تفسير المزمور 11 للقديس أغسطينوس

عظة في المزمور العاشر (بحسب السبعينية)
الهرطقة في مواجهة الكنيسة الجامعة

النفس المؤمنة تردّ على دعوات الهراطقة بأنها تعتصم بالربّ لا بالبشر، فيما الهرطقة تُعوّل على استحقاقات خادم الأسرار المقدّسة. بالكلمة نفسها يُعمي الربّ الأشرار ويُخلّص الأبرار.

للغاية، مزمور لإمام الغناء داود (10: 1)

1- لا يحتاج العنوان إلى شرح من حيث أننا عرضنا كفاية لمعنى عبارة “للغاية in finem”. فلننكبّ إذا على قراءة نص المزمور الذي يبدو لي نشيدا ضدّ الهراطقة والحال، فإنّ هؤلاء الهراطقة، إذ يُبالغون في التذكير باستمرار، بأخطاء كثيرين من أبناء الكنيسة، كما لو ان جميع من هم في صفوفهم، أو معظمهم هم من الأبرار، يجتهدون في مساعيهم لانتزاعنا من حضن الكنيسة الأم الحقيقية الوحيدة. إنهم يؤكدون أن المسيح بينهم، ويتظاهرون بتنبيهنا، محبّة بنا، وغيرة منهم على مصلحتنا، إلى التحوّل إلى صفوفهم، لكي نجد يسوع المسيح الذي يُفاخرون باطلا بأنهم يمتلكونه. نعلم ان من جملة الأسماء الرمزية التي يُطلقُها الأنبياء على يسوع المسيح، اسم «الجبل». ينبغي، إذًا، الردّ على الهرطقة فنقول : بالربّ اعتصمت، فكيف تقولون لنفسي: اهربي إلى الجبل كالعصفور (11: 1). ليس لي إلا جبل واحد أضع فيه رجائي ؛ لم تقولون لي أن أهرب إليكم، كما لو كان ثمة مسحاء كثيرون؟ وإن كنتم تزعمون، في صَلَفِكم، أنكم أنتم ذلك الجبل، فأنا أقر بأنّ عليّ أن أكون ذلك العصفور، وأن يكون جناحاي قوة الله ووصاياه؛ لكنّ هذين الجناحين يمنعانني من أن أطير نحو مثل تلك الجبال، وأجعل رجائي في بشر متكبّرين. لي عش آوي إليه، لأنّي بالربّ أعتصم . لأنّ العصفور يجد له مأوى (مزمور 84: ٤4)، والربّ ملجأ الملهوف (9: 10) . وهكذا، وخوفًا من أن نطلب المسيح عند الهراطقة فنفقده، فلنُرنّم بثقةٍ كاملة : “بالربّ اعتصمت، فكيف تقولون لنفسي اهربي إلى الجبل كالعصفور؟”.

،2- “ها إنّ المنافقين يطأون القوس، ويُفيقون سهمهم على الوتر ليرموا، في ظلمة القمر المستقيمي القلوب” (11: 2). إنّه لرعب باطل يطلع به علينا أولئك الذين يُهدّدوننا بغضب المنافقين، لكي يجذبونا إلى جانبهم كما إلى جانب الصالحين. يقولون: «ها إنّ المنافقين يطأون القوس. وأرى أن القوس تعني الكتب المقدّسة التي يُفسرونها بحسب الجسد، فلا تقدّم لهم سوى حكم مسمومة . «يُفيقون سهمهم على الوتر»، أي أنهم هيأوا في قلوبهم تلك الكلمات التي ينبغي أن يرشقونا بها مستخدمين سلطان الكتب المقدّسة. ليرموا، في ظلمة القمر، المستقيمي القلوب»، أي أنّهم حسبوا أن جماعة الجاهلين والجسديين أظلمت نور الكنيسة، فلم يعودوا هم أنفسم مؤمنين، وهكذا يُفسدون الأخلاق الحميدة بخطاباتهم المنحرفة (1كو 15: 33). ونقابل ذاك الرعب كله بقولنا : «بالربّ أعتصم».

3- سبق أن وعدتُ على ما أذكر (راجع شرح المزمور الثامن الفقرة  9)، أن أشرح كيف أنّ القمر هو الصورة التي تُناسب الكنيسة. ثمة رأيان محتملان بشأن القمر ؛ ومعرفة أيهما الصحيح، عسيرة جدًّا، برأيي، على الإنسان إن لم تكن مستحيلة. إذا سألتم من أين يأتي النور للقمر، يُجيب بعضُهم أنَّ نوره نابعٌ منه . لكن الكوكب الكروي نصفه منير ونصفه مظلم، وفي دورانِه يتوجه النصف المنير تدريجيا نحو الأرض، ويكون مرئيا ؛ لهذا يظهر لنا في البدء هلالاً. لكن أذا أخذت كرة نصفها أبيض ونصفها الآخر أسود، ووضعت النصف الأسود تحت عينيك، فلن ترى الأبيض، ثمّ عُد فابدأ بإدارة القسم الأبيض نحوك ببطء، فإنك ترى ذلك الوجه الأبيض يظهر أولا على شكل هلال، لا ينفك يكبرُ إلى أن يظهر الوجه الأبيض بكامله، ولا تعود ترى اسوداداً. ثم أكمل دورة الكرة، فيعود الوجه الأسود للظهور تدريجيا ويروح الوجه الأبيض يتصاغر إلى أن يعود هلالا،  ثم يحتجب كليا . هذا ما يحدث للقمر، على ما يُقال عندما يتحوّل تدريجيا من هلال في اليوم الأول، إلى بدر في اليوم الخامس عشر، ثم يعود فيصغر إلى أن يضمحل في اليوم الثلاثين. إذا اعتمدنا هذا الرأي، يكون القمر الصورة الرمزية للكنيسة التي تُشع في جزئها الروحي، وتظلم في أعضائها الجسديين؛ وأعمالها الروحية غالبًا ما تجعلها ظاهرة للناس؛ وغالبًا، أيضًا، ما يحتجب هذا الوجه الروحي في الضمير، حيث لا يراه إلا الله وحده، ولا يعود الناس يرون سوى الوجه الجسدي، كما يحصل عندما تصلي في باطننا، من دون أي مظهر خارجي، حين لا تعود قلوبنا ملتصقة بالأرض، بل مرتفعة نحو الله على نحو ما أوصينا . وآخرون يقولون إن القمر لا نور له ينبع منه، بل يتلقى نوره من الشمس. وعندما يستدير بكامله نحو وجه الشمس يطلع علينا بوجهه المظلم. وما إن يبدأ بالإبتعاد عن الشمس، حتّى يبدأ الوجه إياه الذي يطلع به على الأرض فيستنير تدريجيا ويتحوّل من هلال في اليوم الأول، إلى بدر في اليوم الخامس عشر حين يكون بكلّيته مواجها للشمس : وفي ذلك اليوم يطلع القمر ساعة تغيب الشمس. وبوسع الإنسان الذي يُراقب الشمس في المغيب، أن ينقل نظره لحظة الغروب نحو الشرق، فيرى لتوه بزوغ القمر. لكن عندما يعود القمر فيقترب من الشمس، يبدأ بالطلوع علينا تدريجيا بوجهه المظلم، ويعود فيُصبح هلا لا ثم يضمحل كليا . إذ ذاك يكون وجهه المنار مستديرا بكليته نحو الشمس، ويطلع على الأرض بالوجه المظلم الذي لا يسع الشمس أن تُنيره. فإذا أخذنا بهذا الرأي، يكون القمر صورة الكنيسة التي لا تستنير من ذاتها، لأن نورها تستمده من ابن الله الوحيد الذي غالبًا ما تدعوه الكتب المقدسة شمس البرّ . إنّ بعض الهراطقة الذين لا يقوون على رؤية تلك الشمس اللامنظورة ومعرفتها يجهدون لاجتذاب العقول الضعيفة والشهوانية إلى عبادة الشمس الجسدية المنظورة التي تُضيء أعين الذباب وأعين البشر الجسدية على السواء. حتّى أنّ الأمر يبلغ بهم إلى حدّ اجتذاب الذين، من خلال عجزهم عن أن يروا بعيني الروح نور الحقيقة الداخلي، لا يسعهم الإكتفاء ببساطة الإيمان ، ومع ذلك لا سبيل لهؤلاء الضعفاء إلى الخلاص، إلا ذلك اللبن الذي يستطيع أن يُقويهم ويجعلهم قادرين على تناول الطعام القاسي . أيا كان الصحيح من هذين الرأيين، فإن صورة القمر تنطبق تمامًا على الكنيسة. على أنه إذا كنا نأبى أن ندخل في هذه المتاهات المظلمة التي يفوق عناء ولوجها الفائدة الحاصلة، أو إذا كان يُعوزنا الوقت، أو حتّى إذا كان عقلنا يرفض ولوجها، بوسعنا الإكتفاء بالتطلع إلى القمر مع الشعب، ومن دون أن نعنى في البحث عن الأسباب، أن نرى مع جميع الناس أنه يكبر فيصير بدرًا ثم يعود فيتناقص. وإذا كان لا يحتجب إلا ليعود فيظهر، فإنه يغدو، بالنسبة للجماعة الأقل فهما، صورة الكنيسة التي من خلالها نؤمن بقيامة الأموات.

4 – لنر بعد ذلك لماذا يُحدّثنا هذا المزمور عن ظلمة القمر التي يستغلها المنافقون ليرموا بسهامهم المستقيمي القلوب. لأن بوسعنا أن نتكلم عن ظلمة القمر بأكثر من شكل فالقمر يُظلم عند آخر مساره الشهري، كما أنّه يُظلم عندما تحجب نوره غمامة، وأيضًا عند الخسوف الكامل. بوسعنا، إذًا، أن نقول: إن مضطهدي الشهداء أرادوا أن يرموا بسهامهم المستقيمي القلوب، حين يُظلم القمر؛ فإما أن الكنيسة الناشئة لم تكن بعد قد ألقت نورها على الأرض، وبددت ظلام أوهام الوثنية ؛ وإما أن تكون اللعنات والأحقاد ضد اسم المسيح قد غطت الأرض مثل غمامة وحجبت القمر، أي الكنيسة؛ وإما أن تكون تلك الكوكبة الغفيرة من الشهداء الذين ذُبحوا، وذلك السيل من الدماء التي أريقت، قد أرعبت النفوس الضعيفة فحولتها عن اسم المسيح، عندما غطت وجه الكنيسة بحجاب دام، كذلك الذي يظهرُ أحيانًا على القمر فيُظلِمُه . في أيام الرعب تلك، يرمي المنافقون بسهام أقوالهم الرجسة المفسدة، فيُفسدون حتى القلوب المستقيمة. بوسعنا أن نفهم أيضًا بهذه الآية الخطأة الذين هم داخل الكنيسة، والذين اقتنصوا فرصة ظلمة القمر، ليأتوا الموبقات التي يُقرعُنا الآن عليها الهراطقة المتهمون بأنهم هم صناعها. أما اليوم، وبعد أن انتشرت الكثلكة (الإيمان الجامع)، وصارت على قدر من الإحترام في العالم بأسره، وأيا كان أصل تلك القبائح المرتكبة في ظلمة القمر، فعلام قلقي وأهتمامي بأمورٍ أجهلها ؟ إنّي بالربّ أعتصم، وليبتعد عني أولئك الذين يقولون لنفسي : أهرب إلى الجبال أيها العصفور الضعيف. فها إنّ المنافقين يُهيئون القوس ليرموا بسهامهم، في ظلمة القمر، القلوب المستقيمة. وذلك القمر يبدو لهم مظلمًا لأنّهم يجتهدون ليُلقوا الشك على الكنيسة الجامعة الحقيقية، ويُحاجّونها بخطايا أولئك الناس  الجسديين الذين تضمّهم بوفرة. ماذا تعني تلك المحاولات لمن يقول بصدق : إني بالربّ أعتصم، ويُبرهن بكلامه هذا عن أنه حنطة الله وأنه يحتمل القش بصبر، إلى أن يحين وقت التذرية؟

5 – إذا ، بالربّ أعتصم ، وليرتعد الذين يعتصمون بإنسان، ولا يقوون على إنكار تبعيتهم له ما داموا يحلفون بشيبته؛ وإذا سألتهم، في الحديث، إلى أي جماعة ينتمون لا يُمكنهم أن يُعرّفوا عن أنفُسِهم إلا بأنهم من جماعته ولكن قل لي ماذا عساهم أن يُجيبوا، عندما نفضح لهم آثامًا وقبائحَ لا تُحصى تضجّ بها جماعتهم كل يوم؟ هل يستطيعون أن يقولوا : إنّي بالربّ أعتصم، فكيف تقولون لنفسي اهربي إلى الجبال كالعصفور ؟ ما عادوا يعتصمون بالربّ، لأنهم أكدوا أن الأسرار المقدّسة لا تُقدِّس إلّا إذا كان خدّامُها قديسين. وإذا سألتهم من هم القديسون، يخجلون من أن يقولوا نحن القديسون. وإن لم يخجلوا، خجل عنهم سامعوهم. إنّهم ، يُكرهون الذين يقتبلون الأسرار على أن يعتصموا بإنسان لا قدرة لنا على الدخول إلى خفايا قلبه. يقول إرميا : «ملعون الرجل الذي يتوكَّل على البشر» (17: 5). أفلا يعني القولُ بأنّ ما أخدمه أنا القديس مقدّس دعوة إلى التوكل عليَّ؟ لكن ماذا يكون من أمر ذلك السرّ المقدّس إن لم تكن قديسا؟ إذًا، أرني قلبك. وإن لم تستطع فكيف لي أن أعرف إن كنتَ قديسا؟ أتتذرّع بقول الكتاب : من أعمالهم تعرفونهم»؟ متى٧: ١٦). لا شكّ في أنّي أرى لديك أعمالا باهرة؛ وأرى السيركونسيون[1] Circoncellions» يتراكضون في كلّ مكان وراء أساقفتهم وكهنتهم ويخلعون اسم إسرائيل على فرقهم الرهيبة؛ وهذا ما يراه أناس عصرنا ويختبرونه بدقة. أما أعمال زمن مكاريوس التي يلوموننا عليها بقسوة، فقليلون هم الذين رأوها، وما من أحدٍ يراها اليوم وعندما كانوا يرونها، فأي مسيحي يُريد أن يكون خادمًا الله ما كان ليقول عنها إلّا : «إنّي بالله أعتصم». تلك اللغة التي ينطق به أيضًا ذاك الذي يرى في الكنيسة ما لا يُريد قط أن يراه، والذي يشعر أنه يمخر البحر بتلك الشباك الملأى بالسمك من كلّ جنس، إلى أن يصل إلى رمل الشاطئ حيث يفصل الجيد عن الرديء (مت 13: 47). بمَ يُجيب أولئك الهراطقة إذا طرح عليهم الإنسان الذي يُريدون أن يُعمدوه هذا السؤال : بَمَ تأمرونني أن أعتصم؟ لأنه إذا كان استحقاق السرّ المقدّس مبني على من يُعطيه وعلى من يقتبلُه ؛ وإذا كان الله هو الذي يُعطيه وضميري هو الذي يقتبله، فإنّي على يقين من أمرين : جود الله وإيماني. فلم تحشرون أنفُسَكم بين الله وبيني، أنتم الذين لا يسعني أن أخلُص منكم بأي يقين؟ دعوني أنشد: «إنّي بالله أعتصم . لأني إن اعتصمت بكم، فمن يضمن لي أنكم لم ترتكبوا إثما هذه الليلة؟ وأخيرا، إذا أردتُم أن أثق بكم فهل لي من مبرّر غير كلامكم؟ ولكن من أين لي أن أثق بأنّ الذين كانوا بالأمس في شركة معكم، ويُشاركون اليوم وغدًا، لم يرتكبوا أي إثم في تلك الأيام الثلاثة؟ وإذا لم نتدنّس لا أنتم ولا أنا بما نجهله، فلم تُعمّدون مجدّدًا من لم يعرفوا شيئًا من غدر مكاريوس ولا من اضطهاداته؟ وأولئك المسيحيون الأتون من بلاد ما بين النهرين، والذين لا يعرفون لا اسم  سيقليانس ولا دوناتس[2]، فكيف تتجرأون وتعمدونهم مجددًا، وتنكرون أنهم مسيحيون؟ إن كانت دنّستهم آثام الآخرين، فأنتم أيضًا ترزحون تحت ثقل الآثام التي تُقترف كلّ يوم، في جماعتِكم، من غير علمكم؛ وباطلا تواجهون المسيحيين بالمراسيم الإمبراطورية، أنتم الذين تضربون في جماعتِكم بالعصا والنار. تلك، إذًا، هي الهاوية التي سقط فيها أولئك الذين رأوا الفوضى في الكنيسة الجامعة فلم يستطيعوا القول: «إنّي بالله أعتصم وتوكلوا على البشر. لكانوا قالوها ، بلا شك، لو لم يكونوا جميعهم مثل الذين اتهموهم بالانفصال عنهم بكبرياء دنسة .

6- فلتصرخ النفس، إذًا: «إنّي بالربّ أعتصم؛ فكيف تجرؤون أن تقولوا لي: أيها العصفور اهرب إلى الجبال؟ فها إنّ المنافقين وطئوا قوسَهم وفوقوا سهامهم على الوتر ليرموا الصدّيقين، في ظلمة القمر». ولتقُل بعدها للمنافقين الذين يرتفعون إلى الله : «ها إنهم دمروا ما صنعته كاملا (11: 5). ولتحافظ على هذه اللغة، لا بوجه الذين نتكلم عنهم فحسب، بل بوجه جميع الهراطقة. لأنهم جميعهم، وعلى قدر نفاقهم يُدمّرون التسبيح النقي الذي أخرجه الله من أفواه الأطفال والرضع (8: 3)، عندما يسعون، عن طريق البطل والمماحكة، ليُرهقوا الضعفاء ولا يدعوهم يغتذون بلبن الإيمان. وكما لو كنا نقول لتلك النفس : «لماذا يحثونكِ على الهرب إلى الجبال مثل عصفور؟ ولماذا تخشين المنافقين الذين فوقوا سهامهم على الوتر ليرموا، في ظلمة القمر المستقيمي القلوب؟»، تُجيبُنا : يُخيفني «أنّهم دمروا ما جعلته كاملا لقد دمّروه بتأمرِهم، إذ أنّهم، بدلا من أن يُقدموا لبنا للضعفاء، ولمن يعرفون النور الداخلي، يُهلكونهم بسمومهم. فماذا يصنع الصديق» (10: 4) إذا كان مكاريوس وسيقلّيانُس مذنبين إليكم، فماذا صنع لكم المسيح القائل: «السلام أستودعكم، سلامي أعطيكم؟ (يو 14: 27)؛ ذلك السلام الذي تُقوّضونه بالإنفصال الشائن الآثم. ماذا صنع لكم المسيح الذي واجه بالكثير من الصبر ذاك التلميذ الخائن، فقبله في عشاء الإفخارستيا الأولى التي قدّسها بيديه وأسسها بكلماته، وقدمها إليه مثلما قدمها لسائر الرسل؟ (لو 22: 19، 21) ماذا صنع لكم المسيح الذي اختار لرسالة البشارة بملكوت الله، ذلك التلميذ نفسه الذي دعاه شيطانا (يو 6: 71)، وحتى قبل أن يغدر بالمسيح، لم يكن أمينًا على الكيس (يو 12: 6) ، ومع ذلك أرسله مع سائر التلاميذ (مت 10: 5) ليُعلّمنا أن عطية الله لا توهب إلّا لمن يقتبلُها بإيمان، حتّى ولو كان الخادم الذي يوزّعُها على مثال يوضاس؟

7- «الرب يسكن في هيكل قُدسِه» (11: 4). بهذا المعنى قال الرسول: «هيكل الله مقدَّس وهو أنتُم، ومن يجرؤ على تدنيس هيكل الله يُهلكه الله (1كو 3: 17) والحال فإنّ تدنيس هيكل الله، هو تدمير وحدته، والتخلّي عن الإتحاد بالرأس (كو 2: 19). «فإنَ بالرأس إحكام الجسد كله والتحامه بجميع الأوصال التي تقوم بحاجته، ليتابع نموّه بالعمل الملائم لجميع أعضائه المرتبطة لبنيانه بالمحبة (أف 4: 16). فالربّ، إذا ، يسكن هذا الهيكل المكوّن من جملة أعضاء لكلّ منها عمله والمرتبطة كلها بالمحبة في بنيان واحد وتدمير هذا الهيكل يكون بالإنفصال عن الوحدة الكاثوليكية (الجامعة)، والبحث في مكان آخر عن كرامة رأس الرب يسكن في هيكل قدسه، الرب في السماء عرشه (11: 4) إذا كان يُفهم بالسماء الصديق، كما يفهم بالأرض الخاطئ بحسب ما قيل : أنت تراب وإلى التراب تعود» (تك 3: 19)، فإن عبارة «الربّ في السماء عرشه» هي تكرار لما سبق أن قيل : «الربّ يسكن في هيكل قدسه».

 8- عيناه تبصران البائس (11: 4) يركن إليه البائس، فيكون له ملجاً. لذلك فإنّ كلّ تلك التمردات والإضطرابات التي تثار في الشباك إلى أن تبلغ الشاطئ، أصحابها أناس يرفضون أن يكونوا فقراء يسوع المسيح؛ ولهلاكهم وخيرنا، يتخذ الهراطقة من تلك القلاقل مناسبة لشتمنا. ولكن، هل يستطيعون أن يحجبوا نظر الله عن أولئك الذين يرغبون أن يكونوا فقراء من أجلِه؟ «فإن عينيه تُبصران الفقير». فهل علينا أن نخشى ألا يستطيع أن يُميّز، في حشد الأغنياء الغفير، أولئك البائسين القلائل، ليحفظهم ويُقيتهم في حضن الكنيسة الجامعة؟ وجفناه يختبران بني البشر » (11: 4) . بحسب القاعدة التي وضعناها ، فإنّي أفهم لتوّي بـ بني البشر» ، أولئك الذين عراهم الإيمان من الإنسان العتيق، وألبسهم الإنسان الجديد ذاك أنّ عين الله تبدو لهم مغمضة عندما تحتهم بعض مقاطع الكتب الغامضة على البحث عن معانيها ؛ كما تبدو مفتحة عندما يقتبلون بفرح نور الآيات الأكثر وضوحًا. والحال، فإنّ حقائق الكتب المقدّسة الواضحة حينا، والمغلقة حينا آخر، هي كجفني الله اللذين يختبران أو بالأحرى يقبلان بني البشر، أولئك الذين قوّتْهُم الظلمات ولم تُنهكهم، وثبتتهم المعرفة ولم تنفخهم.

9- الرّبّ يختبرُ الصدّيق والمنافق (11: 5). وعندما يختبر الصديق والمنافق، أيّ شرّ نخشى بعد من الأثمة الذين يمكن أن يكونوا معنا في شركة الأسرار، فيما قلوبهم ضنينة في صدقها؟ «أما من يُحبّ الجور فإلى نفسه يُسيء (11: 5) . إلى نفسه فقط يُسيء المنافق، إذًا، لا إلى من اعتصم بالله ولم يتوكل على البشر.

10- يمطر على المنافقين فخاخًا (11: 6). إذا كنا نطلق على الأنبياء عامة اسم الغمام، سواء أكانوا أنبياء أبرارًا أم كذبة، فإنّ الأنبياء الكذبة هيأهم الربّ ليصيروا فِخاحًا يُمطِرُها على المنافقين. إذ أنهم لا يجدون من يتبعهم سوى الخاطئ الذي يُعدّ لنفسه العذاب الأبدي إن هو أصر أن يبقى في خطيئته، أو الذي يطرح كبرياءه إن هو أراد أن يسعى صادقًا إلى المسيح. أما إذا كنا لا نقصد بالغمام إلّا الأنبياء الصالحين الحقيقيين، فمن الواضح أيضًا أنّ كلامهم يكون، بين يدي الله، فخاخا للخطأة، وفي الوقت نفسه ندى ينثره على الأبرار ليثمروا ثمارًا صالحة. لهؤلاء نفحة حياة للحياة»، يقول الرسول، ولأولئك نفحة موت للموت» (2كو 2: 16) . لأنه بوسعنا أن نطلق اسم الغمام لا على الرسول فقط، بل على كلّ واحدٍ ينثر على النفوس ندى كلمة الله . بالنسبة لمن يُسيء فهم هذه الكلمات، إنّها الفخاخ التي يُمطرُها الله على الأشرار ؛ وبالنسبة لمن يفهم حقيقة معناها فإنها الندى الذي يُخصب القلوب التقية الأمينة. إنّ عبارة: فيصيران كلاهما جسدا واحدًا» (أف 5: 31) على سبيل المثال، يمكن أن تُصبح فخا لمن يُفسرها بمعنى التهتك . أمّا إذا فُهمت بحسب قول القديس بولس: «أقول هذا بالنسبة إلى المسيح والكنيسة (أف 5: 32)، تكون ندى على حقل خصيب. الغمامة نفسها، أو الكتاب المقدس، هي التي تُمطر الفخ والندى . كذلك يقول لنا الربّ: «ليس ما يدخل فمك، بل ما يخرج منه، هو الذي يُنجِّس نفسك (مت 15: 11). على هذه الكلمات، يتأهب الخاطئ لمائدة الإثم الفاخرة، فيما هي تُنبّه الصديق فيتحصن ضد اللحوم. إنّ غمامة الكتاب نفسها، إذًا، تُمطِرُ، بحسب استحقاقات كلّ واحدٍ الفخاخ للخاطئ، وللصديق ندى البركة.

11- وتكون أنهار النار والكبريت وغضب العواصف، الكأس التي يُعدّها لهم (11: 6). تلك هي آخرة الذين يُجدفون على اسم المسيح، وذاك هو قصاصهم ؛ تأكلهم أوّلا نار شهواتهم، ثمّ تُقصيهم رائحة أعمالهم الفاسدة النتنة عن جماعة القديسين، وأخيرًا يُجَرّون ويُطرحون في الهاوية، ويُسامون عذاباتٍ لا توصف. ذاك، يا ربّ، حظ كأسهم، فيما تُهيّئ للصدّيق كأسًا مجيدةٌ مُروية. «لأنهم يرتوون من فيض بيتك» (مز 35: 9). وإذا كان النبي يستعمل عبارة «حظ كأسهم»، فبرأيي، لكي يحول دون أن نعتقد أنّ العناية الإلهية، حتى في عذابات الأشرار، تتجاوز حدود العدالة وعلى هذا أضاف، كمن يُريد أن يُبرّر تلك القصاصات: لأنّ الربّ عادل ويُحبّ كثرة العدل» (11: 7)، وبكثرة العدل يقصد النبي كثرة الأبرار ، لأنه يبدو أن كثرة الأبرار تقتضي كثرة العدل، ولو ان العدل واحد لدى الربّ، وهو ينبوع كثرة العدل ؛ كما لو ان وجهًا واحدًا يقف أمام مجموعة مرايا، فتعكس تلك المرايا صورة الوجه مرّاتٍ عديدة لكنّ الصورة واحدة. ويعود النبي ليهتف بصيغة المفرد : ووجهه ينظر إلى الاستقامة» (11: 7). ولعلّه قال : «ووجهه ينظر إلى الاستقامة» بمعنى : وبوجهه نرى الاستقامة»، أي عندما نعرف وجهه. لأنّ وجه الله هو القدرة التي يملكها ليُعرّف نفسه على من يستحق أن يعرفها. أو أنّ «وجهه ينظر إلى الاستقامة»، لأنه لا يُعرف نفسه للأشرار، بل للأخيار، وتلك هي الاستقامة .

 12- وإذا أردنا أن نرى في القمر مجمع اليهود، فعلينا عندها أن نفهم في المزمور آلام المخلّص ونقول عن اليهود: «إنّهم دمروا ما جعله الله كاملا»، وعن الربّ : وماذا صنع للصديق؟» الذي كانوا يتهمونه بتقويض الشريعة، فيما هم كانوا يُدمّرون أحكامها بعيش آثم، ويزدرونها ويستبدلونها برسومهم. وكعادته، يتكلم يسوع المسيح الإنسان ويقول: «إنّي بالربّ أعتصم فكيف تقولون لنفسي، أهرب إلى الجبال أيها العصفور؟» مُجيباً بقوله على تهديدات الذين كانوا يطلبونه ليمسكوه ويصلبوه. فأراد المنافقون أن يرموا بسهامهم الأبرار أو الذين يؤمنون بيسوع المسيح. أما ظلمة القمر فقد تعني مجمع اليهود الذي يعج بالفاسدين. وهذا المعنى ينطبق على قول النبي : «الربّ يسكن هيكل قدسه. الربّ في السماء عرشه، أي الكلمة ابن الله الذي في السماء، مسكنه الإنسان أيضًا. عيناه تُبصران البائس»: أي ذلك الإنسان الذي لبسه، هو الإله، أو ذاك الذي من أجله تألّم كإنسان. وجفناه يختبران بني البشر. إغماض العينين وفتحهما، لعل هذا ما يدعوه النبي جفني الله ، اللذين نستطيع أن نفسرهما بموت يسوع المسيح وقيامته؛ لأنه، بذلك اختبر بني البشر أو رسله الذين أرعبهم موته، وأبهجتهم قيامته. «الربّ يختبر الصدّيق والآثم»، من حيث أنه يرعى الكنيسة من أعالي السماء. ومن يُحبّ الجور نفسَه يُبغض»، والتتمة تبين السبب . وآية يمطر على المنافقين فخاخًا وما يليها من المزمور أن تفهم في المعنى المشار إليه أعلاه.

  1.  السيركونسيون Circoncellions هم الذين يتنقلون من أهراء إلى أهراء circum cellas، وكانوا من العمّال المياومين أو الموسميّين الأفارقة؛ وبمعنى آخر circum cellae هم الذين يحومون حول الأهراء، ليسطوا عن طريق السلاح على الغلال ثاروا ضدّ الملّاكين فقضى عليهم تورينس ما بين عامي ٣٤٠ و ٣٤٥،  باعتبارهم لصوصا كرّمهم الدوناتيون كشهداء. يُصوّرهم أوغسطينس لصوصاً و مجرمين.
  2. دوناتس (+٣٥٥) أسقف سيلا نيغرا Cellae Nigrae في نوميديا في أفريقيا الشمالية، انشق عن الكنيسة الكاثوليكية سنة 305 بسبب رفضه الشركة مع الخونة (traditores) الذين سلّموا الوثنيين الأواني والكتب المقدّسة زمن اضطهاد ديوقليسيانس. أقال الأسقف سيقلّيانس، أسقف قرطاجة، متهما إياه بالتساهل مع الخونة. حرمه البابا ملتيادس (313)، ومجمعا روما وآرل. اغتاظ وتمرّد وأشعل حربا أهلية أدمت أفريقيا على عهد قسطنطين وخلفائه إلى حين غزا الفاندال أفريقيا الشمالية واضطهدوا الدوناتيين والكاثوليك على السواء.

زر الذهاب إلى الأعلى