الحرب اليهودية وسقوط أورشليم وخراب الهيكل ٦٦-٧٠م

بداية المواجهة

طالب جـسيوس فلـوروس اليهود بدفع سبع عشرة وزنة، وعندما رفض رؤساء اليهود دفع مبلغ ١٧ وزنة، اعتبرها جـسيوس فلـوروس تحديًّا لسلطانه وبالتالي للحكومة الرومانية في فلسطين، فانطلق بجيشه من قيـصرية صوب أُورشليم، ولكن الشعب سد الطريق في وجهه. فللحال سلك الجنود مسلكاً خشناً وذبحوا كثيرين، مما رفع درجة هياج الشعب إلى الدرجة القصوى. فلما رأى الصدوقيون والفريسيون أن الأمر ينذر بالخطر، حاولوا التدخل لتهدئة الـشعب، وأخرجوا الكهنة بملابسهم الرسمية من الهيكل محاولة لتهدئة الشعب وإظهار الودّ نحو فلوروس، ففشلوا لأنهم هم أول من أشعل الفتيل.

وإذ رأى فلوروس أن جيشه لا يستطيع أن يواجه الشعب الذي بدأ الاعتداء  بالحجارة والطوب من فوق أسطح المنازل، انسحب إلى قيصرية.

وعندما استلم قائد الجيش في سوريا سستيوس جالوس إشارة أن أُورشليم في ثورة، أرسل ضابطاً لاستطلاع الأمر، كما أرسل رسالة إلى أغريباس الثاني الذي كان في الإسكندرية فحضر في الحال. وقد حاول الفريسيون جهـدهم تهدئة الموقف، ولكن تغلَّب عليهم الغيورون الذين ملكوا زمام الموقف معتمدين على أنهم بثورتهم واعتدائهم على الرومان سينالون تأييداً من االله، وأن هـدفهم لطرد الرومان هو جوهر الإيمان نفسه، فبالـضر ورة يكـون وفـق إرادة االله، وبالتالي يكون توطئة لمجيء المسيَّا وإقامة مملكة إسرائيل الإلهية. 

وقد زاد من لهب الثورة حماسة الأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبـة، الـذين كانوا يتمسكون ببعض أقوال الأنبياء الخاصة بانكسار الأعـداء وانهـزامهم، لإقناع الشعب واتخاذ موقف العنف والمبادرة.

كما زاد من خطورة وجموح الأعمال التخريبية والانتقامية اندساس جماعة اللصوص والمتشردين والمنتهزين للنهب والسلب. ولمَّا حاول أغريباس الثاني مع رؤساء الفريسيين إقناع زعماء الغيورين بأنه من العبث الوقوف في وجه روما، كانت الإجابة الوحيـدة المتكـررة أنهم يعتمدون على القوة الإلهية.

وأخيراً هدَّدوا أغريباس الثاني فاضطر للانسحاب.

وكانت هناك تقدمة باسم قيصر والشعب الروماني يومياً في الهيكل عبـارة عن عجل وحَمَلين، وكانت هدية دائمة موقوفة على الهيكل من قيصر، هـذه أُوقفت تحدياً لروما ولقيصر.

وابتدأت عمليات الغدر الداخلي، فقتل اليهود بعضاً من زعمـائهم غـير الراغبين في الحرب، فقتلوا رئيس الكهنة وأخاه وغيرهم.

وبانتشار خبر الثورة قام السوريون على اليهود في المدن التي لهم فيها أغلبية  وذبحوا عدداً كبيراً منهم.

وبمجيء خريف سنة ٦٦م، تجهز القائد سستيوس جالوس بجـيش كـبير وتقدَّم من جهة أنطاكية، وأخضع كافة البلاد التي اعترضته في الجليل، وأراد أن يهاجم أُورشليم، ولكنه عجز وتقهقر. وانقض عليـه اليهـود فاضـطر إلى انسحاب مهين إذ قُتل من جيشه ٥٣٠٠ جندي و ٣٨٠ فارس، مع أن خسارة اليهود كانت طفيفة حسب رواية يوسيفوس. وكان ذلك في نـوفمبر سـنة ٦٦م وقد فسَّر ذلك اليهود الغيورون أنها قوة يهوه قد واتتهم!!

ولكنهم أدركوا أن إزاء الخسارة التي مُني بها الرومان سوف تكون الحرب القادمة ضارية، فابتدأوا يستعدون لها . وقد تعيَّن يوسيفوس المؤرخ نفسه مشرفاً حربياً على إقليم الجليل وقد نافسه في ذلك يوحنا الذي من جسشالا. أمَّـا الذين في أُورشليم فرمموا أسوارها وعبأوا كافة الشباب.

فاصل

غزو الجليل:

وفي شتاء سنة ٦٦-٦٧م أرسل نيرون القائد الكبير فسبسيان الذي أعـاد تقوية الجيش في أنطاكية، وفي الربيع من سنة ٦٧م زحف إلى مدينة بطولمايس (عكا) وانضم إليه ابنه تيطس على رأس جيشه من قيصرية، فبلغ جيش الرومان ستين ألف جندي.

وقد أدرك اليهود أنه من العبث ملاقاة جيش الرومان، فتحصنوا وكمنوا في كافة المواقع واستعدوا للانقضاض في حرب العصابات معتمدين على القوة الإلهية.

ولكن في كافة المواقع لم يستطيعوا أن يصمدوا أمام هجمـات الرومـان، وحامية يوسيفوس نفسها سلَّمت بعد حصار قليل، وقُبض علـى يوسـيفوس وقُدَّم إلى فسبسيان. وقد أظهر يوسيفوس كثيراً من الاحترام للقائد وأنبأه أنـه سيكون الإمبراطور القادم بعد نيرون، فعامله فسبسيان بلطف واستبقاه عنـده كأسير.

ثم سقطت حامية طبرية وسلَّمت، وانهزمت حامية ماجـدالا، ثم توالـت انهزامات اليهود حتى سلَّمت الضفة الغربية للأُردن باستثناء حامية جسشالا التي استبسل فيها القائد يوحنا استبسالاً رائعاً، وكذلك حامية جبـل تـابور. وبعد أن طهَّر فسبسيان الأجزاء القريبة من شرق بحر الجليل عاد وأرسل ابنـه تيطس إلى جسشالا وضيَّق عليها الخناق حتى جاء يوم السبت، فطلب يوحنـا مهلة حربية إكراماً ليوم السبت، فاستجاب تيطس، ولكن يوحنا ترك الحاميـة  وهرب ليلاً وتحصَّن في أُورشليم فسقطت الحامية.

وحاصر الرومان قلعة جبل تابور وبحيلة استطاعوا أن يقتحموها ويـذبحوا كافة اليهود الذين كانوا فيها. وقبل انتهاء سنة ٦٧م كانت كل الجليل قد سلَّمت وذهب فسبسيان إلى قيصرية وأمضى الشتاء هناك.

فاصل
اخضاع اليهودية:

وفي أوائل ربيع سنة ٦٨م تحرَّك فسبسيان ليكمَّل عمله، وكان رأي الضبَّاط الاستشاري أن يهجموا على أُورشليم مباشرة منـتفعين بـالنزاع الداخلي القائم بين أحزابها، ولكن رأى فسبسيان أن يترك أُورشليم حـتى تـضعف، ويلتفت أولاً لليهودية. وكانت وجهته الأُولى نحو جادارا عاصمة إقليم بيريه، فسقطت في الحال في أيدي الرومان بالرغم من بأس المدينة وشدَّة تحصينها، وقد قابل أهلها فسبسيان بسرور وود وإعجاب، وكان ذلك في مارس سنة ٦٨م.

وبعد أن أخضع شرق الأُردن ما عدا قلعة “ماخيروس” عاد إلى قيـصرية بعد أن ترك في بيريه قائده “بلاسيد” مع حامية صغيرة. وبعـد قليـل بـدأ فسبسيان الزحف جنوباً، وبمجيء شهر يونيو كان كل إقليم اليهودية الجنـوبي قد أُخضع ما عدا بعض الحاميات القوية وأُورشليم.

وقد وصف يوسيفوس سقوط أنتباتريس إذ لم تأخذ أكثـر مـن يـومين، وكذلك مدينة تمنا ومدينة يمنيا التي صارت مقراً لليهـود الـذين لجـأوا إلى فسبسيان هرباً من المقاومة. ثم سقطت مدينة عمواس ومن بعدها كل إقلـيم الأدومية. ثم ارتحل شمالاً فأخضع إقليم السامرة وأ ريحا وأديدا، اللـتين صـارتا مقراً للجيش للراحة. وبذلك تطهرت البلاد تقريباً واستعد فسبسيان للضربة الأخيرة التي يوجهها نحو أُورشليم، وأثناء راحته في قيصرية وصله خبر موت نـيرون، فاضـطر أن يكون على حذر. وبذلك أوقف الحرب كلها سنة٦٨م.

فاصل

الموقف في أُورشليم :

وكان فسبسيان حكيماً في تقديره لظروف أُورشليم، وتركهـا لمهـاترات اليهود ونزاعهم الداخلي حتى تضعف، واهتمامه بإخضاع اليهودية أولاً.

وكان داخل أُورشليم قائد الغيورين يوحنا جسشالا الذي هرب من يد تيطس، ولكن لأن الغيورين على وجه العموم كانوا أقلية، فقـد واجهـوا معارضة من الأحزاب المعتدلة لوقف القتال، ممـا اضـطر الغيـورين إلى الاستعانة بالأدوميين الذين تسلَّلوا إلى أُورشليم ليلاً ووقعوا على الحـزب المعتدل بقيادة حنَّان وذبحوهم وقتلوا حنَّان رئيس الكهنة نفسه، وتسلَّلوا في الفجر وهربوا.

ولكن قام ضد يوحنا جسشالا غريم آخر غيو ري هو ألعازار يقـاوم آراءه وخططه. ولكي ينتقم الحزب المعتدل من الغيورين استدعوا غيوراً آخر اسمـه سمعان بارجيورا وهو عدو ليوحنا جسشالا. وهكذا كان داخل أُورشليم ثلاثة أحزاب من الغيورين المتطرفين يناطحون بعضهم بعضاً والعدو محيط بالمدينـة : ألعازار متحصَّن داخل الهيكل، ويوحنا جسشالا في المناطق المتاخمة للـهيكل، وبارجيورا في المدينة نفسها . وقد تطوَّرت المنازعات بين الأحزاب الثلاثـة إلى حرب داخلية، وأخيراً استطاع يوحنا جسشالا أن يستولي على الهيكل وانضم  إليه فريق ألعازار، وأخيراً وقع الحزب المعتدل في مأزق إذ وجد أمامه إمَّـا أن ينضم للحزب الغيوري الذي تقوَّى، وإما أن يُعرضـوا أنفـسهم للقتـل، فاضطر أن ينضم إلى حزب الغيورين.

فاصل
حصار أُورشليم وسقوطها:

وفي مستهل سنة ٦٩م أرسل فسبسيان ابنه تيطس إلى روما لتهنئة الإمبراطور جلبا، أمَّا هو فتقَّدم نحو أُورشليم للحصار الأخير، ولكن كان فكره مشغولاً بالحوادث الجارية في روما، والأمل الذي يلح عليه بأنه سـيعتلي عـرش الإمبراطورية حتماً.

فبالكاد استطاع أن يثبت عساكره حـول المدينة لبداية الحصار حتى استدعى إلى القيصرة على عجل بسبب أن كافة القوات الموالية لـه انتخبته امبراطوراً.

وعلى هذا المنوال تكون قد بقيت أُورشليم محاصرة مـن بعيـد بقـوات رومانية، وفي نفس الوقت بدون قائد وبدون حرب، مدة لا تقل عن ثـلاث سنوات، وفي كل مرَّة يقترب منها فسبسيان للحصار وإذ بالظروف الجاريـة تضطره للتوقف والعودة . كل هذا أدخل في روح اليهود أن أُ ورشليم أعظم من أن يقترب إليها هؤلاء الأُمم الغلف الأنجاس. وأن يد االله هي فوق أُورشـليم تحميها وتدافع عنها وتكسر أعداءها . وبهذا استطاع الغيورون أن يقنعـوا كافة اليهود بمبادئهم التعصبية الضيقة، وأن يستغلوا الظروف للسيطرة على عقـول الشعب لقيادته لحتفه في معارك ضارية لا يمكن أن توصف إلاَّ بالجنون الخارق.

ولم يتخذ تيطس موقفه الحاسم ويقترب من أسوار أُورشليم إلاَّ في ربيـع سنة ٧٠م، وقد عانى مخاطر هدَّدته هو وجيشه بالسقوط في أيدي اليهود لـولا شجاعته النادرة.

ولم تكف المنازعات بين أحزاب اليهود، والرومان يتقدَّمون صوب أبواب المدينة، ولكن باتحاد جيش جسشالا مع جيش بارجيورا شكلوا قوة شـديدة  بدأت الهجوم على الرومان ، واستمرت الموقعة خمسة عشر يوماً، انتـهت بأن اقتحم الرومان أول الأسوار الثلاثة واندفع الجيش الرومـاني بأكملـه داخل المدينة، وابتدأ الغزو من الداخل. ودخلت المجاعة في صورتها الرهيبة.

وابتدأت معركة هائلة استمرت تسعة أيام تبادلت فيها قوات الرومان مـع قوات اليهود السور الثاني ما بين باب يافا وقلعة أنطونيا ثلاث مرَّات . وأخيراً اقتحمه الرومان وهدموه ووصلت المجاعة حالتها القصوى.

وقد حاول يوسيفوس المرافق لتيطس كأسير ومترجم أن يتوسط لدى شعبه وأمته أن يكفُّوا عن المقاومة ويستحيوا أنفسهم، ولكن عبثاً ضاعت كل جهـوده  واتهموه بالخيانة، وكادوا يقتلونه بحجر ألقوه عليه من فوق سور الهيكل. 

وبقي السور الثالث والأخير . فأمر تيطس بإقامة أربعة متاريس (وهي الـتي تنبأ عنها المسيح في (لو ٤٣:١٩) لاقتحامه، وأخيراً استطاع الرومان أن يصعدوا فوق السور الثالث وأن يقتحموا المدينة.

وتقدموا جنوب الهيكل الذي ظلت الذبائح اليومية تقـدَّم فيـه وكافـة الصلوات بتضرعات وصراخ إلى أن كفَّت بسبب المجاعة المريعة وعدم وجود ما يُقدَّم ذبيحة فضلاً عن عدم وجود من يقدَّمها !!! 

واستمرَّت المعركة على أشدها حتى أشعل الرومان النار في الهيكـل. فانهارت كل مبانيه وأبوابه وغرفه وأساسه حتى مذبحه. ولكن هـذا لم يقنـع بارجيورا وجسشالا بالتسليم إذ اعتصما في الجزء الغربي المسمَّى بالمدينة العليـا مع جماعة من الغيورين لمتابعة القتال حتى سقطوا قتلى وبعضهم هربـوا. ولأن الرومان كانوا قد عانوا الأمرَّين خمسة أشهر كاملة من اليهود، فـإنهم صـبوا نقمتهم على الهيكل وعلى المدينة فأشعلوا النيران في كل شيء فيها، وقتلوا كل من صادفهم، وخرج تيطس يجر وراءه جيشاً ضخماً من الأسـرى والزعمـاء الغيورين متجهاً شمالاً وقد ألقى نظرته الأخيرة على ما كان يسمَّى أُورشـليم! … إذ لم يبق منها سوى ثلاث قلاع مطلّة وسط خراب شامل، وجزء صـغير من السور الغربي جعله اليهود مبكى لهم. ويسجل يوسيفوس منظر المدينة كما رآها بنفسه قائلاً إن من ينظر إليها لا يمكن أن يصدق أنها كانت آهلـة بالسكان.

حمل تيطس معه إلى روما المائدة الذهب – مائدة الوجوه – التي كان يُقدَّم عليها خبز الوجوه، مع المنارة الذهبية ذات السبع شـعب، وقـد اسـتودعها فسبسيان هيكل السلام. أمَّا درج الأسفار المقدسة وستر الهيكـل القرمـزي فاحتفظ بهما فسبسيان في قصره.

وسقوط أُورشليم وخراب الهيكل سنة ٧٠م على يد تيطس هو من جهـة التاريخ الشعبي والأثر الديني والاجتماعي لليهود يساوي تماماً سقوط أُورشليم وخراب الهيكل على يد نبوخذنصر سنة ٥٨٦ق.م أمَّا عدد من ذُبـح مـن اليهود ومن سُبي ومن مات جوعاً خلال هذه السنوات الأربع والتي سبق وأنبأ عنها المسيح بقوله: «ويقعون بفم السيف ويسبون إلى جميع الأُمـم وتكـون أُورشليم مدوسة من الأُمم» (لو ٢٤:٢١)، فهو فوق أن يصدقه العقل… 

فاصل

المراجع:

  1. تاريخ بني إسرائيل – الأب متى المسكين

فاصل

عائلة هيرودس الكبير اليهودية تحت الحكم الروماني فلسطين بعد الحروب اليهودية  
تاريخ العهد القديم

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى