القديس صليب الجديد
ولما كان حكم المماليك مليئاً بالضيقات والاضطهاد فقد زخر بفئتين من القبط : فئة المتمسكين بعقيدتهم الراضين بكل ما يترتب عليه هذا التمسك من تعذيب وتنكيل ، وفئة الجاحدين الذين غرهم مجد العالم أو أزعجهم الاضطهاد . ومع أنه ليس من شك في أن الشهداء كانوا كثيرين إلا أن الأسماء التي وصلتنا من مجموعاتهم قليلة . وفي هذه الفترة لا نجد غير اسم قدیس عرف أن يصمد في وجه الآلام اسمه صلیب .
ولد هذا القديس في بلدة هور ( بالقرب من ملوى ) وكان أبواه خائفی الله فربياه التربية الروحية الحقة وعرفا كيف يجعلان العقيدة تترسخ في أعماقه فلا يرضى بها بديلاً. ولما بلغ سن الشباب اختارا له زوجة من أقاربهما حسب العادة الشائعة . وبالفعل تحت الشعائر الدينية للاكليل . إلا أن صليب عاش مع زوجته في تبتل تام يظللهما ملاك الرب . وبعد فترة ترك بيته وأخذ يتجول في البراري والقفار ويتنقل بين الأديرة ويزور الكنائس مستمتعاً بعشرة النساك والقديسين . فذهب أبواه وراءه وقيداه بالحديد ليرجعا به إلى بيته . وكم كانت دهشتهما عظيمة حين رأيا السلاسل تسقط من ذاتها عن يديه ورجليه . فأدركا أن قوة السيد المسيح الحالة فيه هي التي فکت هذه السلاسل وتركاه يحيا الحياة القدسية التي پریدها وهكذا عاش في أصوام وصلوات مستمرة وفي تقشف وتعبد بلا انقطاع . وكان دائم الاستشفاع بالسيدة والدة الإله . وكان يطلب إليها أن تهئ له سبيل الاستشهاد . فظهرت له في حلم ذات ليلة وأعلمته بأن رجاءه قد أجيب وأن رئيس الملائكة ميخائيل سيقوم بحراسته إلى أن ينال اکلیل الشهادة . وتضاعفت قواه الروحية بهذا الاستعلان السماوی وظل يتنقل من مكان إلى آخر ولم يقصر تجواله على الصحارى بل امتد منها إلى البلاد الآهلة بالسكان . وخلال تجوله بين الناس كان يعلن إيمانه جهاراً . فغضب عليه حاكم الصعيد واستدعاه وأخذ يستجوبه . فجهر بإيمانه أمامه . وعندها أمر الحكام بضربه والهزء به فانهال عليه الجند ضرباً وتعبيراً . ولكنه ظل ثابتاً محتملاً كل شئ في صبر وصمت . وازداد غضب الحاكم بإزاء سکوته فأمر بتقييده بالسلاسل ورجمه ولكن القيود والرجم لم تصبه بأذى لأن رئیس الملائكة كان يحرسه كما قالت له السيدة العذراء . فرموا به في السجن .
وكان يقضي ليله في الصلاة فيرى أثناء صلواته السيدة والدة الإله تبدو أمامه في نور يفوق نور الشمس ويسمعها تقول له في حنان : اصبر يا صليب لأنك ستنال إكليل الشهادة على اسم ابني الحبيب ، وحين سمع المسجونون من صليب عن هذه الرؤيا استولى عليهم الجزع واقترحوا الهرب ولكنه هدأ من روعهم وأبلغهم بأنه لن يصيبهم أي أذى .
ومرت أيام على هذا النمط والقديس صليب صامد . فحكم القاضي بارساله إلى القاهرة مقيدا بالسلاسل تحت حراسة الشرطة . وسمعت أمه وأخواته فركبن المركب التي أركبره إياها وأخذن يبكين عند رؤيته. ولكن حين عرفن عزمه وأصراره ردعنه في هدوء وسكينة وقلت له : « سلام لك . ونرجو أن تذكرنا عند المسيح إلهنا ، وليكن الرب معك . وليشددك . ولتشملك معونة السيدة العذراء إلى أن تكمل سعيك ، ثم تركته ورجعن إلى البيت .
وأقلعت المركب ، وكانت الرحلة شاقة لأن الجنود المكلفين بحراسته لم يكتفوا بتقييده بل استمروا يوسعونه ضربا وسخرية . على أن أم الرحمة كانت تشرق عليه كل ليلة وتملأ قلبه عزاء كما كان الملاك ميخائيل ملازماً له . فلما وصلوا إلى القاهرة أخذه الجنود إلى جماعة من القبط وطالبوهم بأن يدفعوا له أجرة سفره لأن القديس لم تكن معه أية نقود . ولما عرف هؤلاء القبط بكل ما جرى له دفعوا الأجرة بسرور ثم قدموا إليه طعاما اليأكل ووقفوا يخدمونه ويقدمون له كل ما يمكنهم من خدمته . فامتلأت نفسه راحة وقال لهم : « لقد تعبتم معي وأرحتم نفسي فأسأل المسيح ربنا أن يعوض تعبكم في ملكوته الأبدي كما يقضى لكم حاجاتكم في هذه الدنيا الفانية .
وبعد ذلك أخذه قائد حرسه لزيارة شقيقته التي كانت ذات إيمان وطيد ولكن حنانها غلبها فأخذت تبکی ، فودعها القديس في صمت تام دون أن يتفوه بكلمة . ثم سار به القائد إلى حاكم القاهرة الذي أخذ يسأله عن إيمانه وعما قال أمام حاکم الصعيد . فامتلأ القديس نعمة واعترف الاعتراف الحسن معلناً في جسارة إيمانه بالمسيح الذي تجسد ليخلص الناس . وفي صباح اليوم التالي سار به الحاكم إلى السلطان الذي كان جالسا وسط مجموعة من قواده وجنوده ورجال بلاطه ولكن القديس لم يرهب مجلسهم ولم يتردد في اعلان إيمانه رغم تهديده بالتعذيب . قال له السلطان : « اصغ إلى نصحي . اترك دين آبائك وأنا أسامحك ، فأجابه : « أني أومن بالمسيح ربي وإلهي وأعلن إيمانی به جهارا ، فأرسله السلطان إلى قضاة المسلمين الأربعة ليروا رأيهم فيه فلما سمعوا اعترافه الذي أصر على اعلانه كما أعلنه أمام الولاة وأمام السلطان نفسه حكموا باعدامه بعد التشهير به ووكلوا أمر تنفيذ الحكم إلى أمير من المماليك . فأمر هذا الأمير باحضار جمل . ثم صلبوا القديس على صليب من خشب وربطوه على ظهر الجمل وأخذوا يطوفون به في شوارع القاهرة وهم ينادون على المارة بذنبه . وكان صليب خلال هذا كله متهلل الوجه صامتاً هادناً . بل أن نية و الله أنات على وجهه فانعكس ضوها العجيب من وجهه على كل من رأه . رسه هذا النور سلامة مما جعل القبط الذين رأوه يمتلئون فرحة وسلامة هم أيضا.
ولما وصلوا إلى ساحة الاعدام كان السياف واقفاً يحمل في يده سيفاً مسلولا ولكن شكله ووقفته لم يحركا للقديس ساكنا فظل على هدوئه . وكان هناك قاض واقفا على مقربة من السياف فسأله إن كان مستعداً لأن ينجو من الموت بأن ينكر المسيح علانية فأجابه في هدوء على الفور : و لقد عشت نصرانيا وأموت نصرانيا ، فأمر القاضي السياف بأن يقتله .
فاستل السيف وقطع به رأسه في الساعة السادسة من يوم الاثنين المبارك الموافق الثالث من كيهك سنة ۱۲۲۹ ش . فنال اكليل الشهادة الذي اشتهاه . وكان يوم استشهاده في عيد تذكار دخول السيدة العذراء إلى الهيكل بركة صلاته فلتكن معنا . آمين