السطحية والعمق

 

لعــل أكبــر اتهــام يوجــه إلــى شــبابنا اليــوم، هــو الاتهــام “بالســطحية”.. ومــع إحساســنا أن هــذا اتهـام فيـه الكثيـر مـن الظلـم، إلا أن فيـه بعـض الحقيقـة. أمـا الظلـم فلأنـه يتسـم بـالتعميم، فلــيس كــل الشــباب ســطحياً، كما أن صغر الســن، ونقــص الخبــرة الطبيعــى، وأســلوب التعلــيم، ووسـائل الإعـلام والإنترنت.. الـخ… كـل هـذه تجعـل مـن الاتهـام اجحافاً في حق شبابنا. أما صــدق الاتهــام فينبــع مــن ســهولة عــزوف شــبابنا عــن اســتعماق الــنفس، وتــدارس التـراث الروحى والفكـرى، وسهولة انقياده للدنس أو الجريمة أو الادمـان، وتكوين جماعات منحرفة دون إحساس بالذنب.. إلخ.
من هنا نحتاج أن ندخل إلى العمق.. إنها دعوة ورحلة لنغوص نحو:

1- عمق النفس

هـذا غـوص هـام، يجـب أن نتعـود عليـه، ففـى أعمـاق الـنفس احتياجـات كثيـرة هامـة ودفينـة، تطغى عليها اهتمامات سـطحية وزمنيـة زائلـة. فكـل منـا يهـتم باحتياجاتـه البيولوجيـة: كالطعـام والجــنس، وباحتياجاتــه النفســية: كالحاجــة إلــى الانتمـاء، والحــب، والتقــدير، والنجــاح… الــخ.
ولكننا بحاجة أن نهتم باحتياجاتنـا الفكريـة: كالثقافـة، واحتياجاتنـا الروحيـة: كـالخلاص والشـبع الروحى، والخلود.
متى يغوص شبابنا إلى داخل نفسه وأعماقها؟!
إن الاحتياجات البيولوجية والنفسية هامة، ويمكن أن يشبعها الإنسان بطريقة متزنة وسوية. بل إن الإنسـان المســيحى يســتطيع بالمســيح السـاكن فيـه، وفعـل روح االله القـدوس، أن يشـبع هــــذه الاحتياجات بصورة أفضل :
 هو يحتاج إلى الطعام… ويرى الصوم ضرورة روحية بناءة!!
 ويحتاج إلى الجنس… ولكن فى جهاد وطهارة وقداسة!!
 ويحتاج إلى الانتماء… فينتمى إلى أسرته وكنيسته ومسيحيته ومجتمعه ووطنه والجـنس البشرى عامة!!

 ويحتاج إلى الحب… وبالمسيح يحب الجميع ويحبه الجميع!!
 ويحتاج إلى التقدير… فهو شخصية متزنة وديعة قوية!!
 يحتاج إلى النجاح… إذ يسير مع االله ويثابر والرب ينجح طريقه!!

2- عمق الفكر

نحتاج لكى نتعمق فكريا أن نقرأ!!
وفى تجربة أمريكية شهيرة وموثقة، أن مجموعة من العائلات أغلقـت التليفزيـون نهائياً، بقنواتـه التـى تعمـل 24 سـاعة يومياً، لتـرى نتيجـة ذلـك علـى سـلوك هـذه الأسـرات، فوجـد الدارسـون أن نتيجة التجربة كانت كما يلى :
أ- بدأ الشباب والفتيان يقرأون الكتب.

ب- ترابطت الأسرة بصورة أفضل.
ج- تزاورت هذه الأسرات مع بعضها.

إذن فالأثر هنا كان : فكرياً، عائلياً واجتماعيا!!
لسنا نقصد غلق التليفزيون والأنترنت ووسائل الإتصال الحديثـة نهائيـا وقـد أصـبحت الشـغل الشاغل لأغلب الشباب من كمبيوتر لموبايل فلعلك تلاحظ مثلا فى أى جلسة عائلية كيف أن العائلــة أصــبحت حتــى وهــى مجتمعــة أن كــل فــرد مــن أفــراد العائلــة موجــود بالجســد فقــط بينمــا فعلياً الكل مشغول بالموبايـل ممـا جعـل مسـافة بـين النـاس حتـى ولـو كـانوا فـى مكـان واحـد، لا تواصل فعلي بينهم، وهـذه مـن سـلبيات الموبايـل ولا ننكـر أن لـه ايجابيـات أيضاً، فلكل وسيلة سلبياتها وايجابياتها.

ولكن وجدنا أن مواجهة سلبيات وسائل الاعلام والإتصال تأتى كما يلى:
أ – اشباع روحي:  يجعلنــى قــادراً علــى الإفــراز والتمييــز بــين البــرامج،والمواقع والأصدقاء على شبكات التواصل الإجتماعى، وانتقاء المناسب والمفيد منها.
 ب- اشباع ثقافى: يملأ ذهنى بقضايا مهمة، تجعلنى ا قادر على النقد والاختيـار الايجـابى،وليس الخضوع “للترويح السلبى“، الخطير الأثر على عقولنا جميعاً. 
ج- القدرة على الاختيار: فالشبعان روحياً وثقافياً يسـتطيع الإفـراز والنقـد والتمييـز، فيختـار ما  يــــراه بنــــاء ويرفض ما يراه تافهاً أو هداماً فــــإن “النفس الشبعانة تدوس العسل”(أم 27: 7).

د – تحديد وقت يومى للقراءة: سواء فى الكتاب المقدس أو الكتب الروحية والثقافية لتكـوين عـــادة القـــراءة، ولا نكتفـــى مـــن القـــراءة علـــى الإنترنـــت فقـــط،.. كمـا يمكــن اشـتراك مجموعــة مـن الشــباب فـى تبــادل
ً الكتـب الجديــدة والهامــة ســواء كتــب كنســية أوثقافيـة، إذ يشــتروا معــا الكتــب، ويتبــادلوا قراءتهــا، ويحـــتفظ كـــل مـــنهم فـــى النهايـــة بنصـــيب منهـــا، مكونـــا مكتبـــة صـــغيرة خاصـــهة بـــه أو بأســـرته، فالكتاب خير وأصدق مصدر للمعلومة.

3- عمق الروح

فـى أعمــاق الإنسـان حاجــات ثـلاث جوهريــة، قلكا انتبهنــا إليهـا كشــباب، بسـبب انــدفاعنا نحــو الحيـاة الزمنيـة، وهـذا أمـر طبيعـى، لكـن ينبغـى أن يكـون اهتمامنـا بتكـوين مسـتقبلنا المـادى، لاَ يكون على حساب اهتمامنا بمستقبلنا الروحى: هنا وفى الأبدية!! إذ “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ ” (مر36:8).
أ- الروح تحتاج إلى الخلاص : بمعنــى أن الخطيئــة تزعجهـــا وتلوثهــا!! ويحتـــاج الانســان – ككيــان متكامــل – أن يــتخلص مــن عبوديــة الخطيئــة، وحكمهــا بــالموت، وبصــمتها السلبية!! ونحن نشكر الرب يسوع لأنه أعطانا ويعطينا هذه البركات:

 فالمعمودية تجدد طبيعتنا.
 والميرون يجعل روح االله يثبت فينا.
التناول يجعلنا نثبت فى المسيح، والمسيح يثبت فينا.
 والتوبة تجديد لكل هذه البركات.

لـــذلك فمسـكين مـــن لا يتـــوب ويعـــود إلـى الـرب، إلـى بيـت الآب، حيـث الخـلاص والقداسـة والشـبع.. حيـث سـكنى االله فـى الإنسان بنعمة وفعل روحه القدوس!!
وطـوبى لــنفس تحــرص علــــى فحــــص أعماقها، واكتشـاف ضعفاتها فى نور المسيح والإنجيل والأب الروحى، وتجاهد تحت إرشاد روحـى لتـتخلص منهـا جميعا!! 

ب- والروح تحتاج إلى الشبع: فهى كجزء من الكيان الإنسـانى لهـا غـذاؤها، الـذى لا تغتذى بسواه، أقصد الشركة مع االله: فى الصلاة، والإنجيـل، والأسـرار المقدسـة، والقـراءات، والاجتماعات، والخدمات الروحية..

– فإذا كان العقل غذاؤه الثقافة.

–  والنفس غذاؤها الترويح والتسامى.
– والجسد غذاؤه الطعام والرياضة والراحة والنوم.
 – فــالروح غــذاؤها عشــرة االله وغيرهــا مــن الوســائط الروحيــة.
الشــبع الروحــى كفيــل بــان ينقــل الإنســان مــن مجــد إلــى مجــد ومــن قــوة إلــى قــوة ومــن حيــاة يملأها الضعف والفساد والفشل والفراغ إلى حياة مباركة تملأها القـوة والسـعادة والإنتصـارات..

صديقى، ليتك تشبع بالرب وتتلذذ به، لأنه حينئذ ستتغير حياتك إلى الأفضل وحينئذ ترى مجد االله فى كل اعمالك ويراه الناس فى أعمالك أيضا.. لك القرار والمصير!!

4- عمق التراث

خطير أن يعيش الانسان بلا جذور!! فهذا ضد الانتماء!!
وضد الاستفادة من ثروة وخبرات قديمة وفكر أصيل !!
وضـد النمـو الطبيعى للشـجرة الإنسانية، فالحاضـر نتاج الماضى، واستيعاب الماضى مهم للمستقبل!!
بــل إن هــذا ضد “روح العصر” الـذى تحــرص علــى كل قــديم حتى ولو كان بيتا عمره 150 سنة، أو شجرة فـى حديقـة يملكهـا إنسان ولا يستطيع أن يقطعها إلا لظروف قهرية وبتصريح من البلدية!!
إن التراث هو القاعدة الخرسانية المسلحة وبعض الأدوار، ويسـتحيل أن نبنـى  أدوار جديـدة ً، دون دراسة دقيقة للقواعد، وما فوقها حتى تاريخنا هذا!!

من هنا كانت أهمية:
1- دراسة تاريخنا الكنسى.

2- دراسات الآباء.

3- دراسة اللغة القبطية.
4- الحفاظ على الألحان الكنسية.

5- الفن القبطى.


5- عمق المعاصرة

وأقصـــد بهـــا ضـــرورة أن نعـــى روح العصـــر، والثقافـــات المتاحـــة فيـــه، وحركـــات الفكـــر،فليس مطلوبـــا ً مـــن الشـــباب المســـيحى أن يظـل مغلقـاً على نفسـه، غيـــر شـــاعر بـدوره المطلوب فى المجتمع والوطن والإنسانية!!

الشـــاب المســـيحى إنســـان فـــى الأســـاس، يخـــتلط مـــع زملائـــه فـــى الدراســـة والعمـــل والشـــارع والوطن، يؤثر ويتـأثر، يتفاعـل ويفعـل، لـه دوره وخدمتـه، ينشـر المحبـة، ويقـدم الخدمـة، ويشـهد بأعماله وقدوته المسيح، والمسيح الساكن فيه!!
من هنا كـان اعتـزال الحيـاة الاجتماعيـة والوطنيـة والسياسـية، ولـو علـى المسـتوى النفسـى لاْ الفعلى، اتجاه غير مسيحى!! فالمسيحية تنادينـا: “أنتم نور العالم. حتى الأب الأسقف، تطلب منه الكنيسة أن يكون لـه “شهادة حسنة من الذين هم من الخارج” (1تى 7:3). إذن: ِ
أ- فلابد من التفاعل الاجتماعى فى الدراسة والعمل والسكن.
ب- لابد من دراسة التيارات الفكرية والسياسية المعاصرة.
ج- لابد من الانضمام للأحزاب والمساهمة الأمينة خدمة للوطن.

– لابد من المشاركة الجادة فى العملية الانتخابية، والإسهام بدور بناء فى هذا المجال.
هـ- لابد من استيعاب لتاريخ كنيستنا من منظوره الوطنى، فكنيستنا تمسكت بقضايا اللاهـوت والعقيدة، تماماً كما تمسكت بوطنيتها ورفضها للاحتلال السياسى والفكرى للوطن.
و- بناء جسور الثقة والمحبة داخل الوطن درءاً لروح الفتنة وحفاظاً على وحدة الوطن.

مجرد خطوط لبرنامج ضخم نحتاجه فعلاً…

6- عمق الإفراز والتمييز

مـــع حرصـــنا الكبيـــر ألا ينزلـــق شـــبابنا حـــديثى الخبـــرة فـــى ســـلبية تيـــارات معاصـــرة: أخلاقيـــة وفكريـة واجتماعيــة.. إلا أننـا يجــب أن نبنـى ضــمائر وعقــول شـبابنا، بطريقــة تجعلـه قــادرا ً علــى الإفراز والتمييز والانتقاء!!
من هنا يكون واجبنا:
أ- تربية الضمير: مــن خــلال قلــب تائــب، محــب للمســيح، متعمــق فــى الخبــرة الروحيــة، دارس للإنجيــل والآبــاء والطريــق الروحــى، لــه أب روحــى، مثــابر علــى الجهــاد ضــد الخطيئــة، حريص على طهارة جسده مدقق فى حواسه وأفكاره، مستنير بروح االله القدوس وفكر الإنجيـل، حســاس لحركــات روح االله داخلــه حــين يحــذره مــن خطيئــة، أو مجلــة، أو كتــاب، أو صــديق، أو فكرة، أو فيلم.. حساس للخطيئة بكل صورها: بالفكر، والفعل، والعلاقة… إلخ

ً ب- تربية الفكر : ليكون فكراً راسخاً ، وهو ما قال عنـه الرسـول بـولس: ” وَأَمَّا نَحْنُ فَلَنَا فِكْرُ الْمَسِيحِ.” (1كو16:2)،وهكذا يستطيع أن ينفذ وصية الإنجيل “وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ” (2كو5:10). فالعقــل المســتنير بــالروح، المتحــد بالمســيح، الــدارس للكلمــة، المســتوعب لمزالــق طريــق الــروح، الفــاهم قضــايا العصــر واتجاهاتــه الايجابيــة والســلبية، المميــز بــين الخطــأ والصـــواب فــى ثقافـــة المحــيط بــه… هـــو بــلا شـــك عقــل شــباب ناضـــج قــادر علـــى التمييز، والاختيار أوالرفض!!

7- عمق التفكير فى رؤيا المستقبل

 المسـتقبل – عنـد الإنسـان عمومـاً والشـباب خصوصـاً – هـو المسـتقبل الزمنـى، وهـذا حقـه!!
ولكن ماذا عن المستقبل الأبدى، والمصير النهائى للإنسان؟!
ً ألا ينبغى أن يتحد المستقبلان معا،ليصيرا مستقبلاً واحدا ً، بهيجاً ومبهجا؟!ً، 
لماذا هذا الفصل بينهما؟! هذا افتعال ليس من روح الإنجيل، بل هو – بالقطع – من إيحاءات عدو الخير، حتى ينشغل الإنسان بالأرض وينسى مسئوليته نحو مستقبله الأخروى!!

مــن هنــا كــان لابــد أن نتمتــع بهــذه الرؤيــا الشــاملة.. لــم يعــد لــدى المــؤمن تفريــق بــين شــئون الأرض والمصير الأبدى.. بل أن المؤمن يحيا الأبدية منذ الآن، فالحيـاة الأبديـة فـى مفهومه الأرض والمصير الأبدى.. بل أن المؤمن يحيا الأبدية منذ الآن، فالحيـاة الأبديـة فـى مفهومهـا الانجيلــى تكمــن أساســاً فــى التعــرف علــى الســيد المســيح، مخلصــنا الصــالح، وهــذه هــى كلمــاتِ الــرب يســوع بفمــه الطــاهر عــن هــذا الأمــر، قــال: “وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ” (يو3:17)، ومعرفـة السـيد المسـيح لـه المجد هى الطريق الوحيد لمعرفة الإله الحقيقى، لأنه ابن االله، وكلمة االله، والمتجسـد لخلاصـنا وتعليمنا…
فــــلا يكــــف عــــن الاهتمــــام بحياتــــه الأرضــــية، مــــن جهــــة: الدراســــة والعمــــل والســــكن والــــزواج والأطفال والحياة الطيبة، ولكنه يفكر فى ذلك:
 بأسلوب مسيحى مقدس.

 بأمانة لمبادئ الإنجيل.
 باهتمام بحياته الأبدية.

 بروحانية تجعله يتسامى فوق المادة.

وهذا لا يتأتى إلا من خلال حياة مسيحية مقدسة، تتخـذ مـن انجيـل الـرب دسـتوراً لهـا، ومن روحه القدوس هادياً وقائداً، ومن مسيحها المبارك مخلصاً وفادياً ونصيباً، ومـن الأبديـة وطناً نهائياً خالداً… 


هذه بعض ملامح العمق الذى نتمناه لأنفسنا ولكم يا شبابنا المبارك..
فكلما دخلنا إلى العمق كلما أثمرنـا أكثـر وجـذبنا كثيـرين معنـا إلـى عمـق الحيـاة الروحيـة بـل والأجتماعية والأسرية، عندما تسمع كلمة الرب وتثق بها وتنفذها بالكامل، كلما امتلأنا بـالروح القــدس، كلمــا أثمرنــا وصــرنا شــجرة مثمــرة يســتظل تحتهــا كــل مــن يتعامــل أو يتقابــل معنــا، يــرى فينا صـورة المسـيح النقيـة الطـاهرة الجذابـة فيسـعى هـو أيضـا للتمتـع بمعرفـة المسـيح والبحـث عنه.

فهيا جميعاً “ابعدوا الى العمق”.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى