العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

المسيح لباس النفس وطبيبها الوحيد

‏ العظة العشرون من العظات الخمسون 

[وحده المسيح ، الطبيب الحقيقي للإنسان الباطن ،
يقدر أن يشفي النفس ويُزينها بلباس النعمة]

[أ] المسيح وروحه القدوس هما لباس النفس

1 – إن كان أحد عُريانا من اللباس الإلهي السماوي ، الذي هو قوة الروح القدس – كما قيل : « إن كان أحد ليس له روح المسيح ، فذلك (الإنسان) ليس له (أي ليس للمسيح)» ( رو 8: 9) – فليبك وليتضرع إلى الرب لگیما ينال من السماء اللباس الروحاني ، حتی تكتسي[1] نفسه التي قد تعرت من القوة الإلهية ، لأن من لا يلبس لباس الروح القدس فقد تسربل بالخزي العظيم الذي « لأهواء الهوان»[انظر رو1: 26] .  فكما أنه في الأمور المنظورة ، إن كان أحد عُرياناً يكون في خزي وهوان عظيمين ، والأصدقاء يُعرضون عن أصدقائهم العراة ، والأقرباء عن ذويهم ، والأولاد إذا ما لمحوا أباهم قد تعري يُحولون وجوههم لكي لا يروا جسد أبيهم عارياً، ويرجعون القهقرى[2] ويسترونه ثم يردون وجوههم ، كذلك الله أيضاً يعرض عن النفوس التي لا تلبس لباس الروح في يقين ، وعن الذين لا يلبسون الرب يسوع المسيح بالقوة والحق .

2- فإن الإنسان الأول نفسه حالما نظر ذاته عُريانا شمله الخزي ، إذ إن خزياً هذا مقداره يلازم العري[انظر تك3: 7]. فإن كان في الأمور الجسدانية يظهر العُري مثل هذا الخزي، فكم بالأحرى النفس العارية من القوة الإلهية ، التي لا ترتدي ولا تكتسي حقاً باللباس الروحاني غير الفاسد ولا المنطوق به ، أي الرب يسوع المسيح نفسه ، فإنها تكون قد تسربلت بخزي أعظم – خزي الآلام وهوانها . وكل من كان عارياً من ذلك المجد الإلهي ، يلزمه أن يخجل هكذا من نفسه ويعرف هوانه ، كما أن آدم – جسدياً- كان يغشاه الخجل لأنه عريان. ومع أنه صنع لنفسه ثوباً من أوراق التين ، إلا أنه مع ذلك كان يرتدي الخزي ، عالماً بفقره وعريه . فلتطلب مثل هذه النفس من المسيح الذي يعطي المجد[انظر يو17: 22] أن يكسوها به في نور لا يُعبر عنه ، ولا تصنعن لنفسها ثوباً من أفكار باطلة ، خادعة ذاتها برغم برها الخاص ومتوهمة اقتناءها ثوب الخلاص.

3 – لأنه إن كان أحد يعول على بره فقط ، دون أن ينتظر بر الله الذي هو الرب « الذي صار لنا براً وفداء » كما قيل ( 1كو1: 30) ، فإنه باطلاً وعبثاً يتعب ، لأن كل ظنه ببره سوف يُستعلن في اليوم الأخير ” کخرقة طامث » ، كما يقول إشعياء النبي : « قد صار كل برنا مثل خرقة طامث» (إش64 : 5 س) . فلنسأل الله ولنضرع إليه أن يُلبسنا «ثوب الخلاص»[3] ، أي ربنا يسوع المسيح ، النور الذي لا يوصف ، الذي إذا ما لبسته النفوس فلن تخلعه إلى الدهور[4] ، بل إن أجسادها أيضا ستتمجد في القيامة بالمجد النوراني الذي تسربلت به منذ الآن النفوس الأمينة[5] النبيلة ، كما يقول الرسول : « الذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم » ( رو8: 11) ، فالمجد لشفقته التي لا يُنطق بها ورحمته التي لا يُعبر عنها !

[ب] المسيح هو طبيب النفس الوحيد

4 – وأيضاً كما أن المرأة نازفة الدم حين آمنت بالحق ومست هُدب السيد ، نالت الشفاء للتو وجف نزف الينبوع النجس لدمها[انظر مت9: 22]، هكذا كل نفس أثخنها جُرح الخطيئة عديم الشفاء ، أي ينبوع الأفكار الشريرة النجسة ، إن هي تقدمت إلى المسيح وتوسلت ، مؤمنة حقاً، فإنها تنال الشفاء والخلاص[6] من ينبوع آلامها العضال ، ويجف ذلك الينبوغ الذي ينبع الأفكار النجسة ويأخذ في النضوب بقدرة يسوع وحده، وليس بأحد آخر يمكن لهذا الجرح أن يندمل . لأن هكذا قد رسم العدو في تعدي آدم ، أن يجرح الإنسان الباطن القائد للعقل والناظر لله ويُسدل عليه ظلمته ، فشخصت إذ ذاك عينا الإنسان إلى الشرور والأهواء وانغلقت عن الخيرات السماوية .

5- فإنه هكذا قد جُرح الإنسان الباطن ، حتى إن أحداً لا يمكنه شفاؤه سوى الرب فقط ، فهو وحده يستطيع ذلك. لأنه هو لما أتی رفع خطيئة العالم[انظر يو1: 29]، أي جفف ينبوع أفكار النفس النجس . فكما أن نازفة الدم تلك أنفقت كل ما تملك على من كانوا يعدونها بالشفاء ولم تصحَّ من مرضها بواسطة أي منهم ، إلى أن دنت من الرب مؤمنة حقاً ومست هُدبه ، وهكذا للوقت أحسَّت بالشفاء وتوقف نزيف دمها؛ كذلك النفس المكلومة منذ البدء بجرح أهواء الشر عديم البرء ، لم يقدر أحد – لا من الأبرار ولا من الآباء ولا من الأنبياء ولا من رؤساء الآباء – أن يشفيها .

6 – فلقد جاء موسى لكنه ما استطاع أن يعطي شفاءً تاماً؛ فكان في زمان الناموس کهنة ، وتقدمات ، وعشور ، وسبوت ، ورؤوس شهور ، وغسلات ، وذبائح ، ومحروقات ، وكل بقية البر، وما استطاعت النفس أن تُشفى وتتطهر من نزيف الأفكار الخبيثة النجس ، ولم يسعفها كل برها لكي تبرأ ، إلى أن جاء المخلص ، الطبيب الحقيقي ، الذي يداوي مجاناً، الذي بذل ذاته فدية لأجل جنس البشر[انظر مت20: 28]. هو وحده صنع فداء النفس العظيم الخلاصي وشفاءها ؛ هو عتقها من العبودية وأخرجها من ا الظلمة ومجدها بنوره الخاص ، هو أنضب ينبوع الأفكار النجسة فيها ، لأنه يقول : « هو ذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم » ( یو ۱ : ۲۹ )[7] .

7 – ذلك أن أدويتها الأرضية ، أعني أعمال برها الخاص فقط ، ما استطاعت أن تداويها وتشفيها من مثل هذا الجرح غير المنظور ، بل إنه بواسطة الطبيعة السماوية الإلهية التي لعطية الروح القدس – بواسطة هذا الدواء فقط استطاع الإنسان أن ينال الشفاء ويبلغ الحياة ، متطهراً في قلبه بالروح القدس . لكن كما أن تلك المرأة ، وإن لم يمكنها الشفاء ولم يُداو جُرحُها ، فقد كان لها رغم ذلك قدمان لكي تأتي بهما إلى الرب وبمجيئها نالت البُرء ؛ وبالمثل أيضا ذلك الأعمى ، وإن تعذر عليه أن يجتاز ويأتي إلى الرب لكونه لا يرى ، إلا أنه أرسل صوتاً أمضى من الملائكة وراح يقول : « يا ابن داود ارحمني » ( مر10: 47 ؛ لو18: 38 ) ، وهكذا لما آمن نال الشفاء ، إذ أتى الرب إليه وجعله يبصر جلياً؛ هكذا النفس أيضاً ولئن تكن مجروحة بكلوم « أهواء الهوان»[رو1: 26] ، وعمياء جراء ظلمة الخطيئة ، إلا أن لها مع ذلك الإرادة أن تصرخ وتدعو يسوع لكيما يأتي هو ويصنع فيها « فداء أبدياً »[عب9: 12] .

8- فكما أن ذلك الأعمى لو لم يصرخ ، ونازفة الدم لو لم تأتي إلى الرب ، لما كانا قد نالا الشفاء ؛ هكذا إن لم يأتي الإنسان إلى الرب بمحض إرادته وبكامل اختياره ، ويتوسل ب « يقين الإيمان»[عب10: 22]، لا ينال الشفاء . فلماذا أولئك لما آمنوا كانوا يبرأون للوقت بينما نحن لم نبصر  بعد بالحق ولم نبرأ من الأهواء الخفية ، مع أن الرب يُولي بالحريّ النفس غير المائتة عناية أين منها عنايته بالجسد؟ هذه النفس التي إذا ما أبصرت – بحسب القائل : « اكشف عن عيني » ( مز118: 18) – فلن تعمی بعد إلى الأبد ، وإذا ما نالت الشفاء فلن تعود تُجرح بعد ذلك . لأنه إن كان الرب بمجيئه على الأرض قد أظهر عنايته بالأجساد التي تفسد ، فكم بالأحرى النفس غير المائتة المخلوقة على صورته ؟ ! لكننا لأجل عدم أمانتنا ، وانقسامنا الداخلي ، وعدم محبتنا إياه من كل القلب ، وعدم إيماننا به بالحق ، لم ننل بعد الشفاء الروحاني والخلاص. ألا فلنؤمن به إذاً ولنتقدم إليه بالحق ، حتى يُجري فينا سريعاً الشفاء الحقيقي ، لأنه وعد بأن « يُعطي الروح القدس للذين يسألونه »[لو11: 13] ، وأن يفتح للذين يقرعون ، وأن يوجد للذين يطلبونه[انظر مت7: 7]، والذي وعد هو « مُنزه عن الكذب»[تي1: 2] ، « له المجد والسلطان إلى الدهور ، آمين ». 

  1. وردت في هذه العظة أربعة أفعال مترادفة المعنى ، وترجمت على النحو التالي : يلبس،يكتسي، يرتدي أو يلبس . 
  2.  backwards = إلى خلف ، لم ترد في العهدين إلا مرة واحدة فقط ، في تك 9 : 23 س ، في وصف رجوع سام ويافث القهقری لستر أبيهما نوح .
  3. إش 61: 10 س : « وسيبتهجون ابتهاجاً بالرب . فلتتهلل نفسي بالرب لأنه ألبسني ثوب الخلاص ورداء الابتهاج . وضع علي عمامة مثل عريس، وزينني بزينة مثل عروس» . 
  4. الرب يسوع نفسه هو ثوب الخلاص الذي يلبسه المؤمنون ( انظر : رو 14:13 ؛ غل3: 27) .
  5. =الأمينة أو المؤمنة.
  6. حرفياً:  الشفاء المخلص ، أو الشفاء الخلاصي. 
  7. هذه الفقرة التي تُقرر بأنه لا شفاء للنفس إلا بالمسيح ، وتقارن عمله بعمل السابقين له بدءاً من موسی ، نجد لها ما يقابلها في رسائل ق . أنطونيوس ( انظر : الرسائل 2:2 ، 2:3: ، 6 :2). 
  8.  رو 26:1. 
  9. عب 12:9. 
  10. عب 22:10.
  11. انظر : العظة 4 : 26 
  12. لو 13:11 .
  13. انظر : مت  : 7 ،  لو 9:11 
  14. تي 1 :2
  15.  1يط 5: 11.

زر الذهاب إلى الأعلى