قيام المعمودية على أساس موت المسيح وقيامته

 من كتاب المعمودية: الأصول الأولى للمسيحية 
للأب متى المسكين

الفصل الأول
الجزء النظري
8  قيام المعمودية على أساس موت المسيح وقيامته

إن انقطاع الصلة الأساسية بين معمودية يوحنا والمعمودية المسيحية يُصرِّح بها يوحنا المعمدان نفسه:

+ » أنا أُعمِّدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه. هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار. «(مت 11:3)

وأيضاً:

+ » أنا أعمِّدكم بماءٍ، ولكن يأتي مَنْ هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحل سيور حذائه، هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار. «(لو 16:3)

حيث النار من ملابسات الكلام هي إشارة إلى الدينونة العتيدة أن تكون جزاءً لمن لا يجوز هذه المعمودية.

وأيضاً:

+ » أنا عمَّدتكم بالماء، وأمَّا هو فسيعمِّدكم بالروح القدس. «(مر 8:1)

إذن فمعمودية المسيح ليست كمعمودية يوحنا، أي ليست تمهيدية أو إعداداً لآخر. فهي معمودية كمال ونهاية، وتقود مباشرة إلى ملكوت السموات الذي جاء المعمدان ليعدَّ لمن سيفتتحه.

واضح هنا إن إعطاء الروح القدس الذي قال به المسيح (أع 1: 5و8)، وحقَّقه يوم الخمسين، وأكَّد قوته وعمله، هو عمل أخروي يختص بكشف ملكوت الله وإعطاء القوة لبلوغه. فهو عطية أخروية ولكن كمجرَّد عربون، الأمر الذي جعل ق. مرقس يكتفي بذكر الروح القدس ولم يذكر “النار”، لأن “النار” لا تتبع الزمن الحاضر.

هذا العمل الأخروي الذي اختصَّت به معمودية المسيح أو المعمودية المسيحية هو عنصر جديد جدًّا وغير موجود في مفهوم المعمودية بواقعها عند المعمدان والعهد القديم، فعطية الروح القدس غير مستمدَّة من ماضٍ أو من آخر، ولكن من شخص المسيح مباشرة ومن عمله.

وانسكاب الروح القدس العلني على كل جسد (أع 17:2) هو عمل مختص “باسم المسيح” » سيرسلة الآب باسمي «(يو 26:14)، وبالقيامة وذهاب المسيح إلى الآب وذلك من كلام المسيح
نفسه: » لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزِّي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. «(يو 7:16)

لذلك لم تبدأ الكنيسة بالمعمودية إلاَّ بعد أن صارت بيت الروح القدس وقادرة أن تعطيه، علماً بأنه مرسل من عند الآب باسم المسيح » وأمَّا المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلِّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم. «(يو 26:14)

ولكن ما دخل الروح القدس في مغفرة الخطايا؟

معروف أن معمودية يوحنا كانت لمغفرة الخطايا للتوبة، استعداداً أو تمهيداً لدخول عهد المسيَّا أو لقرب مجيء ملكوت الله. ولكن بمجيء المسيح أخذ موضوع مغفرة الخطايا معنى آخر. فها هو ملكوت الله قد جاء، فقد أصبح المطلوب هو مغفرة الخطايا لدخول ملكوت الله، أي مطلوب مغفرة خطايا بصورة أبدية مطلقة لتساوي الحياة الأبدية التي انفتحت علينا بعد أن كانت مخفية عند الآب، كقول ق. يوحنا في رسالته الأُولى. والخطايا بمفهومها الإنجيلي دين، فالآن مطلوب من يدفع ثمن هذا الدين. وهذا كان عمل المسيح منذ أن بُشِّر بميلاده » وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلِّص شعبه من خطاياهم «(مت 21:1)، وهكذا أخذ اسم ومعنى “مغفرة الخطايا” بكلمة “الخلاص”. وهكذا وُلِدَ المسيح ليكون “المخلِّص”.

والخلاص تمَّ على الصليب بذبح المخلِّص كذبيحة خلاص أو كفَّارة، ولم يُستعلن الصليب أنه كان واسطة الخلاص إلاَّ بعد قيامة المسيح من الأموات. هكذا بموت المسيح وقيامته استُعلن الخلاص الذي تمَّ لجميع العالم، حتى لا يهلك كل مَنْ يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. وهكذا ارتبط غفران الخطايا “بالإيمان بالمسيح بموته وقيامته”.

ولكن ما علاقة الإيمان بالمسيح وموته وقيامته بالمعمودية؟

نعود إلى معمودية يوحنا لنجد أن غفران الخطايا الذي نادى به المعمدان كان شرحه أن يؤمن اليهودي أن هذه المعمودية من السماء، وكانت قوة غفران الخطايا فيها لا تتعدَّى أثرها الجسدي الزمني، لأنها كانت مجرَّد إعداد لعهد آتٍ وليست للأبدية. لذلك كان ماء المعمودية عند يوحنا المعمدان مرتبطاً بالإيمان بالسماء، أي عودة الإيمان اليهودي إلى وضعه الأول عند إبراهيم وإسحق ويعقوب.

أمَّا معمودية المسيح فالماء فيها مرتبط بالإيمان بالمسيح وما عمله المسيح من أجل الخلاص، أي غفران الخطايا، أي بالموت على الصليب والدفن والقيامة. وهنا الغفران ليس زمنياً ولا جسدياً، بل هو غفران أبدي يخص النفس بالدرجة الأُولى. هكذا أصبحت معمودية المسيح أو المعمودية المسيحية
قائمة على قاعدة الإيمان بالمسيح شخصياً وبرسالة الخلاص التي تمَّت بالموت والدفن والقيامة. وقد انكشفت عن عيني يوحنا المعمدان بصفته النبي الخاص السابق للمسيح، فرأى المسيح بعد المعمودية وهو سائر بجوار الأُردن فقال: » هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم «(يو 29:1). فالمسيح نزل المعمودية على أساس هذه المهمة العظمى التي أسماها المسيح بعين نبوَّته » نكمِّل كل بر « لا من أجل نفسه بل من أجل الجميع. والبر من أجل الجميع هو برفع خطاياهم حتماً، لأنه لا يُحسب أحد “باراً” إلاَّ إذا كان بلا خطية، الأمر الذي ستنتهي إليه معمودية الناس باسم المسيح.

نعود ونقول إن الجديد في المعمودية هو انسكاب الروح القدس الذي هو عطية الآب باسم المسيح، الذي انسكب بمجرَّد صعود المسيح: » وأمَّا المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلِّمكم كل شيء … «(يو 26:14)، » لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزِّي. ولكن إن ذهبت أُرسله إليكم «(يو 7:16). وأيضاً: » لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد «(يو 39:7). وقد وفَّى المسيح بوعده، فبعد الصعود بعشرة أيام، أي في عيد الخمسين، سكب الروح القدس فكان أقوى مفاعيل المعمودية. ولكن موقعه من معمودية الماء هو بعد اكتمالها، أي أن بالمعمودية يتم غفران الخطايا القائم على مشاركة المسيح في موته وقيامته بالإيمان والغطس تحت الماء كأنه للموت والدفن مع المسيح، ثمَّ بالقيامة معه. وهنا يكون عمل الروح القدس في الإحياء أو الإقامة من الموت للقيامة مع المسيح، حيث يشكِّل الروح القدس صورة الميلاد الثاني من الماء ليكون الإنسان الجديد على صورة خالقه في مجد القيامة والحصول على الحياة الأبدية.

لذلك أصبح عمل الروح القدس في المعمودية عملاً أساسياً للتكميل، وبدونه لا  تكمل المعمودية، وكأنه أصبح عمل المعمودية بالأساس أن تهب الروح القدس بعد تكميل الغفران، ثمَّ يعود الروح القدس يكمِّل عمل المعمودية في قيامة المولود جديداً على صورة المسيح لملء الحياة الأبدية: فالمعمودية بالماء = موت وغفران، وبالروح = قيامة وحياة. وبالنهاية تكون “المعمودية بالماء والروح” = الدخول لملكوت الله في المسيح.

وينطبق على ذلك ويشرحه قول ق. بولس الرسول: » أم تجهلون أننا كل مَنْ اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة «(رو 6: 3و4)، » لأنه إن كنَّا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته. «(رو 5:6)

 

حيث كلمة “بشبه موته” تشير إلى الفرق بين موته وموتنا: فموته كان موتاً للخطية أمَّا موتنا فهو موت جسد الخطية. وكما مات المسيح للخطية مرَّة واحدة وقام ولن يسود عليه الموت بعد (رو 6: 9و10)؛ هكذا أيضاً بحسب سفر العبرانيين معموديتنا هي معمودية واحدة، لأن شركتنا في موت الصليب هي مرَّة واحدة، فإذا سقط أحد بعيداً عن الإيمان والمسيح بعد المعمودية لا يمكن تجديده مرَّة أخرى، وإلاَّ يكون كمن يصلب لنفسه المسيح مرَّة أخرى (عب 6:6).

أمَّا معنى المعمودية الرسمي المسيحي من منطوق المسيح فهي » يليق بنا أن نكمِّل كل برٍّ «على أساس الطاعة لصوت الله.

القيامة والميلاد الجديد:

+ » لأنه لمن من الملائكة قال قط أنت ابني أنا اليوم ولدتك «(عب 5:1) التي قيلت للمسيح من جهة قيامته.

+ » كذلك المسيح أيضاً لم يمجّد نفسه ليصير رئيس كهنة، بل الذي قال له أنت ابني أنا اليوم ولدتك. «(عب 5:5)

فإذا أضفنا إليها شهادة إنجيل ق. لوقا في بعض المخطوطات الغربية التي تقول: إنه لمَّا انفتحت السماء جاء الصوت يقول: «أنت ابني الحبيب أنا اليوم ولدتك» (لو 22:3) فإنها تكشف صحة ما جاء في رسالة العبرانيين.

وهذا يُعتبر من أهم ما يمكن بالنسبة للمفهوم المسيَّاني ليسوع المسيح من جهة قيامته من الأموات. فإذا أضفنا إليه ما قاله مزمور (7:2): » إني أخبر من جهة قضاء الرب. قال لي أنت ابني أنا اليوم ولدتك « وقد شرحه بولس الرسول بأن » اليوم ولدتك «هو يوم قيامته (رو 4:1، عب 5:5)، وقد أعادها أيضاً سفر الأعمال: » ونحن نبشِّركم بالموعد الذي صار لآبائنا، إن الله قد أكمل هذا لنا نحن أولادهم، إذ أقام يسوع، كما هو مكتوب أيضاً في المزمور الثاني: أنت ابني أنا اليوم ولدتك = إنه أقامه من الأموات. «(أع 13: 32-34)

هنا اصطلاح لاهوتي خطير يهمنا جدًّا في مفهوم المعمودية: أن القيامة هي ولادة جديدة سماوية (أع 33:13)، والآية واضحة » إن الله قد أكمل هذا لنا نحن أولادهم إذ أقام يسوع، كما هو مكتوب أيضاً في المزمور الثاني: أنت ابني أنا اليوم ولدتك، إنه أقامه من الأموات غير عتيد أن يعود أيضاً إلى فساد « هكذا فهمنا المعمودية أنها لميلاد ثانٍ أي جديد، ذلك على أساس واضح أنها قائمة
على موت المسيح وقيامته. وقيامة المسيح تشكِّل في الحقيقة اللاهوتية » ميلاداً جديداً من السماء « أي من فوق، على أساس نداء الآب من السماء في المعمودية في الأُردن، ومن واقع لاهوتي بحد ذاته باعتبار القيامة من بين الأموات التي قامها المسيح هي ميلاد جديد للبشرية كلها فيه من بعد الموت معه: » مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات.» (1بط 3:1).

فاصل

معنى “شبه موته” كتب الأب متى المسكين المعمودية والاتحاد بجسد المسيح
كتاب المعمودية الأصول الأولى للمسيحية
المكتبة المسيحية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى