الله ليس مسبباً للشرور – للقديس باسيليوس الكبير
إستخدام داود النبى والمرنم المستنير بالروح القدس طرقاً شتى في تعليمنا. تارة يحكى لنا عن آلامه وشجاعته التي مكنته من تحمل مواقف كثيرة تاركاً لنا من خلال شخصه مثالاً يعلمنا الصبر، مثلما قال: “يا رَبُّ، ما أكثَرَ مُضايِقيَّ! كثيرونَ قائمونَ علَيَّ” (مز1:3).
وتارة أخرى يقدم لنا داود صلاح الله وسرعته في المعونة التي يمنحها لأولئك الذين يطلبونه حقاً، عندما يقول: “فاعلَموا أنَّ الرَّبَّ قد مَيَّزَ تقيَّهُ. الرَّبُّ يَسمَعُ عِندَما أدعوهُ” (مز ٤: 3).
وهذه الأقوال هي نفسها التي قالها النبى إشعياء : “حينَئذٍ تدعو فيُجيبُ الرَّبُّ. تستَغيثُ فيقولُ : هأنذا” (إش٥٨: ٩).
أيضاً يصلى داود النبى إلى الله بطلبات حارة لكى يعلمنا بطريقة صحيحة كيف يجعل الخطاة الله عطوفاً نحوهم بتوسلاتهم: “يا رَبُّ، لا توَبِّخني بغَضَبِكَ، ولا تؤَدِّبني بغَيظِكَ” (مز٦: ١). ويقول في المزمور الثالث عشر: “إلَى مَتَى يارَبُّ تنساني كُلَّ النِّسيانِ؟” لكى يعبر عن عتابه لله في شكل استفهام، ويعلمنا من هذا المزمور ألا نترك أنفسنا للحزن والضيق ونحن ننتظر صلاح الله نحونا، وعلينا أن نعرف أن الله يسلمنا إلى الضيقات والتجارب بحسب قياس ودرجة إيمان كل واحد منا.
❈ خطورة نسب الشرور إلى الله:
وبعدما قال داود “إلَى مَتَى يارَبُّ تنساني كُلَّ النِّسيانِ؟”، “إلَى مَتَى تحجُبُ وجهَكَ عَنِّي؟” (مز١3: 1، ٢) ينتقل مباشراً إلى شرور الوثنيين، غير المؤمنين الذين عندما يواجهون صعوبة صغيرة في الحياة لا يستطيعون أن يتحملوا ظروف الأحداث الأكثر صعوبة ويبدأوا يشكّوا بعقولهم ما إذا كان الله موجوداً ويعتنى بكل الأمور وأنه يجازى كل واحد بحسب أعماله، وعندما يرون أنفسهم مستمرين في هذه الظروف المؤلمة يُثَبِتّون داخلهم التعاليم الشريرة ويقتنعون في قلوبهم بالرأى القائل بأنه لا يوجد إله: “قالَ الجاهِلُ في قَلبِهِ: ليس إلَهٌ” (مز١٤: ١). وطالما أن هذا الجاهل يضع في قلبه هذا الأمر فإنه يفعل أي خطية بدون تردد، لأنه إن لم يوجد الله الذى يرى كل الأمور، إن لم يوجد الله الذى يجازى كل واحد حسب أعماله، إذاً فما الذى يمنع أن نظلم الفقير ونتسلط عليه ونقتل الأيتام، ولا نتردد في إبادة الأرملة والغريب الذى أراد أن يعيش بيننا، ونتجرأ على فعل أي عمل سخيف، ولا مانع أن نتلوث بالشهوات النجسة والقذرة وبكل الرغبات المتوحشة؟ لذلك وكنتيجة للإعتقاد بعدم وجود الله يقول المرنم: “فسَدوا ورَجِسوا بأفعالِهِمْ” (مز١٤: ١) لأنه ليس من الممكن أن ينحرفوا هكذا عن الطريق المستقيم إن لم تكن نفوسهم قد ضعفت بمرض نسيان الله.
إننى أتساءل : كيف سلم الوثنيين “إلَى ذِهنٍ مَرفوضٍ ليَفعَلوا ما لا يَليقُ” (رو١: ٢٨). ألم يسلموا أنفسهم لأنهم قالوا: “لا يوجد إله”؟ كيف وقعوا في “أهواءِ الهَوانِ، لأنَّ إناثَهُمُ استَبدَلنَ الاستِعمالَ الطَّبيعيَّ بالذي علَى خِلافِ الطَّبيعَةِ، وكذلكَ الذُّكورُ أيضًا تارِكينَ استِعمالَ الأُنثَى الطَّبيعيَّ، اشتَعَلوا بشَهوتِهِمْ بَعضِهِمْ لبَعضٍ، فاعِلينَ الفَحشاءَ ذُكورًا بذُكورٍ” (رو١: ٢٦، ٢٧). ألم يسلموا أنفسهم بسبب أنهم “أبدَلوا مَجدَ اللهِ الذي لا يَفنَى بشِبهِ صورَةِ الإنسانِ الذي يَفنَى، والطُّيورِ، والدَّوابِّ، والزَّحّافاتِ”؟ (رو١: ٢٣).
❈ من ينسب الشر لله يتشبه بالوثنى:
حسناً من يقول ليس إله هو الذى لا يملك عقلا ولا حكمة، كذلك من يقول إن الله مسبب للشرور هو شبيه به. إنى أعتقد أن خطية الإثنين واحدة، لأن الأول والثانى ينكران الله الصالح. فالأول يقول لا يوجد إله والآخر يقول أن الله ليس صالحاً لأنه لو أن الله هو مسبب للشرور فهذا يعنى أن الله ليس صالحاً، إذاً هناك انكار لله من كلا الجانبين.
يتسائلون من أين تأتى الأمراض؟ من أين هذه الميتات المبكرة؟ من أين الدمار العظيم الذى يلحق بالمدن؟ من أين العواصف؟ من أين الأوبئة؟ إن هذه الأمور تعتبر – في نظرهم – بالطبع شروراً، وكلها من أعمال الله ويتمادى في ذلك بقولهم من هو الآخر الذى يمكننا أن نتهمه بإرتكاب هذه الحوادث إلا الله؟.
تعال الآن، إذاً، لأننا قد أدخلنا أنفسنا في موضوع يتحدث عنه كثيرون وقيل فيه كلام كثير، وحيث أننا إنشغلنا بهذه المسألة بالتفصيل دعنا نحاول أن نطرح شرحاً واضحاً ووافياً لها.
❈ هل الإنسان مسئول عن كل ما يصيبه من تجارب وضيقات؟
حسناً ينبغي أن نضع في تصورنا إننا نحن خليقة الله الصالح وإننا محفوظون بواسطة الله الذى يدبر أمورنا الصغيرة والكبيرة في حياتنا، لذا لن نعانى شيئاً بدون أن يكون لله إرادة في ذلك. أيضاً ليس شيئاً مما نعانى منه يعتبر ضاراً لنا بل يكون أفضل لنا لأننا عندما نتأمل في ذلك نستطيع أن نقترب من الله خالقنا.
فالموت على سبيل المثال يأتي من قبل الله بالتأكيد ولكنه ليس شراً بل يصبح شراً فقط في حالة موت الخاطئ. والموت بالنسبة للخاطئ الذى يرحل عن هذا العالم يعتبر بداية الحجيم في الهاوية. وأيضاً ما يقابله الإنسان من آلام في الهاوية لا يكون الله المتسبب فيها بل الإنسان نفسه لأنه كان في مقدرته وسلطته أن يختار بين فعل الخطية أو رفضها وكان لدى الخطاة إمكانية الابتعاد عن فعل الشر وتجنب الإصابة بأية نكبات. ولكنهم إنخدعوا بطعم اللذة وانقادوا إلى الخطية. إذن فما صحة هذا الذى يقال بأن هؤلاء أنفسهم ليسوا سبباً في النكبات التي أصابتهم؟! هذه النكبات هي شرور كما نفهم نحن. وهناك شرور تتوقف علينا نحن مثل الظلم، الخلاعة، الإنحلال الخلقى، الجبن، الحسد، القتل، الدسائس وكل ما يترتب عليها من أفعال تلوث النفس التي خلقت بحسب صورة الله خالقنا. إن هذه الأفعال تشوه بالطبع جمال النفس.
أيضاً نحن ندعوا كل أمر متعب ومحزن لنا شراً مثل المرض الجسدى، الجروح، حرمان الجسد من الأمور الضرورية، العار أو الفضيحة، الضرر المالى، فقدان أحد الأقارب. إن هذه الأمور تأتى إلينا من الرب الصالح والحكيم وذلك لفائدتنا.
فمثلاً عندما يأخذ الله المال من الذين يستخدمونه بطريقة سيئة فإنه يريد أن يدمر بهذه الطريقة الأداة التي بها يظلمون الناس، وأحياناً يتسبب الله في مرض للذين يكون في صالحهم أن تتقيد أعضائهم ويلازمون فراش المرض أفضل من أن يكونوا معافين وأحراراً في إرتكاب الخطية. والموت يأتي إلى البشر في الوقت المناسب أي عندما يصلون إلى نهاية حياتهم التي حددها حكم الله العادل منذ البداية، الله الذى يرى مسبقاً ما يفيد كل واحد منا. فالمجاعات والسيول هي نكبات مشتركة تأتى على المدن والأمم لكى توقف وتحجم فعل الشر المتفاقم إذن مثلما نصف الطبيب دائماً بأنه محسن وكريم حتى لو تسبب في إيلام الجسد أو النفس (لأنه يحارب المرض وليس المريض) هكذا الله هو صالح يدبر الخلاص من خلال محصلة بعض الإجراءات. أيضاً نحن لا نتهم الطبيب بأى إتهام عندما يقوم ببتر جزء من أعضاء الجسد أو يكوى آخر بل نعطيه أجراً وندعوه مخلصاً لأنه يوقف المرض عندما يظهر في جزء صغير من الجسد قبل أن ينتشر في كل الجسد.
ولكن عندما نرى مدينة تنهار على ساكنيها بسبب زلزال، أو سفينة تنكسر وتغرق في البحر مع كل ركابها لا نتردد في التجديف على الله الطبيب الحقيقى والمخلص. أننا نعرف جيداً أنه في حالة إصابة أحد بأى مرض فإنه يعطى له علاجاً مفيداً ليشفى، ولكن عندما يصاب بمرض لا يقبل الشفاء تصير الحاجة إلى قطع العضو غير القابل للشفاء حتى لا ينتشر المرض في كل أعضاءه الحية والنشطة. إذن كما أن الطبيب ليس هو السبب في إجراء الجراحة أو الكى بل المرض نفسه ، هكذا فالخطايا هي التي تسبب دمار المدن وليس الله المنزه عن أي تهمة.