المعلم إبراهيم الجوهري

 

ظهر هذا الرجل العظيم في أواسط القرن الثامن عشر ولا يعلم كيف نشأ الا انه يعلم أنه تعلم منذ حداثته صناعة الكتابة وكان قلبه مفعما بمحبة الدين والتقوى وتقلد أول وظيفة له عند أحد المماليك وكان ينفق ربع راتبه في الأعمال الخيرية ولاسيما نساخة الكتب وايقافها على الكنائس فكان بين حين وآخر يأتي للبطريرك بكتاب و يسلمه له فسر منه البطريرك و بارکه ودعا له بالنجاح .

ولامر ما ترك الخدمة التي كان بها وأخبر البطريرك  بذلك فطلب من رئيس كتبه الاقباط ان يقبله كاتبا خاصا له فقبله و بعد حين توفي الكاتب فأقر رأي الجميع على ابراهيم ليخلفه في مكانه لما عرف عنه من الاستقامة والنزاهة.  صار ابراهيم رئيسا للمكتبة وبلغ اسمی رتبة كان يتطلع اليها القبطى حينئذ . فبالغ في انکار ذاته واظهار تواضعه وعكف على صنع الخير لجميع الناس بدون تمييز بين أهل الأديان واتصل خبره بابراهيم بك ، الوالی فعززه واكرمه واختصه بثقته ولما رأى المعلم ابراهيم الفرصة سانحة أمامه ليقدم خدمة لامته شرع يعمر الكنائس الخيرية و يصلح ما فيها من الخلل واشترى املاكا كثيرة واوقفها عليها و يوجد بدفترية البطريركية صورة ۲۳۸ حجة لتلك الأملاك التي اشتراها ذلك الرجل المغبوط وتنازل عنها للكنائس.

وقد رزق بولد سماه يوسف وعرف اسمه من حجة وقفية أوقفها باسمه الا أن العناية الإلهية شاءت انتقال ابنه إلى الديار الابدية فتكدر خاطره عليه لانه كان وحيدا له واغلق المكان الذي كان مخصصًا له وكسر السلم الموصل اليه حتى لا يشاهده قط.

ولما اشتد ظلم الواليين  ابراهيم بك ومراد بك أنفذت اليهم المملكة العثمانية حسن قبطان باشا سنة ۱۱۹۹ ه فقاتلها وانتصر عليها فهربا من وجهه الى الصعيد واضطر المعلم ابراهيم الى مرافقتها وامر حسن باشا باحصاء كل ممتلكات المعلم ابراهيم مما اوقفه على الكنائس و بسبب اختلال الاحوال وعدم ائتمان الناس على أموالهم وأرواحهم اختفت زوجة المعلم ابراهيم في بيت حسن كتخدا علي بك أمين الحساب الذي كان لزوجها عليه مآثر فقبضوا عليها وارغموها على أن تخبرهم عن مخابیء زوجها فدلتهم عليها واخرجوا منها أوانۍ ذهب وفضة فأخذ منها ما أخذ و باع ما باع .

ووشی بعضهم على مكان أبن المعلم المشار اليه فصعدوا اليه واخرجوا كل ما كان فيه من فرش وأمتعه واوانی ذهب وفضة وصيني واتوا بها إلى حسن باشا فباعها بين يديه بالمزاد وكانت شيئًا کثیراً فاستغرق بيعها عدة أيام.

 ولما عادت الاحکام الى الأميرين مراد وابراهيم رجعوا من الصعيد فرجع معهم المعلم ابراهيم وكان هو الوحيد من كبار الاقباط الذي نجا من اضطهاد حسن وتمكن من سیاسته وذكائه من حفظ مركزه في عيون المسلمين كالاقباط فارتقى ثانية الى درجة عظيمة واستأنف جهاده في أفتقاد الكنائس والفقراء والمساكين حتى أنه لم يكن يعتبر ماله ملکاً خاصا به بل كان يصرفه في كل عمل خيري و للان يوجد الكثير من الأديرة والكنائس التي شيدها كما كان مهتما باحوال الرهبان الذين كان يرسل اليهم بدون انقطاع كل ما يحتاجون اليه ولا يزال الترمس باقيا من تلك المؤونة في أغلب الأديرة . وهذه الكنيسة الكبرى بالأزبكية التي سعى في تشييدها كما ذکر تنطق بفضله وتشهد بغيرته.

وتروي عن المعلم ابراهيم حوداث كثيرة منها أن أخاه المعلم جرجس كان مرة ممتطيا جوادا ومارا في احدى الطرق فأهانه أحد المشايخ ولم يحترمه و ينزل عن الجواد لمقابلته فشقت الاهانة على المعلم جرجس وأخبره اخاه بها فأجابه « غدا أقطع لسانه » وفي اليوم الثاني استدل على منزل الشيخ وارسل له هدایا سمنا وجبنا الى غير ذلك بدون علم اخيه . فلما مر أخوه المعلم جرجس مرة أخرى على الرجل وقف له اجلالا مرحبا به ترحيبا شديدا داعيا له الامر الذي جعله في حيرة واندهاش ولما عاد علم بما فعله شقيقه وأدرك حقيقة قوله سأقطع لك لسانه اذ حوله من البغضة الى المحبة والاکرام و بذلك تمم قول الرسول ( آن جاع عدوك فاطعمه وان عطش فاسقه فانك بذلك تجمع جمر نار على رأسه » ( رو ۲۰:۱۲ )

ويروي ايضا ان امرأة جاءت ليلة عيد الى زوجة أحد المشاهير المعلمين في ذلك الحين يقال انه المعلم فانوس الكبير وشكت سوء حالها وضيمها  لان زوجها في السجن وأولاده يبكون لعدم وجوده معهم في هذا العيد وربما حكم عليه بالاعدام . فأرسلت هذه الزوجة الفاضلة كل ما  تحتاجه العائلات في الأعياد الى بيت ذلك الرجل وأرسلت تخبر أمرأته لكي نستعد بكل اللوازم لان زوجها سيكون في بيته تلك الليلة.

ولما جاء المعلم الى بيته ليلا بعد خروجه من الكنيسة لم يجده مضيئا كالعادة فاندهش لذلك لاسيا لما وجد زوجته حزينة فسأل ما الخطب الذي دهمنا وجعلك تجلسين هكذا مكتئبة فاجابته أيليق أن نفرح نحن ونبتهج وتلك العائلة حزينة باكية لسجن رجلها فان رمت أن تكون سعيدا بهذا العيد يلزمك أن تسعى في اطلاق سراح ذلك الرجل الان فقال لها حي هو اسم الرب لیکن كما تريدين واسرع بالذهاب الى اولی الامر وتمكن من استصدار عفو عن الرجل الذي انطلق الى بيته وكان سرور عائلته به عظيمًا.  

ولما كان هذا الأمر قد استغرق مدة من الليل لم يستيقظ المعلم حسب عادته باكرا ليتوجه الى منزل المعلم ابراهيم الجوهري الذي كان ينتظره ليتوجها وصحبتهما وجوه الامة لتقدم فروض المعايدة لقداسة البطريرك كالعادة فسأله الجوهري عن سبب ابطائه فأخبره بحادث الامس فأجابه الجوهرى « کیف جاز لك أن تنفرد وحدك بهذا العمل الصالح وتستأثر بثوابه ولا تشرکنی فيه » ثم انطلقا إلى البطريرك ليفصل لهما في الأمر فقال للمعلم ابراهيم هو اطلقه من السجن وانت ساعده على ايجاد عمل وكان كذلك.

وعلم مرة أن موظفا قبطيا مضی علی رفته نصف سنة فسعى له على عمل واستدعاه اليه ليقيمه  فيه فجاءه الجواب من الرجل أن فلانا اولى بهذه الوظيفة لانه رفت قبلی بشهر وليس له ما ينفقه على عائلته أما أنا فبحمد الله اجد ما يكفيني فكان من المعلم ابراهيم ان وظف الاثنين.

وكان من عادته نظرا لكونه ناظرا لكنائس القاهرة ومصر القديمة وما يجاورها أن يخصص لكل دير أو كنيسة  أوقاتا معلومة ليقتدی به باقي المعلمين ففي مرة قصد دیر بابلون الدرج في يوم رفاع و بعد صلاة القداس توجه كل الى منزله الا واحد رآه المعلم ابراهيم يصعد إلى التل فكلف خادمة أن يتتبعه فرآه يصلی و بعد الصلاة بحث حتى وجد وزة ميتة فشكر ربه وأراد النزول وكان الخادم قد سبق وروى الخبر المعلم ابراهيم قبل نزول الرجل فاستدعاه اليه وو بخه لانه لم يكشف له حقيقة حاله وكان قد أرسل له كل ما يحتاج وأوصاه أن لا يخفى عنه أمره اذا تضايق ثانية وقيل ان فقيرا أراد أن يمتحن سخاءه المفرط الذي وصل اليه خبره فتعقبه في يوم من الايام من بيته  إلى محل شغله وكان يعترضه في الطريق و كل مرة يقصد أن يريه أنه هو هو السائل بعينه ويلتمس منه على اسم المسيح وكان من عادته اذا سمع هذه الجملة لا يخيب رجاء قائلها مطلقا حتى بلغ عدد المرات التي طلب بها الصدقة منه وأعطاه اياها ثماني عشرة و بعد ذلك قال له طوباك يا جوهرى الرب معك فقال له لا تتعجب أتطالبني لهذا المال المودع عندي وانا أتأخر عن السداد ما أنا الا الامين والامين لا ينبغي أن يخون.
وكان من عادته فضلا عما يرسله للاديرة والكنائس أن يولم في كل عيد وليمة عظيمة للفقراء والمساكين فشعر مرة أن خدمه قصروا في استكمال ما يجب لوليمة أقامها في كنيسة القديسة بربارة بمصر القديمة فوبخهم شديدا قائلا لهم « أن هؤلاء الفقراء ضعفاء فيجب علينا أن نواسيهم ونطيب ونجبر خواطرهم الكسيرة ببعض ما نملك من نعم الله . ومخلصنا لم يأمرنا بالاهتمام بالاغنياء بل بالمساكين الذين ليس في طاقة أيديهم أن يكافئونا عما نعمله معهم من الخير لكي يتولى هو مكافأتنا بالاجر السمائي في اليوم الأخير ».

 وبالجملة فكان المعلم ابراهيم مثل السخاء والاحسان فلم يكن يخيب سائلا أتاه دون أن يمیز بین انسان وآخر وفضلا عما كان يرسله سنويا من الزاد والمؤونة لجميع أديرة الرهبان ولكى يتمم الله معه القول « الذي يحبه الرب يؤدبه » أختطف منه أبنه الوحيد فحزن الرجل حزنا شديدا وأفرطت زوجته أيضا في الحزن وألبست كل شيء في بيتها ثياب الحداد . ولما جاء ميعاد ارسال مؤونة الأديرة قالت له امرأته كيف تهتم بالكنائس والفقراء والأديرة والله لا يحفظ لنا وحيدنا لنتمتع به فوافقها وامتنع عن أن يقدم شيئا قيل ان القديس انطونيوس أبا الرهبان ترأی لزوجة المعلم ابراهيم بشکل نورانی وعزاها قائلا « أن الله أحب الولد ونقله اليه شابا واحب الوالد لان من ذا الذي يعرف مقاصد الله فربما أفسد شهرته وعاب اسمه وذلك افضل جزاء فلا تفشلي في عملك الذي كنت عليه من قبل وامرها ان تعزى زوجها و كان المعلم ابراهيم من يوم انتقال ولده ينام في مكان وزوجته في آخر فأصبح الصباح ورأى المعلم ابراهيم زوجته قد أبدلت ثيابها السوداء بثياب بيضاء وعلامات السرور بادية على وجهها فسألها ما الخبر ؟ فقصت عليه حلمها فتعزى هو ايضا وشكر الله على اعمال عنايته العجيبة ومن ثم زادا في عمل الخير والاحسان.

وحدث انه كان يوما يصلی بكنيسة ابي سيفين بحارة زويلة فأرسل للقمص أبراهيم عصفور خادم كنيسة القلاية يقول له المعلم يطلب الاسراع في الصلاة ليتمكن من اللحاق في الديوان فرد عليه القمص بصوت مسموع « المعلم في السماء والكنيسة لله وليست لاحد فان لم يعجبه فليبن  کنیسة أخرى » أما المعلم ابراهيم فعوضا عن أن يغيظه هذا الكلام سر منه وابتهج واستعجل ببناء  كنيسة اخرى . فقال له القمص احمد الله الذي جعل غضبك في بناء كنيسة اخرى فزادت مبراتك وحسناتك وكنت انا السبب ) و يضيق بنا المقام لو اتينا الكنائس التي شيدها والأديرة التي حددها والأملاك التي اوقفها باسمه أو باسم أخيه جرجس أو باسم ابنه الوحيد المتوفی أو باسم بناته والكتب التي أهتم بنسخها وقدمها هبة للكنائس ولم تزل غرر مآثره موجوده في كل جهة ومكان حتى في مدينة القدس فكل ذلك يراه القارىء مفصلا بکتاب « نوابغ الأقباط ومشاهيرهم » الجزء الأول فليطالعه من اراد التوسع ليعرف كيف ينبغي أن يكون البر وكيف ينبغي أن تكون الخدمة للصالح العام ومات.

 المعلم ابراهيم سنة ۱۲۰۹ ه وكان لموته رنه حزن وأسى في جميع انحاء القطر ورثاه الانبا يوساب أسقف جرجا في كتابه « سلاح المؤمنين » مرثية بليغة وحزن ابراهيم بك فشوهد يمشی في جنازته وهو يأسف على فقده أسفا عظيمًا قيل انه كان من المترددين عليه فقير يقصده في مواعيد معلومة فلما حضر وسأل عنه أخبرود بوفاته فحثي الرجل التراب على رأسه وسألهم أن يدلوه على مقبرته وهناك بكاه كثيرا حتى أخذته سنة من النوم فترأي وله الفقيد الكريم وقال له أنا لي في ذمة فلان الفلاني الزيات في بولاق عشرة بنادقة فسلم عليه من قبلی واطلبها منه وهو يعطيها لك وترای له كذلك على ثلاث مرات ومن ثم توجه الفقير للرجل فوجد كما قال له الا أنه لم يجسر أن يطالبه بالمبلغ ولما رآه الرجل متحيرا فسأله عن أمره فقص عليه الخبر فاعترف بالمبلغ وسلمه له.  وروى أيضا أن بعض الاشرار وشوا في أبنة المعلم أبراهيم المدعوة دميانه الى الوالي بانها تحفظ اموال ابيها التي اخذها من الحكومة فلما سئلت عن ذلك استمهلته حتى تحضر له ما طلبه ثم طافت القاهرة تجمع الفقراء والمعوزين وأحضرتهم اليه وقالت له أن أموال ابي هي مودعة في بطون هؤلاء فلما عرف الوالي الحقيقة صرفها وذكر والدها بالخير.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى