أنطيـوخس الثالث الكبير
٢٢٣ -١٨٧ ق.م
ظلَّت الحروب المحلية مستمرة بين السلوقيين والبطالسة وبين حكَّام سـوريا ومصر، والتنازع على التوسع والسلطان . فاستولى في بادئ الأمر أنطيـوخس الثالث على سوريا حوالي سنة ٢١٩ . ق م، وقد ظلت فلسطين تحـت حكـم البطالسة “ويذكر دانيال النبي هذه الحادثـة في (دا١١ : ١٠-١٢)، ولكـن الجيش المصري تحت حكم البطالسة انتصر بقيادة بطليموس الرابع (فيلوبـاتير ) (ملك مصر من سنة ٢٢١-٢٠٣ق.م ) في موقعة رفح (٢١٧ ق.م ) ، وهـزم الجيش السوري الذي كان بقيادة أنطيوخس الثالث وتعقَّبه حتى لبنان، واستعاد البطالسة كل سوريا ولبنان (فينيقية) وفلسطين .
وفي سفر المكابيين الثالث (٦:١ ،٩:١ -١١و٢٤ ) جاء ذكر هذه الفترة، وانتصار بطليموس الرابع (فيلوباتير) واستقبال شيوخ اليهود وأعضاء السنهدريم له في أُورشليم وتقديم التهنئة له.
كما جاء ذكرها أيضاً في سفر نبوة زكريا الذي كان كأنه شاهد عيـان إنمـا بروح النبوة (١:٩ -٨ ، ١:١١- ٣ ). حيث يرى النبي سقوط حدراخ على حدود دمشق وصور وصيدون، ووقوع قلعة صور وانكسار أشقلون . وبالأخص جـداً يذكر انهزام غزة وعقرون وأشدود في فلسطين ثم لبنان شمالاً . ويضيف النبي تلميحاً جديراً بالـذكر والإعجـاب كيـف أن االله نفـسه حـلَّ حـول بيتـه، أي ُورشليم، كما يحل القائد ويعسكر للحفظ والرعاية، فلم يمس أُورشليم ولا الهيكل أي سوءٍ بسبب الغزوات المتتالية وتقدم وتقهقر الجيوش عدة مرات، مما يُفهم مـن ذلك أن عين االله كانت ساهرة على شعبه حتى هذا التاريخ، وهذا دليل الرضـى .
فكانت إسرائيل محفوظة بعناية إلهية حتى يجيء ملء الزمان :
+ «وأحلُّ حول بيتي بسبب الجيش الذاهب والآئبِ.» (زك ٨:٩ )
كما يُفهم من نبوَّة زكريا في (٤:٩) أن الرب ابتدأ يرتب ليخضع لنفـسه صور وصيدا وكافة هذه البلاد لتؤمن به، حيث هزيمتها وانكسارها تكـون تمهيداً لتطهيرها. ويزيد زكريا النبوة وضوحاً بقوله :
+ «وأنزع دماءها من فمها ورجسها من بين أسنانها، فتصير هـي أيـضاً لإلهنا، وتكون كعشيرة في يهوذا وعقرون كيبوسي (الذين تهودوا منـذ القديم).» (زك ٧:٩ حسب النسخة المصححة الإنجليزية ).
كما أن النبوة تشير إلى إذلال هذه البلاد الفلسطينية التي على الساحل، والتي أذلَّت إسرائيل أكثر من أ لف سنة، ولم تخضع لها قط خضوعاً كـاملاً . حيث يكون الإذلال هنا بطريقة عجيبة، وهو القضاء على تعـصَّبها الجنـسي والعنصري بإدخال أجناس أخرى في صميم عرقها، كعملية تهجـين، حـتى ينكسر كبرياؤها: «ويسكن في أشدود زنيم (جنس مهجن) فـأقطع كبريـاء فلسطين.» (زك ٦:٩ ).
وهذا واضح من ملابسات غزو المصريين ثم اليونانيين ثم الـسوريين لهـذه البلاد وإقامتهم فيها !
أنطيوخس الثالث يعيد محاولة غزو مصر وسوريا :
بعد أن نجح أنطيوخس في إخضاع سلوقيا، أعاد المحاولة لغزو مصر وسوريا سنة ٢٠٥ . ق م، وبمـوت بطليموس الرابع (فيلوباتير) ملك مصر سنة ٢٠٥ . ق م، انفت ح الطريق أمامـه نحو مصر وسوريا . وفي سنة ٢٠٢ . ق م ابتدأ الغزو، ولكن البطالسة والجيش في غزة قاوموا مقاومة عنيفة ورَّد أنطيوخس وجيشه السوري حتى إلى نهر الأُردن وذلك في شتاء عام ٢٠١ -٢٠٠ ق.م وهذه الحادثة يذكرها دانيـال الـنبي بالنبوَّة في (١٥:١١و١٦ ):
+ «فيأتي ملك الشمال ويقيم مترسة ويأخذ المدينة الحصينة، فلا تقوم أمامه ذراعا الجنوب ولا قومه المنتخب، ولا تكون له قوة للمقاومـة، والآتي عليه يفعل كإرادته وليس من يقف أمامه، ويقوم في الأرض البهية وهي بالتمام بيده.» ( دا١١: ١٥و١٦)
ولكن أنطيوخس أعاد الكرة على جيش البطالسة الـذي كـان بقيـادة سكوباس وهزمه في بانيون وتعقَّبه حتى صيدون، وهناك حاصره حـتى سـلَّم وسمح له بالارتداد. وبذلك أُخضعت سوريا كلها للسلوقيين .
وفي عودة أنطيوخس استقبله اليهود في أُورشليم استقبالاً حافلاً كما يقول يوسيفوس المؤرخ اليهودي، كما قدموا له معونات لجيشه .
وجدير بالذكر أن في هذا العام (٢٠٠ق.م ) ، قامـت ثـورات في أسـيا الصغرى في منطقة ليديا وفريجيا، وقد أمر أنطيوخس الثالث القائد ريؤكسيس أن يرحل عدداً من العائلات اليهودية التي كانت متبقية من السبي في بلاد مـا بين النهرين وبابل إلى المناطق المتمردة في أسيا الصغرى، مع التوصـية علـيهم لكي يجدوا كل معونة وعناية . وهذا ما ذكره كلُّ مـن المـؤرخين القـديمين بوليبيوس و يوسيفوس. هذه الحادثة تشير إلى دقة الترتيبات الإلهية التي كان يعدها االله من صميم حوادث التاريخ للتمهيد بقبول الإيمان في البلاد البعيدة بواسطة اليهود الـذين أُرسلوا بعناية االله، فكانوا أول من قَبِل الإيمان المسيحي في “الشتات”، كمـا نراه واضحاً في رسالة يعقوب الرسول الخاصة إليهم :
+ «يعقوب عبد االله والرب يسوع المسيح يهدي السلام إلى الاثني عـشر سبطاً الذين في الشتات.» (يع ١:١ ).
حالة اليهود أيام أنطيوخس الثالث:
يثبت المؤرخ يوسيفوس، معتمداً على ثلاث وثائق تاريخية، مقدار العنايـة والاهتمام والمحاباة التي لاقاها اليهود من أنطيوخس الثالث . وهذه الوثائق تنص على أن يدفع لهم معونات خاصة لتقديم الذبائح، بالإضافة إلى الـسماح لهـم بأخذ كافة الأخشاب اللازمة لهم من لبنان بدون ضرائب لترميم الهيكل، كما يأتي في نهايتها هذا التصريح: «ولتُمكَّن هذه الأُمة من أن تعيش بمقتضى قوانين بلادها، وليُعف كافة أعضاء السنهدريم والكهنة وكتبة الهيكل وكافة المـرنمين الدينيين من الضريبة المالية العامة وضريبة التاج وكافـة الـضرائب العاديـة الأخرى. وليُعف سكَّان أُورشليم من الضرائب العادية» ولكن ما يهمنا جـداً من هذه الوثائق هو أنها أُرسلت لكل من حكام لبنان وسوريا للتنفيذ مباشـرة على أن يكون “رؤساء الكهنة ” هم الجهة السياسية المسئولة أمـام الدولـة .
وكان رؤساء الكهنة مسئولين عن جمع الضرائب وتسليمها للحـاكم العـام، وكذلك في زمن البطالسة، مما كان يضطرهم للسفر إلى الإسكندرية لتقـديم الحسابات وتجديد العقود، إلاَّ أنهم أوكلوا عنهم وكلاء كان أشهرهم عائلـة “طوبيا” والتي كانت في عداوة وخصام ومنافسة شديدة مع عائلة سمعان البار رئيس الكهنة التي سُميت بعد ذلك بعائلة “أونياس”. ولكن بعـد تـصاهر العـائلتين صار هناك اتفاق بينهما لتوريد الضرائب التي ظلت عائلة طوبيا مسئولة عنها مـدة عشرين سنة تقريباً . ولكن ظل التنافس على السلطان السياسي والمدني قائمـاً بين عائلة “أونياس” وعائلة “طوبيا”. وقد حافظ رؤساء الكهنة على دفـع جزء من الضرائب بأنفسهم لاستمرار سلطتهم السياسية . وبانتصار أنطيوخس الثالث ظلَّت عائلة طوبيا هي المسئولة عن الضرائب وكانت تقدم لوالي سوريا .
وظلت المنازعات بين رؤساء الكهنة وبين عائلة طوبيا الموكَّلين على الـضرائب وعلى خزائن الهيكل شديدة ومستمرة، مما أثَّر كثيراً على الأحوال الدينية .
غير أنه كانت هناك شيعة جديدة بدأت في الظهور تمـسَّكت بالنـاموس تمسُّكاً روحياً شديداً وانعزلت عن الاهتمامات السياسية وعكفت على العبادة والاهتمام بالحياة الروحية فقط، تلك هي الشيعة المستقيمة الرأي (الأرثوذكسية اليهودية)، وكانت منقسمة إلى قسمين : قسم يُدعى “الأسينيون”، والآخـر يُدعى “كاسيدين” أو “حسيديم” وترجمتها “الأتقيـاء ( ١مـك ٤٢:٢). والأسينيون يمثِّلون الجناح اليساري المتطرف لهذه الشيعة، والأتقيـاء يمثِّلـون جناحها اليميني المعتدل . وقد ذكر دانيال الـنبي شـيعة الحـسيديم في نبوتـه ووصفهم بأنهم: «الشعب الذين يعرفون إلههم» ( دا ٣٣:١١). وهذه الـشيعة الجديدة، بجناحيها اليميني واليساري قامت لتدافع عن التقاليد الدينية والمـيراث الروحي الآبائي الذي بدأت تعبث به جماعات اليهـود المتـأثِّرة بالثقافـات السياسية اليونانية، والتي كان منها رؤساء الكهنة الذين مالو ا جداً للحياة المدنية الارستقراطية واللعب بالسياسة. وكانت الشيعة اليهودية اليونانية هي التي سمَّاها دانيال النبي: «المتعدون على العهد.» (دا ٣٢:١١ ).
ويكشف سفر المكـابيين الثـاني (مـن ٤:٣ إلى ١:٤)، مـن المثالـب والاعتداءات والمؤامرات التي كان يحيكها رؤساء الكهنة ضد بعضهم بعـض، حتى ولو كانوا إخوة، بسبب خزائن المال في الهيكل.
وبموت أنطيوخس الثالث (١٨٧ق.م) ملك ابنه سلوقوس الرابع (١٨٧- ١٧٥ ق.م) ومن بعده اعتلى أخوه أنطيوخس إبيفانس الرابع العرش، ودخـل اليهود في حقبة جديدة من التاريخ المعروفة بزمن “المكابيين”.
وجدير بالذكر أن دانيال يذكر في نبوته حادثة اعتلاء سـلوقوس الرابـع وملكه القصير :
+ «فيقوم مكانه مَن يُعبَّر جابي الجزية في فخر المملكـة وفي أيـام قليلـة ينكسر لا بغضبٍ ولا بحربٍ.» ( دا٢٠:١١ )
ثم يذكر أيضاً حادثة اعتلاء إبيفانس :
+ «فيقوم مكانه مُحتقَر لم يجعلوا عليه فخر المملكة ويأتي بغتة ويمـسِك المملكة بالتملُّقات.» ( دا٢١:١١ ).
المراجع:
الإسكندر الأكبر | اليهودية تحت الحكم اليوناني | أنطيوخس إبيفانس الرابع |
تاريخ العهد القديم |