إشعياء النبي

 

إِشَعْيَاء اسم عبري معناه “خلاص الرب”. ولد عام 760 ق. م فى أورشليم. ودعي للنبو ة في سنة وفاة عُزَّيـَّا ملك يهوذا (إش ١:٦) وذلـك سـنة ٧٤٢ ق. م، وكان عمره آنئذ يقرب من ثلاثين سنة، وعندما قَرب من خمسين سـنة، خدم إشعياء مأساة أمته بصوت النبوة الذي لم ينقطع قط، وتوفَّى ربمـا سـنة ٦٩٢ . م. ق وكان من عائلة نبيلة، وكان قريباً جداً من الملك ومن الشعب أيضاً.

 ولكن تطرح نبواته ضوءها على كل التاريخ، وهو محـسوب في العهـد الجديد كأعظم أنبياء التعليم والإنذار في العهد القديم. وهو واحد من أعظم أنبياء إسرائيل قاطبة، وهو الذي رأى بعينيه المستقبل «هأنذا أؤسَّـس في صهيون حجراً، حجر امتحان، حجر زاوية، كريماً أساساً مؤسَّساً من آمـن لا يهرب» (إش ١٦:٢٨). وهو الذي رأى ميلاد المسيَّا وآلامه ورئاسته وملكوته معاً، حتى دُعي النبي الإنجيلي؛. لأنه وصف أحداث الصليب بدقة وخصص لها جزءاً كبيراً من نبواته من الإصحاح الأربعين حتى الإصحاح السادس والستين.

وسط ظلام الفساد الذي انتشر في مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل، ظهرت أنوار شجعت إشعياء، فقد سمع وهو طفل عاموس النبى، الذي كان يتنبأ فى مملكة إسرائيل. وبعد ذلك عندما صار فتى سمع عن هوشع النبي فى مملكة إسرائيل أيضاً، ثم ظهر ميخا النبى في مملكة يهوذا وهذا ظل يتنبأ مع إشعياء. وهو يبدأ حياته العملية برؤيا مهيبة لإله إسرائيل تضع إشـعياء في القمـة الشامخة لأنبياء الرؤى . ولقد تقدَّس إشعياء لبدء النبوة بصورة نادرة ورمزية بعد أن لمست شفتيه جمرةٌ سرية التقطها الملاك من فوق مذبح االله وطهر بها شفتيه .
كما انفتحت أذنا إشعياء لسماع صوت تقديس الملاك لله بكلمة قدوس قدوس قدوس ثلاث مرات على التوالي، ورأى إشعياء الملائكة بأجنحتها رؤيا العـين، واتسعت بصيرة إشعياء ليرى مجد االله ليس لملء الهيكل بل ملء كـل الأرض!!(إش٦).

كان إشعياء مضغوطاً بين تثقيل صوت يهوه المهيب القدوس من ناحيـة، ومن الأخرى خِضم من خطايا وتجاوزات شعب يهوذا الذي كان يتكل خطأً على وعود االله لداود دون أن يراعي شروط التقوى ومخافة االله ومحبة وصـاياه والخضوع لأوامره. لذلك كان واضحاً فاضحاً في تحذيراته وإنذاراته للأغنيـاء المتسفلين والقضاة المرتشين الذين سلبوا الشعب من كل حقوقه وداسوا علـى وصايا االله وأحكامه .

+ «كيف صارت القرية الأمينة زانية؟ التي كانت ملآنة حقــا وكـان العدل يبيت فيها وأمَّا الآن فالقـاتلون !! صـارت فـضتك زغَـلاً (مغشوشة) وخمرك مغشوشة بماء، رؤساؤك متمردون ولغفاء (شركاء) اللصوص. كل واحد منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا. لا يقضون لليتيم ودعوى الأرملة لا تصل إليهم.» (إش – ١: ٢١-٢٣).
+ «قد انتصب الرب للمخاصمة وهو قائم لدينونة الشعوب. الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم . وأنتم قد أكلتم الكرم . سـلَبُ البائس في بيوتكم . مالكم تسحقون شعبي وتطحنون وجوه البائـسين يقول السيد رب الجنود.» (إش٣ :١٣-١٥).

ويخاطب رجال ونساء الطبقات العليا والمرفَّهين المهتمين بملكياتهم وملاهيهم:
+ «وقال الرب: من أجل أن بنات صهيون يتشامخن ويمـشين ممـدودات الأعناق وغامزات بعيونهنَّ وخاطرات في مشيهنَّ ويخشخشن بأرجلـهنَّ (الخلاخيل). يصلع السيد هامة بنات صهيون ويعري الرب عـورتهنَّ، يتنزع السيد في ذلك اليوم زينة الخلاخيل والضفائر والأهلَّـة والحلـق والأساور والبراقع والعصائب والسلاسل والمناطق وحناجر الـشمَّامات (عُلب العطور أو آنية الطيب ) والأحراز والخواتم وخزائم الأنف والثياب المزخرفة والعُطُف والأردية والأكياس (موضات ذلك الزمان ) والمرائـي والقمصان والعمائم والأزُر فيكون عوض الطيب عفونة … رجالـكِ يسقطون بالسيف وأبطالكِ في الحرب، فتئن وتنوح أبوابها وهي فارغـة تجلس على الأرض.» (إش٣ : ١٦-٢٦) 
+ «ويل للمبكِّرين صباحاً يتبعون المسكر، للمتأخرين في العتمة تُلهبـهم الخمر، وصار العود والرباب والدف والناي والخمر ولائمهم وإلى فعل الرب لا ينظرون … ويل للأبطال على شرب الخمر ولذوي القـدرة على مزج المسكر.» (إش٥ :١٠ -١٢ و٢٢).

ولكن حزن إشعياء الأعظم أنه يكلِّم شعباً لا يريد أن يعلم ولا أن يسمع !!
+ «فقال: اذهب وقل لهذا الشعب اسمعوا سمعاً ولا تفهمـوا، وابـصروا إبصاراً ولا تعرفوا . غلِّظ قلب هذا الشعب وثقِّل أذنيه واطمس عينيـه لئلاَّ يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه ويرجع فيُشفى . إلى متى أيها السيد؟ فقال لي : إلى أن تصير المدن خربة بلا ساكن والبيوت بلا إنسان وتخرب الأرض وتصير قفراً.»وتخرب الأرض وتصير قفراً.» (إش ٦: ٩-١٣).

ثم يكلِّم الكهنة والعابدين بالاسـم المتمـسكين بـالطقوس والمهـتمين بالشكليات والمدققين في التلاوات ظانين أنهم بذلك يرضـون مطالـب االله. ويحذِّرهم أن يعملوا الحق أولاً.( إش١: ١١-٢٠). 

والميراث التقليدي عن “يوم الرب ” الذي سرى بين قلوب الأجيال على أنه يوم خلاص، خلاص من الأعداء والفقر وغضب االله ذي المظاهر المتعددة مـن السخرة والعبودية والسبي، رآه الأنبياء جميعاً أنه يوم دينونة على الخطاة، فهو يـوم رعب وظلام وانتقام وليس يوم فرح وسلام. وإشعياء يوضح الفكر النبوي بدوره(إش٢: ١٢-١٩) .
وإشعياء يرى قضاء الرب آتٍ ويرى أشور أنها هي أداة التأديب والقضاء  (إش ٥: ٢٥-٢٩).
ويرى إشعياء يهوذا وأُورشليم وقد انتكست وأقفرت من مجدها وعظمتها ورجالها وكل مظاهر الحياة فيها (إش ٣: ١-١٢).

عندما بلغ إشعياء ستة وثلاثين عاماً من عمره مات يوثام وملك بعده ابنه أحاز على مملكة يهوذا (2 أي 27: 9). وكان أحاز شريراً، فترك عبادة الأوثان تنتشر فى مملكته. وخاف من تحالف ملك آرام مع ملك إسرائيل ضده، وبدلاً من أن يتمسك بالله، ذهب وتحالف مع ملك أشور (2 أي 28: 16). وفي وسط مخاوف الحروب والحصار والسبي والهلاك بسبب ورود أخبار باتفاق دمشق وإسرائيل لمحاربة آحاز ملك يهوذا، يتقدم إشعياء لآحاز الملـك المرتعب والمرتجف: «كرجفان شجر الوعر (الأثل)» (إش ٢:٧) ليسلِّمه رسالة لم يفهمها ولم يصدَّقها؛ بل ومن العسير لأي مفسَّر أن يفهمها إلاَّ إذا وضع في الحسبان أن إشعياء نبي وليس مفكِّر أو واعظ، فهو حينما يضع حلولاً فهي ليست لزمن ما ولا تنحصر في شخص، ولكن على مستوى االله وفكره وتدبيره .
قال إشعياء لآحاز ملك يهوذا :
+ «احترز واهدأ، لا تخف ولا يضعف قلبك من أجل … رصين (ملـك دمشق) وأرام وابن رمليا (ملك إسرائيل ) … هكذا يقول السيد الرب : لا تقوم لا تكون …!!» (إش ٧: ٤و٧).
ولكن لم يؤمن آحاز بوعد االله هذا، فماذا يكون ردّ االله على فم نبيه إشعياء؟
“إن وعدي ببقاء يهوذا وأُورشليم وسلامة الملك هو وعد أبدي قائم على أساس محبتي لداود الذي كان «قلبه حسب قلبي» ولم تصدق أنت ولا الآتون بعدك واضمحلت الأرض، فسأبقى أميناً على وعدي أتمِّمه بنفسي على مستوى المعجزة: «يعطيكم السيد نفسه آيةً. ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتـدعو اسمـه عمانوئيل (أي االله معنا)» (إش ١٤:٧)”
ويعود االله ويكمَّل خطة خلاصه بواسطة هذا الابن الذي يملك إلى الأبـد على كرسي داود هكذا :
+ «لأنه يولد لنا ولد ونُعطَى ابناً وتكون الرياسة على كتفه ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبديا رئيس السلام . لنمو رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والـبر من الآن إلى الأبد.» (إش ٩: ٦، ٧)
من هذا ندرك كيف يضع االله الحلول للمآزق الزمنية التي بها يكشف قدرته السرمدية على بقاء أمانته لوعده، متخطياً ع دم إيمان الملوك والشعب آنذاك إذا لم يؤمنوا، لتبقى العبرة في عدم الإيمان، وتبقى قدرة االله على الحل، وتبقى أمانة االله العظمى في الحفاظ على وعده واضحة بالنسبة للأجيال القادمة إلى مـدى الدهر. وهذا هو عمل الأنبياء الأول والأهم والأبقى على مدى الأجيـال وإلى منتهى الدهر، يعطون حلولاً وأجوبة لو طبقها الذين سمعوها وآمنوا بها بـشدة  فإنهم لابد ناجون، ولابد منتصرون مهما كانت الظروف صعبة ومستحيلة والأمثلة كثيرة . أما إذا لم يؤمنوا فتبقى النبوة قائمة بقوتها وجلالها وسموها مهيئة لكل من يؤمن بها حتى ولو بعد آلاف السنين، لينجو بتصديق كلماتهـا هـي نفسها وينجح وينتصر في كل المآزق والصعاب التي على نفس المستوى . فاالله الأبدي والنبي الزمني هما دائماً على مستوى الجزء والكل وعلى مستوى الزمن والأزل. فكلمة االله المنطوقة بفم النبي فعالة، فعلى مستوى الإيمان لابد ويتحتم أن تنجح ، وإذا عجز الإيمان الوقتي أن يظهر فاعليتها فهي تظل قائمة بقوتهـا تنتظر من يؤمن بها ليكشف قوتها وبأسها .

فإذا عجز آحاز وكل الملوك أن يقيموا خيمة داود الساقطة فسيقيمها هـو بنفسه لنفسه، وإذا سقطت صهيون ملجأ البؤساء فالرب أعدَّ لهم مدينة أعظم، أورشليم السماوية «فبماذا يُجاب رُسل الأمم؟ إن الرب أسَّس صهيون وبها يحتمي بائسو شعبه.» (إش ٣٢:١٤ ).

وإشعياء النبي إذ هو أداة في يد القدير لابد أن يخدم المبادئ العليـا لله ولا يُعطي حلولاً تتعارض مع الإيمان المطلق بقوة القدير، ومـع قولـه المختـصر العجيب: «إن لم تؤمنوا فلا تَأْمَنُوا» (إش ٩:٧). ولذلك حينما أراد حزقيا في أيام ضيقته الثانية أن يُرسل في طلب معونة فرعون مصر، ولم يـسمع لقـول إشعياء بالامتناع عن ذلك، حُسِب له ذلك خطية . وكانت الخطية ليـست في النزول إلى مصر بل في عدم الإيمان بأن االله قادر أن يدافع عن عهـده لـداود ومواعيده للآباء. «يزيدون خطيئة (ترك مشورة االله) على خطيئة (أعمـالهم ) الذين يذهبون لينزلوا إلى مصر ولم يسألوا فمـي » (إش٣٠: ١و٢). 

من هذا نرى أن همَّ الأنبياء الأول هو ضبط حركة التاريخ لتكـون علـى إيقاع كلمات وعد االله بكل دقة وانتباه لبلوغ الغاية من الإيمـان الموضـوع، بواسطة التاريخ المتحرَّك، ولكن دون أي مساس بحرية الإنسان، لأن بطاعـة الإنسان أو بعصيانه لابد من البلوغ إلى النهاية الموقَّعـة والمرصـودة . ولكـن الوصول إليها بالطاعة له أجر الطاعة : أي فرحة الإنسان ونمو حاسة البـصيرة والرؤيا وإدراك تدبير االله واختصار الزمن والقربى من االله . أما إذا أعرض الإنسان عن الطريق بعصيان التدبير الإلهي وركوب العقل واستـصغار الإيمـان فهذا لن يمنع االله من بلوغ الغاية والنهاية، ولكن لابد مـن إطالـة الطريـق واستطالة الزمن لدخول عنصر التأديب واستيعاب العقاب المـساوي لمقـدار العناد وعمى البصيرة .
وعقاب االله وتأديبه إذا لم يسبق النبي ويشرح سببه ويصف مرارته وعمقـه ويحدد زمنه قبل وقوعه، بل ويوضح غايته، لا يستطيع الشعب أن يربط بـين هذا التأديب كمصائب وحوادث، وبين خطيته وعناده وعدم إيمانه، بل يعتبرها مجرد حوادث عادية من صنع الظروف والزمن . ولكن بسبق إعلان النبي عـن وقوعها قبل أن تقع وشرح أسبابها، تبلغ هذه المصائب قصدها الإلهي ويدركها الشعب كتأديب وعقاب إلهي، فيتعلَّم الشعب ويحس بعين االله المسلَّطة عليـه، ويتيقَّن الإنسان أن عمله يدخل داخل تدبير االله الفائق، وأن سلوكه ومـشيئته الحرة تماماً ليست بلا حساب أو رقيب؟ هنا وبواسطة النبي تدخل أعمال الناس وتصرفاتهم في مسار التاريخ المقدس، حتى القبيح منها والرديء جداً !!
وهكذا نرى أن نبوات الأنبياء هي في مظهرها تعلـيم وتفهـيم وتـوبيخ وتشجيع لمسيرة بشرية، هي التاريخ، تصب في محتوى تدبير االله ليصبح للتاريخ معنى وهدف من وراء الأجيال والدهور، وتصبح أعمال الناس بالنهايـة آيـة لعمل االله نفسه.

كذلك فإن كافة الأسماء التي تقابل القارئ مع سيرِهم الخاصـة والعامة وتصرفاتهم التي يدقِّق الكاتب في تسجيلها بكل ملابساتها الهزيلة منها والخطيرة، هذا كله لا يخـرج عـن كونـه مـثلاً ودرسـاً وتوجيهـاً وتحـذيراً، أو تشجيعاً لكل قارئ منذ كتابتها حتى الآن وإلى الأبد .

وكان آخر صوت سمعناه لهذا النبي العظيم كان بخصوص أشور، لمَّا عيَّـر سنحاريب شعب يهوذا وملكها حزقيا بإلههم وجدَّف على إله إسرائيل، وأهان اسم االله وكرامته، فكان صوت االله على فم إشعياء أن نهاية سنحاريب قد أتت ونقمة السماء حلَّت على كل أشور :
+ «ويسقط أشور بسيف بلا رجل، وبسيف بلا إنسان يأكله فيهرب من أمام السيف.» (إش ٨:٣١ )
وهذا الوصف ينطبق على ما حدث لجيش أشور إذ أباده سيف الطاعون لمَّا سقط جيشه في وليمة الفئران !! أكله الطاعون بلا أكل فصرع منه ١٨٥ ألف جندي. ونقمة االله هنا ليست من أجل يهوذا ولا إنصافاً لحزقيا، ولكـن لأن سنحاريب تعالى جداً واستهان بإله إسرائيل ورفع رأسه وجدف عليه.

عندما بلغ إشعياء ثلاثة وسبعين عاماً من عمره، مات حزقيا ملك يهوذا وجلس على عرش يهوذا ابنه منسى، الذي سلك فى الشر، فأهمل عبادة الله ونشر عبادة الأوثان. وبالتالى لم يكن محباً لإشعياء – مثل أبيه حزقيا- بل اضطهده، ثم أمر بقتله بطريقة صعبة وهي نشره بمنشار خشبى لتعذيبه، فمات شهيداً وعمره ثمانين عاماً وذلك عام 680 ق. م.
أستمر إشعياء يتنبأ حوالى ستين عاماً بشجاعة ليس لها نظير، ولذا فاليهود يعتبرونه فى المرتبة الثانية بعد موسى النبى رئيس الأنبياء. لقد كان مثالاً للمسيح فى احتمال الآلام. وكتب سفراً طويلاً عدد إصحاحاته ستة وستين إصحاحا مملوءة بالدعوة إلى التوبة والرجاء فى الرجوع من السبى، ثم تجسد المسيح المخلص.

فاصل

 إرميا النبي مملكة يهوذا ميخا النبي
تاريخ العهد القديم

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى