الصلاة الربية

الفصل الأول

مقــدمة

قد تكلمنا عن موضوع الصلاة بصفة عامة، حسب عطية النعمة التي يهبها لنا المسيح  في الروح القدس هذه العطيـة التي أرجو أن يتبينها القارئ ويدركها. ومن هنا يمكنا أن نتقدم الى البحث التالي فنتأمل تلك الصلاة التي علمنا الرب اياها، حتى ندرك قوتها وأعماقها.

ولا بد لنا أن نلاحظ للوهلة الأولى، أن نص الصلاة كما جاء في انجيلي متى ولوقا، ليس فيه أي تغيير، ولكن الحقيقة غير ذلك. فالصلاة كما جاءت في انجيل معلمنا متى كالآتي:

‏ أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. خبزنا الجوهري جدا Supersubstantial أعطنا اليوم. واغفر لنا ما علينا كما نغفر نحن أيضا لمن لنا عليهم ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير.

ولكنها وردت في انجيل معلمنا لوقا بهذا النص:

أيها الآب ، ليتقدس اسمك . ليأت ملكوتك. خبزنا الجوهري جدا أعطنا كل يوم
واغفر لنا خطايانا، كما نغفر نحن ايضا لكل من أساء الينا. ولا تدخلنا في تجربة.

وازاء هذا، لا بد لي أن أقول أن كلمات الصلاة وان كانت تقترب وتتفق في بعض النقاط. الا أنها تبدو مختلفة في غيرها كما سنوضح ذلك في دراستنا.

ومن ناحية أخرى فلا بد أن نأخذ في الاعتبار المناسبة التي قيلت فيها فالنص الأول قيل على الجبل لما رأى الجموع فصعد ، ولما جلس تقدم اليه تلاميذه ففتح فاه وعلمهم  وهكذا جاءت هذه الصلاة في انجيل متى مرتبطة بالتطويبات والمبادئ والتعاليم التي تلتها ضمن الموعظة على الجبل . ومن غير المعقول أن تكون هي نفس الصلاة التي قيلت لأحد التلاميذ، اذ كان بسوع في موضع ما يصلي، فلما فرغ سأله هذا التلميذ أن يعلمه كيـف يصلى كما علم يوحنا ايضا تلاميذه. ليس من السهل ـ إذا ـ أن نقبل أن الصلاة بنفس الكلمات وبنفس الترتيب قيلت في مناسبة ما دون اي طلب سابق، تقال في مناسبة أخرى جوابا على سؤال أحد التلاميذ. ولكن البعض يرى ـ ردا على ذلك أن الصلاتين اللتين نحن بصددهما ليسا في الواقع الا صلاة واحدة، هي نفس الصلاة التي قيلت في مناسبة منهما للجميع، وفي أخرى قيلت لأحد التلاميذ بناء على طلبه. وليس بعيد الاحتمال ان هذا التلميذ لم يكن موجودا حين قيلت الصلاة في انجيل متى، أو من الجائز أن كلماتها قد استعيدت لأنه لم يتذكرها أو غابت عن ذاكرته بمرور الوقت على أي حال، أرى من الأفضل أن نعتبرها صلاتين مستقلتين حتى وان تشابهت بعض أجزائهما. وقد فتشنا أيضا انجيل معلمنا مرقس على ان نجد صلاة أخرى نظير السابقتين ربما تكون قد غابت علينا، ولكنا لم نجد.

الاستعداد للصلاة :

لذلك قلنا فيما سبق أن الانسان وهو على أهبة الصلاة لا بد أن يعد نفسه. وعند ذلك فقط يتقدم للصلاة. ولهذا يحسن بنا أن نراجع كلمات مخلصنا في هذا الصدد كما جاءت في انجيل معلمنا متى قبل نص الصلاة، فهو يقول: متى صليت فلا تكن كالمرائين الذين يحبون ان يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس. الحق أقول لكم انهم قد استوفوا اجرهم. وأما أنت فمتى صليت فادخل مخدعك واغلق باك وصل الى أريك الذي في الخفاء غابوك الذي يرى في الخفاء سوف يجازيك. وحينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلا كالأمم. فانهم يظنون أنهم بكثرة كلامهم يستجاب لهم. فلا تتشبهوا بهم لأن أبوكم يعلم ما تحتاجون اليه قبل ان تسألوه فصلوا انتم هكذا.. .

وفي مواضع عديدة يهاجم الرب محبة المديح كمرض عضال، كما هو الحال هنا وهو يحذر من الرياء في وقت الصلاة لأن المرائي يتميز بذلك النمط الخاص في السلوك حيث يسعى الى الرفعة في أعين الناس بسبب تقواه او سخائه. ولا بد أن نضع نصب أعيننا ذلك القياس الذي تحدده هـذه الكلمات : كيف تقدرون ان تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدا من الناس ، والمجد الذي من الاله الواحد لستم تطلبونه  والواقع أن من الواجب علينا أن نغض النظر عن كل مجد بشري ، حتى لو كنا نظن أننا به جديرون ، بل بالأحرى أن نسعى نحو المجد الحقيقي الصادق الذي يعطيه الله وحده ، الذي يستطيع بتدبيره الذي يليق بجلاله ـ أن يكرم الشخص المستحق للكرامة تكريما يتناسب مع مستواه الأقدس ، فيفوق هذا التكريم كل مواهب هذا الانسان وفي نفس الوقت نرى أن هذه الأمور بعينها التي تستحق الثناء والمديح تنتقص قيمتها عندما نمارسها ونحن نستهدف هذا الاطراء الذي يعقبها ، لأننا ـ في هذه الحالة ـ لا نعملها الا لكي نحصل على هذا المجد من الاس ، أو لكي يرانا الناس. والعاقبة التي ينتهي عندها مثل هذا التصرف هي ألا ننال مجازاة عنها من الله. ومع أن كل كلمة من كلمات المسيح صادقة، فبالأولى تزداد يقينا وصدقا ـ اذا استطعنا أن نثير في التعبير قوة أكبر واعمق- تلك الكلمات التي تقترن بلفظ التأكيد المعتاد «الحق الحق، فالرب حين يتحدث عن الاخوة الذين من اجل مجد الناس يصنعون خيرا بالقريب، أو يقومون في المجامع وفي زوايا الطريق يصلون لكي يراهم الناس ، فيعقب على مسلكهم هذا بقوله : الحق أقول لكم لقد استوفوا أجرهم.

وترتيبا على هذه الحقيقة تكون النتيجة. ففي انجيل القديس لوقا نقرأ عن الرجل الغني الذي لم يستطع أن يتمتع بالخيرات في حياة الدهر الآتي، لأنه قد استوفى خيراته على الأرض. فالذي يستوفى أجره عن صدقاته او صلواته في هذا العالم لا يمكنه أن يحصد حياة أبدية لأنه لم يزرع في الروح بل زرع في الجسد وبالتالي لا بد له أن يحصد ـ بالضرورة ـ فسادا. هكذا يزرع في الجسد من يصنع صدقته ويوق أمامه بالبوق في المجامع والطرقات حتى ينال مجدا من الناس او من يستهويه اداء الصلاة في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يراه الناس تقيا وقديسا.

ان هذا المخدوع الضال انما يتبع الطريق الرحب الواسع المؤدي الى الهلاك، الذي لا يمكن وليس من طبيعته أن يكون طريقا مستقيما ومباشرا، بل على العكس يلتوي في كل خطوة وتزداد وعورته. ومن أجل الوصول الى تحقيق هذه اللذة، يجد المسكين نفسه لا يسلك في طريق محدد، بل يجد نفسه موزع الخاطر مشتت الفكر في عدة طرق انحدر اليها كل الساقطين في طريق الموت، الذين عزلوا أنفسهم عن الالهيات، ويقنعون بتقديم المجد والكرامة لمن يمارس التقوى على قارعة الطريق. واقرارا للحق والواقع فلا بد أن نقول أن هناك من الصلوات ما يتجلى فيها محبة ذويها للمتعة واللذة أكثر مما يبدو فيها من محبة لله. ففي وسط ولائمهم وشكرهم يندمجون في صلوات مخمورة …هؤلاء هم حقـا الذين يقومون مصلين في زوايا الشوارع لأن كل من يحيا حياة اللذة انما يحب الطريق الواسع، وينحرف عن الطريق الضيق المستقيم الذي ليسوع المسيح. لا يوجد في طريق الرب أي اعوجاج أو انعطاف، أيا كان .

العرض والجوهر:

هناك فارق كبير بين الكنيسة والمجمع، لأن الكنيسة الحقيقية لا دنس فيها ولا غضن او اي شيء من مثل هذه العيوب، بل تكون مقدسة وبلا عیب. هذه الكنيسة المقدسة لا ينضوي تحت لوائها ابن الزانية او الخصى أو المجبوب أو المصرى أو العبدوني الا في الجيل الثالث من أبنائهم لأنه من الصعب عليهم أن يشاكلوا صورة الكنيسة، وكذلك لا يدخلها موآبی او عموني حتى يكمل زمانهم بعد الجيل العاشر. ومع ذلك نقرأ عن المجمع الذي بناه قائد مائة قبل مجيء الرب يسوع، بناه هذا الأممي قبل أن يحصل على تلك الشهادة من الرب بأن له ايمانا لا مثيل له في إسرائيل.

 فالفارق ـ إذا ـ ليس في العرض أو المظهر، بل يكمن في روح العبادة فالذي يصلي في المجامع ليس بعيدا عن زوايا الشوارع، بينما الصلاة عند القديس ليست كذلك، ليست مجرد نزعة أو ميل طارئ ولكنها موضوع محبة قلبه. واذ يرفع صلاته لا يقدمها في المجامع بل في الكنيسة الطاهرة، وليس في زوايا الشوارع ومنعطفات الطريق بل في استقامة الطريق الضيق، ولا لكي يراه الناس بل لكي يتراءى أمام عيني الرب إلهه. انه الرجل الذي يحفظ سنة الرب المقبولة، ويحفظ وصيته ثلاث مرات في السنة . يحضر جميع الذكور أمام الرب الإله.

وعلينا ان نمعن النظر في قوله.. لكي يظهروا للناس ومعنى هذا ان سلوكهم مجرد مظهر ليس الا ، يبدو فقط أنه كائن ، ولكن في الواقع ليس له وجود فعلي. انه يموه على الناظرين ويخدع التصور ، ولكنه لا يصدق مع واقعه ولا يعبر بأمانة ودقة عن جوهر الانسان . ما أشبه المرائي بالممثلين  في المسرحيات ، يظهرون للناس في صورة لا تتفق مع حقيقتهم حيث أدائهم لأدوارهم نلاحظ أنهم لا يطابقون واقع الأدوار التي يقومون بتمني . هكذا كل من يصطنع صورة البر ، ليس في حقيقته بارا ولكنه يمثل شخصية البار انه يمثل على مسرح يختص به ـ في المجامع وفي زوايا الشوارع.

أما اذا خلع المرء عن نفسه رداء التمثيل، ورفض أن يتقمص شخصية ليست هي طبيعته، واستطاع أن يتحرر من الشوائب الغريبة عليه فيعد نفسه اعدادا صالحا للعمل على مسرح آخر وأعظم بكثير بما لا يقاس عن مسرح العالم، فانه يدخل مخدعه وينحصر في كنزه المخفي، كنز الحكمة والمعرفة. وخارج هذا لا يطلب شيئا أو يعيره التفاتا، بل يغلق كل أبواب الحس حتى لا تجتذبه الحواس أو تنقل الى عقله وذهنه أية صورة من صور الحس والمادة. هنا يصلي الى الآب الذي لا يحتجب عن مثل هذه الخلوة بل يسكن فيها مع الابن الوحيد الذي قال : لأنى والآب اليه نأتى و عنده نصنع منزلا .

فمن الواضح اذا اتنا عندما نصلى هلى هذه الصورة انما نتحدث مع الله ، والله عادل مطلق العدالة ولكنه أيضا أب ، وأب لا يفارق اولاده ، بل يحل ويحضر في خلوتنا ويحفظها ، ويزيد من ثروة كنوزنا .. فقط علينا ان نغلق الباب

تكرار الكلام باطلا:

وعندما نصلى يجب علينا الا نكرر الكلام باطلاً. بل يجب ندرك أننا نتكلم مع الله. ومتى ـ اذا ـ تعتبر صلاتنا من قبيل تكرار الكلام باطلا ؟ يتم ذلك عندما لا نفحص ذواتنا بالتدقيق ، وعندما لا ندقق في الكلمات التي نقدمها في صلاتنا ، وعندما نردد الأحاديث عن الأعمال أو الأقوال أو الافكار الثانية .. لأن هذه الأمور صغيرة بغيضة غريبة على قداسة الله ولا يخامرني شك في أن الذي يكرر الكلام باطلا لا يقل عن رفاقه في المجمع القديم – كما سبق وتكلمنا ـ ان لم يكن أسوا منهم حالا وهذا الطريق الشائك الذي يسلكه لا يقل وعورة وخطـورة عن طريق أصحاب زوايا الشوارع. ولا يستطيع في هذه الحالة أن يدعى لنفسه حتى ولو مجرد مظهر البر لأن الانجيل يضعه في مصاف الأمم الوثنيين اذ يصرح بأن الأمم فقط هم الذين يكررون الكلام باطلا . ولماذا يفعل الأمم ذلك؟ لأنه لا يخطر على بالهم شيء ما من الطلبات السمائية العظمى، بل تدور صلواتهم وطلباتهم دائما حول احتياجاتهم الجسدية والخارجية. ولذلك فمن يرفع صلاته الى السيد الرب الساكن في السموات وفوق علو السموات ثم يطلب الارضيات والماديات انما هو من الأمم الذين يكررون الكلام باطلا .

ويبدو لى ايضا ان تكرار الكلام باطلا من خصائص المغرمين بالثرثرة، فلا يمكن أن يكرر الكلام باطلا الا من اعتاد كثرة الكلام ولغو الحديث وهذا يرتبط بالأمور الجسدية والمادية التي لا يمكن أن تتصف بالوحدة من حيث أنها تقبل الانفصال والانقسام والتفتت والتعدد. اما الخير فواحد على خلاف الأشياء الدنيا لأنها متعددة، الحق واحد ولكن الباطل متعدد، العدالة الحقيقية واحدة ولكن لها أضداد كثيرون. حكمة الله واحدة ولكن ما أكثر فلسفات هذا العالم وعظماء هذا العالم الذين يبطلون، وكلمة الله واحد ولكن ما أكثر الكلمات الغريبة والأجنبية على الله. ولهذا فمن الصعب على الانسان أن يتفادى السقوط في خطية كثرة الكلام، كما أنه لا يمكنه أن ان ينال استجابة من الله اذا وقر في ظنه أن هذه الاستجابة تتوقف على ثرثرته وكثرة كلامه .

وعلى هذا ينبغي لصلواتنا ألا تشاكل ثرثرة الأمم أو تكرارهم الكلام باطلا او ما شابه ذلك من الفروض التي يؤدونها على غرار الحية لأن اله القديسين ـ وهو اب ـ يعرف كل ما يحتاج اليه ابناؤه ما دامت هذه الحاجات جديرة بأن تعرف لدى الآب. أما اذا كان الانسان بعيدا عن معرفة الله فهذا يؤدي به الى الجهل بالأمور الخاصة بالله وهذا بدوره لا يجعله يعرف ما يحتاج اليه هو من الله. ومن ناحية أخرى، يتردي في خلط خطير فالأشياء التي يظن انه في مسيس الحاجة اليها كثيرا ما تكون ملوثة بالخطية. أما المؤمن الذي يتطلع الى ما هو أفضل وما هو الهي غيتلقى بالرضى والمسرة كل الهبات والعطايا التي يمنحه الله اياها والتي يعرفها الآب ويعرف حاجة الانسان اليها قبل أن يصلى لأجلها.

والآن وقد تحدثنا عما يسبق الصلاة، كما جاءت في انجيل معلمنا متى ، يمكنا أن نتأمل في التعاليم التي نستقيها من الصلاة نفسها.

 

الفصل الثاني
 أبانا الذي في السموات

ابانا الذي في السموات

جدير بنا أن نفحص العهد القديم بالتدقيق لعلنا نجد فيه، في أي سفر من اسفاره، صلاة يدعو المصلى فيها الله بكلمة الآب . لقد بحثت كثـيرا وفتشت بعناية وجد على قدر ما أستطيع فلم أجد صلاة واحدة تتضمن هذا النداء. ولكن هذا لا يعني بالطبع أني أدعى أنه ليس هناك ما يشير الى أبوة الله، أو أن المؤمنين باسمه لم يطلق عليهم لقب البنين «أولاد الله» ولكن ما أقصده بالتحديد أننا لم نجد في أية صلاة تلك الدالة والثقة والايمان التي تتجلى في مناداة الله بكلمة « الآب » كما أعلنها المخلص.

اما اطلاق لقب الآب على الله، ولقب البنين أو الاولاد على الملتجئين الى كلمة الله، فهذا ما يمكنا أن نجده في أماكن متعددة. ففي سفر التثنية مثلا يقول: تركت الله الذي أبداك (ولدك) ونسيت الله الذي رعاك ( اطعمك )  كما يقول : اليس هو ( الله ) أباك ومقتنيك هو عملك وأنشاك ثم يلومهم بقوله : أولاد لا أمانة فيهم . وفي سفر أشعياء النبي يقول: ربيت بنين ونشأتهم اما هم فعصوا على ( احتقروني )  وفي سفر ملاخي : الابن يكرم أباه ، والعبد يكرم سيده . فان كنت أنا أبا فأين کرامتی ؟ وان كنت سيدا فاین هیبتی؟

وعلى الرغم من أن الله يدعى الآب والمولودين فيه بكلمة الايمان يلقبون بالبنين ، الا اننا لا نجد بين القدماء ذلك المفهوم العميق لهذه البنوة الايجابية التي لا تتحول او تتغير ومع ذلك فالنصوص التي أوردنا نماذجها تكشف لنا عن حقيقة هؤلاء الذين دعوا بالبنين ، لأنهم في الواقع لم يكونوا سوى عبيدا طبقا لما شرحه لنا الرسول بولس اذ يقول : ما دام الوارث قاصر لا يفرق شيئا عن العيد مع كونه صاحب الجميع ، بل هو تحت أوصياء ووكلاء الى الوقت المؤجل من أبيه ولكن ملء الزمان يتضمن مجيء ربنا يسوع المسيح في وسطنا ، وحينئذ يستطيع من يطلب أن يأخذ نعمة التبني لكي يحسب مع الأولاد وفي هذا يقول القديس بولس : اذا لم نأخذ روح العبودية أيضا للخوف بل اخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الأب. كما نقرا في انجيل معلمنا يوحنا: وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد أي المؤمنون باسمه. وفي رسالته الجامعة نتعلم أن المولودين من الله – بفضل روح التبني هذه: كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطىء لأنه مولود من الله.

فاذا ما أدركنا جيدا ما تفصح عنه الكلمات : متى صليتم قولوا أيها الآب ـ كما جاءت في انجيل معلمنا لوقا ، ربما نتردد في وجل ، ونحجم عن مناداة الله بهذا اللقب ما لم نكن بالحقيقة أولادا لله ، مخافة ان نضيف الى خطايانا اثما جديدا يتمثل في عدم التقوى وفي هذا التهاون وهذا الاستهتار وما أعنيه في هذا التنبيه لا يخرج عما قصد اليه الرسول بولس في رسالته الأولى الى أهل كورنثوس : ليس أحد يستطيع أن يقول الرب يسوع الا بالروح القدس ، وليس أحد وهو يتكلم بروح الله يقول أناثيما ليسوع ولا شك أن الرسول يستعمل تعبير الروح القدس وروح الله بمعنى واحد وربما انتابنا شيء من الغموض والابهام حول المقصود بقوله « أن يقول الرب يسوع بالروح القدس » ، لأن هناك عددا لا يحصى من المرائين وكثيرين من الهراطقة بل أحيانا حتى من الأرواح الشريرة وهم ساقطون تحت قوة هذا الاسم يستخدمون هذه الكلمات فكيف يتفق هذا ما تعلمناه من أن الانسان لا يستطيع أن يقول الرب يسوع الا بالروح القدس ؟ ! انهم لا يقولون هذا القول الا لأنهم مرغمين أمام قوته وسلطانه، او رياء منهم أمام الناس. ولكن حياتهم واعمالهم خالية تماما من سلطان هذه الكلمة. ولكن خدام كلمة الله وحدهم، من كل ما يعملون، لا يدعون أحدا سيدا وربا الا هو. اذا هؤلاء هم الذين يستطيعون أن يقولوا «الرب يسوع» بتصرفهم ذاته. واذا كان هؤلاء هم الذين يقولون الرب يسوع، فيترتب على هذا ـ احتمالا ان كل من يخطىء انما يجحد أو يلعن كلمة الله بنفس أداء الخطية وبأعماله الشريرة يصرخ قائلا انا ثيما ليسوع اذا فهناك فريق من الناس يؤمن ويجاهر بالرب يسوع وعلى نقيضهم فريق آخر يقول انا ثيما ليسوع يترتب على هذا ايضا ان كل من ولد من الله ولا يخطىء يشترك في زرع الله الذي يحفظه من كل خطية ويعلن بأعماله: أبانا الذي في السموات. والروح نفسه يعطي شهادة لأرواحهم أنهم أولاد الله وورثته وورثة مع المسيح. لأنهم وهم يتألمون معه لهم الحق أن ينتظروا بالرجاء أن يتمجدوا معه أيضا. الا ان مثل هؤلاء المؤمنين لا يقولون أو ينادون الله «ابانا» بقلوب واجفة مترددة، ولكن فضلا عن أعمالهم فان قلوبهم ايضا وهي مصدر وينبوع هذه الأعمال الصالحة، انما تؤمن بالبر بينما أفواههم تعترف وترنم بالخلاص.

وفضلا عن هذا كله فان الابن الوحيد يشكل كل أفكار هؤلاء البنين وكلماتهم وأفعالهم لكي تكون على صورته، فتتكاثر فيهم صورة الله غير المنظور، وهكذا تتوافق الصورة مع خليقة الله التي صنعها. الذي يجعل شمسه تشرق على الصالحين والأشرار، ويمطـر على الابرار والظالمين، هكذا تتمثل فيهم صورة السماوي، الذي هو نفسه صورة الله. وعلى هذا فالقديسون هم صورة الصورة، ولما كان الابن هو صورة بهاء الله ورسم جوهره، فهم يأخذون انطباع البنوة ليس فقط لأنهم يصبحون على غرار جسد مجد المسيح بل يشابهون أيضا الله الظاهر في الجسد لأنهم يتآلفون مع المسيح في جسد مجده واستحال في تجـديد اذهانهم ولهذا يقولون في كل الأمور « أبانا الذي في السموات » . اما الذي يخطيء. كما يقول معلمنا يوحنا في رسالته فهو من الشيطان لأن الشيطان يخطىء منذ البدء. وكما أن زرع الله الذي يثبت فيمن ولد من الله، يجعل من المستحيل عليه ان يخطىء لأنه تكون على صورة الابن الوحيد الكلمة، فعلى نفس القياس كل من يخطىء يوجد فيه زرع الشيطان، واذا كان هذا الزرع الشرير في نفسه يتعذر على مثل هذه النفس أن تتقدم الى ما هو افضل. ولكن من أجل هذا الغرض بالذات ظهر ابن الله لكي يقضى على أعمال الشيطان، لذلك صار من الممكن عن طريق حلول كلمة الله في أرواحنا أن يقضى ويسحق أعمال الشيطان، وان ينزع الزرع الشرير المغروس فينا لنصبح أولادا لله.

لهذا لا ينبغي لنا أن نظن من واجبنا أن نتعلم ترديد كلمات الصلاة في الوقت المعين لها فقط بل يجب أن نفهم ما نقوله في الصلاة بلا انقطاع، حتى تصبح حياتنا صلاة دائمة لا تنقطع فيها نردد قولنا : ابانا الذي في السموات حذار أن نجعل لنا وطنا على الأرض بل يجب أن نسعى جاهدين ان يكون وطننا في السموات عرش الله ، لأن مملكة الله قد تأسست على كل من يحمل صورة السماوي ، وهكذا أصبح هو نفسه سمائيا.

الذي في السموات

من الخطأ البين أن تظن ان الآب محدود بكيان جسدي او ان له اقامة في السماء حين نقول أن أبا القديسين هو في السماء؛ لأنه لو قلنا بمثل هذا الرأي لكان معنى ذلك أن الله أقل من السموات ما دامت هذه السموات تحتويه. ولكن الأحرى بنا أن نؤمن بأن الله في سلطانه الإلهي الذي لا يحده تعبير لغوى ـ يشمل كل الأشياء، ويحيط بها ويحفظها.

وعلى وجه العموم، هناك الكثير من النصوص التي اذا اخذناها بمعناها الحرفي يتبادر الى اذهاننا ذلك المفهوم الخاطيء عن الله باعتبار أن له مكانا ما أو حيزا محدودا. ولكن الواجب يقضى على القارىء أن يدرك الاتجاه السليم في معاني هذه النصوص لأنها تشير الى مفاهيم روحية عميقة عن الله. ومن أمثال هذه النصوص ما جاء في انجيل معلمنا يوحنا: اما يسوع قبل عيد الفصح وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم الى الآب، اذ كان قد احب خاصته الذين في العالم أحبهم الى المنتهى. ثم يستطرد بعد هذا بقليل قائلا: يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء الى يديه، وأنه من عند الله خرج والى الله يمضى ثم يقول بعد ذلك: سمعتم اني قلت لكم انا اذهب ثم أتى اليكم. لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون بالحق لأني أمضى الى الآب وبعد ذلك يقول: واما الآن فأنا ماض الى الذي ارسلني وليس أحد منكم يسالنی این تمضی فلو أخذنا هذه النصوص بمعناها الحرف الضيق فلا بد لنا بالتالي أن نلتزم بنفس المنهج حين نقرا: أجاب يسوع وقال لهم ان أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي واليه نأتي ومعه نقيم ( وعنده نصنع منزلا).

هذه الكلمات التي تصف مجيء الآب والابن الى من يحب كلمة المسيح لا شك أنها لا تعنى الحضور في مكان معين ولا ينبغي أن نفهمها على هذا النحو. ففي نزول كلمة الله لكي يسكن معنا ، يليق بنا أن نتأمل مجده وهو يضع نفسه بالحياة بين البشر فاذا قيل ان الكلمة يعبر خارجا من هذا العالم الى الآب فلا بد أن ندرك ان الرب هناك في ملئه وكماله بعد عودته من تخليته اذ أخلى نفسه بيننا وعاد الى ملئه الذاتي ومن جهتنا نحن ، اذا ما تبعناه واتخذناه دليلا ومرشدا فاننا كذلك سوف نحصل على الامتلاء ، ونخلص من كل ما فينا من الفراغ . اذا فليذهب كلمة الله الى ذاك الذي أرسله وليمضى خارجا من العالم ويذهب الى الآب وهكذا نقرا في نهاية انجيل القديس يوحنا هذه الكلمات : لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد الى ابي فهنا أيضا علينا ان نستوعب المغزى الروحي من هذه الألفاظ حتى نفهم صعود الابن الى الآب بالطريقة التي تليق بالله وذلك عندما نتأمل في خشوع فنرى في هذا الصعود ارتفاع العقل قبل أن يكون صعودا بالجسد.

كان لا بد لنا أن نتناول هذه النقاط بالبحث عند دراسة هذا النص: ابانا الذي في السموات، وذلك حتى يمكن الفصل في تلك المعاني المهينة عندما يتصور الناس أن الله في السماء بمعنى أن له مكانا بالذات . ولكي يتضح لنا مدى الخطأ في مثل هذا المعنى، ينبغي أن نتبين أن القول بأن الله له مكان معين يرادف القول بأن الله له جسد وهذا يترتب عليه اسوا النتائج وأوخمها وابعدها عن الإيمان، لأن هذا يعني انه كائن مادی قابل للانقسام كما انه يجوز عليه الفناء لأن هذه هي الصفات التي تنطبق على كل جسد. فاذا كان هذا الاستدلال غير صحيح، واذا كان أصحاب هذا الرأي لا يخدعون أنفسهم وهم يدعون الالمام الكافي بالموضوع، فليدلني أحدهم كيف يمكن ـ في مثل هذه الحالة ـ أن تكون لله طبيعة أخرى تغاير الطبيعة المادية.

ولما كان الكثير من النصوص التي قيلت قبل مجيء المسيح في الجسد تبدو وكأنها تفيد أن الله له وجود محدود، فليس من قبيل الاستطراد اذا – فيما يبدو لى -أن نتناول بالدرس والبحث بعضا من هذه النصوص نزيل ما قد يعتري تفسيرها من لبس او ابهام خصوصا عند الذين يظنون. بسبب ضيق أفتهم ـ أن إله الكل يحده مكان محدود المعالم.

فقد جاء أولاً في سفر التكوين عن آدم وحواء انهما سمعا صوت الرب الاله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبأ آدم وزوجته من وجه الرب الاله في وسط شجر الجنة. واذا كان البعض يرفض الدخول الى كنوز الكتاب المقدس، بل ولا يحاولون حتى مجرد ان يقرعوا الباب حتى يدركوا أعماق الكلمة، فاني اسألهم : اذا كان الله يملأ السماء والأرض وهو فيما يقولون يتميز السماء ماديا عرشا له ، والأرض موطئا لقدميه فكيف يمكن أن يحتويه مكان يتضاءل من حيث الحجم اذا قورن بالسماء والأرض معا ، لأن الفردوس المادي الذي يتحدثون عنه لم يملأه الله تماما ، وليس ذلك فقط بل أن هذا الفردوس اكبر واعظم منه بحيث يحتوى الله وهو يمشى جائلا فيه ويمكن أن يسمع فيه وقع اقدامه ؟ ! وهذا يسوقنا الى حماقة أشد وأنكى لأن آدم وحواء كانا خائفين. الله بسبب عصيانهما له ثم يختبئان من وجه الله بين اشجار الجنة. ام يقل الكتاب أنهما ارادا الاختفاء على هذه الصورة، بل يجزم بأنهما اختيا بالفعل. ثم نأني الى تساؤل ثالث – يثيره هذا المفهوم المادي ـ كيف يتفق أو يجوز أن نقول ان الله أخذ يبحث عن آدم قائلا: اين انت؟

لقد سبق أن عالجنا هذه النقاط باستفاضة عندما كنا ندرس سـفر التكوين. ومع ذلك فلا يمكنا أن نعبر في صمت على هذه المشكلة العامة، الا انا سنكتفى باسترجاع الكلمات التي قالها الله في سفر التثنية: اني سأسكن فيهم وأسير بينهم ومن هنا يتبين المعنى أن الله كما يسير في وسط قديسيه هكذا يكون مسيره في الفردوس، والخطأة جميعا يختبئون امامه، ويتجنبون نظراته لأنهم فقدوا ثقتهم. وعلى هذا المنوال خرج قايين أيضا من وجه الرب وسكن في أرض نود في مقابل عدن وكما يسكن الله في قديسيه، هكذا يسكن في السماء سواء كانت هذه السماء تشير الى كل قديس يحمل صورة السماوى أو تشير الى المسيح المذخر فيه كل كواكب السماء وانوارها. وكذلك يمكنا أن نقول ايضا أنه يسكن في السماء خلال قديسيه الذين انتقلوا الى الكنيسة المنتصرة ولهذا قال المرنم: اليك رفعت عینی یا ساكن السماء.

والى جوار هذا نضع كلمات الجامعة: لا تتعجل فتنطق كلمة قدام وجه الرب، لأن الله في السماء من فوق وانت على الأرض من تحت لأن هذه الكلمات انما ترمي الى ابراز حقيقة الفارق الذي يفصل بين الساكنين في جسد الضعة وبين الذي يعيش مع الملائكة ـ بفضل معونة الكلمة- ومع القوات المقدسة ومع المسيح نفسه. اذا فليس من الغريب أن يطلق لفظ السماء رمزيا على المسيح، ويصبح بذلك هو عرش الآب وتسمى كنيسته الأرض التي صارت موطئا لقدميه .

ارجو بعد هذا العرض السريع لبعض فقرات العهد القديم التي قد توحى بمكانية الله أو محدوديته، إن احث القاري بكل الوسائل الممكنة على فهم الكتاب المقدس وتفسير معانيه على اساس روحی سام خصوصا وهو يقرا مثل هذه النصوص التي تنسب إلى الله أوصافا أو أعمالا مادية محدودة.

كان من الضروري أن نتعرض لهذه النقطة ونحن نتدارس هذه الكلمات « أبانا الذي في السموات ، حتى يزول كل غموض يحيط بجوهر الله ، ونرتفع به عن مستوى مادة الأشياء المخلوقة ، بل ولا توجد شركة بين الله وبينها حتى وان وهبها الله مجدا وقوة من لدنه . وأقصى ما يمكننا أن نقوله عنها أنها أعطيت قبسا من الوهيته.

 

الفصل الثالث
 ليتقدس اسمك

ليتقدس اسمك

عندما نصلى هذه الطلبة، هل يعني هذا أن ما نطلبه لم يحدث بعد، واننا نصلى لكي يحدث؟ وان كان قد حدث بالفعل ، فهل يستفاد من هذه الطلبة ، أن هذا لم يستمر ، فنطلب من اجل دوامه ؟ نحن مطالبون بتقديم هذه الطلبة كما جاءت في انجيلي متى ولوقا : ليتقدس اسمك  ورب معترض يقول : وكيف يكون هذا أن أنسانا أيا كان ، يصلى من أجل تقديس اسم الله وكأنه ليس مقدسا ؟ ! .. هذا كله يحتم علينا أن نتفهم المقصود « اسم » الآب و « تقديسه ».

أما الاسم فهو التعبير الذي يحمل شخصية المسمى ويبرزها، ولدينا مثالا لذلك اسم بولس الرسول ودلالته على شخصيته الفردية . فهو ـ من ناحية کائن روحاني وبالتالي من نوع خاص متميز ، ومن ناحية أخرى فهو كائن عاقل مما يستلزم أنه ـ بالضرورة ـ يتأمل ويتعقل أشياء معينة ومن ناحية ثالثة فهو جسد يتميز بهذه الصفة أو تلك هذه الشخصية التي بدل عليها الاسم بولس ذات متفردة أى تمتاز عن غيرها حيث أنه لا يوجد بين الأحياء من يشابه بولس تشابه المطابقة وبالتالي لا يعبر هذا الاسم الا عن هذه الشخصية وحدها.

ولكن هكذا تجرى الأمور بين الناس، فيطرا على الشخص شيء من التغير، وبالتالي فلا بأس أن تتغير أسماؤهم حتى تتوافق مع هذا التجديد كما نرى في الكتاب المقدس فقد تغيرت شخصية ابرام ودعاه الله ابراهيم، وسمعان أطلق عليه الرب اسم بطرس وعندما تغيرت شخصية شاول القاسي الذي كان يطارد الرب يسوع سمى بولس أما فيما يختص بالله، وهو هو دائما، لا يتغير ولا يتحول ويظـل بلا تغيير الى الأبد ، فليس له سوى اسم واحد باق الى الأبد . هو الكائن أي يهوه كما يعلمنا ذلك سفر الخروج أو في أي تسمية أخرى جاءت بعد ذلك لا نجد سوى هذا المعنى. ورغم كثرة ما نقوله عن الله، وتعدد الآراء عنه. ورغم أننا جميعا نعرف شيئا ما ـ قل أو كثر- عن الله.  الا أننا لا نعرف ماهيته معرفة كاملة. بل لست أبالغ اذا قلت أننا لا نعرف سوى القليل أو أقل من القليل. والقلة النادرة من الناس هي التي تستطيع أن تستشف وتدرك قدسيته في كل المخلوقات.

فمن الحق اذا ، أن نتعلم الصلاة حتى يتقدس ادراكنا لله ومعرفتنا له . ومفهومنا عنه. وبالتالي ننال الاستنارة حتى نتبين قدسيته في خليقته ومعونته. وندرك حكمته في اختياره لهذا أو رفضه لذاك. حكمته في القبول وفي الرفض. في المكافأة أو العقاب الذي يوقعه على كل واحد حسب صفاته وخصائصه.

في كل هذه الأعمال على تباينها واختلافها ـ يمكنا أن نستشف ذلك الطابع الذي تتميز به شخصية الله القدوس ، والتي يشير اليهـا الكتاب المقدس فيما ارى بالتعبير « اسم الله » ففي سفر الخروج مثلا يقول : لا تنطق ( تتخذ ) باسم الرب الهك باطلا وفي سفر التثنية يقول : فلينتظر كل حي صوتي كما ينتظر المطر ، ويقطر كالندی کلامی ، کالطل على الكلأ وكالوابل على العشب لأني سأدعو باسم الرب وفي المزامير : يذكرون أسمك طول الأجيال  فكل من يدخر في ذهنه أفكارا لا تليق بقدسية الله انما يتخذ أسم الرب الاله باطلا ، أما من يستخدم اسمه وصوته كالمطر الذي يعين نفوس السامعين على النضوج والاثمار ، ويستخدم كلامه الذي ينسكب كالندي فيعزى القلوب ، وينهمر من فمه وابل من الكلمات الفعالة لتعليم وبنيان السامعين فانه يحقق كل هذه الغايات ويتهمها بفضل هذا الاسم والخادم الذي يتحقق من حاجته الى الله لكي يصل الى هذه الأهداف ، يدعوه إلى معونته وبالتالي فان الله ـ فعلا يعطى القوة والفعالية في هذه الخدمة كما وصفناها وعندما نوضح الأمور المختصة بالله ، فلعلنا نسترجع ونعيد الى الذاكرة تلك الأمور الروحية العليا ، أكثر من قيامنا بدراستها وتعلمها حتى ولو تراءى لنا اننا نسمعها من شخص آخر أو بدا لنا اننا نكتشف أسرار العبادة.

  ولما كان المصلى ينبغي له أن يدرك هذه الاعتبارات حتى يطلب بفهم وادراك ـ أن يتقدس اسم الله، لهذا نقرا في المزامير: فلنسبح اسمه معا. هنا يدعونا النبي أن نسرع في توافق كامل بعقل واحد وفكر واحد لنقترب من المعرفة العظمي الحقيقية لشخص ربنا والهنا. فالمرء يسبح اسم الله « معا » عندما يشترك في الفيض الالهي بمساندة الله فيتغلب على اعدائه الذين لا . يسعهم الا أن يسروا بسقوطه ويشمتوا فيه . وهو يسبح أيضا قوة الله عينها التي يأخذ نصيبه منها. وتتضح لنا هذه الحقيقة من المزمور التاسع والعشرين اذ يقول: اعظمك يارب لأنك انتشلتني ولم تشمت اعدائی. فاذا قرأنا عنوان المزمور «اغنيته عند تدشين بيت داود» ندرك اننا نعظم الله عندما نخصص ونكرس للرب بيتا ومسكنا في داخلنا.

وما دمنا بصدد الحديث عن هذه الكلمات « ليتقدس اسمك » وغيرها من العبارات التي توضع في صيغة الأمر ، فلا بد لنا هنا أن نشير الى أن المترجمين قد جرت عادتهم أن يستخدموا صيغة الأمر بدلا من صيغة التمني فمثلا نقرا في المزمور : لتبكم الشفاه الغاشة التي تتكلم بالشر على الصديق بدلا من القول : ليتهم يبكمون . وفي المزمور 108 يشير الى يهوذا بقوله : ليصطد المرابي كل ماله ، ولا يكن له باسط رحمه فالمزمور كله عبارة عن صلاة أو دعاء على يهوذا ان تحل به هذه الويلات التي يعددها المزمور.

الا ان تاتيان لم يدرك أن الصيغة « ليكن » لها قوة الأمر وأنها لا تعنى التمني في كل الأحوال . وهذا أدى به الى أوخم النتائج عند تفسير قول الكتاب: ليكن نور ففسرها على أن الله رغب وتمنى . ولم يدرك انه امر الله للنور أن يكون ويوجد. وفي هذا رأى ثانيان بلا تقوی-  أن الله كان في ظلمة. وهنا لكي ارد على هذا المنهج أسال: كيف يفسر وكيف يفهم النصوص القائلة : لتنبت الأرض عشبا ، ولتجتمع المياه تحت السماء الى مكان واحد ، لتفض المياه زحافات ذات نفس حية ، لتخرج الأرض ذوات أنفس حية ألأن الله أراد أن يجد ارضا صلبة يقف عليها ، تمنى أن تجتمع المياه التي تحت السماء الى مكان واحد ؟ ام لعله أراد أن ينال من ثمار الأرض التي دعا الأرض أن تنبتها ؟ وعلى قياس نظريته في تفسير الدور ، هل كانت لله حاجة الى حيوانات البحر والأرض والهواء حتى أنه دعا من أجلها واستدعاها ؟ ومع ذلك يقول ثاثيان أيضا أن من الحماقة أن نظن أن الله يترجى هذه الأشياء ويدعوها نخلص من هذا اذا ـ بصفة خاصة ـ ان الله يستخدم صيغة الأمر وبالتالي نستطيع أن ندرك أن « ليكن نور » عبارة تفيد الأمر وليس التمني.

ولما كانت الصلاة قد وصفت هذه الطلبة « ليتقدس اسمك » في صيغة الأمر ، كان من الضروري أن أشير الى انحراف ثاثيان في التفسير لأن كثيرين قد انخدعوا بأقواله ، واقتفوا أثره في تعاليمه الزائفة . وقد كانت لنا خبرة ليست بقليلة مع مثل هؤلاء الناس.

 

الفصل الرابع

ليأت ملكوتك

ليات ملكوتك:

ان ملكوت الله طبقا لكلمات الهنا ومخلصنا ـ لا يأتى بمراقبة ولا ينبغي البشر أن يقولوا هاهو هنا أو هناك لأن ملكوت الله في داخلنا » « لأن الكلمة قريبة منا في فمنا وفي قلبنا » . من هذا يتضح أن من يصلي لكي يأتي ملكوت الله ، انما يصلى بحق لكي يقام في داخله ملكوت الله  ويكمل ويأتي بالثمار المطلوبة . فكل قديس يخضع لسلطان الله كملك . ويخضع لقوانين هذا الملكوت الروحية . وبذلك يحل فيه الله وكأنه يسكن في مدينة منظمة . والاب لا يغيب عن هذا الملكوت ، وليس بعيدا عن الملك المسيح بل هو حاضر معه ويملك المسيح مع الاب في هذه النفس التي تكمل طاعتها طبقا لكلمات الرب التي سبق أن ذكرناها منذ قليل : اليه نأتي وعنده نصنع منرلا .

ولهذا أعتقد أن المقصود بملكوت الله هو سيادة العقل والمشورة الصالحة، كما يقصد بملكوت المسيح كلمات النعمة القادرة ان تخلص السامعين وأعمال البر والفضائل الأخرى التي يمارسها الصديقون . لأن این الله الكلمة والبر والحق. ومن الناحية العكسية، فان الخاطيء يخضع تحت نير عبودية رئيس هذا العالم لأن الخاطيء عدد لهذا العالم الحاضر الشرير ما لم يقدم ذاته لذلك الذي بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا من هذا العالم الحاضر الشرير ويخلصنا حسب ارادة الله وابينا كما يعلمنا بولس الرسول في رسالته الى أهل غلاطيـة والشخص الخاضع لعبودية رئيس هذا العالم ، يقع أيضا تحت سلطان الخطية لأنه يخطىء بارادته ، ولهذا يوصينا معلمنا بولس الا نخضع للخطية التي قد تسودنا فيقول لنا : لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته .

وبالنسبة لهاتين الطلبتين ليتقدس اسمك . ليأت ملكوتك . قد يقول قائل : اذا كان الانسان يصلى لكي تستجاب صلاته كما يحدث ذلك بالفعل في بعض الأحيان ، فلا بد أن هناك من الناس من تجـاب صلاته فيتقدس من اجله اسم الله ويأتي من أجله ملكوته ثم يستطرد هذا المجادل قوله فاذا تحققت هذه الطلبات لأجله فكيف يسوغ له بعد ذلك ان يواصل صلاته عما تم وأنجز فعلا ، ويطلب هذه الطلبات وكان هذه الأمور لم تكن أو لم تتحقق بالفعل ؟ أما يجب عليه في هذه الحال أن يتوقف عن الصلاة ويمتنع عن طلبه « ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك » .

وردا على هذا الاعتراض نقول أن المصلى من أجل كلمة المعرفة وكلمة الحكمة، لا بد له أن يداوم على الصلاة من أجلهما بجدارة، لأنه بالاستجابة سينال على الدوام رؤية أعظم وادراكا أعمق للمعرفة والحكمة. ومهما وصل في درجات المعرفة والحكمة يعلم أن ما بلغه من هذا العلم انما هو معرفة جزئية فقط وان هذا هو ما يمكن أن يناله في الوقت الحاضر، أما الأمور الكاملة التي نستغنى بها عما هو جزئي فلا تنكشف لنا الا عندما يتأمل العقل الأمور الروحية وجها لوجه الكل دون الاستعانة بشيء من الحواس. ولهذا فالوصول الى الكمال في تقديسنا لاسم الله وفي مجىء ملكوته ليس من الأمور الممكنة ما لم نبلغ كمال المعرفة والحكمة وربما بقية الفضائل أيضا. ولأجل ذلك نجاهد ونسعى نحو الكمال وعندما ننسى ما هو وراء ونمتد الى ما هو قدام  يثبت ملكوت الله فينا تماما. عندما نواصل الجهاد ونتقدم في القامة تتحقق فينا كلمة الرسول عن المسيح عندما يخضع له جميع الأعداء يسلم الملك لله الآب حتى يكون الله في الكل. ولهذا نصلى بلا انقطاع بقلوب تقدست بكلمة الله ونطلب الى أبينا الذي في السموات : ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك .

وأكثر من هذا فيما يختص بملكوت الله . فلا بد ان نأخذ في اعتبارنا امرا هاما . فكما أنه لا توجد شركة بين البر والاثم ولا رفقة بين النور والظلمة ، ولا اتفاق بين المسيح وبليعال ، فكذلك أيضا لا يمكن أن تقوم مصالحة بين مملكة الخطية ومملكة الله . واذا كنا نريد ان نخضع تحت سلطان الله ، فلا يجب أن تملك الخطية في جسدنا المائت ولا يجب أن ننساق وراء حوافز الشر والخطية حين تدعو أرواحنا الى أعمال الجسد  وغيرها من الأفعال التي لا نصيب لله فيها ، ولكن علينا بالحرى أن نمیت اعضاءنا التي على الأرض لكي نأتي بثمر الروح حتى يمشي الله فينا كما في فردوس روحی  ويسود ملكا علينا مع مسيحه الذي يجلس فينا عن يمين القوة الروحية التي نصلی من أجل الحصول عليها . واذ يملك الرب علينا يجعل جميع اعدائه فينا موطنا لقدميه  ويقضى على كل رياسة وكل سلطان وكل تـوة في داخلنا .

كل هذا يمكن ان يحدث لكل منا ويستمر فينا هذا الصراع الى أن يبطل العدو الأخير أى الموت ويقول المسيح فينا : أين شوكتك يا موت، اين غلتك يا هاوية وبهذا يليس جسدنا الفاسد قداسة لأن الرب الذي بلا خطية قد ألبسه عفة ونقاوة . وهذا المائت ـ اذ يغلب الموت . فلا بد أن يلبس خلود الآب وهكذا يملك الله فينا فنتمتع ببركات التجديد والقيامة.

 

الفصل الخامس

لتكن مشيئتك

كما في السماء كذلك على الأرض.

لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض.

هذه الطلبة غير موجودة في انجيل معلمنا لوقا بعد عبارة « ليـات ملكونك ، بل أعقبها مباشرة بقوله « اعطنا اليوم خبزنا الجوهري جدا » الا أن هذا لا يمنع من أن نتأمل مليا في هذه الكلمات التي وردت في انجيل معلمنا متی فقط. وهذا هو موضعها بالترتيب الذي جاء في الصلاة الربانية.

وما دمنا نحيا على هذه الأرض ، فنحن نعلم أن مشيئته تتم في السماء بواسطة القوات السمائية ، ولذلك فنحن نصلي هذه الطلبـة حتى تتم مشيئة الله على الأرض كذلك بواسطتنا . وتتحقق هذه الصلاة حين لا نأتي من الأفعال ما يتعارض مع مشيئة الآب ، وعندما نتمم على الأرض ارادة الله كما تتم في السماء . ويترتب على هذا أن من الضروري لنا أن نشابه السمانيين ويتم ذلك على قدر ما نحمل نحن ـ كما يحملون ايضا – هم صورة الآب السماوي حتى نرث ملكوت السموات فتأتى الأجيال التي تعقبنا وتصلى هذه الطلبـة عينها لكي يكونوا على شاكلتنا عندما نصير نحن في السماء.

ولكن عبارة « كما في السماء كذلك على الأرض » يمكنا أن نضمها ايضا الى بقية الطلبات . غنطلب في صلواتنا على هذا المنوال : ليتقدس اسمك كما في السماء كذلك على الأرض ، ليأت ملكوتك كما في السماء كذلك على الأرض . لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. فاسم الله يقدسه السمائيون ويمجدونه ، كما ان ملكوت الله قد أتى اليهم وكملت مشيئة الآب فيهم وكل هذه الأمور تعوزنا على الأرض ، ولو أننا في امكاننا أن تبلغها اذا أظهرنا ما يجعلنا جديرين بها وما يجعلنا مستحقين أن يستجيب لنا الله في كل هذه الأمور.

وعندما نتأمل هذه الطلبة : لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ، قد يسألني سائل فيقول : وكيف تتم مشيئة الله في السماء حيث توجد أرواح الشر الذين يجوز سیف الله فيهم .. حتى في السماء ؟ فاذا كنا نصلى اذا ان تتم مشيئة الله على الأرض كما في السماء ، السنا بذلك نصلي ضمنا ان تبقى على الارض تلك الأرواح المعادية التي تأتي اليها من السماء لكي تقاوم عمل الرب ؟ وهناك كثيرون على الأرض ينقلبون الى الشر اذا انقلبوا من أرواح الشر التي تقيم في أماكن سمائية !

وهنا . لا بد لنا أن ندرك معنى كلمة السماء وهذه الكلمة تشير رمزيا الى شخص المسيح ، كما أن كلمة الأرض تشير الى الكنيسة لا يوجد من يستحق أن يكون عرشا للآب مثل المسيح ، ولا يمكن ان يكون هناك أرض مقدسة مثل الكنيسة تصلح أن تكون موطئا لقدمي الله وبهذا التفسير يمكنا أن نصل الى حل العديد من المشكلات فتحن نقول ان على كل عضو في الكنيسة أن يصلي من أجل تحقيق مشيئة الآب ، كما فعل الابن القدوس الذي جاء لكي يصنع مشيئة الآب وحقتها بالتمام والكمال وعندما نلتصق نحن بالمسيح ونثبت فيه نصبح روحا واحدا معه وبالتالي ننجز مشيئة الله حتى تتم على الأرض كما تتم في السماء . ويؤكد لنا معلمنا بولس هذه الحقيقة وهو يقول ان كل من يلتصق بالله هو روح واحد معه اعتقد أن هذا التفسير – اذا تأملناه بعناية – ليس من السهل أن نغض الطرف عنه أو نضعه جانبا. 

علی ای حال ، قد يرفض البعض هذا المعنى . وهؤلاء لا بد أن نحيلهم الى كلمات مخلصنا له المجد كما جاءت في نهاية انجيل معلمنا منى . فبعد قيامة الرب من بين الأموات . أعلن للرسل الاثني عشر : دفع الى كل سلطان في السماء وعلى الأرض وحيث أن له السلطان على كل الذين في السماء فهو يقول هنا أنه أخذ كذلك السلطان على كل من في الأرض ويجب ألا يغيب عنا أن الذين في السماء هم الذين استناروا أولا بالكلمة وفى نهاية العالم سوف يحاكيهم المؤمنون الساكنون على الأرض وذلك بالسلطان المعطى لابن الله ، فينتقلون الى مرتبة السمائيين لأنهم يكملون في السماء ويخضعون لسلطان المخلص كما يخضع السمائيون أيضا. وكأن الرب ـ اذ يعلم تلاميذه هذه الصلاة ـ انما يجعلهم عمالا معه شركاء في خدمته لأجل الآب ، حتى اذا ما خضع السمائيون للحق والكلمة هكذا يسلك الأرضيون على نفس المنوال فيستقيمون ويطيعون الحق بسلطان الابن الكائن في السماء وعلى الأرض ، وبواسطة الابن ايضا يأتي هؤلاء الى النهاية السعيدة التي أعدها لكل الذين تحت سلطانه.

وهذا التفسير لا يتناقض في الواقع مع التفسير السابق الذي يقول أن السماء تعنى المخلص الصالح وأن الأرض هي كنيسته . فاذا قلنا أن بكر كل خليقة الذي يستريح عليه الآب كعرش هو نفسه السماء . فلا شك أيضا أننا نلاحظ أن الانسان الذي أخذه في اتحاد كامل مع ذلك السلطان قد وضع به ذاته وأطاع حتى الموت قال في وحدانية طبيعته : قد دفع لي كل سلطان في السماء وعلى الأرض . فالانسان الكائن في شخص الرب قد أخذ سلطانا على الذين في السماء باعتبارهم اعضاء في الابن الوحيد حتى بعد ما شاركهم في الجسد يوحدهم مع لاهوته ويجعلهم واحدا معه.

ومع ذلك فأمام هذا التفسير ما زالت توجد بعض المشاكل لم تجد لها حلا فكيف تتم مشيئة الله في السماء بينما نجد أجناد الشر الروحية في السماويات . تدخل في صراع دائم مع سكان هذه الأرض ؟ ولكن هذا التساؤل قد نجد له الحل المناسب ، اذا لاحظنا الآتى :

+ أن الأمر لا يتوقف على الحيز أو المكان الذي يسكن فيه الإنسان بقدر ما يتوقف على اتجاهات قلبه وميوله ، حتى ان الانسان وهو ما زال على الأرض جسديا يستطيع ان يكون مواطنا في السماء ويستطيع أن يكنز كنوزه هناك. وما دام قلبه في السماء ويحمل صورة السماوي فهو لم يعد بعد ارضيا من الأرض ولا من العالم السفلى بل صار من. السماء ومن العالم السمائي الذي يفضل هذا العالم بما لا يقدر أو يقاس والعكس كذلك صحيح، فأجناد الشر الروحية حتى ولو كانت تقيم في السماويات الا أن موطنها الحقيقي هو الأرض . وهؤلاء يتآمرون على المؤمنين ويصارعونهم ، ولا يعنيهم أن يكنزوا كنوزهم الا على الأرض يحملون صورة الترابي الذي وان كان أول أعمال الله الا أنه صار هزء الملائكة. اذا فهم ليسوا من السماء ، وليس لهم وطن في السماوات بسبب ميولهم الشريرة.

لذلك ، اذا ما صلينا : لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض، فلا يجب ان نظن أو نفكر في أجناد الشر الروحية في السماويات بل يجب ان نتذكر ان هؤلاء بسبب غرورهم قد سقطوا من رتبتهم مع ذاك الذي سقط من السماء كالبرق.

+ وعندما يقول المخلص أن من واجبنا أن نصلي من أجل مشيئة الآب في السماء حتى تكون كذلك على الأرض فهو لا يوصينا على الاطلاق . ان نطلب من أجل السمائيين حتى يشاكلوا الأرضيين ، بل بالحرى يريد في هذه الصلاة عكس ذلك تماما ، أنه يطلب كل الكائنات على الأرض ، أي الأنواع الدنيا وكل الذين يتشبهون بالترابي أن يجاهدوا لكي يشابهوا ويشاكلوا من هم أفضل وأرقى ، أي الذين وطنهم في السماء وصاروا هم أنفسهم سمائيين . لأن الخاطيء اينما كان هو أرض وتراب واذا لم يندم ويتوب ، فلا بد أن يجتاز بطريقة ما ـ الى المكان الذي يتلاءم معه ويتجانس . أما من يعمل مشيئة الله ولا يخالف قوانينه الروحية التي تحكم للخلاص فهذا هو السماء و انسان السماء.

فان كنا ما زلنا ترابا بسبب الخطية فعلينا أن نصلى حتى تشملنا مشيئة الله من اجل اصلاحنا وتقويمنا كما فعلت بالذين سبقونا وصاروا سماويين . واذا كنا في عمل نعمة الله ـ لا تعتبر ترابا بل سماء بالحق فلنطلب اذا – أن تكمل مشيئته على الأرض كلها ، وبعبارة أخرى ، أن تتم مشيئة الله بين الأنواع الدنيا على الأرض كما تحققت في السماء حتى تصير الأرض سماء ويأتي اليوم الذي لا تكون فيه هناك أرض بعد بل يصير الكل سماء . اي انه عندما تتم مشيئة الله كما في السماء كذلك تتم على الأرض فلن تكون الأرض بعد ذلك ارضا.

وزيادة في الايضاح أقول : اذا عملت نعمة الله في الخطاة والمنحرفين كما تعمل في الأبرار والقديسين فسوف يصير الأشرار ابرارا ويتحول الخطاة الى قديسين. وعلى نفس القياس، اذا تمت مشيئة الله كما في السماء كذلك على الأرض فسوف نتحول جميعا الى سماء. الجسد لا يفيد شيئا. والدم الذي يرتبط بالجسد لا يمكن أن يرث ملكوت الله أما اذا تغيرنا عن الجسد والتراب وتحولنا عن الأرض والدم لكي نصير جوهرا سمائيا ، حينئذ يليق بنا القول اننا سنرث السماء.

 

خبزنا الجوهري جداً

خبزنا الجوهري أعطنا اليـوم ، أو كما يقول معلمنا لوقا ، خبزنا الجوهري أعطنا كل يوم .

وقد تصور البعض ـ في هذه العبارة ـ أننا مطالبون بالصلاة من أجل المـادي أو الطعام . ولهذا يحسن بنا في هذا المجال أن تدحض هذا الرأي. الخاطيء ، وأن نبرز وجه الحقيقة فيما يختص بالخبز الجوهري . ويكفيني في هذه العجالة أن أسأل أصحاب هذا الرأي : كيف يوصينا الرب ان نطلب من أجل الخيرات السمائية والعظمى ، ثم يعلمنا في هذه الصلاة أن نلتمس من الآب أن يعطينا الأمور الصغيرة الأرضية ، وكأنه بذلك قد نسي ما سبق أن علمنا اياه ؟ لأن الخبز الذي يعطيه لنا من أجل حاجات الجسد لا هو من الأمور السمائية ، ولا يعد من المطالب الكبرى .

الخبز الحقيقي

أما من جهتي فسوف أتناول هذا الموضوع بشيء من الإفاضة والتفصيل. مقتفيا أثر السيد نفسه وهو يعلمنا عن الخبز . ففي انجيل معلمنا يوحنا يوجه الرب خطابه الى الجماهير التي اتت اليه من كفر ناحوم بحثا عنه : الحق الحق اقول لكم أنتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم بل لأنكم أكلتم من الخبز. فشبعتم اذا فكل من أكل من الخبز الذي باركه يسوع وشبع منه ، حاول ان يدرك ابن الله أكثر من ذي قبل ، وأن يسرع اليه ، ولهذا كانت وصبة الرب التي تدعو الى الاعجاب : اعملوا لا الطعام البائد بل للطعام البـاقي للحياة الأبدية الذي يعطيكم ابن الانسان، والذين كانوا يسمعون هذا الحديث ، عندما سألوه قائلين : ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله ؟ اجاب يسوع وقال لهم : هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو ارسله والآن هوذا الرب قد أرسل كلمته وشفاهم ، أي المرضى كما جاء في المزامير فالذين يؤمنون بالكلمة يفعلون أعمال الله لأنه هو الخبز الباقي الذي للحياة الأبدية . ويقول ايضا : وابي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء لأن خبر الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم. هذا الخبز الحقيقي هو الغذاء الكامل للانسان الأمين المخلوق على صورة الله. وبفضل هذا الخبز الذي يتغذى به يصير الى صورة الله الذي خلقه . وهل هنـاك ما يفوق الكلمة غذاء الروح لا لا يوجد ما يفوق حكمة الله قيمة العقـل الذي يدركها وليس هناك ما هو أجدر من الحق تجاوبا مع الطبيعة العقلية.

ولرب معترض يقول : اذا كان المسيح يوصينا أن نطلب الخبز الجوهري جدا ، فلماذا ترك الفرصة سانحة لنا ان نفهمه على أنه نوع آخر من الخبز ؟ ولا بد لنا أن نلاحظ في حديث الرب في انجيل القديس يوحنا أنه يتكلم أحيانا عن الخبز باعتباره شيئا آخر غير المسيح نفسه ، بينما في آيات أخرى يصرح فيها بأن هذا الخبز هو ذات المسيح ولنأخذ مثالا للنوع الأول : موسی اعطاكم خبزا من السماء ، ليس الخبز الحقيقي ، بل ابي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء ولكن عندماطلب اليه البعض : اعطنا في كل حين هذا الخبز ، أجابهم مشيرا الى ذاته قائلا : أنا هـو خبز الحياة . من يقبل الى فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدا وبعد ذلك بقليل يقول : أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء ان أكل احد هذا الخبز يحيا الى الأبد. والخبز الذي انا اعطى هو جسدي الذي ابذله من اجل حياة العالم. 

والكتاب المقدس يشير دائما الى الطعام بكلمة « الخبز » كما يتضح مما كتب عن موسى أنه لم يأكل خبزا أو يشرب ماء طوال أربعين يوما. وغذاء الكلمة متعدد متنوع ومتفاوت لأنه لا يستطيع كل انسان ان يأكل الطعام القوى الصلب الذي يعطيه التعليم الالهي ولهـذا فقد اراد المخلص ان يعطى طعام الرياضيين لمن يتفوقون في الكمال ، فيقول : والخبز الذي انا اعطى هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم. وبعد ذلك يقول : ان لم تأكلوا جسد ابن الانسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم . من يأكل جسدي وبشرب دمى فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير. لأن جسدی ماکل حق ودمى مشرب حق. من يأكل جسدى ويشرب دمی بشت في وأنا فيه . كما ارسلني الاب الحي وأنا حي بالآب فمن يأكلني فهو يحيا بی. هذا ـ اذا ـ هو الطعام الحقيقي : جسد المسيح الذي وهو الله الكلمة صار جسدا حسب المكتوب « والكلمة صار جسدا » وعندما ناكله ونشربه يسكن في وسطنا ، وعندما يقسم ويوزع يتم المكتوب وراينا مجده. لأن هذا هو الخبز الذي نزل من السماء ، ليس كما أكل آباؤكم وماتوا . من يأكل هذا الخبز يحيا الى الأبد.

 ويتحدث معلمنا بولس أيضا عن الطعام مع أهل كورنثوس ، الذين كانوا ما زالوا اطفالا سالكين حسب الانسان فيقول : سقيتكم لنا لا طعاما لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون بل الآن أيضا لا تستطيعون لأنكم بعـد جسديون. وفي رسالته الى العبرانيين يقول : وصرتم محتاجين الى الذين لا الى طعام قوى لأن كل من يتناول اللبن هو عديم الخبرة في كلام البر لأنه طفل . وأما الطعام القوى غللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر وفي رايي ان قول الرسول : واحد يؤمن أن يأكل كل شيء ، ولكن الضعيف يأكل بقولا لا يقصد في الأصل طعام الجسد بل لعله يقصد كلمة الله التي تعطى غذاء الروح فالمؤمن الحقيقي الناضج يستطيع ان يأكل كل شيء كما يتضح من قوله ان واحدا يؤمن أن بأكل كل شيء . اما الضعيف والناقص فيقنع ويكتفي بالتعاليم السيطة التي لم تبلغ من القوة ما يملأه غيرة وحماسة ولعل معلمنا بولس كان يضع مثل هذا الانسان نصب عينيه وهو يقـول اما الضعيف فيأكل بقولا .

وما قاله سليمان في الأمثال ، اعتقد انه يعلمنا ان الانسان الذي بسبب بساطته ولكن دون افكار شريرة – لا يستطيع أن يستوعب المبادىء الهامة والتعاليم القوية انما يحتل وضعا أفضل ومكانة أرقى من انسان آخر يفوقه كفاءة وذكاء وادراكا الامور لا لشيء الا لأن الأخير لا يستطيع أن يستشعر الوحدة أو نعمة السلام في هذا الوجود . فهو يقول : آكلة من البقول حيث تكون المحبة ( والنعمة ) خير من ثور معلوف ومعه بغضة.

فالسخاء البسيط المقتصد ولكنه يقـدم بضمير صالح كثيرا ما يروق لنا ونستمتع به أكثر من الضيف الذي يحتفي بنا ولكنه لا يستطيع أن يقدم أكثر من هذا ؛ أحاديث جزلة ورصينة ولكنها تحاك ضد معرفة الله ، وتدار المناقشة باحكام واقناع لتوحي الينا بتعاليم غريبة تغاير وتتنافر مع ناموس أبي ربنا والهنا يسوع الذي اعطانا الناموس والأنبياء.

اذا فلكي لا تصاب ارواحنا بالعلل والأسقام بسبب افتقارها الى الطعام. ولكي لا نموت لله بسبب الجوع الى كلمة الله علينا أن نسأل الأب من اجل الخبز الحي الخبز الجوهرى جدا حتى نساك في الطاعة لتعاليم مخلصنا الصالح ، وحتى نحيا حياة أفضل في ايمان اعظم.

الجوهري جدا

‏Supersubstantial

‏والآن ننتقل الى دراسة المقصود من كلمة الجوهري جدا supersubstantial والأصل اليوناني لكلمة هو epiousios ای supersubstantial اى الجوهري جدا وهذا اللفظ ليس من الكلمات الشائعة عند اليونان . بل ولم يرد في كتابات الفلاسفة ولا يستخدم في اللغة الدارجة بين الناس ويبدو أن هذه الكلمة قد اضطر الانجيليون الى صياغتها خصيصا للتعبير عن المعنى الذي يقصدونه على الأقل يتفق القديسان متى ولوقا على استعمال هذا النص . وهذا ليس بالأمر المستحدث أو الغريب . فقد لحا مترجمة النصوص العبرية الى مثل هذا في ترجمة بعض العبارات الأخرى مثل enotizou و akoutistheti ای اصغ او اسمع في اذنك.

‏على أي حال . فهناك كلمة أخرى تشبه epiousios الى حد كبير وقد تشترك معها في الأصل اللغوى ، وقد وردت هذه الكلمة periousios في أسفار موسى اذ يقول الله اشعبه : وأنتم لي شعبا شعبا خاصا periousios. واعتقد ان اشتقاق الكلمتين يرجع الى الأصل ousia ای جوهر وعلى هذا تشير الكلمة الأولى الى الخرز متحدا بجوهرنا أو مادتنا ousia والثاني تشير الى الشعب ساكنا مع او ملتصقا بجوهر ousia الله أو مادته ومشتركا فيها.  

وكلمة ousia في معناها الدقيق لا تشير من قريب أو بعيد الى كيان مادی او جسدي . وقد استعملها على هذا المعنى الفلاسفة الذين يؤكدون أن جوهر الوجود أي الحقيقة الأولى لا بد وأن تكون غير مادية لأن هذه الحقيقة الأولى أو مبدأ الوجود او علته يتميز بوجود لا يقبل التغيير ولا يجوز عليه النقص أو الزيادة . فالتعرض الزيادة والنقص من خصائص الأشياء المادية التي قد تحتاج الى ما يدعمها ويغذيها بسبب ما يعتريها من تحول أو تغير . غاذا حصلت ـ في وقت ما ـ على أكثر مما تفقد فانها تزداد أما اذا حدث العكس فلا بد أن تنقص . وكذلك ايضا قد لا تتلقى المادة أية اضافة من الخارج وفي هذه الحالة نقول أنها في حالة تناقص بحث أو مجرد .

الا أن بعض المدارس الفلسفية تختلف مع هذا الرأي ، فترى أن الحقيقة غير المادية انما هي أمر ثانوي بالنسبة الوجود المادي . ولهذا يختلف عند هؤلاء تعريف كلمة Ousia فيقولون انه يقصد بها المادة الأولى للوجود التي تستمد منها جميع الموجودات وجودها ، انها مادة واصل الوجود المادي كله وبها تصبح هذه الأشياء المادية كائنة وموجودة . انها مادة جميع المسميات التي بها يصبح لها وجود أنها المبدا المطلق لكل الموجودات والسابق عليها . أنها المادة التي تقبل كل تحول وتغير ، وان كانت حيث جوهرها وكيانها المدرك لا تتغير ولا تتحول ، فهي المادة التي تبقى ونثبت خلال وعبر كل تغير وتحول . وطبقا لما تنادى به هذه الفلسفات فان ousia [1] تدل على جوهر غير محدود ليس له شكل أو حجم ولكنه عرضة لأن يتخذ أي شكل من الأشكال فيتحدد بصورة أو بأخرى وفي علوم المعاني واللغة يقصد بالتحديد determination تلك الأفعال والعمليات التي ترتبط فيها الحركات والميول بصفة عامة . وهم يعتقدون أيضا أن الجوهر ousia في مفهومه الصحيح من حيث هو جوهر لا يختلط بأي من هذه الأشياء أو يشترك في طبيعته ، ولكنه في نفس الوقت ـ بسبب سلبيته – لا يمكن فصله أبدا عن اى منها . بل يتقبل كل العمليات التي تؤديها أية قوة كيفما كانت حتى تتفاعل معه وتحوله عن شكله.  لأن القوة الكامنة التي تلازم الجوهر وتسيطر على كل الأشياء هي علة كل صورة أو تحديد كما أنها علة كل العمليات التي تتصل بهذا التحديد determination. ويقولون كذلك أن الجوهر ousia المادي قابل للتغير تماما كما انه يقبل التجزئة والتقسيم ، وان كل جوهر يمكن أن يندمج أو يتحد مع اي جو هر آخر لكي يصير واحدا معه . 

‏ كان لا بد لي أن استعرض المدلولات المختلفة لكلمة الجوهر ousia epiousios حتى تكتمل في أذهاننا ابعاد هذا التعبير الذي جاء في وصف الخبز الجوهري وفي وصف الشعب الخاص periousics . وقد بينا فيما سبق أن الخبز الذي يجب علينا أن نلتمسه هو الخبز الروحي لأن الجوهرى هنا تشير الى أصل وطبيعة هذا الخبر . فالخبز المادي يستخدم لأجل جسد الانسان الذي يأكله فيدخل في مادته وجوهره . كذلك الخبز الحي النازل السماء اذ يقدم طعاما للعقل والروح يعطى نصيبا من فعاليته وقوته الخاصة الطبيعية لكل من يأكل منه . هذا هو الخبز الجوهري جدا من الذي نصلي لأجله

وكما قلنا ـ من جهة الطعام ونوعه ـ أن هناك الطعام القوى الذي يناسب الرياضيين الأقوياء ، فهناك أيضا اللبن ونبات الأرض. وعلى نفس القياس نجد أن الذين يتناولون الطعام يتفاوتون قوة وضعفا ويترتب على ذلك ان كلمة الله قد تعطى الضعفاء بطريقة مناسبة كما يعطى اللبن للاطفال ، كما قد تعطى للمجاهدين والمصارعين كطعام دسم قوی ويستطيع الانسان أن يكون ضمن هذا الفريق أو ذاك بقدر ما يسلم نفسه لسلطان الكلمة قوتها . ولا بد لنا أن نتذكر أيضا أن ليس كل ما يسمى طعاما للبنيان . فقد يكون في حقيقة الأمر ضارا ، وبعضه قد يحمل الأمراض، والبعض الآخر قد يستحيل على المرء أن يتناوله كل هذا يجب أن نأخذه في الاعتبار ونحن ندرك ذلك الخلاف وذلك التضارب بين التعـاليم المختلفة التي قد يظن البعض أنها نافعة.

فالخبز الجوهري اذا هو ذلك الذي يوافق الطبيعة العاقلة ويتفق مع نفس مادتها ، ولذلك فهو يكسب الروح صحة ونضارة وقوة كما يمنح كل من يأكله شيئا من قوته الجوهرية أي خلوده الخاص لأن كلمة الله أزلى ابدی.

وهذا الخبز الجوهري – كما يبدو لي ـ يطلق عليه في اسم هو : شجرة الحياة فاذا مد انسان يده اليها واحد منها وكلت الى الأبد وقد أعطيت هذه الشجرة اسما آخر هو حكمة الله اللي قال عنها سليمان انها شجرة حياة لمن يمسك بها وامان لان بك عليها كما يتكل على الله . والملائكة تتغذى على حكمة الله فينالون قوة لانجاز الأعمال التي تناط بهم ، ويحصلون على هذا الغذاء بالتأمل في الحق والحكمة . إذلك يحدثنا سفر المزامير عن طعام الملائكة وعن أولاد الله اي العبرانيين الذين يشاركون الملائكة طعامهم ويصيرون رفاق هذه المائدة السامية ولهذا قيل اكل الانسان خرز الملائكة. وبطبيعة الحـال لا يمكن أن يتهافت بنا الذهن حتى نظن أن الملائكة قد اشتركوا اطلاقا في مائدة مادية أو أكلوا طعاما من أي نوع حتى ولو كان ذلك الطعام الذي قيل عنه أنه نزل من السماء على الذين خرجوا من ارض مصر كما لا يمكنا أن نظن أن ذلك الطعام هو نفس الخبز الذي شارك العبرانيون فيه الملائكة . مع انها الأرواح المقدسة لخدمة الله.

من وما دمنا بصدد المعاني التي تدل عليها هذه العبارات : الخبز الجوهري وشجرة الحياة وحكمة الله والطعام الذي اشترك فيه الملائكة والناس فيمكنا ان نستكمل هذه الدراسة اذا وضعنا على بساط البحث تلك القصة التي رواها لنا سفر التكوين عن الرجال الثلاث الذين استضافهم ابراهيم واكلوا الثلاث كبلات من الدقيق السمين التي عجنت وصنعت كمـا وخبزت على النار. هل كانت هذه الحكاية قصة رمزية أم حقيقة واقعة ؟ فالقديسون يستطيعون أحيانا أن يشاركوا في الطعام الروحي والعقلي لا مع البشر وحدهم بل مع القوات السمائية كذلك . والملائكة تصنع هذا احيانا من باب المعونة والمساعدة والتشجيع ، واحيانا أخرى لكي يبينوا ويكشفوا عن الطعام الممتاز الذي أمكنهم أن يعدوه لأجل هؤلاء القديسين . والملائكة يملأهم السرور والفرح بل وتتغذى بمثل هذا التعاطف والتجاوب وتصبح اكثر استعدادا للتعاون بكل وسيلة وبالتالي تقدم جهودها حتى تتيح فهما أعمق وأدراكا أوسع لكل الذين يستهويهم التناول من الشرائع النافعة المغذية التي كانت طعاما للملائكة قبل ان يشترك معهم الأرضيون . ولا عجب كذلك اذا قلنا ان الانسان بدوره يستطيع ان يقدم غذاء للملائكة والمسيح نفسه يعلن بأنه واقف على الباب ويقرع حتى يدخل عند من يفتح له ويتعشى معه، وهكذا يعطى من ذات نفسه للانسان الذي سبق ان فتح لابن الله واطعمه على قدر طاقته .

ومن يأكل من الخبز الجوهري يقوى قلبه ويصبح ابنا لله اما من يشترك مع الوحش فليس سوى عبدا روحيا يتحرك في شباك الوحش الى حية حتى لو طلب ظاهريا رغبته في العماد فلا بد أن يسمع توبيـخ الكلمة : ايها الحيات أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي عليكم ويتكلم داود النبي عن جسد الوحش الذي يأكله العبيد فيقول : كسرت رءوس التنانين على المياه أنت كسرت رأس الوحش « لوياثان جعلته طعاما للشعب لأهل البرية. غاذا كان ابن الله موجودا وجودا جوهريا وكذلك عدو الخير فلا غرابة ـ اذا ـ اذا صار كل منهما طعاما لهذا الإنسان أو ذاك وبالتالي غلا أتردد في الاعتراف بهذه الحقيقة أن كلا منا يستطيع ان يتغذى وان يتناول أيا من هذه القوى جميعا . خيرا أو شرا ، ولذلك نرى أن معلمنا بطرس قبل أن يرافق كرنيليوس قائد المائة وكل الذين كانوا معه في قيصرية وبالتالي يشترك في كرازة الله للامم ، رأى اناء نازلا عليه مثل ملاءة عظيمة مربوطة بأربعة أطراف ومدلاة على الأرض وكان فيها كل دواب الأرض والوحوش والزحافات وعندما قيل له أن يقوم ويذبح ويأكل تنحى قائلا : أنت تعلم أني لا أكل قط دنسا او نجسا ومن هذا تعلم الا يدعو انسانا دنسا او نجسا لأن ما طهره الله لا ينبغي لبطرس أن ينجسه ويقول الكتاب بالنص : ما طهره الله لا تدنسه انت وهكذا يزول ذلك التمايز الذي حدده ناموس موسى بالنسبة للحيوانات من حيث كونها طعاما طاهرا أو نجسا . فاذا اخذنا هذا التعليم اشارة الى الكائنات العاقلة فأنه يعطينا درسا بالغ الاهمية ، فبينما بعض الاخوة يمكن أن ينتفع منهم الآخرون كغذاء نافع ، نجد أن البعض الآخر على العكس من ذلك لا فائدة فيهم حتى يطهرهم الله وينقيهم ويجعل منهم خيزا نافعا من كل جنس وكل نوع. 

وما دام الأمر كذلك . وهناك اختلاف في أنواع الطعام وجدواها ، فاننا نستخلص من ذلك أن الخبز الجوهری نوع فريد يرتفع ويتسامى على كل الأنواع التي أوردنا ذكرها . وبالتالي ينبغي أن نصلي حتى نكون جديرين بهذا الخبز مستحقين للتناول منه ، وأن نتغذى بكلمة الله الذي كان في البدء عند الله  حتى تصير في عداد السمائيين

اليوم

 ولكي ندرك هذا النص لا بد لنا أن نعود الى كلمة epiousios لأن من المحتمل جدا ان تكون مشتقة من الفعل اليوناني epienai ومن هذا نجد أننا مطالبون ان نسأل من اجل الخبز الذي يخص الدهر الآتي ، وبالتالي فاستجابة هذه الطلبة تعنى ان الله يعطينا هذا الخبر قبل أوانه ، غما كان ينبغى نعطاه في الغد يعطى لنا اليوم . وكلمة اليوم يقصد بها الزمان الحاضر كما أن الغد يشير الى الدهر الآتي . وفى رایی على الأقل ـ أن المعنى الأول افضل ويتضح ذلك اذا امعنا النظر فيما تعنيه كلمة اليوم التي يستخدمها القديس متى ، وعبارة كل يوم kath hemeran – semeron التي وردت في الجيل القديس لوقا.

وفي أماكن كثيرة من الكتاب المقدس ، جرى العرف على استخدام كلمة اليوم بمعنى الزمان الحاضر كله كما يقول مثلا : وهو أو الموابيين الى اليوم ، وهو أبو بني عمون الى اليوم . أو فشاع هذا القول عند اليهود الى هذا اليوم ويقول كذلك في سفر المزامير : اليوم ان سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم وكذلك يقول : فلا نرجع عن الرب في أيام هذا الزمان  Depart_not from the Lord in the days of this day

واذا كان « اليوم » يعني كل الزمان الحاضر ، فالأمس بالتالي – يشير الى الزمن الماضي ولعل هذا هو المعنى المرجح في تفسير المزامير أو رسالة معلمنا بولس الى العبرانيين اذ جاء في المزامير : لأن الف سنة في عينيك مثل يوم امس بعد ما عبر. ولهذا ايضا غاني أعتقد أن الألف سنة المشهورة تدخل في هذا الموضوع . ففي هذا المزمور يقارن المرتل بين اليوم والأمس الذي اندثر بالنسبة لليوم . ويقول القدس بولس : يسوع المسيح هو أمس واليوم والى الأبد. وليس غريبا على الله اطلاقا الزمن بأسره لا يعني أكثر مما تعنيه فترة اليوم بالنسبة لنا ، وقد يقل عن ذلك أيضا .

وهذا يقودنا بدوره الى نظرة عاجلة يقتضيها هذا البحث ـ في معاني الأعياد والاحتفالات ما دامت تقترن بالأيام والشهور أو المواسم والسنين وفيما تدل عليه من دهور وازمنة .

فاذا كان الناموس هو ظل الأمور المستقبلة. فلا بد أن تكون السبوت الكثيرة اذا هي ظل الأيام العظيمة المباركة ، تماما كما يكتمل القمر الجديد في فترات محددة من الزمن ، مثلا عندما يتفق مرور قمر ما مع مرور شمس خاصة ، وان كنت لا اعرف أيا منها . فلدينا مثلا في الشهر الأول من اليوم الحادي عشر الى اليوم الرابع عشر ، ومن الرابع عشر الى اليوم. الحادي والعشرين عيد الفطير كلها ظلال الأمور المقبلة ولا يستطيع ان يميز مغزى الأول في الشهور . ومعنى اليوم العاشر وهكذا الا الحكيم المحب لله وأظن أنه لا حاجة بي ان اتكلم عن عيد السبع أسابيع من الأيام أو عن الشهر السابع الذي يطلق على يومه الأول عيد الأبواق واليوم العاشر يوم الكفارة الله وحده هو الذي حدد هذه الأوقات ورسم هذه الأعياد ، وهو أيضا الذي يعلم معناها هل هناك ذلك الانسان الذي له فكر المسيح جيدا حتى يدرك معنى السنة السابعة والحرية التي كانت تمنح للعبيد العبرانيين، والتنازل عن الديون ووقف زراعة الأرض المقدسة؟ وفي قمة هذه السنوات السباعية هناك عيد اليوبيل. لا يستطيع أحد أن يقترب من ادراك معناها بالضبط ، او المدلول الحقيقي الذي تشير اليه الا القدوس الذي يعرف مشيئة الآب وارادته لأجل كل زمان طبقا لأحكامه التي لا تفحص وطرقه التي لا يمكن استقصاؤها.

طالما ساورتني الحيرة وأنا أتابع كلمات الرسول وأضعها جنبا الى جنب عسى ان ادرك كيف يمكن أن تكون هناك نهاية للدهور التي ظهر فيها الرب يسوع لكي يبطل الخطية. ولمرة واحدة فقط ، فهناك اجيـال أخرى ستأتي وتتعاقب بعد هذا الجيل ، تأمل معى قول الرسول في رسالته الى العبرانيين : ولكنه الآن قد أظهر مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه ، وفي الرسالة الى افسس : ليظهر في الدهور الآتية غنى نعمته الفائق باللطف علينا.

في هذا التساؤل الذي يضم عددا من الأمور ، اعتقد ان السنة كما تنتهى في الشهر الأخير لكي تبدأ بعد ذلك سنة جديدة وشهرا جديدا فقد يكون القياس صالحا في تتابع الأجيال . وكأننا نجوز سنة من الأجيال تكمل كلها في هذا الزمان الحاضر ، وتبدأ بعد ذلك أجيال جديدة أولها الدهر الآتي وفي هذه الأجيال القادمة سوف يظهر الله غني نعمته الفائق باللطف ، والانسان الذي سقط في اعماق الخطية بالتجديف على الروح القدس سيظل تحت سلطان الخطية طوال الزمان الحاضر كله . والدهر الآتي من بدايته الى نهايته وبعد ذلك هل يحصل على الخلاص بطريقة لا استطيع ان اقدم لها تعليلا ؟ ! ..

ومن أدرك هذه الأمور ، عليه أن يتأمل مليا « أسبوع » الأجيال حتى يستطيع أن يصل إلى رؤية سبت مقدس ما ، واذا تأمل « شهرا » من الأجيال فقد يرى القمر الجديد المقدس الذي لله وهكذا يقوده التأمل في « سنة » الأجيال الى امعان النظر في اعياد هذه السنة التي يتراءى فيها جميع الذكور امام الرب الاله. والذي يتأمل السنوات التي تساير هذه الأجيال العظيمة ، يستطيع ان يدرك السنة السابعة المقدسة ، واسبوع الأسابيع من سنى الدهور فيسبح الله الذي رتب هـذه الأمور بطريقة عجيبة . مثل هذا الانسان لا يمكنه ان يتهاون في اصغر جزء من الساعة في يوم من أيام هذا الجيل العظيم.

يجدر به أن يبذل كل ما في طاقته حتى يتناول من الخبز الجوهري كل يوم ، وبعد نفسه دائما حتى يكون مستحقا للتناول منه اليوم . وعلى هذه الصورة يمكنا أن نفهم معنى العبارة « كل يوم » . فالذي يصلي – اليوم ـ لله الأزلي الأبدى لا يطلب من اجل اليوم فحسب بل من أجل كل يوم . وفى نفس الوقت يتلقى من القادر ان يعطى أكثر بكثير مما نريد او نفتكر عطايا ـ اذا استطاعت صيغة المبالغة أن تصفها اعظم واروع مما لم تره عين ، وما لم تسمع به اذن وما لم يخطر على قلب بشر.

لقد اقتضت الضرورة أن أثير هذه الأسئلة ، حتى تتضح لنا معالم « اليوم » و « كل يوم » حين نتلوها في صلاتنا للاب حتى ينعم علينا بالخبز الجوهري جدا.

وخاتمة المطاف أن نتأمل الضمير « نا » في ( خبزنا ) فقد جاءت في انجيل متى : خيزنا الجوهري أعطنا اليوم . اما في أنجيل لوقا : خبـزنا الجوهري أعطنا كل يوم .. وعلى هذا فالسؤال الذي يدور في الذهن : هل حقا هذا الخبز هو خبزنا ؟ ولكنا نجد الجواب حاضرا لدى معلمنا بولس اذ يقول لنا أن كل الأشياء هي ملك للقديسين سواء كانت حياة أو موت او اشباء حاضرة أو مستقلة واظن أن في هذا الجواب فصل الخطاب.

الفضل السابع

واغفر لنا . . كما نغفر ..

واغفر لنا ما علينا ، كما نغفر نحن أيضا لمن لنا عليهم . أو كما يقول انجيل معلمنا لوقا : واغفر لنا خطايانا كما نغفر نحن أيضا لكل من أساء البنـا.

فيما يختص بالديون . يقول الرسول : فاعطوا الجميع حقوقهم الجزية لمن له الجزية . الخوف لمن له الخوف . الجباية لمن له الجباية الاكرام لمن له الاكرام . لا تكونوا مديونين لأحد بشيء الا بأن يحب بعضكم بعضا ونحن مديونون – اذا ـ من حيث أن علينا واجبات معينة ليس فقط من جهة البذل والعطاء بل كذلك في أمور أخرى : الكلام كما يليق او عمل اشياء معينة . ولكننا بعد كل هذا وفوق كل هذا علينا التزام هام أن يكون لنا مشاعر وأحاسيس خاصة ازاء الآخرين . واما أن نسدد هذه الديون ونفيها باتمام وصايا ناموس الله ، والا – اذا تغافلنا عن رجاحة العقل ـ فلا نرد هذه الديون وبالتالي نظل رازحين تحت عبئها الثقيل .

ما علينـا

ماذا علينا نحو الاخوة ؟ لا بد أن نأخذ في الاعتبار أن التزامنا لا يتغير سواء كان هؤلاء الاخوة من الذين اصطبغوا بصفتنا وولدوا ولادة جديدة في المسيح باعتبار الدين ، أو من الذين ولدوا بالجسد لاباء وأمهات كما نحن ايضا. وفضلا عن هذا ، فعلينا واجب خاص ازاء اخوتنا في الوطن ، وواجب عام نحو جميع الناس ، وواجب آخر نحو الغرباء وواجب نحو الكبار أو الشيوخ الذين بلغوا من العمر ما يجعلهم في مرتبة الآباء، وواجب آخر نحو الغير ممن يليق بنا أن نكرمهم كأبناء أو أخوة. فاذا بدا لأحد أن يرفض اداء هذه الواجبات نحو اخوته ، فسيظل مدينا بقدر ما قصر في القيام به وبنفس القياس اذا تقاعدنا عن واجباتنا ازاء الآخرين ـ حيث أن هذه الواجبات تمليها علينا الحكمة وتتجلى في روح الرحمة والصدقة ـ فان ديوننا تتزايد وتزداد خطرا.

ولكن هناك ايضا قبل كل هذا ـ واجب علينا أن نؤديه نحـو انفسنا فنحن ينبغي علينا أن نحسن استخدام اجسادنا بحيث لا يتبدد جوهرها في الجرى وراء المتعة او اللذة . نحن مدينون بهذا الجسد لأرواحنا حتى ترعاه بعناية فتحفظ العقل مضاءه وللحديث نقاءه ، حتى لا يتدني الى الكلام الباطل بل يحرص كل الحرص ان يكون نافعا بناء على الدوام وهكذا اذا لم نقم بواجبنا ازاء ذواتنا ، ازدادت ديوننا عبئا وثقلا.

وبالاضافة الى هذا كله ـ . وأهم مما عداه ـ فاننا عمـل الله وصورته. وبالتالي فنحن مطالبون بالأكثر أن نحتفظ بمشاعر وأحاسيس خاصة بالنسبة له ، أن نحبه من كل القلب ومن كل القدرة ومن كل الفكر. واذا لم نقدر هذا الواجب حق قدره ، نخطيء الى الله ونظل مدينين له . وفي هذه الحالة ، من يصلى من اجلنا فالخاطيء اذا اخطأ الى آخر يصلون من أجله ، ولكن ان اخطأ الى الله فمن يصلى عنه؟

وأكثر من هذا فنحن مديونون للمسيح الذي اشترانا بدمه كما يظل العبد مدينا لسيده الذي اشتراه بالمال . ونحن مديونون كذلك للروح القدس وكيف يمكنا أن نفيه حقه الواجب اذا كنا نحزنه ففى الروح القدس قد ختمنا ليوم الفداء. واذا قلنا أننا لا نحزنه فلا بد ان ناتي بالثمر الذي بطلبه منا لأنه حاضر معنا يحيى ارواحنا؟

واذا كنا لا نعرف على وجه التحقيق الملاك الذي يرى وجه الآب من أجلنا . الا اننا لو تأملنا قليلا فلا بد أن يتضح لنا أننا مدينون له ايضا بشكل ما . ولما كنا قد صرنا منظرا للعالم والملائكة والبشر فقد اصبحنا في موقف لا يختلف كثيرا عن موقف الممثل على خشبة المسرح ، يتحتم عليه أن يلتزم بنص الحوار المحدد له ، وان يؤدي أفعالا خاصة امام جمهور المتفرجين ماذا اخفق في أداء واجبه . حق عليه العقاب باعتبار أنه قد اهان جمهور المتفرجين . وعلى هذا النمط يمكنا أن نرى واجباتنا التي ينبغي علينا القيام بها أمام العالم كله وامام الملائكة وأمام الجنس البشري جميعا . هذا كله دين في اعناقنا لا بد ان نحاسب عنه . واذا توفرت لديها الرغبة الصادقة في المعرفة ، فسوف تعلمنا الحكمة كل شيء عن هـذه الواجبات .

وهناك الواجبات العامة التي تترتب على وضع خاص أو وظيفة عامة مثل واجب الأرملة التي تعولها الكنيسة وواجبات الشماس والكاهن واثقلها جميعا واجب الأسقف المنوط به حتى يؤديه لئلا يقع تحت طائلة العقاب من مخلص الكنيسة كلها . وهناك الواجب المزدوج المتبادل بين الزوج والزوجة الذي تحدث عنه الرسول قائلا : ليوف الرجل المرأة حقها الواجب وكذلك المرأة ايضا الرجل . ثم يضيف الرسول مؤكدا هذه الحقيقة بقوله : لا يسلب أحدكم الآخر.

لا اعتقد أن بي حاجة الى المزيد من الحديث . وارجو ان كل يقع هذا الكتاب بين يديه ، يمعن قراءته ويستوعبه حتى يدرك – مما قرأ – الواجبات، التي عليه . فاذا لم نزد ما علينا نظل مقيدين بها ومدينين ، اما اذا اديناها فقد صرنا أحرارا . الا اني احب ان اضيف تحفظا معينا : ليس انسان على قيد الحياة بلا ديون او مسئوليات او واجبات ولو لساعة واحدة أو يوما واحدا أو ليلة واحدة.

وعندما يكون الانسان مدينا بمبلغ ما فقد يرد هذا الدين وقد يعجز عن سداده . ونحن نجرى على هذا المنوال في حياتنا فقد نفى ما علينا وقد نتقاعد عن أداء هذا الواجب . ومن الناس من لا يدينه أحد بشيء ، ومنهم من يرد أكثر الدين ويظل مدينا بالقليل الباقي ، والبعض الآخر قد يفي بالقليل ويظل مثقلا بالكثير من التزامه وهناك فريق آخر لا يدفع شيئا ويظل مدينا بالكل. والذي يدفع الكل ويصبح حرا من كل قيد ودين يستطيع أن يتحلل من التزامه في مدى معين ويطالب بتسوية ديونه او تصفيتها ويأخذ صكا يبرىء ذمته من كل ما كان عليه . وهذا الصك يثبت سداد الدين الا ان الانسان لا يستطيع الحصول على هذا الصك أو هذه البراءة ما لم يسع جاهدا في وقته المعين أن يعني بكل واجباته والتزاماته التي تصر فيها حتى ذلك الحين.

كل تعدياتنا منقوشة في عقولنا ، وتصبح هي بنفسها الصك الذي علينا  ووثيقة ادانتنا ، ومثل حسابات الديون نجدها مكتوبة بأيدينا تقدم في ساحة القضاء عندما نقف جميعا أمام كرسي قضاء المسيح لينال كل واحد في الجسد بحسب ما صنع خيرا كان أم شرا وعن هذه الديون يحذرنا سفر الأمثال : لا تكن من ضامني الديون فتحيا في خشية من إنسان ، ان لم يكن لك ما تفى ، يأخذون غطاءك من جنبك.

من لنا عليهم

فاذا كنا مدينين لكل هذا العدد الضخم. الا أننا من ناحية أخـرى دائنون لآخرين فبعض النـاس عليهم واجب مفروض نحونا باعتبارنا رفاقهم في الانسانية أو الوطن ، وعلى البعض الآخر التزامات نحونا كاباء و ابناء ، هذا عدا واجبات الزوجات نحو الأزواج أو الأصدقاء ازاء اصدقائهم . ولذلك عندما يتباطأ البعض في أداء واجباتهم نحونا ، يجب أن نتصرف برفق فلا نتذكر ديونهم لنا بل بالحرى تذكر ديوننا التي لم نقم بسدادها او ربما رفضنا أداءها ليس فقط بالنسبة لحقوق البشر بل وفي حقوق الله ايضا . فاذا تذكرنا هذه الديون التي أغفلناها خصوصا ما انزوى منها في طيات النسيان مع مرور الوقت كالواجبات التي تقتضيها الظروف نحو جيراننا أو اخوتنا ، فاننا سوف نغير نظرتنا الى اخوتنا المدينين لنا ولم يوفوا حقوقنا وتفيض نفوسنا بالاشفاق والرحمة بهم خصوصا اذا لم نسمح لأنفسنا أن ننسى تعدياتنا على ناموس الله أو الشر الذي تكلمنا به ظلما في تعال وكبرياء سوا كان كلامنا عن جهل بالحقيقة او التذمر والسخط على الظروف التي تحيط بنا.

 

فاذا أبينا على انفسنا أن نتصرف بالرفق وروح الصفح والغفران مع اخوتنا المدينين لنا ، فلا مناص لنا أن نقاسي ما عاناه العبد الذي رفض مسامحة العبد رفيقه  مع انه هو نفسه تمتع بمثل هذا الامتياز من سيده . والنتيجة التي تترتب على هذا ـ كما جاء في المثل يأمر السيد بضبط العيد واقتصاص الدين كاملا مع انه سبق ان سامحه به. ويوبخه بقوله : أيها العبد البطال والشرير أنما كان ينبغي انك انت ايضا ترحم العبد رفيقك كما رحمتك أنا ؟ القوه في السجن حتى يوفي كل ما كان عليه ثم يضيف الخاص معلقا على المثل : فهكذا أبي السماوي يفعل بكم ان لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته.

في الحقيقة أن الواجب علينا أن نصفح لكل من يعترف ويندم على. أخطائه التي ارتكبها في حقنا حتى ولو تكرر منه هذا الخطأ مرات ومرات طبقا لتعليم الرب : وان اخطأ اليك اخوك سبع مرات في اليوم ورجع اليك سبع مرات في اليوم قائلا : أنا تائب فاغفر له فما دام قد تاب فلا يجب ان نكون قساة عليهم . اما من يرفض التوبة فهو يجلب الضرر على ذاته لأنه مكتوب ان من يرفض التأديب يرذل نفسه. ولكن حتى في هذه الظروف يتحتم علينا أن نبذل ما في وسعنا حتى نشفى هذا الإنسان الذي انطمست بصيرته حتى عجز عن ادراك ما تنطوي عليه نفسه من شر وصار ثملا بلا خمر لأنه ـ وهذا أشد خطرا ـ قد سكر بظلمة الاثم والشرور

غفران الخطـايا

وعندما يكتب معلمنا لوقا : واغفر لنا خطايانا فهو يقصد نفس المعنى من النص المذكور في انجيل متى لأننا نخطيء حين لا نؤدى ما علينا . وقد يبدو في نص الصلاة كما جاءت في انجيل معلمنا متى . أنه لا يشير الى الأشخاص الذين يتميزون بالرغبة في الصفح عن النادمين والتائبين فقط اما القديس لوتا فيقول لنا أن المخلص قد رسم بأن نضيف الى هذه الطلبة : لأننا نغفر نحن أيضا لكل من أساء الينا والحقيقة التي لا مراء فيها ، اننا نستطيع جميعا أن نغفر الخطايا التي يرتكبها ذووها في حقنا لأنه يقول : كما نغفر نحن أيضا للمذنبين الينا ولأننا نغفر نحن أيضا لكل من أساء الينا  لأن هذا هو التصرف الطبيعي لمن أخذ سمة المسيح ، كما كان الرسل ، ويمكن أن يعرف هذا المؤمن من ثماره لأن الروح القدس يسكن فيه مما يجعل الإنسان روحيا يطيع ارشاد الروح  على غرار ابن الله غيلزم نفسه بالتعقل في كل الأمور ، ويترتب على ذلك بالضرورة ان يغفر ما يغفره الله ، وان يمسك ويضبط الخطايا التي لا يمكن شفاؤها فلا يبوح بها . وهكذا يتخذ نفس الأسلوب الذي اتبعه انبياء الله فلا يتكلمون بما يدور في خواطرهم واذهانهم بل بالحرى يعانون مشيئة الله . وفي هذا أيضا انما يخدمون الله الذي وحده له سلطان الغفران

وهناك نصوص صريحة تخول الرسل سلطان الغفران . كما جاء في انجيل القديس يوحنا : اقبلوا الروح القدس . من غفرتم خطاياه تغفر ومن أمسكتم خطاياه امسكت. وهذه الكلمات تحتاج الى التروى والتدقيق حتى لا يلوم البعض آباءنا الرسل لأنهم لم يغفروا لكل احد خطاياه وبالتالي لا يستحقوا أن يغفر الله لهم خطاياهم ، وأنهم أمسكوا خطايا البعض مما يؤدي الى أن الله يمسك عليهم خطاياهم كذلك. وهنا حسن بنا أن نأخذ مثالا من الناموس يساعدنا على فهم الطريقة التي يغفر بها الله خطايا الناس عن طريق خدامه . فالكهنة في العهد القديم كان يحق لهم تقديم بعض الذبائح بالنسبة لبعض الخطايا التي يسقطون فيها مع ان هذه الخطايا قد تغفر لذويها من عامة الناس اذا قدموا عنها ذبائحهم . الكاهن له سلطان تقديم الذبيحة عن الخطايا الارادية واللاارادية ومع ذلك لا يستطيع ان يقدم ذبيحة محرقة عن الخطية في حالات الزنى والقتل المتعمد وغيرها من الخطايا الخطيرة وبنفس الطريقة فان ابائنا الرسل ايضا وخلفاءهم الكهنة بسلطان رئيس الكهنة الأعظم قد تلقنوا علم علاج الالهي فيعرفون بارشاد الروح القدس اية خطايا يجوز لهم أن يقدموا الذبيحة عنها ومتى وكيف ، كما يدركون الخطايا التي لا يجوز لهم أن يفعلوا ذلك عنها . ولذلك عندما عرف عالى الكاهن ان ابنيه حفنی فينحاس قد ارتكبا الشر ، لم يستطع أن يقدم لهما أية معونة لغفـران خطاياهم بل يعترف بعجزه وقصوره حين يقول : اذا اخطأ انسان الى إنسان فيصلون عنه ، ولكن ان اخطأ الى الرب فمن يصلى عنه.

انا لا استطيع أن أفهم تلك الجرأة التي فيها ينسب بعض النـاس لأنفسهم سلطانا يفوق سلطان الرتبة الكهنوتية ولعل ذلك يرجع الى انهم لم يملكوا بعد ناصية المعرفة الدقيقة التي تلائم الكاهن . بعضهم يتباهى أنه يستطيع أن يغفر خطية السقوط في عبادة الأوثان ، وأن يكفر عن الزنا و النجاسة واذ يظنون أن صلواتهم التي رفعوها عمن سقط في هذه الخطايا التي للموت قد استجيبت وحققت لهم الغفران ، تردوا في ضلالة اشر ماستباحوا لأنفسهم ما لا يليق انهم في حاجة الى قراءة واستيعاب الكثير من الآيات مثل : توجد خطية للموت . ليس لأجل هذه اقول انن يطلب كما يجب عليا الا بمسك عن ترديد ما قاله ايوب الصديق عند تقديم الذبيحة من أجل اولاده : ربما أخطأ بني وجدفوا على الله في عقولهم  ونلاحظ هنا ان أيوب يقدم الذبيحة عن خطية يشك في وقوعها ، وليس ذلك فقط ، بل حتى في حالة وقوعها ـ اذا وقعت ـ فقد حدثت بالعقل ولم تصل حتى الى الشفتين.

 

الفصل الثامن

ولا تدخلنا في تجربة ، لكن نجنا من الشرير

ولا تدخلنا في تجربة ، لكن نجنا من الشرير

والفقرة الأخيرة « لكن نجنا من الشرير » لم ترد في انجيل معلمنا لوقا.

مخلصنا الصالح لا يأمرنا بطلب المستحيلات . ولهذا يجب علينا ان نتعمق في معنى هذه الطلبة ، لأنه كيف يطلب الينا ان نصلي لئلا ندخل في تجربة بينما حياة الانسان كلها على الأرض ما هي الا تجربة متصلة مستمرة. ما دمنا على الأرض فنحن في الجسد الذي يقاتل ضد الروح وأفكار الجسد عداوة لله ولا يمكن اخضاعه لناموس الله  اذا فنحن في تجربة أي نجتاز امتحانا وفحصا.

التجـربة

ان حقيقة حياة الانسان على الأرض من حيث هي تجربة وجهاد قد عرفناها من ايوب الصديق اذ يقول : اليست حياة الانسان على الأرض تجربة  ويزداد هذا المعنى وضوحا بما جاء في المزمور : فيك خلاص من التجربة كما يعلمنا القديس بولس في حديثه الى اهل كورنثوس ان الله يعطينا النعمة لا لكي نتفادى التجارب بل بالحرى لكي لا نجرب فوق استطاعتنا : لم تصبكم تجربة الا بشرية ولكن الله امين وعادل الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة ايضا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا  سواء كانت مصارعتنا مع الجسد الذي يشتهى ضد أو مع النفس وهذه المصارعة لا بد أن يجتازها كل الذين في التجارب البشرية فاذا كانوا من أهل الدراية والدربة وأقوياء الى التي لم يعد فيها جهادهم ضد الجسد والده ، بل ولم يعودوا هدفا ب البشرية لأنهم قد غلبوها بالفعل وسحقوها تحت أقدامهم يرتفع صراعهم الى مستوى آخر : فان مصارعتنا ليست مع دم بل مع الرؤساء السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر اجناد الشر الروحية. وعلى أي الحالين فلا بد لنا من مواجهة بل مع

ذا فكيف يمرنا المخلص أن نطلب حتى لا ندخل في التجارب ، مع أن جرب كل بشر بطريقة ما ؟ علينا أن نتذكر ما تقوله یهودیت کام زمانه، فحسب بل لكل من يقرأ كتابها : تذكروا ما صنعه الله مع ابراهيم وكيف امتحن اسحق وما حدث ليعقوب فيما بين النهرين في سوريا حيث كان يرعى غنم خاله لامان ، اذ ليس كما امتحنهم الله ليعرف فكر م يعاقبنا نحن . فهو الذي يؤدب المقتربين اليه من أجل تقويمهم

ويؤكد لنا داود النبي صدق هذه الحقيقة صدقا شاملا يصدق على جميع الأبرار فيقول : كثيرة هي بلايا الصديق  ويقول سفر الأعمال ضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله.

+ ولكنا قد لا ندرك معنى هذه الطلبة « لا تدخلنا في تجربة » وكثير من الناس فعلا لا يعلمون ولذلك أضيف أيضا أن الله لم يسمع للرسـل يقدمون هذه الصلاة ، فاحتملوا الآلاف من البلايا والضيقات طوال حياتهم: في الأتعاب اكثر ، في الضربات أوفر ، في السجون بما لا يقاس ، في ضيقات مرارا كثيرة. ومعلمنا بولس بالذات تلقى من اليهود خمس مرات اربعین جلدة الا واحدة وثلاث مرات ضرب بالعصى. ومرة رجم وثلاث مرات انكسرت بهم سفينة، وقضى ليلا ونهارا في العمق لقد قاسى هذا القديس ضيقات في كل شئ.. أسر واضطهد وطرح أرضا ثم يقر بأنه ما زال مجربا في كل شيء: حتى هذه الساعة نجوع ونعطش ونعرى ونلكم وليس لنا اقامة ونتعب عاملين بايدينا . نشستم فنبارك . نضطهد فنحتمل . يفتري علينا فنعظ. فاذا كانت صلوات الرسل في هذا الشأن لم تلق استجابة من الله ، فهل الذي يقل عنهم في الكرامة يرجو أن يسمع الله صلاته؟!.

وهناك سؤال آخر يواجه من لا يكلف نفسه عناء التدقيق في ادراك هدة المخلص من هذه الطلبة التي أوصانا ان نصليها ، فقد يظن ان هناك تعارضا أو تناقضا بين مضمون هذه الطلبة وبين كلمات المزمور : جرمنی يارب وامتحنى . محص بالنار قلبي وكليتي هل خطر ببال انسان ما أن يكون بعيدا عن متناول التجارب ، التي يعيها ما دام له عقل يفكر ؟ هل هناك وقت يستطيع فيه الإنسان أن يثق بأن لا حاجة به الى الجهاد ضد الخطبة ؟ هل هناك فقير ؟ فليخف لئلا يسرق وينطق باسم الرب الهه باطلا. أهو غني؟ فليحذر لئلا يغتر ويخدع نفسه بالأكاذيب ويظن في كبريائه أن أحدا لا يراه . فبولس الرسول مع انه كان نفسه غنيـا في كل كلمة وكل معرفة ، فان هذا لم يعفه من خط السقوط في خطية الكبرياء حتى صار في حاجة الى شوكة من الشيطان ليلطمه لئلا يرتفع. 

واذا كان هناك من يعرف ما يشتمل عليه من كمالات وفضائل وارتفاع على كل شر ، فليقرأ ما جاء في سفر أخبار الأيام الثاني عن موضوع حزقيا الذي قيل عنه أنه سقط لأن قلبه ارتفع.

ونظرا لأننا لم نتحدث كثيرا عن الفقير ، أعود الى هذا الموضوع فأقول انه قد يكون هناك من يحيا في راحة ودعة كأن الفقر لا يمكن أن يكون موضوعا لتجربته .. مثل هذا فليعلم ان المجرب يبذل جهده لكي يطعن بسهامه الفقير والمحتاج خصوصا ـ كما يقول سليمان ـ أما الفقير فلا يحتمل انتهارا ولكن من ناحية أخرى لا يمكنا أن نحصي عدد الأثرياء الذين بسبب غناهم الأرضى الذين لم يحسنوا استخدامه نالوا نفس المجازاة التي حلت على الغني الذي جاء ذكره في الانجيل؟ كما أن هناك عدد كبيرا من الفقراء الذين احتملوا فقرهم بطريقة مهينة وسلكوا في حياة ذليلة منحطة لا تليق بالقديسين وبالتالي فقدوا رجاءهم في السماء؟

اما الذين يحيون معيشة وسطا بين الغني والفقـر ، هل ـ قد جانبوا الخطية أو اجتنبوها اعتدالهم .

 الرجل القوى الذي يتمتع بصحة جسدية جيدة قد يتصور انه ارقى من التجربة بسبب صحته وجودة حالته الجسدية . ولكن اذا سألنا : من دنس هيكل الله غير أصحاب الصحة الجيدة ؟ ! فلن نجد من يجرؤ على الرد على هذا التساؤل لأن الحقائق تشهد على الجميع . حتى المريض هل استطاع أن يهرب من مناورات الفكر لافساد هيكل الله ، في لحظات التراخي والتكاسل التي تتيح الفرصة لاستقبال الأفكار التي تدور حول الأفعال النجسة . هل بي حاجة ان اذكر تلك الرغبات الأخـرى التي تنتابه بعنف اذا لم يحفظ قلبه بكل حرص ويقظة. كثيرون ممن انهاروا امام المشقات ولم يستطيعوا احتمال المرض برجولة ، اظهروا أنهم أخطر علة واشد مرضا في الروح مما في الجسد . وكثير ممن ارادوا الهرب من المهانة لأنهم خجلوا من المجاهرة باسم المسيح سقطوا في الخـزي الأبدى.

هناك انسان عندما ينال كرامة بين الناس يطيب خاطره ولا يقلق كأنه لا يجوز تجربة بالفعل . انه ينسى قول الكتاب : لقد استوفوا أجرهم من الناس . أليست هذه الكلمات القاسية موجهة لمن ينتفخون بسبب مديح الناس وكأنه من أجل الخير ؟ هناك توبيخ صارم في قوله : كيف تقدرون أن تؤمنوا وانتم تقبلون مجدا بعضكم من بعض . والمجد الذي من الاله الواحد لستم تطلبونه لا حاجة بي الى تعداد خطايا الكبرياء التي يقع فيها أصحاب الأصل الرفيع في نظر الناس ، ولا استطيع أن أحصى خطاباً التذلل والتملق المهين – بسبب الجهل – الذي ينزلق اليها ذوى الأصل الوضيع ازاء الطبقات العليا في نظره. هذا الخنوع انما يفصـل الإنسان عن الله تماما لأنه لا يتسم بالود الصادق بل هو مجرد تمثيل لأسمى وارق عاطفة في الانسان : المحبة.

اذا فحياة الانسان كما قلنا ـ كلها سلسلة من التجارب . وعلى هذا فلا بد لنا أن نصلي حتى نخلص وننجو من التجارب ، والا نستسلم ونسقط عندما نجرب لأنه لا يمكنا أن نطلب عدم التجربة اطلاقا . لأن هذا مستحيل ما دمنا على الأرض . واعتقد أن الذي يستسلم للتجربة هو الذي يدخل فيها لأنه سقط في حبائلها وشباكها أما المخلص ـ الذي دخل في هذه الشباك من اجل الذين سقطوا فيها فانه يتطلع كما قيل في نشيد الانشاد ، ويتحدث الى الذين سقطوا في حبائل المجرب ويدعو العروس قائلا : قومی تعالی یا جارتی یا واحدتي الجميلة يا حمامتی.

وأحب ان اقول ايضا ان كل وقت قد يكون وفقا للتجارب ، ولا يعفى من جهاد التجارب حتى الرجل الذي يلهج في ناموس الرب نهارا وليلا أو الذي يحاول أن يطبق قول الحكيم : هم الصديق ينبت حكمة تطبيقا عمليا.

يمكن ان استشهد بالكثير من النماذج البشرية من المؤمنين الذين كرسوا أنفسهم لدراسة الكتاب المقدس ومع ذلك فقد أخطأوا فهم الرسالة التي يقدمها الناموس والأنبياء واعتنقوا مبادىء الالحاد التي لا تتفق مع التقوى ، أو ابتدعوا لأنفسهم شرائع وعقائد سخيفة تدعو الى السخرية وبعد أن صاروا جنودا للشيطان اذ سقطوا في بدع الهلاك في امور ظاهرة . لا يمكن أن تتهمهم في حياتهم بالتجاهل والاهمال لقد حلت هذه اللعنة بعينها على كثيرين من دارسی کتابات الرسل والانجيليين ولكنهم بسبب ضيق آفاقهم ، ابتدعوا ابنا او ابا غريبا تماما ولا يمت بصلة لايمان القديسين ولاهوتهم . كل من لا يؤمن بالحق فيما يتصل بالله ومسیحه ، انما يرتد وينحرف بعيدا عن الاله الحق وابنه الوحيد، ويصطنع الهراطقة لهم الها يظنـونه الآب والابن ، ويصطنعون عبادة باطلة في حقيقتها أو لعلها ليست بعبادة ، وهم يسقطون في هذا الفخ لأنهم لا يدركون التجارب التي يتعرضون لها حتى في قراءة الكتب المقدسة ، وفي جهلهم لا يتزودون بالأسلحة التي يتطلبها هذا الجهاد

الله يسمح بالتجارب

اذا فعندما نصلى لا نطلب الا نتعرض للتجارب على الإطلاق ، لأن هذا أمر مستحيل ، بل بالحرى نطلب الا نسقط تحت سلطان التجربة وقوتها ، وهو ما يحل بمن تصطادهم التجربة وتغلبهم . ويجب ان يكون هذا المعنى واصحا في أذهاننا نفهم في نطاقه كل ما كتب في الكتاب المقدس في مواضع أخرى غير الصلاة الربانية بالنسبة لعدم الدخول في التجارب. وطبقا للنص نطلب من الآب الا يدخلنا هو في تجربة .. انه يستحق التأمل والتفكير فكيف يدخل الله انسانا في التجربة ؟ واذا لم يطلب هذا الإنسان أعفاءه من الدخول في التجربة ، أو اذا فرضنا أنه صلى ولم يستجب الله صلاته مما يؤدى الى دخول الإنسان في التجربة ثم الى السقوط ، فهل نظن ان الله قد ادخله في التجربة بمعنى أنه اقتاده او دفعه اليها وسلمه للهزيمة والسقوط ؟ ! حاشا لله قد يستغلق تعليل هذا الأمر على الإدراك البشري . فوصية الرب لنا : صلوا لئلا تدخلوا في تجربة واذا كان شرا أن نسقط في التجربة ، ونحن نصلى حتى لا يحل بنا هذا الشر ، ولكنه يحل بنا فعلا الا يفهم من ذلك أن الله الصالح الذي لا يمكن أن يخرج ثمرا رديا هو الذي قد ينزل هذا الشر بالإنسان.

علينا اذا أن نقارن الوصية بما كتبه القديس بولس في رسالته الى أهل رومية : وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء وأبدلوا مجد الله الذي لا يتدنس بشبه صورة الانسان الذي يتدنس والطيور والدواب والزحافات . لذلك اسلمهم الله أيضا في شهوات قلوبهم الى النجاسـة لاهانة أجسادهم بين ذواتهم ثم يواصل حديثه بعد ذلك فيقول : لذلك أسلمههم الله الى أهواء الهواء لأن اناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة وكذلك الذكور أيضا تاركين استعمال الانثي الطبيعي اشتعوا بشهوتهم وكما لم يستحسنوا ان يبقوا الله في معرفتهم اسلمهم الله الى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق.

كان من الضروري أن نأتي بهذه النصوص من أجل منفعة الذين يجعلون من الله الهين ، لأنهم يميزون ويفرقون بين الآب الصالح أبو ربنا وبين اله الناموس. فأقول لهؤلاء : اذا كان الانسان الذي يرفض الله صلاته،  يدخله الله الصالح في التجربة واذا كان الذين يرتكبون خطية ما من الخطايا . يسلمهم او ربنا لشهوات قلوبهم النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم . واذا كان الله ـ كما يقولون ـ ينأى بنفسه بعيدا عن الدينونة والعقاب ومع ذلك فهو يزج بهم في اهواء الهوان ، وهو الذي يسلمهم الى ذهن مرفوض لكي يفعلوا ما لا يليق ينتج من ذلك أن هؤلاء الخطاة ما كان لهم أن يصيروا خاضعين لشهوات قلوبهم ما لم يسلمهم الله الى هذه الشهوات . وما كان لهم أن يسقطوا في أهواء الهوان ما لم يدفعهم الله إليها ، وما كان لهم أن ينحدروا الى ذهن مرفوض لو لم يحكم الله عليهم بهذا ويسلمهم اليه !!

لا شك أن هذه النتائج مزعجة . ولهذا السبب يتحايلون للتخلص من هذا الحرج فينادون باله آخر فضلا عن الله خالق السماء والأرض . وقد وجدوا الكثير من النصوص في الناموس والأنبياء على غرار النص السابق وبسبب تصور حكمتهم جدفوا على الله الناطق بهذه الكلمات ونسبوا اليه عدم الصلاح .

مما سبق نتبين أن هذه الطلبة « لا تدخلنا في تجربة ، قد أثارت امامنا عددا من الأسئلة أو المشاكل قادتنا الى ايراد هذه النصوص التي نقلناها عن القديس بولس . والواجب يحتم علينا الآن أن نلتمس جوابا لهذه التناقضات وان ندرك روح التعليم .

اننا نؤمن أن الله في معاملاته مع الروح العاقلة يعطى الاعتبار الأول لحياتها الأبدية . ومن خصائص هذه الروح دائما حرية الاختيار ، وبالتالي فعليها وحدها تقع مسئولية ارتقائها الى حالة أفضل وتطورها في مدارج التقدم حتى تصل قمة الخير والصلاح ، أو العكس اذا انحدرت بسبب الاهمال والتراخي الى احط دركات الشر . والشفاء السريع قد يدفع البعض الى التقليل من شأن المرض الذي حل بهم والاستهانة بأمره باعتباره قابلا للشفاء العاجل وبسبب موقفهم قد يصابوا بنكسة بعد الشفاء ، لهذا ايضا فان الله يعالج أمثال هذه الحالات بحكمته فيحتمل شرور الخطاة مهما كثرت ، وأحيانا يغضي النظر عن تدهورهم في الشر حتى يصلوا الى مستوى يستعصى فيه العلاج . تمر عليهم فترة طويلة من الزمن يقضونها في ممارسة خطيتهم حتى يمتلئوا من دنس شهواتهم ويصلوا الى درجة الامتلاء أو التشيع الذي يقترن بالضيق والنفور ، فيدركون مدى الأذى والضرر الذي حاق بهم ، وتحل الكراهية ازاء ما كان يستهويهم قبلا . وبذلك ينفتح أمامهم طريق الشفاء حتى يستمتعوا بصحة الروح التي تعود اليهم في أمن وسلام. ولنأخذ لذلك مثالا في عامة الشعب الذين اختلطوا بشعب اسرائيل فقد انهى لفيف منهم شهوة ، فعاد بنو اسرائيل أيضا وبكوا وقالوا من يطعمنا قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا والقثاء والبطيخ کرات والبصل والثوم والآن يبست انفسنا ليس شيء غير أن ينا الى هذا المن ثم يستكمل القصة فيقول : فلما سمع موسى ون بعشائرهم كل واحد باب خيمته ويقول الرب لموسى بعد ذلك : شعب تقول : تقدسوا للغد فتأكلوا لحما . لأنكم بكيتم في اذني الرب قائلين يطعمنا لحما . انه كان لنا خير في مصر ، فيعطيكم الرب لحما فتأكلوا لون لا يوما واحدا ولا يومين ولا خمسة أيام ولا عشرة ايام ولا عشرين يوما. بل شهرا من الزمان حتى يخرج من مناخركم ويصير لكم كراهة كم رفضتم الرب الذي في وسطكم وبكيتم قائلين لماذا أخرجنا من مصر.

تأملوا معى هذه القصة حتى نرى اذا كانت تؤدى الغاية المقصودة والى أي مدى يمكن أن تزيل شبهة التناقض التي تبدو بين ممات الرسول وبين دعائنا لله : ولا تدخلنا في تجربة.

‏ جماعة من الناس اختلطت بشعب اسرائیل . هذه الجماعة التهبت لشهوة وبسببها بكت وبكى معهم بنو اسرائيل . ومن الواضح أنهم ما داموا لم يحصلوا على ما يشتهون فلن يحسوا بالشبع أو الاكتفاء بل لا تفتأ الرغبة تلح فلا يكفوا عن الاحساس بوخزاتها القاسية . الا أن الله البشر الصالح عندما حقق لهم هذه الرغبة واعطاهم ما يشتهون ، فلم يشأ أن تكون العطية قاصرة بحيث تعطى مكانا في قلوبهم للرغبة أو شهوة ، وذلك، يقول انه سوف لا يعطيهم اللحم لمدة يوم واحد فقط لأن في هذه الحالة ستظل لهفتهم الى اللحم حية في نفوسهم الملتهبة بالرغبة. سيظل الأمر كذلك ايضا لو أعطاهم مشتهاهم فترة قصيرة . ولكنه اراد ن يشبعهم الى أقصى حد . ولو دققنا في كلمات الرب يمكنا أن نستشف . حقيقة هامة في الواقع ـ لا يعطيهم وعدا بقدر ما يهددهم بهذه العطية التي ترضى شهواتهم : ستأكلون لحما لا خمسة أيام ولا ضعف خمسة أيام ولا ضعف هذا الضعف بلستأكلونه طويلا لمدة شهر كامل حتى أن هذا الذي نظنونه خيرا ويبدو لكم جميلا، يخرج من مناخركم ويصير كراهة لكم وبذلك تزول وتختفى شهوتكم المخجلة التي تستحق التوبيخ والتقريع. أريد أن أخذكم بعيدا عن هذه الحياة عندما تتحررون من ربقة الشهوة ونيرها . وعندما تبلغون هذه الدرجة من النقاء لن تعودوا الى هذا السقوط ثانية ، لأنكم ستكونون قد تطهرتم من الشهوة وتتذكرون كيف تحررتم منها بجهاد عنيف وآلام شديدة . ولكن هذا العناء قد يتكرر على فترات قد تطول وقد تقصر، عندما تنسون الآلام التي سببتها لكم الشهوة ، وعندما تتغافلون عن السهر على ذواتكم أو يقظة الوعي الذي يخلصكم تماما من مثل هذه الأحاسيس . وهكذا عندما تتحر فيكم الرغبة نحو المخلوقات من جديد ستنفرون من موضوع شهوتكم وتعودون سريعا الى الصالحات والى البر السمائي الذي سبق لكم ان احقر تموه اذ طلبتم الأشياء الدنيا.

وعلى نفس المنوال ، سوف يجازي الذين استبدلوا مجد الله الذي لا يتدنس الى شبه صورة الانسان الذي يتدنس والطيور والدواب والزحافات لأنهم سوف يتركون فيستسلمون لشهوات قلوبهم للنجاسة ليهينـوا أجسادهم فقد نسبوا الى الجسد الجامد الميت صفة الألوهية واسم الله ، الله الذي أعطى جميع الكائنات المزينة بالشعور والعقل ليس فقط قوة الاحساس بل قوة الادراك العقلي ايضا ، وربما أعطى البعض قوة الفهم والادراك الكامل الفاضل . من الحق أن يترك الله هؤلاء الذين تركوه ، ومن الحق أن يسلموا الى أهواء الهوان وهكذا ينالون جزاء ضلالهم الحق، الذي فيه احبوا اللذة النجسة . ولا شك أن جزاء ضلالهم یزداد ثقلا بتسليمهم لأهواء الهوان اكثر مما لو تطهروا بنار الحكمة أو لو وضعوا في السجن حتى يوفوا الفلس الأخير مما عليهم وعندما يسلمهم لأهواء الهوان فليست هذه الأهواء هي الميول الطبيعية وحدها بن كذلك الأهواء التي تنافي الطبيعة ايضا فيفسدون انفسهم حتى يمعنوا في غلاظة قلوبهم بالجسد الى الحد الذي يبدون معه كأن لا روح لهم ولا عقل بل جسدا بحتا غفى النار او السجن لا ينالون جزءا ضلالهم بل بالحرى معونة لتطهير شرور ضلالهم ، وتعطى لهم هذه المعونة مع التجارب المخلصة التي تعمل على نجاة محبى اللذة ، فتنقذهم من كل نجاسة ومن كل دم سبق أن تأطخوا بهما حتى حرموا القدرة على التفكير في انقاذ نفوسهم من الهلاك . وعندئذ يغسل الرب قذر ابناء صهيون وينقى دم اورشليم من وسطها بروح القضاء وروح الاحراق لأنه يأتي مثل نار الممحص ومثل أشنان القصار ينقى ويطهر كل المحتاجين الى مثل هذا العلاج ، الذين سبق ان لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم ، ولكنهم اذا استودعوا أنفسهم لهذا العلاج فسوف يبغضون الحاسة المرذولة لأن الله لا يريد أحدا ان يصنع البر قسرا رغم أنفه ، بل يجب أن يقبله بارادته و اختياره . وهناك من الخطاة من اعتاد ارتكاب الشر حتى صار فهمه بطيئا في ادراك عار الخطية وبالتالي يتباطأون في التراجع عما كانوا يحسبونه خيرا.  

تأمل .. اليس لهذا السبب قسى الرب قلب فرعون ، حتى عندما يلين يستطيع ان يعترف : الرب هو البار . أنا وشعبي خطاة. كان لا بد أن يتقسى قلبه بالأكثر ، وكان لا بد أن يعاني ويقاسي ويتفاضل في هذه المعاناة حتى لا يستهين بقسوة القلب فيما لو تحرر منها سريعا . لذلك تقسى قلب فرعون وتقسى مرة بعد أخرى حتى امتلأ المكيال.

اذا ، فما دام نشر الشباك لاصطياد العصافير لا ينم عن ظلم أو شر كما جاء في سفر الأمثال، واذا كان من الحق ان يدخل الله الإنسان في المصيدة كما قيل : أدخلتنا الى الشبكة، واذا كان حتى العصفور وهو أقل الطيور شأنا ـ لا يسقط في الشبكة دون ارادة الآب ( ولو أنها تقع في الفخ لأنها عجزت عن استخدام قوة أجنحتها لكي تحملها عاليا ) فالأمر يقتضى منا – بعد ذلك – أن نطلب الى الله الا نرتكب عملا من شأنه أن يستوجب على عدل الله ان يدخلنا في التجارب . هذا هو القضاء الذي ينزل بالرجل الذي سلمه الله إلى شهوات قلبه للنجاسة ، والى أهواء الهوان وبالرجل الذي لم يستحسن أن يبقى الله في معرفته فسلمه الى ذهن مرفوض لكي يفعل ما لا يليق. 

فوائد التجارب

لا شك أن التجارب تحقق لنا الكثير من الفوائد . فالهبات والعطايا التي نقتنيها روحيا ، لا يعرفها احد الا الله ، بل نحن أنفسنا أحيـانا لا ندركها ، ولكن التجارب تكشف عن جوهرها وتظهر ما خفي من خصائصها. وبالتالي نتعرف على حقيقة ذواتنا ، ويمكننا بالانحصار في الخلوة وبالتأمل أن نكتشف أيضا ما تنطوي عليه نفوسنا من نقائص وعيوب . وهذا بدوره يقودنا الى تقديم الشكر من أجل العطايا التي يغمرنا بها الله وتكشف عنها التجارب اذا فالتجارب التي تأتي علينا انما تساعدنا على ادراك حقيقة أنفسنا كما تبرز المشاعر والأحاسيس التي تعتمل في صدورنا وقلوبنا. وهذا يتضح مما يقوله السيد في سفر أيوب : لعلك تناقض حكمي تستذنبني لكي تتبرر. وفي سفر التثنية أيضا يقول : اذلك وأجاعك واطعمك المن ، الذي سار بك في القفر العظيم المخوف مكان حيات وعقارب و عطش ليعرف ما في قلبك.

ويمكنا أن نسترجع مثلا من التاريخ . يجب ان نعلم ان حواء لم تكن فريسة الخداع وقصور في الحكم عندما بدات تخالف الله فقط ، وعندما أخذت تستمع الى صوت الحية فقط . لا، في الواقع أن هذه الميول كانت موجودة كامنة في نفسها قبل أن تعلنها التجربة. والحية بمكرها ودهائها عرفت فيها هذا الضيف وبهذه المعرفة اقتربت منها وبنفس الطريقة شرقايين لم يبدأ عندما قتل اخاه فالله عارف القلوب سبق أن رفضه ورذل قرابينه ولكن هذا الشر ظهر واستعان فقط عندما قتل أخاه . كذلك نرى أن نوح لو لم يشرب من الخمر الذي صنعه بنفسه ، وسكر وتعرى نتيجة لذلك لما انكشف اندفاع حام وسخريته بابيه ولما ظهر احترام اخوته وتوقيرهم لأبيهم. وقد يبدو أن عيسو تأمر على اخيه يعقوب لأنه اختلس منه البركة ولكن الواقع ان روحه من قبل ذلك ـ كانت تنطــــوى على جذور الرجل الدنس والإنســـــان المستبيح.

وعلى العكس من ذلك ايضا نرى عفة يوسف الرائعة ، التي فيها كان مستعدا لمقاومة كل شهوة .. هذه العفة ما كانت تستعلن لنا بدون التجربة التي ولدتها الرعبة الملتهبة التي جاشت في قلب سيدته نحوه.

وهكذا في فترات الراحة بين التجارب علينا ان نتطلع إلى المستقبل . ونعد أنفسنا لما قد يواجهنا منها . ومهما كان نوع التجارب فيجب الا تؤخذ على غرة بل بالحرى نلتزم في انفسنا بتدبير روحي متقن ، أما ما ينقصنا بسبب ضعف طبيعتنا البشرية ولكننا محتاجون للتسلح به فيجب أن نثق . اذا كنا قد بذلنا كل ما في طاقتنا ـ ان الله سوف يكمله لنا لأنه يعين الذين يحبون اسمه في كل الأشياء للخير ، لأنه سبق فعرفهم ، وعرف جهادهم.

الفصل التاسع

لكن نجنا من الشرير

يبدو لي ان معلمنا لوقا عندما انتهى الى عبارة « لا تدخلنا في تجربة » ، انما كان يقصد ويعبر ضمنا عن الفكرة التي تأتي في أثرها أي « نجنا من الشرير » ، ومن المحتمل أيضا أن السيد وهو يعلم تلميذه كيف يصلى توخی الايجاز خاصة وان تلميذه قد نال قسطا من المعرفة . ولكنه في تعليمه للجماهير تكلم بايضاح يفصح عما أوجزه للتلميذ لأن الجماهير كانت في حاجة الى التعليم التفصيلي.

والآن ، نحن نطلب من الله أن ينجينا من الشرير ، ولكن هـذا لا يعني ان عدو الخير لا يهاجمنا اطلاقا بخداعه وحيله ، بل بالحرى نطلب اليه أن ينجينا بالغلبة والاحتمال والصمود أمام كل ما يحل بنا . ومن هنا نستطيع أن ندرك معنى قول الكتاب : كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيـه الرب فالنجاة والخلاص يعطيها الرب بحلول الضيقات اذ ان النجاة لا يقصد بها عدم حلول التجارب . انظر ماذا يقول القديس بولس : في كل شيء متضايقين وكأنه يعبر عن حياة المؤمن في هذا العالم اذ لا يمكن أن يمر عليه وقت دون أن تكون ضيقة الا أننا من ناحية أخرى ، عندما نئن ونتضايق فاننا بمعونة الله لا نحزن . وكلمة الضيق في التعبير العبري تشير الى الموقف الحرج الذي يتحدى ارادة الانسان ، كما أن كلمة الحزن تتضمن وصف حالة الانسان الارادية عندما يهزم أو يستسلم أمام عنف التجربة ولهذا فقد كان تعبير معلمنا بولس يتسم بالدقة وهو يقول : في كل شيء متضايقين لكن غير محزونين . ويعبر المزمور عن نفس الفكرة بقوله : في الشدة فرجت عنى (3) وفي هذه الكلمات يعبر عن فضل معونة كلمة الله وحضوره مشجعا ايانا ومنقذا انا ، لأن أذهاننا ـ مستأسرة لفكر المسيح تسر وتتجلد في وقت التجربة هذه الخبرة الروحية يشير اليها بقوله « فرجت عنى »

ويمكنا أيضا ان نستخلص نفس هذا المعنى عندما نقول أن انسانا ما قد نجا من الشرير. فاذا قلنا ان الله قد خلص أيوب الصديق، فلسنا نقص ان الشيطان لم يأخذ سلطانا أن يصب عليه كل أنواع التجارب والبلايا التي حلت به، بل نقصد ان أيوب مهما حل به فانه لم يخطيء أمام الرب بل اظهر بره وأخجل الشيطان الذي أساء إليه أيضا، لأن الشيطان هو الذي اشتكى على ايوب: هل مجانا يتقى أيوب الله؟ اليس أنك سيجت حوله وحول بيته وحول كل ماله من كل ناحية. باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض ، ولكن ابسط يدك الآن ومس كل ماله فانه في وجهك يجدف عليك ومع أن أيوب احتمل الكثير من المصائب فانه لم يجدف على الرب في وجهه كما ظن العدو المقاوم . بل نراه وهو بين يدي يبارك الرب دوما، بل ويوبخ زوجته عندما أرادت أن تفرض عليه الاستسلام بقولها : بارك الرب ومت. فاذا به يجيبها موبخا تتكلمين كاحدى الجاهلات االخير نقبل من عند الله والشر لا نقبل وللمرة الثانية يتكلم الشيطان حتى يساعد على تصعيد التجربة فيقول : جلد بجلد وكل ما للانسان يعطيه لأجل نفسه ولكن ابسط الآن يدك ومس. عظمه ولحمه فانه في وجهك يجدف عليك واندحر الشيطان مهزوما أمام بطل الفضيلة والبر، وانكشف الكذاب ، لأن أيوب ، على الرغم من حدة التجارب القاسية التي احتملها ، ظل صامدا لا يخطىء بشفتيه قدام الرب. ولما كان ايوب قد احتمل هاتين التجربتين بنجاح ، وخرج منهما مكللا بالظفر والانتصار لم تعد هناك حاجة الى مواجهة المزيد من التجارب. ولكن ظلت في الحفظ تلك التجارب الثلاث ، التي كان على الرب مخلصنا أن يجتازها في مواجهة ابليس ـ كما روتها لنا الأناجيل الثلاث – وقد تغلب مخلصنا ـ من حيث ناسوته الكل على العدو الشرير في هذه التجارب الثلاث.

وبعد أن فحصنا كلمات هذه الصلاة بعناية وتأملنا مدلولاتها ، يمكنا ان نصليها بفهم عميق ونطلب من القدير الا ندخل في التجربة ، وأن ينجينا من الشرير وحيث أننا قد سمعنا له ، نصبح جديرين بأن يسمع لنا ويستجيب ولهذا نطلب الا نموت ونحن في التجربة ، والا نحترق بالسهام النارية عندما يرمينا بها الشرير. فكل الذين حميت قلوبهم كالتنور قد احترقوا ـ كما قال لنا احد الانبياء الإثنى عشر ولكن الذين يقدمون الشكر والتسبيح لدرع الإيمـان .. الذي يطفىء كل السهام النارية التي يرميهم بها الشرير، فهؤلاء لا يمكن أن يصيبهم الحريق لأن في داخلهم ينابيع ماء حي تفيض لحياة أبدية، تحد من سلطان نار العدو بل وتطفئها في سهولة ويسر ، بذلك الفيض الغنى من الأفكار الرحبة الملهمة ، التي حفرها التأمل في الحق ونقشها على روح الانسان الذي يثابر في الجهاد حتى يكون روحيا.

  1.  يجب ان نتذكر أن هذه الكلمة لعبت دورا كبيرا في المناقشات التي دارت في القرن الرابع الميلادي خصوصا بين القديس أثناسيوس الرسولي وبين أريوس حول طبيعة المسيح واستقر رأى المجمع المقدس في نيقية سنة 325 على استخدام كلمة Homo-ousion المساوي في الجوهر.

زر الذهاب إلى الأعلى