بشعلة مضطرمة، وبرجاء مقدس يرفعهم إلى حياةٍ فُضلى. السبب الخفي وحده جعل الله لكنه صحيح، يسمح بوجود هراطقة. وذاك ليس بلا شك، مخطط الهراطقة. لكن حكمة الله تعرف كيف تستفيد من ضلالهم هي التي تخلق النور وتنظمه، وتكتفي بتنظيم الظلمة (تك 1: 3، 4) ، حتّى إذا قارنا الظلمة إلى النور، رأينا النور أبهى وأروع ، مثلما نرى أنفُسا، أمام الهراطقة، أشدّ سعادة في لقاء الحقيقة. إنّ هذه المقارنة تجعلنا نكتشف في العالم ذوي فضيلة مختبرة لا يعرفها سوی الله.

21- “ويؤخذون بالمكائد التي صنعوها” (10: 2)، أي أنّ مكائدهم الشريرة تغدو قيودًا تُكبّلُهم. لكن، لم تغدو قيودًا؟ – “لأنّ الخاطئ يُمتدح في مكائد نفسه” (10: 3) وكلمات المكر تقيد النفس في خطاياها ؛ لأنه يطيب لنا، لا أن نعمل فقط ما لا نخشى التوبيخ على فعله، بل أيضًا ما يجلب لنا الهتاف والتصفيق. ولأنّ صانع الشرّ يمتدح، فإنّ المذنبين يُقيّدون بمكائدهم التي صنعوها.

22- «الشرير يُغضب الرّب» (10: 3) . لا نبتهج بالرجل الذي ينجح في هذه الحياة، وتبقى خطاياه بلا قصاص، ويُصفّق الناس لها . إِنْ في هذا إثارة عظمى لسُخط الله على الخاطئ أن يكون قد ، قد بالغ في إغضاب الله لكي يُعاقبه الله على هذا النحو، فلا يقوى بعد ذلك على الشعور بتأديب يُصلحه. إذًا، «الشرير يُغضب الرب، فلا يعود الربّ بسخطه يلتفت إليه» (10: 4 ). يطفح سخط الله عندما لا يعود يستقصي خطايانا، فيبدو وكأنه نسيها، ولم يعد يبالي بها، ويسمح بأن يبلغ الشرير الثروة والكرامة، عن طريق الغش والقبائح، وهذا ما نراه خاصةً في المسيح الدجال الذي يحسبه الناس سعيدا فيتخذونه إلها. وستكشف لنا تتمة المزمور كم هو رهيب غضب الله

23- «يحتجب الله عنه لأنّ طرقه نجسة أبدا» (10: 5). إنّ الذي تذوّق لذائذ النفس الحقيقية وأفراحها يعرف كم يكون بائسا لو حرم من نور الحقيقة. إذا كان الناس يحسبون حجب نور النهار عن عيني الجسد مصيبة جُلّى، فما القول عن مصيبة إنسان يتمرغ في خطاياه إلى درجة لا يعود معها يرى الله، ولا يعود يسلك إلا في الطرق النجسة، لأنّ أفكاره ومخططاته آئمة؟ «يستخف بأحكامك» (10: 5). إن النفس التي تُدرك ذنبها ، ولا تُعاقب، تتصوّر أنّ الله لا يُحاكمها ، فلا تعود تأبه لأحكام الربّ، وتلك هي إدانتها الرهيبة. ويسود على جميع أعدائه (10: 5). إذ يعتقد بأنه سيقهر جميع الملوك، ويتفرد بحكم الأرض. والقديس بولس الذي يُخبرنا به، يذهب إلى حد القول: «حتى إن المعاند يجلس في هيكل الله ويترفّع فوق كلّ من يُدعى إلها ومعبودا.» (2تس 2: 4).

24- وبما أن الشرّير ينقاد إلى شهوات قلبه، ويُهيَّأ للانتقام الأخير، نراه يترفّع، بمكره الآثم إلى السيادة والتسلط، وإلى أوج مجده الباطل والفاني. وعليه، يُضيف النبي : «قال في قلبه : إن لم أفعل الشر، فلا أستمر من جيل إلى جيل» (10: 6)، أي أنّ اسمي ومجدي لن يستمرًا من جيل إلى جيل إلى ذريتي إن لم أكتسب من مكر الشرّ سيادة لا تقوى الأجيال المسقبليّة على كبحها . ذاك أنّ الروح الشرير الذي لا يعرف الخير، والغريب عن أنوار البرّ يسعى بأعمال آثمة إلى أن يشق طريق شهرة لامعة، يتردّد صداها في الأجيال. والذين لا يقوون على أن يُشتهروا بالخير يريدون أقلّه أن يُشتهروا بالشر، وينشروا شهرتهم في البعيد ذاك هو برأيي معنى هذه الكلمات: «بفعلي الشر، أستمر من جيل إلى جيل». بوسعنا أيضًا أن نطبق هذه الكلمات على إنسان روحه الخبيثة والمليئة من الضلال لا تؤمن بأنها تستطيع الانتقال هذه الحياة الفانية إلى الحياة الأبدية إلا عن طريق الشر، وهذا ما  تُخبرنا به أعمال الرسل (8: 9، 23) عن سمعان الساحر الذي كان يظن أن بوسعه أن يصعد إلى السماء بأحابيل سحره الماكرة، ويتحوّل من الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الإلهيّة أفعلينا أن نعجب، الآن، من أنّ إنسان الخطيئة هذا الذي يُجسّد في ذاتِه الشر كله والمكر كله، والذي لم يُعط عنه الأنبياء سوى ملامح بدائية، ويُعطى موهبة صنع المعجزات إلى حدّ إغواء الأبرار ، لو قُدّر له ذلك، يذهب إلى حد القول في قلبه : لا سبيل لي سوى الشرّ لكي أستمر من جيل إلى جيل»؟

25- «فمه مملوء لعنة ومكرًا وظلما» (10: 7). إنها، في الحقيقة، لعنة عظيمة أن يتوق المرء إلى السماء عن طريق الحيلة الدنيئة، وأن يصبو إلى الحياة الخالدة بمثل تلك الإستحقاقات. ليس فمه فقط هو المملوء بتلك اللعنة، فغروره خائب، ولن يبقى على فمه إلا لهلاكه، هو الذي تجرّأ أن يعد نفسه بالسماء عن طريق المكر والظلم، أي عن طريق ألاعيبه الماكرة التي تجذب إليه الجماهير. وتحت لسانه سعي وألم» (10: 7). ما من سعي أعنى من الظلم والإثم ؛ وهذا السعي يُنشئ الألم، لا لأنه فقط غير مجد، بل بالأحرى لأنه مضر. السعي والألم يُميّزان هذه اللغة: «بالشرّ وحده أستمر من جيل إلى جيل». قيل إنّ الضرر تحت لسانه، لا على لسانه، لأنّه يُضمِر هذه الأفكار داخل روحِه، ويُكلّم الناس بلغة مغايرة، لكي يُنظَر إليه كبطل للخير والبر، وحتى كابن الله.

26- «يكمن للأغنياء» (10: 8) ، أولئك الأغنياء الذين يُتخِمُهم من خيور هذا العالم. فيكمن لهم ويُفاخِر بسعادتهم الزائفة ليخدع الناس الذين تستحوذ عليهم تلك الرغبة القاتلة بامتلاك مثل تلك الثروات، فيُهملون الخيور الأبديّة ويسقطون في حبائله. «في الظلمة يقتل البريء» (10: 8). أعتقد أنه يقصد هنا بالظلمة، حالة النفس التي تكاد لا تقوى على تمييز ما ترغب فيه، وما عليها أن تتوقاه؛ وقتلُ البريء هو جرُّ من لا وصمة فيه إلى وحل الخطيئة.

27- «وعيناه تُراقبان البائس» (10: 8). فهمه الأوّل مطاردة الأبرار الذين قيل عنهم: «طوبى لمساكين الروح فإنّ لهم ملكوت السموات» (مت 5: 3) «يكمن لهم في الخفاء كالأسد في عرينه» (10: 9). يُشبه الذي يستخدم العنف والحيلة بالأسد الكامن في عرينه. أوّلُ اضطهاد للكنيسة توسّل العنف، فكان المسيحيون يُقادون إلى الموت، قهرًا، فيُعَذَّبون ويُلقَوْن فريسة للوحوش الضارية؛ والإضطهاد الآخر من صنع الهراطقة والإخوة الكذبة، كان وما زال مستمرا، وميزته الخداع ؛ والإضطهاد الثالث والأشد خطورة سيكون اضطهاد المسيح الدجّال الذي سيتميّز بالعنف والخداع. ستكون له القوة من خلال التسلّط والخداع والإغواء من خلال المعجزات. ونرى العنف من المقارنة بالعرين. والعبارة التالية تأتينا بالمعنى نفسه : ينصب الشبكة ليخطَفَ البائس. تلك هي الحيلة. وعبارة «يخطفه، بعد أن يجذبه» تدلّ على العنف. فالجذب يدلّنا على أنه لشدّة تعذيب البائس يتمكن منه ويُخضِعُه . 

28- التتمة تكرّر أيضًا ما قيل من أنّه «يُمسك به في الشبكة» : تلك هي الحيلة. «وعندما يتسلّط على البائسين، يُسحقُ ويُداس» (10: 10): ذاك هوالعنف. الشرك يدلّ على المكر، والتسلّط على الإرهاب. محق النبي حين يقول :« يتمكن من البائس ويجذبه إلى الشبكة» : لأنّه كلّما بدا مذهلا ما يُزمع أن يأتيه من أعمال، كلما اشتدّ ازدراء القديسين، وسقطوا في الهوان؛ وبما أنّ عليهم أن يُقاوموه ببرهم وصلاحهم، سيبدو أنّه فَهَرَهم بسنى معجزاته. لكنه بدوره «بعد أن يتسلط عليهم، يُسحَق ويُداس»، أي بعد أن يكون قد أذاق خُدّام الله الذين يقاومونه كل أشكال العذاب .

 29- لكن، لماذا يُسحق ويُداس؟ – ذاك لأنّه «قال في قلبه إنّ الله قد نسي. حجب وجهه فلا ينظر البتة» (10: 11). إنّه لانسحاق وسقوط مريع للنفس البشرية، أن ترى سعادتها في الإثم، وترجو الصفح، فيما هي مضروبة بالعمى، ومحفوظة للإنتقام الكبير الأخير الذي يُشير إليه النبي فيهتف: «قم أيها الربّ الإله وارفع يدك» (10: 12) أي أظهر قدرتك. سبق أن قال أعلاه: «قم يا ربّ، ولا يتجبّر الإنسان، ولتدن الأمم قدامك»(9: 20)، أي في السرّ الذي لا يدرك كنهه إلا الله وحده. هذا ما حدث عندما بلغ المنافقُ إلى ما ينظر إليه الناس كسعادة كبرى، فأخضعهم للدينونة بما يستحقون، كما قيل: «يا ربّ ألقِ عليهم الرعب وليعلم الأمم أنهم بشر» (9: 21). وبعد هذا القصاص المحجوب والعادل، قيل : قم أيّها الرب الإله وارفع يدك»، لا بعد في الخفاء، بل في بهاء مجدك. ولا تنس البائسين»، كما يتصوّر المنافق القائل : «إنّ الله قد نسي حجب وجهه فلا ينظر البتة» (10: 11) لأن القول بأنّ الله لا ينظر البتة، أو أنه لا ينظر حتى النهاية، يعني أنه لا يُقيم أي وزن لأعمال البشر على الأرض. والحال، فإنّ الأرض هي نهاية الأشياء، كما هي آخر العناصر التي يعمل فيها البشر بنظام رائع، لكنّه نظام لا يفقهونه في أعمالهم لأنه يدخل ضمن أسرار الإبن إذًا، في خضم الجهد المضني في هذه الدنيا، تبدو الكنيسة مثل سفينة وسط الأنواء والعواصف، تتلهف لإيقاظ الربّ النائم، ليأمر الرياح الهوجاء أن تهدأ، ويُعيد السكينة، وتقول: «قم أيها الربّ الإله وارفع يدك ولا تنس البائسين». 

30- إن معرفة الدينونة الأخيرة تدفعنا إلى أن نقول بفرح : «لماذا استهان المنافق بالله» (10: 13) ماذا جنى من موبقاته؟ «قال في قلبه : إن الرب لن يسأل عنها، بل قد رأيتها يا ربّ، ولكنك تنظر إلى الغضب والعناء لتجازي بيدِك» (10: 13-14). لنقرأ جيدا هذه الكلمات لنعرف معناها، لأنّ قراءة مغلوطةً تقودنا إلى الظلمة. قال المنافق في قلبه : «الله لن يسأل عن «الآثام كما لو ان الرب، حين يرى ما سيعانيه من كرب لكي يوقعهم في يده، يزدري الكرب والغضب، ويصفح أولئك المنافقين من أجل ألا يعود فيعنى في الاقتصاص منهم، وألا يُعكّر الغضب صفاءه. وهذا ما يحصل في الغالب للناس الذين يؤثرون الصفح على العقاب لكي يوفّروا على أنفُسِهم كرب عن الغضب .

31- إليك يُفوّض البائس أمرَه (10: 14). لأنه ليس بائسا ، ولا هو ازدرى خيور هذه الحياة الفانية، إلا لكي يضع فيك وحدك رجاءه. واليتيم كنت أنت له ناصرا (10: 14)، أي اليتيم الذي مات العالم عنه، ذاك العالم الذي كان أباه الذي ولده بحسب الجسد؛ اليتيم الذي يستطيع أن يقول : صُلِبَ العالم لي، وصلبتُ للعالم» (غلا 6: 14). يصير الله أبا لذلك اليتيم؛ ويُعلّم المخلّص تلاميذه أن يصيروا أبناء الله عندما يقول : «لا تدعوا لكم في الأرض أبا» (مت 23: 9). وهو نفسه أوّل من يُقدّم المثل فيقول: «مَن أُمِّي ومَن إخوتي؟» (مت 12: 48) . إستنادا إلى هذا القول، زعم بعض أخطر الهراطقة أنه لم يكن له أمّ ؛ لم يروا أنّ الرسل لو أخذوا كلام الربّ بحرفيته، لما كان لهم في الأرض آباء. إن كان قال: «من أمي»، فلأنه علم تلاميذه ألا يدعوا أحدًا على الأرض أباهم.

32- «إحطم ذراع المنافق والشرِّير (10: 15). ذراع الإنسان الذي قيل عنه أعلاه إنه صار سيدًا على جميع أعدائه. ذراعه هي قوته التي تقهرها قوة المسيح الذي قال عنه النبي : «قم يا ربّ وارفع يدك». تطلب شره فلا يعود يظهر بسبب شرّه هذا ، أي أنه سيدان على شرّه، وشره يُهلكه، فأين العجب في هذا القول: «ويكون الربّ ملك الدهور والأبد؛ ويا أيها الأمم، سوف تُطرحون من أرضه» (٩ب: ١٦). والأمم هنا هم الخطأة والمنافقون.

 33- استجاب الربّ رغبة البائسين (10: 17). تلك الرغبة التي أضرمتهم عندما كانوا يتلهفون وسط الضيق والشدائد، إلى يوم الرب : سمعت أذنك يا ألله أنّ قلبهم مستعد» (10: 17). إستعداد القلب هذا هو الذي أنشده النبي في مزمور آخر: «قلبي مستعد يا الله، قلبي مستعد (مز56: 8)؛ والذي قال عنه القديس بولس: «فإن كنا نرجو ما لا نشاهده فبالصبر ننتظره» (رو 8: 25). يجب ألا ننظر إلى أذن الله على أنّها أذن بشريّة، بل أنها تلك القدرة التي تدفعه إلى الإصغاء إلينا والإستجابة إلى طلباتنا ومن أجل ألا نعود إلى هذه المسألة، نقول إنّ الكتاب عندما يجعلُ الله أعضاء كأعضائنا، جسديةً ومنظورة، علينا أن نفهم أنّها تعني قدرته على العمل. ويجب ألا نرى فيها أي شيء مما هو من الجسد، لأنّ الله يُصغي فينا، لا إلى نبرة الصوت، بل إلى استعداد القلب.

34- «تقضي بالعدل لليتيم والبائس (10: 18)، أي لمن لا ينسجم مع العالم، ولا هو بمتجبّر متعال. القضاء لليتيم لا يعني بالضرورة الحكم لصالحه، بل يمكن أن يعني أيضًا إدانته. لكن يُقضى له بالعدل عندما يلفظ الحكم لصالحه. «لئلا الإنسان إلى أن يعظم في الأرض» (10: 18) لأنّهم بشر أولئك الذين قيل عنهم : يسعى

ألق عليهم نير الرعب يا ربّ، وليعلم الأمم أنهم بشر» (9 : 21). لكن النير المطلوب إلقاؤه ، سيكون أيضًا بشرًا ، وعنه قيل: «لئلا يسعى الإنسان إلى أن يُمجَّدَ في الأرض». وهذا ما سيحدث عندما يأتي ابن الإنسان ليقضي لذاك اليتيم الذي تعرّى من الإنسان العتيق، فكان كمن مجد أباه .

35- إن أسرار الابن التي كثر الكلام حولها في هذا المزمور، سوف تستتبع بتجليات ذلك الإبن إيَّاه، الذي يُلمح إليه في آخر المزمور. لكن الموضوع المشار إليه في العنوان يحتلّ منه الجزء الرئيسي. بوسعنا أيضًا أن نضع بين أسرار الإبن، يوم مجيئه الثاني، ولو ان مجيئه ينبغي أن يُعاينه الجميع. لأنه قيل عن ذلك اليوم إنه لا يعرفه أحد، لا الملائكة، ولا القوّات، ولا حتى ابن البشر (مر 13: 32). والحال، فأي سرّ أعصى على الإستقصاء من ذاك الذي قيل أنه محتجب على الديان نفسه، لا كأنه يجهله، بل لأنه ينبغي ألا يكشفه؟ أما إذا أراد أحدهم أن ينسب تلك الأسرار للإبن، لا إلى ابن الله، بل إلى ابن داود الذي تحمل المزامير توقيعه، لكونها تُسمّى مزامير داود، فليستمع إلى هذه الكلمات الموجّهة إلى الرب يسوع: يا ابن داود ارحمني ! (متى 20: 30). وليعلم أن ابن داود، هذا، هو ربنا يسوع المسيح نفسه الذي أوحت أسراره هذا العنوان. وليستمع كذلك إلى كلام الملاك : ويُعطيه الربّ الإله عرش داود أبيه» (لو 1: 32). وهذا التفسير لا ينقضُه سؤال المسيح لليهود: «فكيف يدعوه داود ربّه، بوحي من الروح، حيث يقول : قال الرب لربّي إجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطا لقدميك» (مت 22: 43-44؛ مز 110: 1) . كان هذا الكلام موجّهًا إلى أناس أغبياء لم يكونوا يرون في المسيح المنتظر سوى مجرّد إنسان لا قوة الله وحكمته. كان الربّ يُعلمهم أن يؤمنوا، بحسب الحقيقة الأنقى، أنّ المسيح هو ربّ داود، لأنه في البدء كان الكلمة إلها من إله وبه كلّ شيءٍ كان؛ وأنه أيضًا ابن داود لأنه ولد، بحسب الجسد، من نسل داود لا يقول الربّ إنّ المسيح ليس ابن داود، بل قال : إن كنتم على يقين من أنه ابنه، ألا فاعلموا أيضًا أنه ربه ؛ وأنظروا على الدوام إلى المسيح أنه ابن البشر، أي أنه ابن داود، ولكنّه لم يتخلَّ عن بنوّتِه الله التي جعلته ربا لداود.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى