مدى الإلهام الذي قدَّمه القديس بولس لخزانة الكنيسة في عقيدة المعمودية

 من كتاب المعمودية: الأصول الأولى للمسيحية 
للأب متى المسكين

الفصل الثاني
الجزء التقليدي

أ المعمودية من واقع الإنجيل وسفر الأعمال والرسائل 
4 – مدى الإلهام الذي قدَّمه القديس بولس
لخزانة الكنيسة في عقيدة المعمودية([1])

 

كان الأثر الذي أحدثه انضمام القديس بولس الرسول انضماماً إلهياً حرًّا مثيراً للجماعة المسيحية الأُولى ذا فاعلية تفوق الحدود والتصوُّر. كما أن التحامه الهادئ غير المثير في تقليد الكنيسة الأُولى يبدو وكأنه طبيعي لعلو الوسائل التي أدخلته في عمق الكنيسة، كشاهد مثل باقي الشهود، مع أنه لم ير الرب يسوع المسيح على الأرض قط. مما يفيد إفادة بالغة أن مقدار انسكاب النعمة والمعرفة والحكمة والرؤية والشهادة معاً كانت فوق العادة.

ولأول وهلة أعلن أمانته المطلقة لمضمون إيمان الكنيسة العام: » فإنني سلَّمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً، أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب. وأنه دُفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب. وأنه ظهر لصفا ثمَّ للاثني عشر، وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمس مئة أخ أكثرهم باقٍ إلى الآن ولكن بعضهم قد رقدوا. وبعد ذلك ظهر ليعقوب ثمَّ للرسل أجمعين. وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا، لأني أصغر الرسل، أنا الذي لست أهلاً لأن أُدعى رسولاً، لأني اضطهدت كنيسة الله. «(1كو 15: 3-9)

كما أن شاول المدعو بولس قد استلم سر العماد كبداية ونهاية لكرازته وختم إيمانه وعلامة غفران خطاياه: » أيها الأخ شاول أبصر. ففي تلك الساعة نظرت إليه. فقال: إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته وتبصر البار وتسمع صوتاً من فمه. لأنك ستكون له شاهداً لجميع الناس بما رأيت وسمعت. والآن لماذا تتوانى؟ قُم واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب «(أع 22: 12-16)، الأمور التي صارت في صميم لاهوته وكرازته منذ أول يوم كشاهد وكارز. وكانت المعمودية انفتاحه الأول على الكنيسة والإيمان والموت والقيامة. وصار مركز لاهوته أن كل تغيير أخلاقي يؤهِّل لدخول ملكوت الله قائم على اسم الرب يسوع من داخل الثالوث: » وهكذا كان أُناس
منكم، لكن اغتسلتم، بل تقدَّستم، بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا «(1كو 11:6). حيث بالمعمودية تقوم التوبة ومغفرة الخطايا لا بالماء وحده أو بفعل الغسل، بل بسلطان موت المسيح وقيامته وقوة روح الله! حيث تقوم هذه المفاعيل كلها كما ذكرها في شأن العروس الكنيسة أنه أسلم نفسه لأجلها ليقدِّسها بتطهيرها بغسل الماء بالكلمة، أي باعترافها العلني. وهكذا تصبح المعمودية القائمة على تسليم الرب لنفسه على الصليب للفرد ولمجموع الأفراد أي للكنيسة هي المدخل المقدَّس للمقدَّسات من خلال الكلمة، أي الاعتراف بمضمون الكريجما.

وفي رسالته إلى تيطس جمع التجديد بما حوى من تغيير أخلاقي والمروق إلى حالة الجدة المطلقة كخليقة جديدة بفعل الروح القدس، بصورة إعجازية يستمدها من الصليب: » لا بأعمال في برٍّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته (على الصليب) خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس «(تي 5:3). على أن الروح القدس لا من ذاته ولا من دعاء آخرين بل: » سكبه (الله) بغنى علينا بيسوع المسيح مخلِّصنا. «(تي 6:3)

وهكذا كان دأب بولس الرسول أن يأخذ التقليد الجاري ويُرجعه إلى أصوله، ويعمِّق مفهومه اللاهوتي، ليكون الخلاص مفهوماً وممارساً معاً على ضوء نعمة الله المجانية.

وهكذا دخلت المعمودية في مدرسة ق. بولس الرسول اللاهوتية كفعل تطهير أخلاقي، كما نصَّت عليه العقيدة الأُولى في الكنيسة، ولكن على أساس “الكلمة” قبولاً واعترافاً واستجابة لحياة جديدة معطاة بالروح القدس.

أمَّا أن المعمودية فعل انضمام للكنيسة فقد أوضحها ق. بولس في رسالته إلى أفسس: » كما أحبَّ المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلِها، لكي يقدِّسها، مطهِّراً إِيَّاها بغسلِ الماءِ بالكلمةِ، لكي يُحضِرها لنفسه كنيسةً (أفراد) مجيدةً، لا دنَسَ فيها… مقدَّسةً وبلا عيبٍ. «(أف 5: 25-27)

وكما جاء أيضاً في (1كو 13:12): » لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد، يهوداً كنا أم يونانيين، عبيداً أم أحراراً، وجميعنا سقينا روحاً واحداً « هنا الفرد أخذ وجوده في جسم الكنيسة بل وجسد المسيح بالنهاية.

فسواء كان الجسد أو العروس في المسيح، فالكنيسة تستقبل كل الذين يعتمدون باسم المسيح للمسيح ليكونوا في المسيح = » لأن كُلَّكُم الذين اعتمدتُم بالمسيح قد لبستُم المسيح «(غل 27:3). أي وُجدتم فيه متحدين، لأن غاية ق. بولس اللاهوتية أن تصير البشرية كلها إنساناً واحداً على قامة ملء المسيح، كنيسة يملأها المسيح.

 

وهكذا بقيت المعمودية في فكر القديس بولس الرسول طقساً كنسياً عائلياً بشبه بيت الله، بحيث أن الذي يُطرد منها لا يكون له عزاء ولا وجود ولا كيان: » ولكن إن كان أحد قد أحزن فإنه لم يحزنني بل أحزن جميعكم … مثل هذا يكفيه هذا القصاص الذي من الأكثرين «(2كو 2: 5و6)، » لأننا بروح واحد اعتمدنا إلى جسد واحد « فإذا كان الطقس بدون معنى ولا قوة داخلية فهو لا شيء.

هكذا فالتغيير الأخلاقي والتجديد والانفتاح في المعمودية يعتمد أساساً على الروح القدس! هذا هو أساس فكر بولس الرسول. فالقديس بولس يقول عن المسيح بالنسبة لآدم: » (صار) آدم الأخير روحاً محيياً «(1كو 45:15) بمعنى أن كل المسيحيين هم حاملون الروح القدس: » وأمَّا أنتم فلستم في الجسد بل في الروح إن كان روح الله ساكناً فيكم. ولكن إن كان أحد ليس فيه روح المسيح فذلك ليس له (أي المسيح) «(رو 9:8). لأن ق. بولس بعد خبرة طريق دمشق لم يعد يستطيع أن يفرِّق بين خبرة الروح وخبرة المسيح. وأصبح عنده اقتران المعمودية بعمل الروح القدس أمراً حقيقياً لا يمكن التفريط فيه، ومسحة المعمودية هي عمل الله وهي عمل الروح القدس: » ولكن الذي يثبِّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله. الذي ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا «(2كو 1: 21و22). بمعنى أن الأداء الذي تمَّ في المعمودية هو أداء الله بمسحة الخدمة أو بطابع أو ختم التبعية للأصالة بالروح. والتجميع لا يفارق ذهن ق. بولس: » لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد … وجميعنا سُقينا روحاً واحداً «(1كو 13:12). لذلك يقول بمعمودية واحدة وروح واحد ورب واحد. بهذا انجمعت البشرية المشرَّدة المرفوضة تحت الخطية واللعنة. فالخلاص وإن كان يلزم أن يكون فردياً، لأن الإيمان يلزم أن يكون فردياً، ولكن غاية الخلاص جماعية، فمن هو خارج الإيمان هو خارج الكنيسة، هو خارج الصليب حيث لا يخلص أحد. ولكن الصليب والكنيسة وملء المسيح هو للكل في الكل. والمعمودية تعطي هذا الملمح.

والقديس بولس يحذِّر أن يفهم أحد أن طقس المعمودية من ذاته يمنح الروح القدس، هذا لا يطيق تصوُّره، ولكنه ينسب دائماً عطية الروح لله ذاته:

+ » ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. «(1كو 12:2)

 فالمعمودية هي هبة الله بالروح وليست المعمودية تهب الروح! فالروح هو من الله ومن الله فقط: » ولكن الذي صنعنا لهذا عينه هو الله الذي أعطانا أيضاً عربون الروح «(2كو 5:5)، » فالذي يمنحكم الروح ويعمل قوات فيكم أبأعمال الناموس أم بخبر الإيمان؟ «(غل 5:3)، » ثم بما
أنكم أبناءٌ أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً: يا أبَا الآبُ. «(غل 6:4)

من هذا نفهم أنه كان يسيطر على فكر ق. بولس اللاهوتي أن الإنسان المسيحي يرتبط بالمسيح بالإيمان والمعمودية. هنا المشكلة التي يحلها بولس الرسول بتلقائية سهلة هي علاقة الإيمان بالمعمودية بالنسبة للمسيحي. فالإيمان هو القوة والطاقة الإلهية في حياة المسيحي، أمَّا المعمودية فيراها مُكمِّلةً دائماً للإيمان ومترافقة معه.

فبالإيمان والمعمودية يستقي المسيحي من الروح الواحد: » هل قبلتم الروح القدس لمَّا آمنتم؟ «(أع 2:19) كفعل مرافق. وق. بولس يرى أن المعمودية مربوطة بالروح القدس بالنتيجة الطبيعية التي تنشأ من عمل الروح في المعمودية، وهي حصول حالة البنوَّة الروحية لله. وعنده قانون روحي مسيطر على تفكيره أن المنقادين بروح الله هم أولاد الله، لأن الروح المعطَى في المعمودية هو روح البنوَّة، يشهد للتبني الذي حصلنا عليه كأهل بيت الله، الذي يلهمنا الصلاة لله كأب: » يا أبا الآب «

+ » لأن كُلَّ الذين ينقادون بروح الله، فأُولئِكَ هُم أبناءُ اللهِ. إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوفِ، بل أخذتم روح التبنِّي الذي به نصرخُ: يا أَبَا الآبُ! «(رو 8: 14و15)

+ » ثم بما أنكم أبناءٌ أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً: يا أبَا الآبُ. «(غل 6:4)

والقديس بولس يقولها صراحة إن بالمعمودية نحن نصير » في المسيح « وإذ نصير في المسيح نصير أبناء الله، ولأننا نصير أولاد الله يُرسل الله روح ابنه إلى قلوبنا، وهذا كله يصير لنا بالإيمان: » لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع «(غل 26:3)

+ » إذاً لستَ بعدُ عبداً بل ابناً. وإن كنتَ ابناً فوارثٌ لله بالمسيح. «(غل 7:4)

ومن مآثر بولس الرسول في عقيدة الانفتاح الأساسية للروح موضوع “الختم” الروحي فيما يخص الأخرويات، مترافقاً مع ومقترناً في سياق الخلاص. كما نراه في (أف 30:4): » ولا تُحزِنُوا روحَ الله القدوس الذي به خُتِمْتُم ليومِ الفداءِ « وأيضاً في (أف 13:1و14): » الذي فيه أيضاً أنتم، إذ سمِعتُم كلمة الحقِّ، إنجيل خلاصِكُم، الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتِمتُم بروح الموعد القدوس، الذي هو عربون ميراثنا، لفداء المقتنى، لمدحِ مجدهِ « وأيضاً في (2كو 22:1): » الذي ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا «

حيث يُفهم الختم أنه ميثاق للضمان أو عربون ذو مقدرة للميراث القادم مثل: » ولكن أساس
الله الراسخ قد ثبت إذ له هذا الختم «(2تي 19:2)، أو مثل: » لا تضروا الأرض ولا البحر ولا الأشجار حتى نختم عبيد إلهنا على جباههم «(رؤ 3:7). وكأنه صك إلهي للحماية والعناية: » وقيل له أن لا يضر عشب الأرض ولا شيئاً أخضر ولا شجرة ما إلاَّ الناس فقط، الذين ليس لهم ختم الله على جباههم «(رؤ 4:9). وهنا غياب الختم معناه فقدان الحماية والرعاية والوقوع تحت الغضب المريع. هكذا كان الختم معروفاً في الكنيسة وأعطاه ق. بولس تقييمه الروحي الأخروي مع الخلاص ويوم الفداء.

([1]) استعنتُ في هذا الجزء بالكتاب التالي:

R.E.O. White, The Biblical Doctrine of Initiation, 1960, pp. 200-227.

فاصل

المعمودية في رسالة بطرس الرسول الأُولى كتب الأب متى المسكين التعليم عن المعمودية في رسائل بولس الرسول
كتاب المعمودية الأصول الأولى للمسيحية
المكتبة المسيحية

زر الذهاب إلى الأعلى