العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
تمييز الأرواح وماهية النفس
العظة السابعة من العظات الخمسون
[عن لطف المسيح من نحو الإنسان ، والعظة تحوي كذلك أسئلة وإجاباتها]
[أ] محبة الله للإنسان البائس
1- كأنما إنسان قد ولج قصوراً ملوكية فرأى فيها اللوحات والتحف الجميلة وعاين هنا وهناك كنوزاً موضوعة وأشياء أخرى ، ثم إنه اتكأ مع الملك ووُضعت أمامه لحوم وأشربة شهية وغدا متمتعاً من كل وجه بهذه المناظر والمباهج ؛ لكن بعد هذه الأمور أُقصي من هناك بل ووُجد مسوقاً إلى مواضع كريهة الرائحة ؛ أو كأنما فتاة جميلة الصورة وأوفر حكمة وغنى من الجميع قد اتخذت زوجاً لها رجلاً معوزاً حقيراً دميماً متزراً بالخرق ، فخلعت عنه هذه الثياب القذرة وألبسته حُللاً ملوكية وكللت هامته بالتيجان وأضحت شريكة له ، فيبتدئ حينئذ ذلك الفقير يرتاع قائلا : ” هل لي أنا الشقي الفقير الحقير الذليل تُعطى مثل هذه شريكة ؟ ! ، هذا هو ما صنعه الله بالإنسان الشقي الذليل ، فلقد وهبه مذاقة عالم آخر وطعام شهي آخر وأظهر له أمجاداً ومحاسن ملوكية سماوية لا يُنطق بها . وهكذا إذا ما فاضل الإنسان بين تلك الأمور الروحانية وأمور هذا الدهر طرح عنه كل شيء ، وسواء كان ينظر ملوكاً أو سلاطين أو حكماء ، فإنه لا ينفك يحدق بثبات إلى الكنز السماوي . ولأن « الله محبة »[1يو4: 8 ،16]، فقد تقبل الإنسان منه نار المسيح الإلهية السماوية فنعم بالراحة وفرح وأضحی مربوطاً هناك .
[ب] تواجد الله في كل مكان
۲- سؤال : هل الشيطان متواجد مع الله سواء في الهواء أو داخل الناس؟
الجواب : هل هذه الشمس، وما هي إلا مخلوق ، حينما تشرق على مواضع قذرة ، يضيرها هذا في شيء؟ فكم بالأحرى اللاهوت لا يتدنس ولا يتنجس بتواجده مع الشيطان . ولكن الله سمح بوجود الشر لأجل تدريب بني البشر، غير أن الشرير إنما هو في ظلمة وعمى ، لا يقدر أن ينظر نقاوة الله وصفاءه . أما إن كان أحد يقول إن ثمة موضعاً خاصاً بالشيطان وأخر خاصاً بالله ، فإنه بهذا يحصر الله ، نافياً وجوده هناك في ذلك الموضع حيث يسكن الشرير ، فكيف نقول إذ ذاك إن الصلاح ( أي الله ) غير محدود ولا محصور ، وإن كل الأشياء هي فيه ، وإنه لا يتنجس بالشر ؟ أم لأن السماء والشمس والجبال هي في الله وبه قائمة[1] ، أفقد صارت من أجل هذا هي الله فإن الخلائق قد أقيمت في رتبتها الخاصة ، وأما خالقها الحاضر معها فهو الله.
[ج] التمييز بين أمور العمة ومكايد إبليس
3- سؤال : حيث إن الخطيئة تغير شكلها إلى ملاك نور[انظر 2كو11: 14] فتصبح مُشابهة للنعمة ، فكيف للإنسان أن يدرك مكايد إبليس ، وكيف له أن يقبل أمور النعمة ويميزها ؟
الجواب : إن أمور النعمة يلازمها الفرح والسلام والمحبة والحق ، هذا الحق نفسه يُلزم الإنسان أن يطلب الحق. أما الخطيئة بأنواعها فهي . مضطربة ولا يصاحبها أيه محبة أو فرح من نحو الله . فكما أن نبات “الهندباء”[2] يشبه الخس ، إلا أثر هذا حلو المذاق وذاك مر ، رغم تشابههما؛ بل إنه في ذات النعمة نفسها يوجد ما يُشبه الحق ويوجد جوهر الحق ذاته كوجود شعاع الشمس ووجود قرص الشمس نفسه،. فالشعاع يضيء ولكن ليس كما يفعل النور المذخر في قرص الشمس نفسه ؛ كذلك لو أن مصباحاً موقد في بیت ، فإن الشعاع الذي يضيء في كل موضع هو بخلاف النور الأكثر إضاءة ولمعاناً الكائن في المصباح ذاته ؛ هكذا أيضا أمور النعمة ، فقد يحدث أن يراها الإنسان من على بُعد کمثل رُؤى فيفرح بها ، ولكنه يغدو رجلاً آخر حين تدخله قوة الله وتمسك بأعضائه وقلبه وتأسر عقله إلى محبة الله . فإنهم لما أمسكوا بطرس وزجوا به في السجن وأغلقوا عليه ، أتاه ملاك وكسر قيوده وأخرجه ، أما هو فكان – وكأنه في غيبة – يظن أنه في رؤيا.
4 – سؤال : ولكن كيف يسقط أولئك الذين تحت فعل نعمة الله ؟
الجواب : إنه حتَّى الأفكار التي في طبيعتها نقية يمكن أن تزل وتسقط ، إذ يبتدئ الإنسان يستعلي ويحكم (على الآخر ) قائلاً : ” أنت خاطئ” ، ظاناً البر في نفسه . ألا تعلم ما يقوله بولس الرسول : « أعطيت شوكة في الجسد ، ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع » ( 2کو12: 7 ) ؟ فإنه حتى الطبيعة الطاهرة يمكن أن ترتفع .
[د] الفهم ، والرؤيا ، والإعلان
5- سؤال : هل يستطيع أحد أن يرى النفس ، أي نفسه هو ، بواسطة النور ؟ إذ إن هناك قوماً يبطلون الإعلان ، زاعمين أنه بالمعرفة والإحساس فقط تكون الرؤيا .
الجواب : هناك إحساس ، وهناك رؤيا ، وهناك استنارة . فهذا الذي له الاستنارة هو أعظم من ذاك الذي له الإحساس ، فلأن عقله قد استنير فإنه يحظى بنصيب أعظم ممن له مجرد الإحساس ، إذ يرى في نفسه يقين الرؤيا. أما الإعلان[3] فإنه شيء آخر ، إذ فيه تُستعلن للنفس أمور عظيمة وأسرار الله.
6- سؤال : وهل بالإعلان والنور الإلهي ينظر أحد النفس؟
الجواب : كما أن هاتين العينين تنظران الشمس ، هكذا أيضا المستنيرون ينظرون صورة التفس ، لكن قليلون من المسيحيين يرون مثل هذه الأمور.
[هـ] التفس : صورتها وأعضاؤها
7- سؤال : هل للنفس شكل ما ؟
الجواب : إن للنفس صورة وشكلاً تشبهان الملاك ؛ فكما أن للملائكة صورة و شكلاً، وكما أن للإنسان الخارجي صوره كذلك ؛ هكذا أيضا توجد للإنسان الباطن صورة مشابهة للملاك وشكل مشابة للإنسان الخارجي .
۸- سؤال : هل العقل شيء ، والنفس شيء آخر؟
الجواب : كما أن أعضاء الجسد ، وإن كانت كثيرة ، تُدعي إنسانا واحد ، كذلك أيضا أعضاء النفس هي كثيرة : العقل ، والضمير ، والمشيئة ، و “الأفكار ؛ مشتكية كانت أم مدافعة”[4] ، إلا أن هذه جميعها مربوطة إلى فكر واحد ، فهي أعضاء للنفس ، والنفس واحدة وهي الإنسان الباطن . وكما أن الأعين الخارجية تسبق فتنظر من على بعد الأشواك والجرف والفخاخ ، كذلك العقل أيضا – إن كان يقظاً – يسبق فينظر مكايد القوة المعادية وعدتها[5] ، وكعيني للنفس يبادر فيحصنها . فلنرسل إلى فوق المجد للأب والابن والروح القدس إلى دهور الأهور ، آمين .
- الفعل συνίστημι هنا ليس بمعنی يقف ،لكن بمعنى “يكون” يحتفظ ببقائه ، يتماسك معاً ، فالمقصود ب “قائمة” هنا ، لا القيام ، بل القِوام . وقد ورد نفس هذا الفعل بذات المعني في ( كو1: 17) : « … وفيه يقوم الكل » ، وأيضا في ( 2 بط 3 : 5 ) .
- ومعنى اسمه باليونانية : مُرّ
- ἀποκάλυψις إعلان ، وقد وردت بالمعنى المقصود هنا في ثمانية مواضع من رسائل بولس الرسول : ( 1کو14: 6 ، 26؛ 2 کو 1:12 ، 7 ؛ غل 12:1 ؛ 2:2 ؛ أف 17:1 ؛ 3:3) ، وأيضاً في مستهل سفر الرؤيا ( رو 1 : 1 ) ، والتي تسمى بها السفر برمته.
- هذه الكلمة أكثر إيضاحا للمعنى من كلمة ” محتجة” التي وردت في الترجمة البيروتية لكلمة ἀπολογουμένων ( هذه الكلمة عينها هي التي منها خلع لقب المدافعين apologists على بعض آباء الكنيسة في القرن الثاني الميلادي ) .
- لا ننس أن الله أظهر للأنبا مقار ” مكايد” العدو وعدته ، حينما ظهر له الشيطان في شكل الرجل ذي الأوعية ، والرجل ذي الفواكه ، وفصل له أدوات حربه ( راجع : فردوس الآباء – الجزء الأول – الطبعة الأولى – 2005 . صفحة 171، 173) .