الإيمان المسيحى والحرية

1 – هل وهب الله المخلوقات العاقلة السماوية والأرضية حرية الإرادة؟

وهب الله الطغمات السماوية والإنسان حرية الإرادة كاملة، بهذا كل الخليقة العاقلة مسئولة عن تصرفاتها. لكن الشيطان خُلق بدون جسد كالإنسان، فإذ سقط فى التشامخ حُكم عليه أبدياً. ولو لم يخطئ لبقى كالملائكة الأبرار يحيا إلى الأبد. أما آدم فكان له جسد قابل للموت. وحين أخطأ حُكم عليه بالموت، ولكن ليس إلى الأبد، لأن الإنسان مُعد للحياة والخلود. يوجد فى الإنسان ديناميكية تدفعه إلى صنع الخير، وإلى الخلود، وفيه حنين يجعله يشعر بندم إذا ما أضاع الخير.

إرادة الملاك مُجمدة فى الخير أو فى الشر، فبعد أول عمل حرّ لم يعد الملاك الساقط يريد إلا الشر وغير قادر على غير ذلك، أما إرادة الإنسان فتتيح له أن يفعل هذا أو ذاك. وبأول عمل حرّ اختار آدم الموت، ولكن بسبب الحب الإلهى وإمكانية الخلود الذى فيه، استطاع أن يستعيد الحالة التى ضيعها وذلك من خلال قبوله وتجاوبه مع نعمة الله وخطة الله للخلاص.

يختلف البشر عن الملائكة، فهم مُعدون للخلود. أمامهم يُفتح طريق الخلاص، إن قبلوه بكامل حريتهم صار لهم حق التمتع بالخلود. بهذا لم يترك الله صورته تسير إلى الهلاك، إنما قدّم لها النعمة الإلهية القادرة أن تردها إلى الخلود.

هذا ومن جانب آخر، فإن الشيطان سقط بسبب كبريائه الذى تفاقم حتى بعد سقوطه مع تصميمه على الخطأ ومقاومة الله، أما الإنسان فسقط بغواية إبليس.

صور القديس مار يعقوب السروجى موقف آدم بعد سقوطه، قائلاً:

[حسده الغاش وزرع فيه زرعاً مملوءً موتاً، إذ بدأ يظن أن المجد من عنده. ظن أن مجده من ذاته وليس من آخر.

قال فى نفسه: ثمرة تلك الشجرة هى لى، أنا هو السيد، من يلزمنى بأمره؟

ليس من ملك على الخليقة غيرى.

بغى حتى نسى الله.

هذا هو الثمر الذى يُقدم الموت لآكله.

بالفكرة ألتى سقط بها الشيطان، هدم رئيس جنس (البشر) من البدء،.

زرع الزرع بفكر ممتلئ موتاً، وبه قتل ذلك الجبار المملوء حسناً.

شفق عليه بالمراحم ذاك المتحنن المملوء صلاحاً. وأخذ منه المجد الذى كساه به، وعراه من ثوب ذلك المجد حتى لا يتشامخ ويهلك تماماً مثل الشيطان.

إذ أنزله من مكانته وضع أمامه المسكنة. إنك تراب وطين محتقر، وابن الغبار. لماذا تطلب أن تغتصب درجة ليست هى لك؟ إنك لم تخلق الخليقة جميعها، وهى ليست لك…

أنت تراب، فلا تبغ العظمة!

طين أنت، فلماذا تطأ بقدميك ما هو ليس لك؟…

أنت تراب، ولأنك بغيت فإلى تراب تعود].

ويقول القديس غريغوريوس النيسى: [أعطنى الله الطبيعة العاقلة نعمة حرية الإرادة، وأنعم على الإنسان بالقدرة على تحديد ما يريده حتى يسكن الصلاح فى حياتنا، ليس قسراً ولا لاإرادياً بل نتيجة للاختيار الحُر. إن تمتعنا بحرية الإرادة يؤدى بنا إلى اكتشاف حقائق جلية. فى طبيعة الأمور إذا ما أساء أحد استخدام مثل هذه الإرادة الحرة فإنه بحسب كلمات الرسول يصير مثل هذا الشخص مخترعاً لأعمال شريرة (رو1: 30) [309]].

ولازال يهبنا خالقنا حرية الإرادة فى رجوعنا إليه وتبعيتنا له بعد أن تجسد وحل بيننا، فإنه يُقدس الإرادة الموهوبة لنا. وكما يقول الشهيد كبريانوس: [إنه لم يُوبخ الذين تركوه ولا هدّدهم بطريقة عنيفة بل بالأحرى اتجه نحو تلاميذه قائلاً: “ألعلكم أنتم أيضاً تريدون أن تمضوا؟” (يو6: 67)، محترماً بالحق القانون الذى به يمارس الإنسان حريته ويبقى فى حرية إرادته يختار الموت أو الخلاص[310]].

ويؤكد القديس جيروم تقديس حرية الإرادة الممنوحة لنا لنسلك فى المسيح يسوع، قائلاً: [إنه لا يقول: “يجب أن تشربوا، يجب أن تجروا، أردتم أو لم تريدوا”، بل من كان راغباً وقادراً على الجرى والشرب، فسيغلب ويرتوى[311]].

2 – لماذا نسأل الله ولا نسعى نحن للغلبة على التجربة مادام كل شئ فى مقدورنا؟ ولماذا نجاهد لنحيا صالحين ما دامت القدرة على فعل هذا هى فى يد الله؟

يقول القديس أغسطينوس: [لا يتجاسر أحد فى دفاعه عن حرية الإرادة بطريقة بها يحاول أن يحرمنا من الصلاة القائلة: “لا تدخلنا فى تجربة”. ومن الجانب الآخر لا ينكر أحد الإرادة ويتجاسر فيجد عذراً للخطية. لنلتفت إلى الرب فى تقديمه الوصية، وفى تقديمه عونه، ففى كليهما يخبرنا عن التزامنا بالواجب، وعن مساندتنا فى تنفيذه. فإن البعض يرتفعون إلى الكبرياء خلال ثقتهم المبالغ فيها فى إرادتهم الذاتية، بينما يسقط آخرون فى عدم المبالاة خلال المبالغة فى عدم الثقة… من جانب يلزمنا أن نشكره من أجل القوة التى يمنحنا إياها، ومن الجانب الآخر يلزمنا ان نصلى لكى لا تفشل قوتنا الصغيرة تماماً. إنه ذات الإيمان عينه العامل بالمحبة (غلا5: 6)، حسب القياس الذى يهبه الرب لكل إنسان، حتى أن من يفتخر بذاته بل فى الرب (1كو1: 31) [312]].

3 – ما ارتباط حرية الإرادة بملكوت الله الذى يُقام داخلنا بالنعمة الإلهية؟

يقول القديس كيرلس الكبير: [انظروا، فإن ملكوت الله هو داخلكم. يقول لا تسألوا عن الأزمنة التى فيها يأتى ملكوت الله (لو17: 20 – 36)، وإنما كونوا مشتاقين أن توجدوا متأهلين له، لأنه فى داخلكم، أى يعتمد على إرادتكم، وفى سلطانكم أن تقبلوه أو ترفضوه. كل إنسان يقبل التبرير بالإيمان بالمسيح ويتزين بكل فضيلة، يُحسب أهلاً لملكوت السماوات[313]].

4 – ما هو دور النعمة الإلهية فى تقديس الإرادة مقابل دور الشيطان فى انحرافها؟

يقول القديس جيروم: [لنسأل هؤلاء الهراطقة الذين يؤكدون وجود طبيعتين متعارضتين، إذ يفهمون كما لو أن الشجرة لا يمكن ان تأتى بثمر ردئ (حتى إن انحرفت)، إذ كيف أمكن لموسى – الشجرة الصالحة – أن يخطئ عند ماء الخصومة؟ (عد20: 12) أو كيف أنكر بطرس الرب عند آلامه، قائلاً: لا أعرف الرجل (مت26: 74)؟ أو كيف أمكن لحمى موسى – الشجرة الرديئة – الذى لا يؤمن بإله إسرائيل أن يقدّم مشورة صالحة (خر18: 19 – 25) [314]؟].

5 – ما هى عجلة القيادة التى تُحرك إرادة الإنسان؟

يُسلم الإنسان الروحى إرادته لروح الله ليقودها، أما الإنسان الجسدى فيسلكها لرغباته وشهواته الجسدية. والإنسان الطبيعى يتجاهل نعمة الله ويظن أنه قادر على توجيه كل طاقاته الداخلية وسلوكه الخارجى حسبما يريد.

الإنسان الروحى هو الشخص الحار فى العبادة والمشتعل بحب الله. والجسدانى هو الذى له ضعفات واضحة فى حياته لا يتحرر منها. والطبيعى هو الشخص الفاتر الذى يظن فى نفسه غير محتاج إلى نعمة الله ومساندته. وهو إنسان تخدعه شكليات مُعينة، كأن يكون حافظاً للكتاب المقدس أو واعظاً مؤثراً يهز قلوب كثيرين أو مكتفياً بكونه راهباً… أو له صور مُعينة من العبادة أو الخدمة، دون أن يعيش كإنسان تائب منسحق القلب مُتمتع بعشرة الرب. وهذا الصنف خطير لأن خارجه يخدع الآخرين بل ويخدع نفسه.

يقول الأب دانيال[315]: [يتحدث الكتاب المقدس عن ثلاثة أنواع من الأرواح: الجسدانى، والطبيعى، والروحانى. فيقول الرسول عن الجسدانى “سقيتكم لبناً لا طعاماً، لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون، بل الآن أيضاً لا تستطيعون، لأنكم بعد جسديون” (1كو3: 2 – 3). وأيضاً “إذ فيكم حسد وخصام وانشقاق ألستم جسديين؟” أما عن الطبيعى فيقول: “لكن الإنسان الطبيعى لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة” (1كو2: 14). اما عن الروحانى فيقول: “وأما الروحى فيحكم فى كل شئ وهو لا يحكم فيه من أحد” (1كو2: 15). وأيضاً “فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة” (غل6: 1)…

يقول القديس أنبا أنطونيوس: [لا نعتبر الأحرار هم أولئك الأحرار بحسب مركزهم، بل الذين هم بحق أحرار فى حياتهم وطبعهم… حرية النفس وطوباويتها هما نتيجة النقاء الحقيقى والازدراء بالزمنيات[316]]. وأيضاص [الإنسان الحر هو ذاك الذى لا تستعبده الملذات، بل يتحكم فى الجسد بتمييز صالح وعفة، قانعاً بما يعطيه الله، مهما كان قليلاً، شاكراً إياه من كل قلبه[317]].

6 – لماذا هاجم القديس إكليمنضس السكندرى الوثنية؟

هاجم القديس إكليمنضس السكندرى الوثنية، لأنها تفسد الحرية الإنسانية بوسيلة أو أخرى. فيتحدث عن أورفيوس Orpheus كيف أفسد بأغانيه “حرية البشرية الجميلة تحت السماء”، لكى يجعل من البشر عبيداً لخزعبلات وأسحار شيطانية[318].

يفسر القديس إكليمنضس دعوة السيد المسيح للمؤمن أن يترك أباه وأمه ليتبعه بطريقة رمزية. فالمؤمن يترك العالم، أى أمه، ويتخلى عن أبيه، أى القوانين التى ضد الإيمان، من أجل تمتعه بالصداقة مع الله ليكون على يمين المذبح[319]. بهذا يتمتع المؤمن بحرية الإرادة ليختار ما يليق به.

7 – لماذا يقبل المؤمن الاستشهاد بفرح؟

يشعر المؤمن بالاعتزاز بالتمتع بحرية الإرادة، حيث يختار التبعية للسيد المسيح والتلمذة له بكامل اختياره، ولو كانت التكلفة استشهاده! يرى مينيكس فيلكس أن قبول الاستشهاد بفرح، ومواجهة الموت بقوة، هو “تأكيد للحرية الحقيقية” [320]. إذ يقول: [يا له من مشهد مدهش للرب عندما يواجه المسيحى الألم، وهو مستعد أن يحارب ضد التهديدات والعقوبات والعذابات، عندما يضحك ويسخر بتحطيم الموت ورعب الجلادين، ويؤكد حريته الشخصية ضد ملوك ورؤساء، ويُسلّم نفسه لله وحده، الذى إليه ينتمى، وكغالب يتحدى القاضى الذى أصدر الحكم ضده! [321]].

كما يقول: [الإنسان حُرّ، بحسب ناموس الكلمة الكل أحرار، فإنه وإن هدده طاغية بالموت، وإن ألقى به فى السجن، وتعرض لخطر الموت، أو تعرض لفقدان كل شئ، لن يتخلى عن عبادة الله، أياً كانت الوسائل المستخدمة ضده[322]].

8 – ما هو دور حرية الإرادة فى حياة الإنسان؟

إن يضع المسيحيون – مثل أثيناغوراس – الخالق كمركز لفلسفتهم، يلزمهم تأكيد أهمية الإنسان وحرية إراداته[323]. هذه الحريّة تجعلنا أمام مسئولية، فنُدان عن كل تصرف يصدر عنا. فإن سقط الإنسان فى الشر يُدان، ويلقى فى نار أبدية، لأن نفسه لا تفنى، وإن التصق بالله يعيش الإنسان فى حياة أبدية سماوية.

9 – هل حرية الإرادة عطية أم التزام؟

حرية الإرادة عطية إلهية ثمينة، وفى نفس الوقت التزام أن نحرص على حرية إرادة الخاضعين لنا، سواء كانوا أعضاء فى الأسرة أو مرؤوسين لنا فى العمل أو خدم. نرد عطية الله لنا فى من نلتقى بهم. يرى القديس أغسطينوس أنه حتى فى ظل وجود نظام العبيد، يليق بالمؤمن ألا ينخدع بما له من حق إصدار الأوامرلمن هم تحته، خاضعين له. إنما فى نوع من الأبوة أو الأمومة يشعر أنه مسئول عن الخاضعين له من كل الجوانب الروحية والمادية والنفسية. وكأن وجود العبد ليس فرصة للراحة على حساب الغير، إنما يتحمل السيد مسؤولية هذا العبد كأخ له، بل يكون السيد خادماً لعبده.

يقول القديس أغسطينوس: [حتى أولئك الذين يصدرون الأوامر هم خدام لمن يأمرونهم، إذ هم لا يأمرون بدافع شهوة السلطة، بل يلزم الاهتمام بمصالح الآخرين، ليس فى كبرياء، بل بمحبة الاعتناء بالغير[324]]. كما يقول: [يليق بالإنسان أن يبدأ أن يبدأ ببيته، فهذا الجزء الصغير يُكون المجتمع المدنى، وكل بداية موجهة إلى نهاية من نوعها. وكل جزء يساهم فى كمال الكل الذى يكون جزءاً منه. بمعنى آخر فإن السلام العائلى يساهم فى سلام المدينة. بمعنى أن الانسجام اللائق بين الذين يعيشون معاً فى منزل فيما يتعلق بإعطاء الأوامر وطاعتها يساهم فى الانسجام اللائق فيما يتعلق بالسلطة والطاعة من المواطنين[325]].

ويقول أيضاً: [يقول القديس بولس عن فليمون: “الذى كنت أشاء أن أمسكه عندى لكى يخدمنى عوضاً عنك فى قيود الإنجيل، ولكن بدون رأيك لم أشاء أن أفعل شيئاً أن أفعل شيئاًن لكى لا يكون خيرك على سبيل الاضطرار بل على سبيل الاختيار”. وجاء فى سفر التثنية “انظر قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير، الموت والشر… فاختر الحياة لكى تحيا أنت ونسلك” (تث30: 15، 19). وأيضاً فى سفر ابن سيراخ: “هو صنع الإنسان فى البدء وتركه فى يد اختياره… فإن شئت حفظت الوصايا ووفيت مرضاته. وعرض لك النار والماء فتمد يدك إلى ماشئت” (سى15: 14، 17). هكذا أيضاً نقرأ فى سفر إشعياء “إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض، وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف، لأن فم الرب تكلم” (إش1: 19 – 20)… فإن لا نبلغ إلى الغاية بغير إرادتنا، ولكن لا نستطيع أن نكمل الغاية ما لم ننل المعونة الإلهية[326]].

10 – ما مفهوم “ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى، بل لله الذى يرحم”؟

يقول القديس جيروم: [لنتحقق ماذا يعنى هذا؟ إن الأمر ليس بخصوص من يشاء أو من يسعى، وإنما بخصوص الله الذى يرحم. فإن كنا لا نشاء ولا نسعى، فالله لا يأتى ليعيننا. فمن جانبنا يلزمنا أن نشاء وأن نسعى فيتراءف علينا، لكن إن نام المصارع يفقد النصرة[327]].

11 – ما علاقة الإيمان والنعمة الإلهية بحرية الإرادة؟

يقول القديس جيروم: [من جانبنا نحن نقيل حرية الإرادة هذه بسرور، لكننا لن ننسى أن نشكر العاطى، مدركين أننا نصير بلا قوة ما لم يحفظ الله عطاياه فينا على الدوام… المشيئة هى منا، والسعى أيضاً من جانبنا، لكن بدون معونة الله المستمرة لا تكون لنا مشيئة ولا سعى. يقول المُخلص فى الإنجيل: “أبى يعمل حتى الآن وأنا أعمل” (يو5: 17). إنه دائم العطاء، مانح باستمرار. لم يكتف بأن يهب النعمة مرة واحدة، إنما يُقدمها على الدوام. إننى أطلب لكى أنال، وإذ أنال أعود فأطلب ثانية، إذ أنا طامع فى غنى الله، وهو لا يمتنع عن العطاء، وأنا لا أكف عن الأخذ. كلما شربت عطشت، إذ أسمع تسبحة المرتل: “ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب” (مز34: 8). كل صلاح نناله هو تذوق للرب[328]].

كما يقول القديس جيروم أيضاً: [حيث توجد النعمة، فإنها لا توهب عن أعمال، بل هى عطية مجانية من العاطى… ومع ذلك فلنا أن نشاء أو لا نشاء، إنما الحرية عينها التى لنا هى مُقدمة لنا برحمة الله[329]].

حينما تحدث القديس إكليمنضس السكندرى عن الإيمان والحرية الإنسانية، أكد أن الحرية الإنسانية والعقل كلاهما هبة إلهية، لا يقدران أن يُقدما للإنسان حياة الشركة دون العون الإلهى. فإن كان الإيمان من صنع الإرادة الحرة، لكنه هبة إلهية[330]. إنه يشبه لاعب الكرة الذى له الحرية أن يمسك الكرة أو يرفض، لكنه لا يقدر أن يمسك بها ما لم تُقذف إليه[331]. هكذا يمكننا أن نمسك بالإيمان أو نرفضه، لكننا فى حاجة إلى يد الله تقدمه لنا. هذا الفرك استقامة تلميذه العلامة أوريجينوس الذى تحدث بفيض عن نعمة الله المجانية مؤكداً: [ليس شئ من عطايا الله للبشرية يُعطى كوفاء لدين، بل كلها تُعطى من قبيل نعمته[332]]. وفى نفس الوقت يؤكد: [إن نزع عنصر حرية الإرادة عن الفضيلة يتدمر كيانها[333]].

12 – هل عبوديتنا لله تُقيد من حريتنا؟

الحرية التى نمارسها لا تتحقق عن اضطرار، إنما تُمارس خلال الحب “من القلب” بكمال إرادتنا. فالحرية فى المسيح هى عبودية للبرّ (رو6: 18)، لكنها عبودية الحب الاختيارى وليس عبودية العنف الإلزامى، عبودية النضوج الالتزام بلا استهتار أو تسيب! يقول القديس أغسطينوس: [لا يقل المسيحى أننى حرّ، أفع لما يحلو لى، ليس لأحد أن يكبح ارادتى مادمت حراً. إن كنت بهذه الحرية ترتكب خطية إنت عبد للخطية. لا تفسد حريتك بالتحرر للخطية، إنما لاستخدامها فى عدم ارتكاب الخطية. “فإنكم إنما دُعيتم للحرية أيها الإخوة، غير أنه لا تُصيروا الحرية فرصة للجسد بل بالمحبة اخدموا بعضكم بعضاً” (غل5: 13) [334]].

كما يقول أيضاً القديس أغسطينوس: [الإنسان الصالح وإن كان عبداً فهو حر، أما الشرير فحتى إن كان ملكاً فهو عبد[335]].

13 – هل المعمودية تهبنا الحرية؟

يقول القديس مرقس الناس: [تهبنا المعمودية المقدسة حرية كاملة، ومع ذلك فإن للإنسان مطلق الحرية والإرادة، إما أن يُستعبد مرة أخرى برباطات شهوانية، أو يبقى حراً فى تنفيذ الوصايا. فان التصق بالفكر إحدى الشهوات، فهذا من عمل إرادتنا الخاصة، وليس رغماً عنا. إذ يقول الكتاب إنه قد أعطى لنا سلطان “هادمين ظنوناً” (2كو10: 5)… ويكون الفكر الشرير، بالنسبة لمن يهدمونه، علامة على حبهم لله وليس للخطية. لأن وجود الفكر الشرير ليس فيه خطية، إنما تكمن الخطية فى حديث العقل معه حديث ود وصداقة. إننا لسنا مُغرمين بالفكر الشرير، فلماذا نتباطأ نحن فيه؟ فما نبغضه من كل القلب، يستحيل أن تطيل قلوبنا الحديث معه، إلا إذا كانت لنا شركة خبيثة معه؟!].

فاصل

من كتاب: كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ6 – المفاهيم المسيحية والحياة اليومية – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى