عظات حول التطويبات للقديس غريغوريوس النيصي

التطويبة الرابعة

طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ

1- إذا صدقنا أولئك الخبراء في الطب، فالأشخاص الذين يتألمون من المعدة ولا يحسّون بالجوع، يشعرون دوما بأنهم شباع ومتخمون بسبب الخلوط والإفرازات الرديئة التي ترجع إلى معدتهم. فليس لهم سوى القرف بطعام لا بد منه. فقد زال جوعهم بسبب شبع غاش.

فإن وجد الطبيب دواء ناجعا وسقى المريض شرابا خلاصيًا، تتفرغ المعدة من الخلوط ، والجسم الذي لا يعود مبلبلاً، يستعيد تذوق الطعام الذي لا غنى عنه. وهذا علامة الصحة أن نتكئ إلى المائدة، لا تلبية لحاجة، بل جوعا ولذة.

لماذا هذا المطلع؟ لأن الكلمة الإلهي الذي تدرج بشكل منهجي، يقودنا بأيدينا نحو الدرجات الأعلى في سلم التطويبات، «فيرتب في قلوبنا صعودات عجيبة» بحسب كلام النبي (مز 84: 6). وهكذا يجعلنا نسير في طرق وعرة، وهو يدلنا الآن على الطريق الرابعة : «طوبى للجياع والعطاش إلى البر فإنهم يشبعون».

جوع الجسد وجوع النفس

أظن أنه من الخير، وبعد أن تحررت النفس من الملء الكثير والشبع ، أن نوسع في قلوبنا الرغبة المغبوطة لمثل هذا الطعام، لمثل هذا الشراب . فالإنسان لا يقاوم الجوع من دون أن تسند قواه تعزية كافية، بدون أن يغتذي، بدون جوع. بما أن القوة هي خير، فلنحتفظ بها حين نشبع بشكل طبيعي، بحيث ننال الكفاية حين نأكل، فنأكل جوعا. فالجوع هو أمر ممتاز وهو ينبوع القوة التي فينا ومولدها. 

بالنسبة إلى الطعام، لا يمتلك جميع الناس الأذواق عينها. واحد يحب الحلويات، وآخر الأطعمة المبهرة، وثالث يقدر المالح ورابع ما فيه الحر. هذه الأذواق المختلفة لا توافق دوما ما تطلبه الصحة. هذا يمتلك استعدادًا مسبقا لمرض حين يأكل (فإن اتّخذ ما يوافقه، يحافظ على صحته، وطعامه يؤمن له ملء العافية).

ونقول الشيء عينه عن طعام النفس : لا يمتلك الجميع ذات الأمنيات. البعض يرغبون في المجد، في الغنى، أو في بعض باطل العالم. وآخرون ينصبون على ملذات المائدة. وفئة ثالثة تحافظ على البغض وتغتذي منه مثل طعام قاتل. كذلك هناك من يتوق إلى ما يوافق الطبيعة. والحال أن ما هو خير بحسب الطبيعة هو دوما كذلك بالنسبة إلى الجميع. وهو دوما كذلك لا لسبب غريب بل في ذاته وهو دوما شبيه بذاته فلا شبع يستطيع أن يضعفه. لهذا ندعو مطوبين لا فقط الجائعين بل أيضا أولئك الذين يرغبون في البر الحقيقي.

ما هو البر؟

2- فما هو هذا البر؟ هذا ما ينبغي أن نحدده ، كما أظن، لكي يوقظ فينا وحي جماله النير الرغبة في البهاء المكتشف. فلا يمكن أن نرغب في ما لا نعرف. وتظهر طبيعتنا متكاسلة وجامدة بالنسبة إلى ما نجهل، إلا إذا كونت عنه فكرة، بعد أن سمعت من يتكلم عنه أو لأنها استشفته.

فعدد كبير من الذين درسوا هذه المسائل يقولون إن البر يقوم في توزيع متساو مع استحقاقات كل واحد. فإذا كان أحد مكلفا بتوزيع المال، يقال إنه عادل حين يطلب المساواة فيقابل العطاء بحاجات الذين ينعمون به. وكذلك القاضي الذي يطلق الحكم بدون محاباة ولا بغض، بل يأخذ في الحسبان حالة الوقائع ، فيعاقب الذين يستحقون العقاب أو يعفو عن البريء، وفي كل خصام يعلن حكمًا عادلاً، فهذا يدعى بارا، عادلاً. 

والأمر عينه يطبق على من يحدد الضرائب بالنسبة إلى المواطنين : فيفرض مشاركة بحسب الموارد. وكذلك رب البيت وعمدة مدينة وملك البلاد الذي يمارس سلطته كما يجب بالنسبة إلى المواطنين، لا تجتذبه تصرفات جائرة، ولا يستغل وضعه إن حسب باستقامة من هو خاضع له، ولا يخيب أولئك المرتبطين به : كل هذا يشكل العدالة في نظر البشر. هكذا يتصورون البار، العادل.

بالنسبة إلي، إن رفعت عيني إلى أعالي الشريعة الإلهية، أظن أنّ البر له معنى أوسع مما سبق وقيل. فإذا توجهت كلمة الخلاص إلى كل إنسان، وإن لم يحتل الجميع الأوضاع المعددة أعلاه، لن يحصل سوى إلى عدد قليل أن يكون ملكا، عمدة، قاضيًا، أو أن يتصرف بالغنى أو أن يكون على رأس إدارة، بينما يصطف مجمل الناس وسط المواطنين والرعايا، فكيف نقبل أن لا تكون العدالة الحقيقية تحققت بواسطة الطبيعة وتكون هي هي للجميع؟ فإن كان هدف العدالة هو المساواة، فلا يمكن أن نعتبر قاعدة، التحديد المعطى للعدالة. وهذا ما تكذبه حالاً اللامساواة التي تسود في كل مكان. 

البر الإنجيلي

إذا، ما هو البر الذي يعني جميع الناس؟ هو ذاك الذي يقدر كل إنسان أن يرغبه حين يوجه ناظريه نحو مائدة الإنجيل : الغني أو الفقير، الخادم أو السيد، الشريف أو العبد. فما من وضع ينمي العدالة الحقة أو يخففها. فإن كنا لا نجدها إلا عند الأغنياء والأقوياء فكيف يكون بارا شخص مثل لعازر (لو 16: 19-31) النائم عند مدخل بيت الغني، وهو لا يمتلك شيئا من الذي يقربه من مثل هذه العدالة، ولا يعطيه السلطة أو الغنى أو البيت أو المائدة أو أيا من الغنى المادي الذي يتيح له أن يمارس هذه العدالة. فإذا أتاحت السلطة التوزيع أو إدارة الخيرات وحدها أن تمارس العدالة، فذاك الذي لا يمتلك شيئا من كل هذا يستبعد عنها. فلماذا يعتبر مستحقا بأن ينجو من شروره ذاك الذي لا يملك شيئا مما يميز العدالة، بحس الرأي المعروف؟

فينبغي علينا أن نبحث : أي بر ذاك الذي يهدأ جوعه بالوعد : «طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنّهم يشبعون».

3- متنوعة ومختلفة هي الأغراض التي تتقدم إلينا وتمارس اجتذابا على طبيعتنا. فنحتاج إلى الكثير من التمييز لنفصل الأطعمة التي هي مفيدة عن تلك التي هي مضرة لنا. فنتجنّب أن نأخذ طعاما ما لنفسنا يحمل إليها الموت والدمار بدلاً من أن يهبها الحياة.

جوع يسوع

ونستطيع ربما أن نضيء على معنى هذه التطويبة بمساعدة مقطع آخر من الإنجيل. فذاك الذي قاسمنا وضعنا كله، ما عدا الخطيئة ، الذي شعر بكل ما نشعر، وما اعتبر أن الجوع هو ذنب، فما تردد أن يختبر هو نفسه هذه الخبرة، فقبل أن يعرف الحاجات الطبيعية مثل الحاجة إلى الطعام.

فبعد أن صام أربعين يوما، جاع (مت 4: 2). فأعطى طبيعته البشرية، حين شاء، مناسبة للتعبير عن ذاتها. غير أن المجرب، حين رآه يقاسي الجوع، نصحه بأن يرضيه بالحجارة، أي بأن يميل برغبته الطبيعية باتجاه ما هو ضد الطبيعة. قال: «مر هذه الحجارة فتصبح خبرا». هل نستطيع أن نطلق ملامة على فلاحة الحقول؟ ولماذا الاستخفاف بالبذار بحيث نرفض الطعام الذي تنتجه؟ لماذا نحكم على حكمة الخالق وكأنه لم يهتم، بشكل لائق، بطعام البشر؟ فإن بدا، بعد الآن، أن الحجر هو أكثر أهلية لأن يغذي، فحكمة الله أخطأت في نظمت للحفاظ على الحياة البشرية. «مر هذه الحجارة فتصبح خبرا». ذاك ما قاله المجرب، وكرره للذين يسمعون صوت شهواتهم. وإذ قال هذا، أقنع أولئك الذين يبحثون عن طعامهم في الحجارة. حين يتجاوز الجوع الحاجات، فما هو سوى انجذاب إبليس الذي يرذل الطعام الذي تنتجه الأرض ليرغب في ما ليس من الطبيعة.

نغتذي بالحجارة

يغتذي بالحجارة أولئك الذين يأكلون خبز الطمع ، أولئك الذين يهيئون لنفوسهم موائد فاخرة وغنية بفضل شرورهم. أولئك الذين تجهيزات الوجبة هي شكل من الترف لتحرك الإدارة. كل هذا لا علاقة له مع حاجة الإنسان. فأي علاقة بين حاجات الإنسان والفضية الثقيلة والوازنة التي نعرضها؟ وما الجوع إلا الرغبة بما هو ضروري. وحين تختفي القوة يسعى الإنسان لكي يجدها. فيطلب خبرا أو طعاما آخر. فإن حمل إلى فمه الذهب بدل الخبز، فهل يرضي جوعه؟

4- حين نبحث بدل الطعام عما لا يؤكل، لا نلتفت صوب الحجارة ، لأننا نطلب شيئا آخر يهمنا. فبالإحساس بالجوع، تعلمنا الطبيعة أنّها تحتاج إلى الطعام لتجدد القوى التي خسرها الجسد. أما أنت فلا تسمع طبيعتك أو لا تعطيها تطلب. تسهر على الفضية الموضوعة على المائدة، وتحتاج إلى صائغ . تندفع من أجل الصور التي تحفرها في المادة، لكي تترجم بفضل الفنان، العواطف والإحساسات : غضب المحارب الذي يمتشق سيفه. وجع المجروح الذي سقط بضربة قاتلة ونظن أننا نسمعه يئن – والصياد الذي ينطلق، والوحش الغضوب ، وكل ما يستطيع أن يتمثله فن الناس الطائشين على أواني المائدة.

والشرب هو حاجة الطبيعة، ولكنّه يحتاج إلى ركائز غالية الثمن، الأحواض والآنية، القناني وأغراضا أخرى لا عد لها، وهي لا علاقة لها بحاجاتنا. أما ترى أن تصرفك يصبح نصيحة ذاك الذي يدعوك لكي تنظر إلى الحجارة؟ وما الفائدة من عرض لسائر المأكولات التي تقابل الحجارة : مشاهد الفجور، أقوال وأغنيات تحرك الأهواء وتعدنا للرذيلة إذ ترافق الطعام فترتب الشهوة.

كل هذا وسوسة من الشرير. وهذا كل ما يرسم أمامنا، فيدعونا لكي ننظر إلى الحجارة لا إلى الخبز بكل بساطة. فالذي يبعد التجربة لا يزيل الجوع الطبيعي على أنه سبب الشر. هو يلغي ما هو نافل – بحسب المجرب- وما يفرض نفسه كأنه ضرورة. ويترك للطبيعة الاهتمام بأن تحدد تخومها الخاصة.

والذين يصفون النبيذ لا يعرفون فائدته. وحين يتطهر يشربون النبيذ الجيد. وكذلك الكلمة الإلهي، المتنبه والواعي لكل ما هو غريب عن طبيعتنا، يعمل بدقة نفسيته بحيث لا يستبعد الجوع من حياتنا لأنّه يؤمن حفظنا في الحياة، ولكنّه صفاه هو أيضا، فرذل ما هو نافل ، وقال : من يوفق كلام الله وحاجات الطبيعة هو من يعرف خبز الحياة. 

الجوع الحقيقي

فإذا كان يسوع جاع، فالجوع يمكن أن يكون خيرا حين نشعر به كما شعر هو به. وإذا عرفنا ما إليه يجوع الرب، نعرف بوضوح بعد هذه التطويبة التي تقدم لنا الآن.

فما هذا هو الطعام الذي لا يستحي يسوع بأن يرغبه؟ قاله لتلاميذه بعد حواره مع السامرية : «طعامي أن أعمل مشيئة أبي» (يو 4: 34). ومشيئة الآب واضحة : يريد أن يخلص جميع. الناس فيبلغوا إلى معرفة الحق (1تي 2: 4). فإذا كانت رغبته أن نخلص، وإذا كانت حياتنا طعامه، نعرف في أي اتجاه ينبغي أن يتوق استعداد نفسنا.

ما معنى هذا الكلام؟ ينبغي علينا أن نجوع إلى خلاصنا الخاص. وكيف نحفظ في ذاتنا مثل هذا الجوع؟ ذاك ما تعلّمنا هذه التطويبة : فالذي يرغب في بر الله يجد ما يشكل الرغبة الحقة. وهذه الرغبة لا يرضيها شكل واحد على مثال الذين يتبعون اندفاعاتهم، لأنّه لا يرغب فقط في البر بشكل طعام، وإلا يبقى في منتصف الطريق بالنسبة إلى الكمال. في الحقيقة، الخير المرغوب به يشبه الشراب ، والعطش يعني الحر وحرارة الرغبة. وحين يكون حلقنا جافا ونحترق من العطش، نعالج كل هذا حين نأخذ شرابا.

والرغبة في الطعام تشبه الرغبة في الشراب. ومع ذلك هناك اختلاف بين الاثنتين. لذلك أوصانا الكلمة الإلهي بأن نتوق إلى الخير السامي. فيدعو سعيدا ذاك الذي يشعر بالجوع والعطش إلى البر معًا، لأنّ موضوع رغبتنا يكون في إرضاء هذين التوقين: يهب الطعام الأساسي للذي هو جائع ، وشرابا لمن يتوق إلى النعمة ليطفئ عطشه : «طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون».

ماذا يعني البر؟

5- إذا كان التوق إلى البر هو ينبوع غبطة، فالذي يبحث عن الحكمة وعن الفطنة وعن الاعتدال في الطعام والشراب أو عن فضيلة أخرى، أما يعلنه الكلمة الإلهي سعيدا؟ إليك ما يبدو لي معنى هذا الكلام : البر هو إحدى الصفات التي ندعوها فضائل. وكلمة الله يدل مرارا على الكل بالجزء. وهكذا حين يحدد الطبيعة الإلهية ببعض التأكيدات. فالنبي قال حين تكلم باسم الله : «أنا هو الرب، ذاك هو اسمي إلى الأبد. تذكره أجيال الأجيال» (إش 42: 8). وفي مكان آخر قال : «أنا هو الذي هو». وفي مكان ثالث : «أنا الرحيم» (خر 22: 27). وهناك أسماء أخرى لا عد لها تترجم عظمة الله وجلاله ، في الكتاب المقدس. ونستطيع أن نستنتج يقينًا من هذا أننا حين نستعمل واحدا من هذه الأسماء، فالمجمل هو متضمن. أن ندعو الله «الرب» لا يلغي سائر التسميات : كلها متضمنة في تسمية واحدة. ألهمها الكلمة الإلهي فدلَّ هكذا على الكل بالجزء. 

فحين يقول الكلمة الإلهي إن البر يخص أولئك الذين هم في جوع مغبوط ، يريد أن يدل على كل نوع من أنواع الفضيلة. ويدعو أيضا مغبوطا ذاك الجائع إلى العفة وإلى الشجاعة وإلى الحكمة وإلى كل ما تتضمنه لفظة فضيلة. فلا يمكن لوجهة من الفضيلة، معزولة من الأخرى، أن نعلنها وحدها أنّها الفضيلة الكاملة. فإذا أهملنا صفة من الصفات التي تؤلف الفضيلة ننمي بالضرورة الرذيلة المعارضة : الإفراط يعارض القدر العادل، والجهالة تعارض الحكمة. وكل ما هو معتبر على أنه رفيع يعارضه المفهوم المعاكس.

فإن كان البر لا يضم الكل، فلا وجود لخير آخر خارجا عنه. وما من إنسان قادر أن يقول : البر جاهل، أو هو متهور أو بدون قياس. فلا نستطيع أن نعطيه موصوفا يدل على الرذيلة. فإذا كان البر يستبعد كل ما هو رديء، فهو يتضمن، إذا، كل ما هو خير. والحال أن الخير يتضمن كل ما يوافق الفضيلة. إذا، يدل البر على كل شكل من أشكال الفضيلة، حين الكلمة الإلهي يدعو الجياع والعطاش إلى البر، مغبوطين، ويعدهم بأن يشبعهم .

الرغبة وتهدئتها

6- قال يسوع : «طوبى للجياع والعطاش إلى البر فإنهم يشبعون». فهذا القول يعني، كما يبدو لي : لا شيء مما تطلبه اللذة في الحياة يلبي الانتظار، كما تقول الحكمة في شكل صورة : «البحث عن اللذة إناء مثقوب» (أم 23: 27). فالذين لا يفكرون إلا بملذاتهم هم يتعبون في أن يلبوها دوما. والتعب الذي يتعبون، كما نرى، لا نتيجة له ولا غاية. هم ينحدرون في هوة الرغبة ويحركونها ولا يتوصلون إلى تهدئتها.

فالطماع الذي يعمل للحصول على ما يطلب، هل يضع يوما، حدا لجشعه؟ من توقف عن أن يكون طموحا لأنه بلغ غرض جهوده؟ فالذي شبع مما يدغدغ الأذن أو العينين، مما يكون لذة المائدة، هل وجد لذة في ما به تنعم؟ فكل رغبة جسدية، ما إن تشبع حتى تجوع.

ويعلمنا الرب هذه الحقيقة العجيبة : وحدها الفضيلة تدوم وتشبع . فالذي يرتفع إلى إحدى هذه القمم التي هي الحكمة والاعتدال والتقوى تجاه الله، أو أية فضيلة أخرى يعلمها الإنجيل، فهو لا ينال منها فرحا موقتا أو عابرا، بل فرحا متينا وثابتًا، يرافقه على مد حياته. لماذا؟ لأن لا زمن ولا إيقاع للفضيلة ، فالفضيلة هي من كل وقت ولا تتعب أبدا. والحكمة والطهارة والثبات في الخير والهرب من الشر تعمل دائما لأجل من يوجه عينيه نحو الفضيلة، وهي كلها تمنح فرحًا لا ينفصل عنها.

فمن يستسلم بدون كابح للرغبات ولو ضحى بالشهوة، لا يستطيع أن يحس بلذة لا نهاية لها. فلذة الأكل تنتهى بالأكل، ولذة الشرب بالشرب. وسائر التنغمات كلها تحتاج إلى فترة من الزمن، وراء اللذة والشبع ، لكي تبرز من جديد.

أما امتلاك الفضيلة بعد أن تثبت متانتها، فلا يحد في الزمن، ولا يوقفه الشبع. فالذين ينظمون حياتهم عليها، تحمل لهم شعورا نقيا ، متجددا على الدوام، مملوءا وعميقا، بالفرح الذي تعطي. لهذا وعد الله الكلمة بتهدئة رغبات أولئك الذين يجوعون مثل هذا الجوع ، تهدئة تنعش نار الرغبة بدلاً من أن تخنقها.

* ذاك هو التعليم الذي يعطينا الرب انطلاقا قمة الحكمة : لا من تشته شيئا يكون البحث عنه بلا نهاية، باطلاً ومحروما من المعنى ، مثل الذين يجرون وراء ظلهم : فالذين يجرون وراء شيء لا يمسك ، يفلت غرض جريهم على الدوام ممن يلاحقه.

فينبغي عكس ذلك أن يوجه الإنسان رغبته نحو الأشياء التي يشكل البحث عنها خيرا للذي يبحث عنه. فالذي يرغب الفضيلة يمتلكها في النهاية في ذاته، بحيث يكتشف في نفسه غرض رغبته. إذا، طوبى لمن يجوع جوع الحكمة، فيمتلئ فضيلة. وهذا الملء كما سبق وقلنا، يجتذب لا انتفاء الرغبة بل نموها، وينموان الواحد مع الآخر. فامتلاك الغرض المرغوب ينبع من قرب الرغبة في الفضيلة. والخير الذي نمتلكه هكذا يحمل معه، بلا شك، فرحا لا حدود له.

وخير الفضيلة لا يحمل عذوبة عابرة، بل يجتاح ملء الزمن. فيفرح الإنسان بأن يتذكر الأعمال الصالحة، وكل لحظة من حياته تكون في تناسق معها يتبدل وجهها. والجزاء المنتظر، في نظري، هو فقط الفضيلة في ذاتها، كعمل من يعمل الخير وثمن للخير الذي يعمل.

الله ذاته هو البر

وإذا أردنا أن نتكلم بشكل أكثر تجردا، يبدو لي أن الرب بلفظي البر والفضيلة، يطرح ذاته لرغبة الذين يسمعونه، وهو الذي صار من أجلنا الحكمة الآتية من عند الله، والبر والقداسة والفداء (1كو 1: 30)، وأيضا الخبز النازل من السماء والماء الحي.

أقرّ داود أنه عطش إلى هذا الماء، حين أنشد في مزمور إلى الله، توق نفسه المغبوط فقال : «نفسي عطشى إلى الله القوي، إلى الله الحي، فمتى أمضي وأحضر أمام وجه إلهي؟» (مز 42: 3). يبدو لي أنه تعلم بوحي الروح تعاليم الرب العجيبة. فأعلن لذاته بأن مثل هذه الرغبة سوف تلبى، فقال: «فأظهر بارا في حضورك، وأشبع من مجدك» (مز 17: 15).

هنا تكمن، في نظري، الفضيلة الحقيقية، الخير المعصوم من كل شر الذي يجتاح فكر الذين يبحثون عن الخير الأسمى، الله بالذات ، الكلمة، الفضيلة التي «تغطي السماوات» بحسب كلام حبقوق (حب 3: 3). إذا، بحق يدعى العطاش إلى بر الله مغبوطين. فمن ذاق الرب كما يقول المزمور (مز 34: 9)، أي من استقبل الرب في قلبه ، امتلأ مما هو جائع إليه وعطشان، بحسب الوعد: «نأتي أنا وأبي ونجعل فيه منزلنا» (يو 14: 25). وكان الروح القدس سبقهما إلى هناك.

وهكذا، كما يبدو لي، حين ذاق بولس الرسول ثمار الفردوس السرية، كان في الوقت عينه مشبعا ولكن جائعا دوما. أقر أن رغبته شبعت : «المسيح يحيا في» (غل 2: 20). ومع ذلك، مثل إنسان جائع ، أحس بما كان يتوق إليه من قبل فقال: «هذا لا يعني أني أدركت الهدف. أو أني صرت كاملاً، ولكني أواصل جريي لكي أبلغ إلى الهدف» (فل 3: 13).

واسمحوا لي أن أتكلم بحرية آخذا مثلاً لا سند له في الطبيعة : بالنسبة إلى طعام الجسد، فإن لم نبتلع شيئا أو نرذل شيئا، وإن هضمنا كل شيء للعمل من أجل نمو الجسد، فالجسد ينمو بشكل كبير : فالطعام اليومي ينمي أبعاد الجسم بشكل آلي.

فكذلك البر – وكل فضيلة ترافقه – لا شيء يرذل منه حين نغتذي به كما سبق وتصورنا بالنسبة إلى الطعام. فهو ينمي على الدوام وبقوة، أولئك الذين ينعمون به. –

فإذا فهمنا بما يقوم هذا الجوع، وإذا رذلنا شبع الشر، وإذا جعنا إلى بر الله، سوف نشبع منه في المسيح يسوع ربنا الذي مجده ثابت إلى دهر الدهور.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى