تعليقات لامعة على سفر التكوين للقديس كيرلس الكبير

المقالة السابعة: عن بركة يعقوب لأبنائه – عن يوسف

 

 « يوسف غصن شجرة مثمرة ، غضن شجرة مثمرة على عين أغصان قد ارتفعت فوق حائط. فمررته ورمته واضطهدته أرباب السهام . ولكن ثبتت بمتانة قوسه وتشددت سواعد يديه . من يدي عزيز يعقوب ، من هناك ، من الراعي صخر إسرائيل . من إله أبيك الذي يعينك ، ومن القادر على كل شيء الذي يباركك ، تأتي برکات السماء من فوق ، وبرکات الغمر الرابض تحت بركات الثديين والرحم . بركات أبيك فاقت على بركات أبويَّ . إلى منية الآكام الدهرية تكون على رأس يوسف ، وعلى قمة نذير إخوته » ( تك 22:49 – 26).

تتحدث هذه النبوة عن عمانوئيل. وقد أشير إليه قبلاً بالقول : « يعطي أقوالاً حسنة » ( تك 1:49). لقد قيل إن يوسف عظم عطاياه والمجد الذي له أتی إليه بطريقة طبيعية ، وهذا يعني بوضوح الأمر الذي أدركناه جيداً. أقصد ، كلمة الله وحيد الجنس الذي هو إله مولود من إله ، وهو الذي وضع ذاته ، حسب الكتب المقدسة ( انظر فيليبي۷:۲) ، متنازلاً  بإرادته إلى المستوى الذي لم يكن عليه ، وليس هذا الجسد المحتقر وأخذ شكل العبد وصار مطيعاً لله أبيه حتى الموت (انظر فيلبي۸:۲)، لأجل هذا قيل إنه رُفع – إذ أن تأنسه ليس لأجل ذاته – آخذاً ” اسماً فوق كل اسم” كما قال بولس الطوباوي ( انظر فيلبي ۱۹:۲).

هنا ، في الواقع ، نتحدث ليس عن أنه مُنح شيئاً لم يكن موجوداً فيه من قبل بحسب الطبيعة ، بل بالحري ، فإن الكلام هنا هو عن رجوعه إلى حالته التي كان عليها منذ البداية و لم تكن أساسا قد نُزعت منه.

وقيل أيضاً أنه لبس حقارة الطبيعة البشرية بحسب التدبير ، لذا نراه يقول : « مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالحد الذي كان لي عندك قبل كون العالم » ( یو 5:17). لأنه كان على الدوام ممجداً بالمجد اللائق بالله حيث إنه أزلي مع الذي ولده قبل الدهور والأزمنة وقبل خلقة العالم.

حسناً، فإن الازدياد في حالة المسيح يجب أن نعتبر أنه عطية المجد الخاص بالله ، ومنح له باتساع ووفرة واضحة . لأنه يُدرك بأنه قريب من العالم بحسب الطبيعة جهة كونه ربا الكل فإنه يقدم له المجد والسجود مع أنه خالق الدهور ، إلا أنه (بسبب تجسده في الزمن ) هو أحدث من مصاف الأنبياء القديسين، إذ أتي في الأزمنة الأخيرة ( انظر عب ۱ : ۱ ) ، بعد أولئك الذين كانوا قبل مجيئه ينتمون إلى رتبة الأبناء بفضل فضيلتهم.

أما كون عمانوئيل كان أيضا جديراً بأن يحسده أحد ، فهذا لا يمكننا أن نشك فيه. أيضا كان محط إعجاب وغيرة ، بالنسبة للقديسين الذين حاولوا أن يتتبعوا آثاره وأن يكتسبوا جماله وأن يجعلوه قدوة لأعمالهم . هناك أيضا غيرة وحسد داخل هؤلاء الذين لم يحبوه ، أقصد معلمي اليهود أي الكتبة والفريسيين، إذ كانوا يحسدونه بسبب مجده الفائق. لقد أقام المسيح الأموات الذين انبعثت منهم رائحة النتانة بسبب تحلل أجسادهم ، وبذلك برهن على أنه أقوى من الموت ذاته. وأولئك المعلمين بدلا من أن يتعجبوا وينقادوا – بلا تردد – إلى الإيمان ، فإنهم اغتاظوا بشدة وحسدوه ، وانتابهم حزن وغم واضطراب ذهني . وشفی المسيح أيضا المولود أعمى ، إلا أنهم دعوه خاطئ ( انظر يو ۱:۹- الخ ) . كذلك أخرج وطرد قطيعاً من الشياطين ، إلا أنهم أتهموه زوراً بأنه بعلزبول يُخرج الشياطين » ( انظر مت ۲۲:۱۲ الخ ) . وشرعوا في قتله قائلين فيما بينهم : « لسنا نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف . فانك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً» ( یو ۳۳:۱۰ ) . لقد اصطكت أسنانهم غيظاً قائلين : « هذا هو الوارث . هلموا نقتله ونأخذ ميراثه » ( مت ۳۸:۲۱). هكذا اغتاظ منه الذين كرهوه ، لكن لم يمكنهم القضاء عليه وإبادته . فهو بالرغم من أنه خضع للصلب ، إلا أنه لكونه إلها قام منتصراً على الموت ، والله الآب قال له : « التفت وارجع إلي » ( تك 22:49 س ) [1] . إذن ، صعد إلى السموات لكي يتم ما قيل : « اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك » ( مز ۱۰:۱۱۰).

وكون أن خططهم فشلت بالرغم من جنونهم الشديد ضده ، فهذا يعلمنا إياه ، قائلا : « فمرَّرته ورمته واضطهدته أرباب السهام . ولكن ثبتت بمتانة قوسه وتشددت سواعد يديه. من يدي عزيز يعقوب من هناك من الراعي صخر إسرائيل » ( تك 23:49 – 24) . أي أن « أرباب السهام » أي أرباب المتهجمين عليه اتفقوا معاً ضده ، أقصد زعماء الشعب الذين تطاولوا عليه وانقضوا عليه مثل الوحوش المفترسة. لكن سهامهم انكسرت وبطلت بسبب يدي عزيز يعقوب، أي الله الآب الذي هو رب القوات ، الذي أراد أن يبارك ابنه في السماء وعلى الأرض . لأن بولس العظيم قال : « و أيضاً من أدخل البكر إلى العالم يقول ولتسجد له كل ملائكة الله » ( عب 1: 6) ، وأيضا داود العظيم يقول : « كل الأرض لك وترنم لك . ترنم لاسمك » ( مز 4:66 ) .

نقول، هذه هي البركة السماوية ، سواء على الأرض أو في كل مكان ، أي حيث توجد كل فضيلة لأجل المسيح ، إنما الثمار الوفيرة للتقوى عند الله . لأنه قيل للابن : « ارو اتلامها مهد أخاديدها بالغيوث تحللها . تبارك غلتها » ( مز 10:65). وكون أن البركة السماوية ، وكذلك الأرضية قد أُعطيت له ، فهذا يؤكده بوضوح : « من إله أبيك الذي يعينك ومن القادر على كل شيء الذي يباركك تأتي بركات السماء من فوق وبرکات الغمر الرابض تحت . برکات الثديين والرحم بركات أبيك فاقت على بركات أبويَّ » ( تك 25:49 -26) . بهذا يعلن ، بوضوح ، ولادة وحيد الجنس من الله الآب ، وكذلك من العذراء القديسة بولادته منها إنساناً. لأنه ، بينما بحسب الطبيعة كان حقاً ابن الله الآب فإنه ارتضى لأجلنا أن يولد من امرأة ويرضع من الثديين . إذ ليس كما يقول البعض ، أنه صار إنسانا حسب الظاهر ، بل صار حقاً مثلنا خضع نفسه لنواميس الطبيعة البشرية وقبل أن يتناول طعاما كالبشر بالرغم من أنه هو ذاته الذي يعطي حياة للعالم . لأجل هذا يخبرنا أشعياء الطوباوي بأن الرب سوف يتأنس حقا ، ذاكراً أنه سيحتاج للطعام المناسب للصغار ، قائلا : « زبداً وعسلاً يأكل » ( أش 15:7) . إذن ، لقد نال بركة بسبب ثديي الأم لأنه « إذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب . لذلك رفعه الله أيضا وأعطاه أسماً فوق كل اسم. لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض » ( فيلبي ۸:۲ – ۱۰).

وأيضا بالرغم من أنه صار مثلنا ، إلا أنه أعظم من أي قديس ويتفوق بغير حدود بحسب كونه هو الله على كل السابقين من المدعوين آباء . فهذا هو ما يقوله المرنم : « لأنه من في السماء يعادل الرب . من يشبه الرب بين أبناء الله » ( مز 6:89 ) ؛ وهذا يعلمه يعقوب الطوباوي ، قائلا : « إلى منية الآكام الدهرية تكون على رأس يوسف وعلى قمة نذير إخوته » ( تك 26:49) . إنه يدعو القديسين آكاماً ، بالطبع آکام ثابتة ولا تتحرك وتلا أبدية ، لأنهم قد ارتفعوا روحيا عن الأرض لدرجة أنهم لا يفكرون في أي شيء وضيع ، بل يطلبون السماويات ويطيرون بسهولة جدا إلى مرتفعات الفضيلة . إذن ، فالذين هم أكثر شهرة من بين الآباء الذين وصلوا إلى قمة الفضائل هؤلاء يتوارون خلف مجد المسيح . لأن أولئك كانوا خُداماً حتى لو كانوا قد جاءوا من رتبة الأبناء ، بينما الرب بكونه هو الابن ، فقد منحهم الوسائل التي بها صاروا ممجدين . لأجل هذا ، أيضا ، نقول : « ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا نعمة فوق نعمة » ( یو 16:1) .

بناء على ذلك ، فإن إكليل المجد سوف يُوضع بالطبع على رأس مخلصنا ، وسيكون أيضا بالمثل للقديسين الذين قد خضعوا له كعطية وهبة منه ، هؤلاء سوف يلبسون إكليلاً لا يذبل ( انظر ابط 1:5 ) ، ولأنهم صاروا شركاء في آلامه ، فإنهم يصيرون شرکاء أيضا في مجده . هكذا ، فكما تألموا معه ، سوف يملكون معه .

فاصل

  1.  ورد في نص القديس كيرلس عدد 22 من إصحاح 49 هكذا من الترجمة السبعينية : “ ابني يوسف المتزايد غنى ، ابني العجيب ، التفت وارجع إليَّ” ( تك 22:49)

فاصل

عن نفتالي

المقالة السابعة  عن بنيامين
تعليقات لامعة على سفر التكوين
البابا كيرلس عمود الدين

 

زر الذهاب إلى الأعلى