فلسطين بعد الحرب اليهودية ٧٠-١٣٥م

بعد الخراب

بعد سقوط أورشليم وخراب الهيكل، ظلَّ يداعب عقول المتعصبين من الغيورين الذين بقوا على قيد الحياة أملٌ أنه ربما يصنع يهوه شيئاً في أحلك الساعات، فاستمروا في المقاومة في أركان متعددة مـن فلسطين. فقام جماعة من الغيورين في قلعة هيروديون شمال أُورشليم بحركة مقاومة، وكذلك جماعة أخرى من الغيورين تحصَّنوا في قلعة ماخيروس بمقاطعة بيريه شـرق الأُردن. ولكنهم لم يقووا وسلَّموا … أمَّا قلعة ماسادا على الطرف الـشمالي الغربي للبحر الميت فقد تحصَّن فيها جماعة السيكاريين، وهم أعنف الغيورين تطرفاً وميلاً للحرب ، وظلوا يقاومون بشدة هم وعائلاتهم من الـداخل. وفي اللحظـة الأخيرة التي شعروا فيها أن الرومان قد تغلَّبوا عليهم، قتلوا زوجاتهم وذبحوا أطفالهم وقتلوا أنفسهم، فدخل الرومان ولم يجدوا أحداً منهم حيَّا. وبسقوط قلعة ماسادا (أبريل ٧٤م)  انتهت حرب اليهود وأوقفت جميع العمليات الحربية داخل فلسطين .
وإزاء هذا العنف والمقاومة العنيدة التي أبداها اليهود في تمرُّدهم على الرومـان، ابتدأت تنتبه الحكومة الرومانية إلى ضرورة القضاء على اليهود. فوضعت فلـسطين بالذات تحت إشراف وإدارة مجلس السيناتو نفسه، وجُعل الوالي الروماني منفـصلاً في مسئولياته عن إقليم سوريا لأول مرَّة.

وتعينت حامية كبيرة مستقلة ترابض في أُورشليم بالإضـافة إلى الجـيش الرئيسي المرابض في قيصرية على الساحل . كما جُعلت حامية فرعية أخرى في مدينة عمواس .

وانتهت الصداقة التقليدية التي كانت تكنّها روما لليهود، وتحوَّلت مشاعر الود والعطف والتكريم التي ظلَّت تربط روما باليهود منذ أيام أن وطأت أقدام بومبي أرض فلسطين حتى أيام تيطس. وانتهى بالضرورة تبعاً لذلك كل تقدير لعبادتهم وكل تسامح وكل حرية تمتعوا بها دون كافة شعوب وديانات الأرض، بل وانقلبت هذه الاحترامات والمجاملات إلى احتقار وازدراء ومقاومـة مـن جانب روما .

وتبعاً لذلك أمر فسبسيان أن كافة الضرائب التي كان مفروضة على اليهود الذين في كافة أنحاء العالم (الشتات) التي كانت تجمع لحساب الهيكل للصرف على خدماته، تجُمع وتُحوَّ ل للصرف على هيكـل جوبيتر كابيتولينا في روما.

وكان وقع هذا عند اليهود فوق التصوُّر وفوق الاحتمال، أن يقدَّموا الضريبة المفروضة لذبائح هيكل يهوه العظيم لذبائح هيكـل وثني نجس !
هذا بالإضافة إلى أن كافة الضرائب اليهودية المفروضة عليهم من الدولـة الرومانية زاده ا الإمبراطور دوميتيان وألزم بها كل دخيل على اليهودية أيـضاً، حتى ولو كان مواطناً لبلد آخر غير يهودي . أمَّا الرومان الذين تهـودوا حـتى ولو بتاريخ سابق وقديم فأُلقي القبض عليهم وحُوكموا وعُوقبـوا . وازداد التضييق على اليهود جداً وحلَّ بهم اضطهاد مقصود في أيام حكم فسبـسيان ودوميتيان وتراجان، وبالأخص بسبب ذيوع خبر آمالهم وانتظارهم لملك لهـم خاص أي المسيَّا.

فاصل

تصفية الأحزاب اليهودية:

بتصفية مملكة إسرائيل وضياعها كدولة تأثرت بالضرورة الأحزاب التي كانت تتهافت على الحكم والرئاسة والاتصالات الخارجية بروما مثل الصد وقيين المنتمين لحزب رؤساء الكهنة . فبانتهاء الحكم وخراب الهيكل وتوقف العبادة الرئيسية توقفاً مؤبداً ذاب حزب الصدوقيين، إذ أصبح لا مجال لوجوده أو نشاطه، ولم يعد يُسمع عنهم حس ولا خبر.

أمَّا حزب الغيورين وبقية الأحزاب الوطنية المتطرفة التي كانت تعـيش علـى المناداة بمقاومة روما وتترجى طرد الأُمم وسحقهم وقيام مملكة عظمى لإسـرائيل وتحرر اليهود السياسي، فإزاء هذه الهزيمة القاضية وتخريب الهيكل وقتـل الزعمـاء ونهب كل خيرات البلاد وثرواتها وهدم أُورشليم وحرق الهيكل وسبي كافة الأقوياء من اليهود، ذهبت كل آمالهم أدراج الرياح، وتحطَّمت كل قـواهم، وتلاشـت نظرياتهم التي كانت تقوم على تفسير النبوات والرؤى والمواعيد بصورة مادية حرفية خاطئة.

وهنا تتم نبوَّة زكريا (١٣ :٢- ٥ ) التي يصف فيها كيـف أصـبح الـشعب اليهودي باغضاً لهؤلاء الأنبياء والرائين، الذين أغروا الشعب وأضلوه وانتهوا به إلى خراب شامل ساحق ماحق، حتى أصبح اسم النبي أو الرجل الغيور مخوفاً ومرعباً، بل وأصبح كل من يمت بصلة لهؤلاء الأنبياء والغيورين يحاول أن ينفـي احترافـه بحرفتهم ويتخلَّص من اسمهم وشكلهم ومبادئهم.

ولم يتبق من كافة الأحزاب اليهودية سوى الفريسيين المعتدلين الذين كانوا دائماً أعداءً للصدوقيين بسبب تطرفهم السياسي واحترافهم للشئون الماليـة والدنيويـة بصورة متهافتة، كما كانوا يقاومونهم باستمرار بسبب عدم أمانتـهم للنـاموس والشريعة وميلهم للثقافات اليونانية حتى صاروا في نظرهم كأنهم غير يهود . كذلك فإن الفريسيين كانوا مبغضين للغيورين أشد البغضة بـسبب ادعـائهم تمـسكهم بالشريعة والناموس، وهم جهلة متعصبون ضيقو التفكير من جهة، ومن جهة أخرى بسبب رؤاهم الكاذبة المضلِّلة بخصوص مجيء المسيَّا وبسبب حبهم للقتال وسـفك الدماء وحمل السلاح بدون تعقُّل.

وقد أثبت الفريسيون أنهم الحزب الوحيد ليس فقط الذي يستحق الحياة، بـل والوحيد الذي يستطيع الحياة، وذلك بسبب مبادئهم المتوسطة، وحبهم للـسلام، وإمكانية تقبلهم الطاعة والخضوع للرومان كحكام، والتفاهم معهم على أسـاس احترام القوانين الرومانية وفهمها بدون حقد أو رياء أو سياسة ملتوية . كما أنهـم الحزب الوحيد الذي كان يحمل أفضل ما في الديانة اليهودية وأحقها بالفهم والعمل كما شهد لهم المسيح: «على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون، فكل مـا قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا.» (مـت٢٣ :٢و٣)

ولذلك اعتبرتهم الحكومة الرومانية حزباً مسالماً يمكن التعاون معه.
والفريسيون لم ينظروا قط للمستقبل بعين طامحة للـسيطرة علـى الأُمـم، أو استرداد الملك لإسرائيل كما كان يفعل الغيورون. ولا كانوا ينظرون إلى الحاضـر كأنه فرصة ينبغي انتهازها للربح والتوسع والاستعمار والمتاجرة، بل كانت نظرتهم دائماً مربوطة بالماضي كمصدر للإلهام، معتبرين أن شريعة جبل سيناء هي الأساس الوحيد الذي ينبغي التمسك به والحياة بمقتضاه بالتأمل المستمر في أحكامه والتنفيذ الدقيق حسب شرائعه.

لذلك بدأ حزب الفريسيين يتقوى ويسود بعد خراب أُورشليم والهيكل وانهزام كل قوة الغيورين، وأصبح تأثيرهم الديني شاملاً لكل الشعب الذي بدأ يعـيش في الواقع بعد أن تحطَّمت كل آماله الكاذبة التي كانت تعتمد على القـوة والمناضـلة والمقاومة والثورة والحرب. وبدأ الرجاء بالمسيَّا وخلاص إسرائيل ونصرة االله والقيامة من الأموات تأخذ حسب الصبغة الفريسية صورتها الروحية الأكثر تعقُّلاً . علـى أساس أن االله هو الذي يؤتيها لشعبه إسرائيل وليست بذراع الأقويـاء أو بقـوس الفرسان، وذلك عندما يشاء االله وليس كما يحدد الإنسان . وليس على الشعب إلاَّ انتظار هذه المواعيد برجاء إذا كانوا أُمناءَ في تنفيذ وصايا وشرائع ونواميس االله.

ومن أئمة الفريسيين المعتدلين بعد خراب أُورشليم الذين قاموا وعلَّموا الشعب وبثُّوا الرجاء والإيمان والشجاعة الروحية “يوحنا بن زكاي ”، الذي يقـول عنـه كتاب المدراش إنه بسبب يأسه من الأحزاب المتصارعة أثناء حصار أُورشليم لـف نفسه في كفن وجعل أتباعه يحملونه إلى خارج الأسوار، وذهب للرومان ليتفاوض معهم بنفسه.

وقد جمع يوحنا بن زكاي جماعة من تلاميذه واستقر في مدينة يامنـه أو يمنيـا وكوَّن مركزاً هاماً لدراسة الأسفار والشريعة . وقد صارت هذه المدرسة قوة روحية معترفاً بها في البلاد كلِّها على مستوى السنهدريم قبل خراب أُورشليم.

فاصل
ثورة باركوكبا والقضاء على بقية آمال اليهود في معونة االله (١٣٥-١٣٢ م):


كانت النكبة التي مُني بها الوطنيون المتطلعون لتحرير بلادهم سنة ٧٠م كفيلـة أن تجعلهم بلا قوة وبلا حراك؛ بل وبلا أي تفكير أو أمل في القيام بمحاولـة مـن نفس النوع مدة لا تقل عن خمسين سنة . وبالرغم من أن يهود الشتات قد قـاموا بنصيبهم الكافي بالثورات والمذابح تنفيساً عن طبيعتهم الثورية، وتعبيراً عن بغضهم الجنسي والديني والإنساني لكافة الأُمم، إلاَّ أن يهود فلسطين ظلوا غير قادرين على التشبه بهم.

ولكن لم يستطع الشعب اليهودي أن يعيش في هـذه الـسكينة إزاء بعـض تصرفات أباطرة الرومان، مثل هادريان، الذي أصدر منشوراً عامـاً في المـسكونة كلها يحرَّم الإخصاء والختان تحريماً قاطعاً، ومن يخالف يُعاقب بالموت . فأصاب هذا المنشور كوامن اليهود مرَّة أخرى ورفع غضبهم إلى درجة الاشتعال، باعتبار أن الختان هو الإجراء الديني الوحيد الذي يجعل اليهودي يهودياً، ولا بديل له علـى الإطلاق. فاعتبروا أن هذا المنشور يعني إبادة اليهودية نفسها.

هذا بالإضافة إلى محاولة هادريان مسخ يهودية مدينة أُورشليم بـأن أسماهـا “ آيلا كابيتولينا” وقام بمشروع بناء هيكلٍ كبير فيها لزيـوس ولـتعمير المدينـة المخرَّبة.

وقد كان قيام اليهود بثورتهم الجديدة والأخيرة أمراً مفاجئاً ومدهـشاً، إذ في لحظات قليلة كانت اليهودية كلها تحمل السلاح بطريقة غير مترقَّبـة . لأن نـداء الواجب العنصري والديني عند اليهود كان في الواقع شديداً وقوياً وكفيلاً أن يؤدي إلى أي ثورة في أي وقت . وكان اعتمادهم دائماً أبداً ليس على كمية السلاح ولا عدد المحاربين، بل على رجاء معونة يهوه وإيماناً بمجيء المسيَّا في لحظـة الحـرب الحاسمة ليقود ويعطي النصرة.

وفي هذه الثورة بالذات برز عنصر الاعتقاد بمجيء المسيَّا وظهوره في شـخص كان يدعى سمعان باركوزيبا أي ابن الكذب، ودُعي من اليهود المسيَّا رئيس اليهود، فكان سبباً في تحمس كافة اليهود بجميع طبقاتهم وأحزابهم . وممـا زاد في تـضليل الشعب ورفع حماستهم إلى درجة الجنون أن رابَّي عُقيبة أكبر المعلمين الـدينيين في اليهودية تولى إعلان وتقديم باركوزيبا للشعب بصفته هو المـسيَّا المنتظـر رجـاء إسرائيل، ودعاه باركوكبا تطبيقاً لنبوة بلعام بن بعور «ويبرز كوكب من يعقوب » (عد ١٧:٢٤). وزاد على ذلك أن أعلنوا بدء ملكوت المسيَّا وصـكوا نقـوداً عليها : “سمعان رئيس اليهود، لأجل تحرير إسرائيل، لأجل تحرير أُورشليم “.

أمَّا حاكم اليهودي ة وكان يُدعى تينينوس روفوس فقد وجد نفسه في لحظـة في موقف حرج، لأن قواته المرابطة في مواقعها كانت أضعف من أن تواجه هذه الثورة العارمة المنتشرة في البلاد كلها. فاستغاث بالإمبراطور هدريان وجاءت النجدة تلو النجدة، ولكن لم يستطع أن يحكم الموقف أو يتصدى للثـائرين ، لأن اليهـود طبقوا نظام حرب المكابيين، حرب العصابات في الجبـال والأمـاكن المختـارة والتحصينات في كل ركن من كل مدينة ، بحيث أن كل يهودي كان مجنـداً للهجوم والدفاع، ومن يتخلَّى كان يقتل. وقد اضطُر هدريان إلى إرسال أكفأ قواده المشهورين يوليوس ساويرس الـذي ظلَّ يطوق العصابات المنتشرة عصابة عصابة، ويطهر المدن مدينة مدينة. فاستغرقت منه هذه العمليات الحربية الشاقة والخطرة ثلاث سنوات ونصف حتى سلَّم اليهـود نهائياً، وذلك في السنة الثامنة عشر لهدريان (١٣٥-١٣٤م). وقد وقع من كـلا الطرفين قتلى وخسائر فاد حة فوق الوصف. فقد قُتل أكثر مـن نـصف مليـون يهودي، هذا بخلاف من مات بالجوع والوبأ، حتى صارت اليهودية كلها خرِبـة كبرية قاحلة.

أمَّا الجيش الروماني فقد أضناه التعب والخسائر، حتى أن هدريان عندما وقـف ليعلن خبر انتصار جيشه أمام السناتو لم يستطع أن يذكر الجملة التقليدية التي كان يبدأ بها الإمبراطور عادة الخبر، وهي “إن الأمور كانت مواتية له ولجيـشه ” لأن الخسائر كانت فوق العادة.

وقام هدريان بمسح أُورشليم وإعادة بنائها باسم أيلا كابيتولينا وأسكن فيهـا مواطنين من الأُمم، ولم يسمح لأي يهودي أن يعيش في أُورشليم أو حتى يـدخل المدينة وإلاَّ كان الموت جزاءه.

فاصل

المراجع:

  1. تاريخ بني إسرائيل – الأب متى المسكين

فاصل

الحرب اليهودية وسقوط أورشليم وخراب الهيكل اليهودية تحت الحكم الروماني عائلة هيرودس الكبير 
تاريخ العهد القديم

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى