الإيمان المسيحى والخدمة العسكرية
1 – ما هى نظرة الكنيسة للالتحاق بالخدمة العسكرية فى عصور ما قبل قسطنطين؟
فى القرن الثانى هاجم الفيلسوف الوثنى صلسس Celsus المسيحيين بكونهم هاربين من الجيش وبالتالى غير مدافعين عن الإمبراطور. لم يفند العلامة أوريجينوس هذا الاتهام بكونه اتهاماً باطلاًن لأن المسيحيين لا يشتركون فى الحرب مثل كهنة الأوثان الذين كانوا يُعفون من الخدمة العسكرية حتى لا يُقدموا الذبائح بأيد ملطخة بالدماء، ملوثة بالقتل. فالمسيحيون لهم ما يُبررهم فى الإعفاء من هذه الخدمة[164]. إنه يعلن عن ولاء المسيحيين للدولة دون الشركة فى الخدمة العسكرية متى كانت تُمارس بدون عدالة. فى اختصار يمكن الشركة فيها متى كانت حرباً عادلة. يقول العلامة اوريجينوس: [لو لم تكن هذه الحروب الجسدية (أى ضد الشعوب) ترمز إلى الحروب الروحية لست أظن انه كان يمكن للرسل ان يسمحوا لأتباع المسيح ان يقرأوا الأسفار التاريخية اليهودية فى كنائسهم… هكذا إذ كان الرسول مُدركاً أن الحروب الجسدية (أى ضد الشعوب) لم تعد بعد تُثار بواسطتنا، إنما محاربتنا هى فقط فى معارك النفس ضد الأعداء الروحيين يعطى الأوامر للمؤمنين بكونهم جنود المسيح وهو القائد العسكرى، إذ يقول: “البسوا سلاح الله الكامل تقدروا ان تثبتوا ضد مكايد إبليس” (أف6: 11) [165]].
يعالج القديس أغسطينوس موضوع الحروب التى سمح الله ان يمارسها الشعب ضد الشعوب الوثنية، متطلعاً إلى ان ما يحلّ بهذه الشعوب من عقوبة اخطر بكثير مما يعانوه من الحروب ومن الموت الجسدى. يقول إن الله “يستخدم عادة الحروب كطريق للتأديب ومعاقبة المخطئين[166]”.
فى رده على فوستوس الذى هاجم الحروب الواردة فى العهد القديم، قال القديس أغسطينوس: [يلزم (لفوستوس) ألا يتعجب ولا يرتعب من الحروب التى اثارها موسى، فإنه حتى فى حالة موسى كان يتبع تعليمات الله. وقد فعل هذا ليس بروح الانتقام، بل من اجل الطاعة. لم يكن عمل الله هذا وإصدار أمره بالحروب غير إنسانى، بل هو تقديم عقوبات عادلة لإثارة الخوف فى قلوب مستحقيها… ما يستحق التوبيخ بحق هو الرغبة فى الضرر والانتقام القاسى… روح التمرد الهمجى، وشهوة السيطرة وغير ذلك من الأمور. أما لماذا يمارس الصالحون حروباً بأمر إلهى فى مواجهة المقاومة العنيفة، أو بأمر سلطة شرعية، فهو لكى يوقعوا عقوبة عادلة على مثل هذه الأمور[167]]. كما يقول: [يمارس الصالحون عمل الرحمة حتى بإثارة الحروب لكى يضبطوا الأهواء المتسيبة، ويقطعوا الرذائل التى يجب إزالتها، أو الضغط عليهم (الأعداء) بموقف مسئول[168]].
2 – ما هو موقف كنيسة العهد الجديد من الحروب؟
أولاً: المسيحية دعوة للحب حتى للأعداء. يقول القديس أمبروسيوس: [يدعو الناموس إلى الانتقام المعادل للضرر، أما الإنجيل فيامرنا ان نرد العداوة بالحب، والكراهية بالإرادة الصالحة، والصلاة من اجل اللاعنين. إنه يأمرنا ان نعين الذين يضطهدوننا[169]].
ثانياً: اهتمام العهد الجديد بالحياة الداخلية. مع عدم تجاهل الواقع الذى يعيش فيه المؤمن، ركز العهد الجديد على الإنسان الداخلى، او الحياة الداخلية، مؤمناً بقدرتها على التغيير بالنسبة للمؤمن والمجتمع. فقد اعلن السيد المسيح لتلاميذه: “ها ملكوت الله داخلكم” (لو17: 21)، والمسيحى قادر أن يمنح سلاماً (مت10: 13)، لأن سلام الله يحفظ قلبه (فى4: 7). ويظهر السيد المسيح الغالب فى شكل حمل (رؤ5) كمثال للغلبة بروح الوداعة الداخلية. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [مادام قد أمر (المؤمن) ان يكون مُسالماً حتى مع الذين يبغضون السلام، فإنه يعجز عن استخدام السيف ضد اى شخص[170]] , ويقول القديس امبروسيوس: [السلام الذى ينزع إغراءات الأهواء، ويعطى هدوءً لمتاعب الروح، أكثر عذوبة من ذاك الذى ينتج عن إحباط غزو البرابرة. إنه لأمر عظيم ان تقاوم العدو داخلك عن ذاك العدو البعيد عنك[171]].
ثالثاً: لم يكن الالتحاق بالخدمة العسكرية إلزامياً. حتى عام 170 لم تكن هناك مشكلة بالنسبة للمسيحيين، فالدولة الرومانية لم تكن عسكرية بالمفهوم الحديث. كان الجيش يمثل نسبة صغيرة بالنسبة للتعداد، لهذا لم تكن هناك حاجة لإلزام المسيحى على الالتحاق بالجيش الرومانى. يرى Edward A. Ryanأنه لم تكن هناك مشكلة بالنسبة للمسيحيين فى بدء نشأة الكنيسة بخصوص الالتحاق بالخدمة العسكرية، إذ كان الرومان يتطلعون إليهم كطائفة يهودية، فانتفعوا بالاستثناء الذى لليهود الخاص بالإعفاء من الخدمة العسكرية[172].
من جانب آخر عندما قام اليهود بتمرد خطير ما بين عامى 66، 70 وقام فاسبسان وتيطس بمقاومته، كان المسيحيون قد عبروا الأردن إلى Pella، ولم يدخلوا فى مقاومة مسلحة للدفاع عن أورشليم، من أجل ولائهم للحاكم، فقد اكد الرسل ضرورة الطاعة للحكام (1بط2: 13؛ 13: 1 – 7). ولأن السيد المسيح سبق فأعلن لهم عما سيحدث وطالبهم بالهروب.
3 – ما هو موقف القديس إكليمنضس الرومانى (القرن الأول) من الالتحاق بالخدمة العسكرية؟
يقتبس القدس إكليمنضس الرومانى فى كتاباته نظام القيادة العسكرية فى الجيش الرومانى، ليس فقط كأسلوب مجازى، لكنه كمن يؤيد ويقبل[173]. أظهر ان بعض المسيحيين كانوا يخدمون فى الجيش، وكأنهم فى جيش الله، كانوا فى طاعة يخضعون للأوامر العسكرية. كانوا فى رتب مختلفة، وقد أخذ الجيش مثلاً لحاجة الكبير والصغير لعضهما البعض، وضرورة ممارسة روح الخضوع العام[174].
4 – ما هو موقف الشهيد يوستين (حوالى 150م) من الالتحاق بالخدمة العسكرية؟
يرى رفض الاشتراك فى الحرب بسبب العادات الخاصة بالجيش حيث كان الجند يلتزمون بضرورة إنكار السيد المسيح وتقديم ذبائح قبل المعركة. إنه يقول: [نحن الذين كنا قبلاً نقتل بعضنا بعضاً ليس فقط نرفض أن نثير حرباً على أعدائنا، وإنما لكى نتجنب الكذب والخداع على الذين يسألوننا أن نذهب بكامل حريتنا للموت معترفين بالمسيح[175]].
5 – ما هو موقف أثيناغوراس (القرن الثانى) من الالتحاق بالخدمة العسكرية؟
يقول أثينا غوراس مدير مدرسة الإسكندرية إن المسيحى لا يقدر أن يرى إنساناً يُقتل ولو بعدل[176]. وفى دفاعه عن المسيحيين، الذى قدّمه للإمبراطور وابنه كتب: [إننا نصلى لأجل مملكتك لكى يعبر النجاح من الأب إلى الابن كما هو لائق جداً، ويزداد نفوذك، ويمتد، فيخضع كل واحد لك. مثل هذا التقدم يفيدنا نحن أيضاً حيث نقدر أن نسلك حياة هادئة وسالمة، ونفعل بإرادتنا كل ما نؤمر به[177]]. [لقد تعلمنا ألا نرد اللطمة بلطمة، ولا نأخذ إلى المحكمة من يسلبوننا ويغتصبون ما لنا. ماذا بالأكثر إن ضربونا بمهانة على رأسنا، فقد تعلّمنا أن نُقدم الجانب الآخر أيضاً (الحب)، وأن نُقدم ثوبنا لمن يأخذ رداءنا[178]].
6 – ما هو موقف العلامة ترتليان (160 – 220 تقريباً) من الالتحاق بالخدمة العسكرية؟
فى أيام ماركوس أوريليوس (161 – 180) نسمع عن الكتيبة الثانية عشر[179] ومعجزة سقوط الأمطار. وكما يقول ترتليان[180] ويوسابيوس[181] أن الكتيبة الرومانية فى معركتها ضد الألمان وال Sormatiansعانت من الظمأ الشديد، وقد طلبت الفرق المسيحية التى كانت فى المعركة من الله مطراً يسند الجيش الرومانى، مما أعطاه فرصة للنصرة. هذا يعنى وجود عدد كاف من المسيحيين فى الكتيبة، ووجودهم لم يُسبب عثرة، بل كان سنداً للجيش فى المعركة.
حدد العلامة ترتليان ثلاث خطايا خطيرة وهى عبادة الأوثان والزنا والقتل دفاعاً عن النفس[182]. ولذلك بالرغم من رغبته الحارة فى إبراز الدور الإيجابى للمسيحيين فى خدمة الإمبراطور وجيشه، كان متردداً فى قبول المسيحى الالتحاق بالجيش والاشتراك فى الحروب. لم يستطع أن يُقدم تصالحاً بين هذه الظاهرة والدعوة الإنجيلية للسلام. [لقد بدأنا بالأمس وها نحن قد ملأنا العالم وكل ما يتعلق بكم: المدن، وشقق المنازل، والحصول، والبلاد، والأسواق، والمعسكرات ذاتها، وقبائلكم، ومجالس مدنكم، والقصر الملكى، ومجلس الشيوخ، وأسواق الحوار، الشئ الوحيد الذى تركناه لكم هو المعابد. يمكننا أن نحصى جيوشكم. يوجد عدد كبير من المسيحيين فى ولاية واحدة. أى نوع من الحرب نشترك فيها نحن الذين نخضع بإرادتنا للسيف… فإنه بحسب تعليمنا يُسمح بالأكثر أن نُقتل عن أن نقتل؟! [183]] [إننا نعيش فى العالم، نشاركهم أسواق الحوار والسوق والحمامات والمتاجر والمصانع والفنادق وأيام السوق وكل أنشطة تجارية. إننا لسنا أقل منكم: نبحر فى البحر، نخدم فى الجيش، نفلح الأرض، نشترى ونبيع[184]] [نحن نصلى بغير انقطاع من أجل كل الأباطرة من أجل امتداد حياتهم، ومن أجل إمبراطورية آمنة، وحماية للقصر الإمبراطورى، وجيوش شجاعة، ومجلس شيوخ ملوكى، ووطنية صادقة، وعالم مملوء سلاماً، ومن أجل كل ما يشتهيه الإمبراطور كإنسان وكقيصر[185]] [كيف يفعل المسيحى ذلك؟ كيف يمكنه أن يخدم فى الجيش حتى فى وقت السلام بدون السيف الذى انتزعه يسوع المسيح؟ حتى إن كان الجنود قد جاءوا إلى يوحنا وأخذوا مشورة ماذا يجب أن يفعلوا، حتى إن قائد المائة صار مؤمناً، فإن الرب بطلبه أن يُرد بطرس سيفه إلى غمده (مت26: 52)، يليق بكل جندى أن يتخلى عن سلاحه فيما بعد. إنه لا يسمح لنا أن نرتدى أى شكل يشير إلى عمل خاطئ[186]].
فى أيام سبتميوس سويرس Septimuis Severus (193 – 211م) تزايدت الأعمال الحكومية المدنية باستمرار، وكان يمارسها أشخاص عسكريون. لهذا كان يمكن أن يلتحق الإنسان بالجيش دون أن يشترك فى معركة، أو حتى يمارس واجب الشرطة (تأديب المجرمين).
جاء فى “التقليد الرسولى” المنسوب للقديس هيبولتس الرومانى [الجندى فى الرتب الدنيا لا يقتل أحداً. إن صدر له أمر بذلك لا يطيع، ولا يُقسم. إن كان لا يريد أن يذعن لهذا الاتجاه، فلينسحب (من الكنيسة). إن كان أحد يمارس سلطان السيف أو سلطاناً مدنياً، ويلبس الأرجوان، فليمتنع عن هذه الوظيفة أو ينسحب. الموعوظ أو العضو بين المؤمنين الذى يريد أن يلتحق بالجيش فلنيسحبن لكى يُظهر استحقاقاً لله[187]].
7 – ما هو موقف القديس إيريناؤس أسقف ليون (القرن الثانى) من الالتحاق بالخدمة العسكرية؟
يشير القديس إيريناؤس إلى النبوة الخاصة بتحويل السيوف إلى محاريث للزراعة، بأنها تحقق فى المسيحيين الذين لا يعرفون كيف يحاربون، بل عندما يُضربون يُحولون الخد الآخر[188].
8 – ما هو موقف القديس إكليمنضس السكندرى (150 – 215تقريباً) من الخدمة العسكرية؟
مثل سابقه العلامة أثيناغوراس يؤمن أن الحروب موحى بها من الشياطين[189] (الآلهة الوثنية). وقد أشار أكثر من مرة إلى أن المسيحيين “جنس سلام”. فى دفاعه عن التزام الرجال والنساء بقانون واحد للسلوك واجه اعتراضاً بأن النساء على خلاف الرجال لا يتدربن على الحرب. أما هو فتمسك بالمساواة. رافضاً التدريب العسكرى حتى بالنسبة للرجال[190]. كما يقول: [لقد تدربنا على السلام لا على الحرب. تحتاج الحرب إلى إعداد عظيم، أما السلامة والمحبة فهما أختان هادئتان لا تحتاجان إلى أسلحة، ولا إلى مصاريف باهظة “[191]]. [يستخدم كثيرمن الشعوب الموسيقى العسكرية لإثارة الحرب، أما المسيحيون فيستخدمون كلمة الله كأداة للسلام[192]”] يُقدم تشبيهاً بين جيش المسيح الذى لا يُسفك فيه دم الجيوش الزمنية. [إن كان البوق المرتفع الصوت يرعد الجنوب للحرب، أما يجمع المسيح جنوده الذين للسلام من أقاصى الأرض، وذلك بعزف أغنية السلام؟! إنه المسيح بالحق ايها إنسان الذى يجمع جيشاً غير دموى، وذلك بواسطة دمه وكلمته، وقد عهد لهذا الجيش ملكوت السماوات. بوق المسيح هو إنجيله. إنه ينفخ به، ونحن نسمعه. ليتنا نرتدى سلاح السلام وصدرية الكمال، ونرفع درع الإيمان، ونلبس خوذة الخلاص. ونمسك سيف الروح الذى هو كلمة الله (أف6: 14 – 17؛ 1تس5: 8). بهذا النظام يرتبنا الرسول فى معركة السلام. إذ نتسلح بأسلحة مثل هذه لا تُقاوم لنأخذ موقفاً مضاداً للشرير[193]].
مادام فى عهده وُجد جنود مسيحيون فى الجيش فإن مثل هذه العبارات وإن كانت تحثنا على السلام، لكننا نلتمس فيها قبول الدفاع عن الوطن، والطاعة فى الجيش. لهذا لم يتردد القديس إكليمنضس فى مدح موسى كقائد عسكرى[194]. وبالإشارة إلى ما ورد فى إنجيل لوقا 3: 14 قال إن السيد المسيح “على فم لوقا أمر الجند أن يقتنعوا بأجورهم ولم يطلب منهم شيئاً أكثر” [195].
وعندما تحدث عن دعوة كل البشرية للإيمان لم يستثن منهم رجال الجيش. [إن كنت مزارعاً، نقول، لتحرث الأرضن ولتتعرف على إله المزارعين، وإن كنت الإبحار تذكر أن تدعو على الدوام القائد السماوى. وإن كنت فى الجيش وقد أمسكت بك معرفة الله، فلتطلع القائد (المسيح) الذى يقدم إشارات البر[196]]. هكذا يقول القديس إكليمنضس السكندرى أنه غذا قبل جندى الإيمان وهو فى الجيش فليبق فى موقعه، لكنه يجب أن يخضع للقائد الإلهى.
9 – ما هو موقف مينيكيوس فيلكس Minucius Felixمن الالتحاق بالخدمة العسكرية؟
ما نهاية القرن الثانى قال المدافع مينيكيوس فيلكس الذى كان وثنيا وقبل المسيحية إن المسيحيين لا يقدرون أن يحتملوا أن يسمعوا أو يروا إنساناً مقتولاً[197].
10 – ما هو موقف القديس كبريانوس (تنيح عام 258م) من الالتحاق بالخدمة العسكرية؟
تلميذ العلامة ترتليان ومن أهم الكتاب اللاهوتيين الغربيين فى شمال غرب أفريقيا. يبدو أنه لم يعالج هذا الموضوع بطريقة واضحة مثل مُعلمه. إنه يؤمن بأن الله خلق الحديد لكى يُستخدم فى فلاحة الأرض، ولا فى قتل الناي فى الحروب[198]. يهاجم العالم الذى يرفض دفاع الإنسان عن نفسه بالقتل بينما يقبل ذلك فى الدفاع عن الدولة، قائلاً: [عندما يقتل الأفراد شخصاً يُعتبر جريمة، وعندما يتم القتل من أجل الدولة يُدعى فضيلة[199]].
إنه يرفض تماماً أن تمتد اليد وتتلطخ بالدماء مهما كان السبب، إذ يصر [بعد قبول الإفخارستيا، لا تُدنس اليد بالسيف وسفك لدم[200]]. يبدو أنه يرى أن الحروب لا يمكن تجنبها[201]، ويقرر أن ضعف القوى العسكرية فى أيامه داخل الإمبراطورية هو إحدى علامات العقوبة الإلهية[202]. وهو يصلى لأجل نجاح جيوش الإمبراطورية فى طرد الأعداء. [عندما نذهب إلى الله نتقبل المكافآت الموعود بها. لذلك فنحن دوماً نُصلى أن يبقى الأعداء فى موقف حرج…، وأن تُتنتزع الكوارث أو تصير أقل حدة. نسكب تضرعاتنا نهاراً وليلاً ونطلب من الله ونسأله على الدوام لأجل الأمان والسلام[203]].
يستخدم القديس كبريانوس الجند فى المعارك مجازاً فى الحديث عن الحرب الروحية: [إنه عمل الجندى الصالح أن يدافع عن المعسكر ضد الخونة وضد أعداء الإمبراطور، وأن يحفظ الأعلام التى فى عهدته[204]]. [إن كان يُحسب الأمر مجيداً للجندى أن يرجع إلى بيته فى نصرة لحساب وطنه بعد أن يهزم العدو، كما بالكثر تكون أكثر قوة ومجداً نصرة الإنسان، عائداً إلى الفردوس، هازماً الشيطان؟! [205]].
مثل هذه النصوص تجعلنا من الصعب أن نقبل أن القديس كبريانوس يتطلع إلى الحروب كعمل لا أخلاقى. إنما كغيره من الكتاب قبل الإمبراطور قسطنطين كان يدين سفك الدم.
11 – ما هو موقف العلامة أوريجينوس من الالتحاق بالخدمة العسكرية؟
يُقرر العلامة أوريجينوس بطريقة إيجابية: “الله فى تشريعه الإلهى يحسب أن السماح بقتل إنسان مهما كان السبب أمرغير لائق[206]. طلب أمبروسيوس من صديقه العلامة أوريجينوس أن يُفند كتاب صلسس الوثنى (من القرن الثانى) الذى هاجم اليهودية والمسيحية، مستخدماً كل وسيلة للهجوم. أحد اتهاماته أنه لو سلك الكل مثل المسيحيين لتُرك الإمبراطور وحده ويهجره الكل، ويسقط فى أيدى البرابرة الذين لا يعرفون القانون[207]. ربما التقى صلسس ببعض المسيحيين الذين تركوا الخدمة العسكرية بعد قبولهم الإيمان المسيحى، أو بعضاً منهم لا يريدون الالتحاق بالخدمة العسكرية، لكن بالتأكيد كان مخطئاً، لأنه وجد مسيحيون فى الجيش الرومانى. ففى فترة كتابته لهذا العمل وُجدت أول شهادة عن فرقة الرعد Thundering legionتحت قيادة مرقس أوريليوس عام 173م. ومنذ ذلك التاريخ وُجدت دلائل على تزايد المسيحيين فى الرتب العسكرية[208].
فى تفنيده لهذا الاتهام، لم يطلب العلامة أوريجينوس من المسيحيين أن يلتحقوا بالجيش الرومانى، بل أن يسندوا الإمبراطور كجيش المسيح الروحى ضد إبليس مثير الحروب. يرى العلامة أوريجينوس أن الخدمة المسيحية المُقدمة للإمبراطور هى فى دائرة الروح، وليست فى مجالات الحرب والقتل… فإن كان الكهنة الوثنيوي وحراس المعابد لا يدنسون أياديهم بالقتل، فيُعفون من المعارك الحربية، كما بالأولى يجب ترك المسيحيين يخدمون الإمبراطور، لا بالاشتراك فى المعارك المنظورة بل غير المنظورة، حتى يكون محفوظاً بالعون الإلهى. بهذا يتحول المسيحيون إلى جيش روحى قوى يسند الإمبراطور، رافضاً قتل الإعداء حتى إن صدرت لهم الأوامر بذلك[209]. فمن كلماته: [إننا لا نعود نحمل السيف ضد أية دولة، ولا نتعلم الحرب بعد. عوض هذه التقاليد التى جعلتنا غرباء عن العهود (مت5: 9؛ إش9: 6) صرنا أبناء سلام بيسوع مؤسسنا[210]].
12 – ما هو موقف القديس ديونسيوس السكندرى (القرن الثالث) من الالتحاق بالخدمة العسكرية؟
يبدو أن القديس ديونسيوس السكندرى كان يرفض الالتحاق بالجيش الرومانى، أو على الأقل أن يحارب الآخرين، إذ يقول: [يجيب حفظ الحب بعمل الصلاح حتى لمن لا يريد ان يقبله[211]].
13 – ما هو موقف أرنوبيوس Arnobius (مات حوالى عام 330م) من الخدمة العسكرية؟
أكد أنه [ليس من حقنا أن نرد الشرّ بالشر، بل الأفضل ان نحتمل الضرر عن أن نُسبب ضرراً لشخص ما، وأن يُسفك دمنا عن أن نلطخ ضميرنا بدم غيرنا. العالم الجاحد مدين كثيراً للمسيح ببركة تلطيف عنفه الهمجى، وتوقف الأيادى المعادية عن سفك دم الأقرباء[212]]. انتقد أرنوبيوس روما لأنها حطمت تماماً بعض الأمم وأخضعت أمماً أخرى لنيرها[213]. فى نفس الوقت دافع عن المسيحيين ضد الاتهام بأن مصائب كثيرة حلّت بالدولة الرومانية بسبب وجود اتجاهات متباينة فيها. فى دفاعه قال إنه خلال ال 300 عاماً من وجود المسيحية: [وجدت نصرات بلا حصر على الأعداء المهزومين، وقد اتسعت رقعة الإمبراطورية، وأمم كثيرة لم يُسمع عنها من قبل خضعت لها[214]]. هل يقصد أن المسيحيين ساهموا فى الجيش أم أنهم كانوا يصلون من أجل الإمبراطورية؟!
14 – ما هو موقف لاكتانتيوس Lactantuis (حوالى240 – 320م) من الخدمة العسكرية؟
عناصر إيمان قسطنطين بالمسيحية، لذا كتاباته قبل تحوّل قسطنطين تختلف عنها بعد التحول.
ففى كتاباته الأولى يرفض لاكتانتيوس حق المسيح فى أن يدافع عن نفسه، حتى بالنسبة لمن يصيبه بضررٍ، وإلا فقد لقبه كإنسان بار. [هكذا ليس من حق الإنسان البار أن يخدم فى الجيش…
وليس من حق البار أن يحكم على أحد بجريمة الإعدام. إنه لا يوجد فرق بين أن تقتل إنساناً بسيف أو بكلمة (نطق القاضى بالإعدام)، مادام القتل ذاته ممنوعاً. هكذا لا يوجد أية استثناء لهذا الأمر الإلهى. قتل كائن بشرى يريد الله ألا يُعتدى عليه بالقتل، هو أمر خاطئ دائماً[215]].
حدث تحول فى كتابات لاكتانتيوس بعد قيام قسطنطين، على الأقل خفف لاكتانتيوس من حدة النغمة بخصوص منع القتل فى أثناء الحروب أو الحكم القضائى بالإعدام.
15 – ماذا تكشف الحوارات التى دارت بين الشهداء والولاة؟
إنها تكشف عن رفض الشهداء الالتحاق بالجيش ورفضهم الختم الخاص بالجند. ففى نوميديا Numidiaعام 295م قال ماكسميليان Maximilian للحاكم Proconsul Dion: “ليس من حقى أن أخدم فى الجيش مادمت مسيحياً. اقطع رأسى، سأخدم فى جيش إلهى، وليس فى أى جيش ينتمى إلى هذا العالم. إننى لن آخذ (الختم)، فإن لدىّ ختم فعلاً، هو ختم المسيح إلهى. أنا مسيحى، لا أحمل قطعة رصاص حول عنقى الآن، إذ أقبل الختم المخلص لربى يسوع المسيح، ابن الله الحىّ. أنت لا تعرف عنه شيئاً، فقد تألم لأجل خلاصنا، وأسلم بواسطة الله لأجل خطايانا[216]”.
واضح أن ماكسيميليان Maximilian كان يعتقد مثل ترتليان أن ختم الجيش وختم المعمودية لا يتفقان معاً[217]. ذلك لأن الالتحاق بالجيش كان مرتبطاً بالعبادة الوثنية، وأن الرفض لم يكن بسبب عدم الاشتراك فى المعارك وذلك كما يظهر فى حوار الشهيد يوليوس فيتيران[218]Julius the Veteran.
16 – ما هو موقف الكنيسة من الالتحاق بالخدمة العسكرية منذ عصر الإمبراطور قسطنطين؟
كان يوسابيوس القيصرى (حوالى 260 – 340م) يتطلع إلى قسطنطين كوكيل الله على الأرض. [كما أن مُخلص كل البشر العام القائم بدور الراعى الصالح يواجه الوحوش المفترسة، مستخدماً قوته الإلهية غير المنظورة قاهراً الأرواح المُتمردة التى تضرب بسهامها فى الهواء وتهاجم نفوس البشر، هكذا أيضاً صديق المخلص (قسطنطين) المسلح ضد أعدائه بلواءات مُقدمة له من الأعالى من قبل المخلص، يخضع أعداء الحق المنظورين فى المعركة ويؤدبهم[219]]. يقول يوسابيوس القيصرى كان قسطنطين يصلى إلى السيد المسيح حليفه قبل دخول المعركة[220]. يقدم يوسابيوس القيصرى حلاً لوجود اتجاهين بين المسيحيين من جهة الالتحاق بالجيش. الأول من أجل الشعب الذين يمكن أن يشتركوا فى زيجات طاهرة، وحروب عادلة وأعمال مدنية، والثانى للكهنة تتطلب البتولية والفقر والتحفظ من العالم والتكريس الكامل لله[221].
17 – ما هو موقف مجم آرل Arlesعام 314 مجمع نيقية من الالتحاق بالخدمة العسكرية؟
جاء فى قانون 3 مجمع آرل: [الذين يلقون أسلحتهم فى وقت السلام، ينفصلون عن الجماعة]. ربما يعنى بعبارة “فى وقت السلام” أى فى غير وقت الاضطهاد، حيث يُطالب المسيحيون ألا يتركوا الخدمة العسكرية. يقول[222]Roland H. Banton إن هذا الأمر اختلف فى تفسيره كثير من الشراح. لكن أغلب الدارسين يرون أنه لا يقصد بوقت السلام عدم دخول الجيش فى أيام الحرب بل أثناء سلام الكنيسة، كما فى عصر قسطنطين. أما فى وقت الاضطهاد فيمكنهم ترك الخدمة لكى لا يشتركوا فى تقديم الذبائح الوثنية. ويفسر البعض هذا القانون بأنه يخص وقت السلام للدولة، حيث يلتزم المسيحى بالبقاء فى الجيش لممارسة أعمال الشرطة مثل الحراسة وحفظ الأمن. لكن متى اشتعلت الحرب، فله أن يتخلى عن ذلك حتى لا يلتزم بقتل الغير.
فى سنة 325م فى مجمع نيقية صدر قانون يخالف ما صدر فى مجمع آرل: [الذين استجابوا لدعوة النعمة، وعبروا عن إيمانهم بنزع لباس العسكرية لكن بعد ذلك ككلاب عادوا إلى قيئهم عندما قدموا مالاً وهدايا لكى يعودوا إلى الجيش، يلزم أن يبقوا بيو الموعوظين ثلاث سنوات وبعد ذلك بين المتوسلين 10 سنوات أخرى]. قانون 12.
وجاء فى القوانين المنسوبة للقديس هيبوليتس (عام336 – 340) لا يجوز للمسيحى أن يلتحق بالجيش بإرادته، إنما يخضع إن ألزم بذلك. يلزم أن يكون معه سيف، لكن يلزم ألا يؤمر بالقتل [14].
18 – ما هو موقف القديس باسيليوس (حوالى326 – 379) من الالتحاق بالخدمة العسكرية؟
رفض القديس باسيليوس أن تمتد أيدى من استخدم العنف إلى المقدسات. هذه الحساسية نجدها فى القديس المعاصر له أمبروسيوس الذى يصر ألا يستخدم الكهنة العنف تحت أى ظرف. وفى حديثه عن المعركة سماوية مع إبليس يقتبس تشبيهه من نظام الجيش وقوانينه[223].
19 – ما هو موقف القديس أمبروسيوس (حولى339 – 397) من الخدمة العسكرية؟
[الشجاعة التى تستخدم فى الدفاع عن الإمبراطورية ضد البرابرة أو لحماية الضعفاء فى مداخل بيوتهم، أو للتحالف ضد اللصوص أمر عادل تماماً[224]]. وتحدث عن الشجاعة فى الحروب قائلاً: [إنها تفضل الموت عن العبودية والعار[225]]. من الخطأ أن نظن أن القديس أمبروسيوس قد ختم بالموافقة على قبول المسيحية كل الممارسات الرومانية ومبادئها متجاهلاً الوصايا الإنجيلية الخاصة بالسلام والاحتمال، فمن كلماته: [الشجاعة العسكرية نفسها غالباً ما تكون ضد السلام[226]].
20 – ما هو موقف القديس أغسطينوس (354 – 430م) من الخدمة العسكرية؟
يُدعى القديس أغسطينوس “مؤسس نظرية الحرب العادلة[227]”. تتلخص نظرته فى النقاط التالية:
أولاً: يرى أن استخدام القوة أو السلطة أمر هام لبنيان الدولة، ولحماية المجتمع من الأشرار، بل ولنمو الأبناء. [بالتأكيد ليس باطلاً أن لنا مؤسسات مثل سلطان الملك، واستخدام عقوبة الإعدام التى يحكم بها القاضى، خُطاف منفذى عقوبة الإعدام، أسلحة الجنود، عنف السادة حتى حزم الأب الصالح. كل هذه الأشياء له اوسائلها ومبرراتها ودوافعها ومنافعها. عندما يخافها الأشرار ينضبطون، ويتمتع الصالحون بسلام أعظم وهم وسط الأشرار[228]].
ثانياً: يبغى المسيحى الأمور الصالحة فى المدينة الأرضية كما فى المدينة السماوية. وفى رأيه أن سلام المدينة الزمنية قد لا يتحقق بدون الدخول فى حرب ونوال نصرة على الأعداء المقاومين، عندئذ يحل السلام كأمر صالح. لكن هذا السلام يتحول إلى بؤس، أو يزيد الإنسان بؤساً متى انشغل بالأمور الزمنية الصالحة، متجاهلاً المجد السماوى[229].
ثالثاً: إذ يدخل القائد فى المعركة ضد العدو المقاوم، يشتهى البلوغ إلى السلام، وإن اضطر أن يقتل فليكن بسبب الضرورة لا بشهوة داخلية للانتقام والقتل[230].
رابعاً: إن كانت الحرب تتم تحت ضرورة، فإنه إن وُجدت وسائل سلمية وأمكن تحقيق تعهدات وتحالفات، فإن هذا يُحسب أمراً مجيداً[231]].
خامساً: وإن كان القديس أغسيطينوس يُميز بين الحروب العادلة والحروب الظالمة، إلا إنه يرى أنه بسبب الخطية توجد الأفعال الظالمة للغير، ويلتزم الحكيم بإثارة الحرب أو الدخول فيها. الخطية ليست من جانب واحد، بل من الجانبين مثير الحرب والملتزم بالدخول. الأول يخطئ بممارسته الظلم، والثانى يدخل فى الحروب كتأديب إلهى عن خطايا ارتكبها. [إنه لأمر ردئ للصالحين أن يكونوا تحت إصبع صانعى الشر[232]].
سادساً: حتى إن كانت الحرب ضرورة يلتزم بها الحكيم ليصد أعمال الشر من جانب الآخر، فإنه إن انتصر لا يفتخر لأنه عمل صلاحاً، لأنه كان الأفضل لو عولج الأمر بدون سفك دم.
سابعاً: الحروب ضرورة فى كل العصور. مع حديث القديس أغسطينوس عن بركات السلام ومرارة الصراعات والحروب الأهلية والخارجية، يتساءل فى إحدى رسائل (10: 25: 199) إن كان قد وجد وقت ما لم يعان منه العالم من الحروب فى موضع أو آخر. وجاءت إجابته فى كتاب “مدينة الله”، بأن هذا يتحقق بالتمتع برؤية الله مصدر السلام وجهاً لوجه فى أورشليم العليا[233].
ثامناً: الواجب العسكرى لا يفقد المؤمن صلاحه. [إنه ليس الواجب العسكرى بل حقد القلب هو الذى يعوق عمل الصلاح[234]].
تاسعاً: القتل بأمر إلهى أو كتنفيذ للقانون لقد وُجدت الوصية الإلهية: “لا تقتل” (مت19: 18؛ خر20: 13؛ تث5: 17). وفى نظر القديس أغسطينوس أن لهذه الوصية استثناءات، مثل أمر الله بالقتل كتحقيق للعدالة الإلهية، أو للتأديب. وعندما يُقرر رئيس دولة القيام بالحرب لأجل الدفاع عن وطنه، فإن القائد أو الجندى إذ يطيع الرئيس لا يحسب قاتلاً[235]].
21 – ما هو موقف القديس يوحنا كاسيان من الخدمة العسكرية؟
ورد فى كتابه “المؤسسات”، الكتاب الرابع عن جاحدى العالم (الحياة العامة والفضائل اللائقة بها)، الفصل 23 إذ يكتب لتدريب الذين يجحدون هذا العالم، يقول إن الراهب يبدأ بالتواضع الحقيقى والطاعة الكاملة حتى يصعد إلى مرتفعات الفضائل الأخرى أيضاً، وقد وجد من اللازم تقديم عينات قليلة لتصرفات بعض الشيوخ الذين سموا فى هذه الفضيلة. المثل الأول فى ذلك هو الأب يوحنا الذى عاش بجوار ليكوبوليس (أسيوط) فى منطقة طيبة والذى بلغ إلى درجة النبوة من أجل طاعته العجيبة، وصارت له شهرة حتى ملوك هذا العالم، فإن الإمبراطور ثيؤدوسيوس لم يكن يجسر أن يعلن الحرب ضد الطغاة الأقوياء جداً دون تشجيع كلمات هذا الأب، واثقاً أنها صادرة كما من السماء فينال نصرات على أعدائه فى المعارك التى تبدو لا رجاء فيها.
جاء فى أوشية الملك (أو الرئيس) فى القداس الكيرلسى: [لتخضع له كل البربر الأمم الذين يريدون الحروب فى جميع ما لنا من الخصب].
من كتاب: كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ6 – المفاهيم المسيحية والحياة اليومية – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.