العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
للإنسان أن يضرم الروح أو يحزنه
العظة السابعة والعشرون من العظات الخمسون
[هذه العظة، كسابقتها، تكمل الحديث بالتفصيل عن كرامة الإنسان المسيحي ومنزلته. ثم إنها تعلم أمورا كثيرة عظيمة النفع عن حرية الإرادة، وتتخللها أسئلة مملوءة حكمة إلهية]
[أ ] معرفة الإنسان لكرامته مفتاح اتضاعه
ألا فاعلم، أيها الإنسان، شرف جنسك وكرامتك، كيف أنك مكرم وأخ للمسيح وصديق للملك وعروس للخين السماوي. فإنّ مـن يقـدر أن يعـرف كـرامـة نفسه، يستطيع أن يعـرف قـوة اللاهوتية وأسرارها، ومن هنا يتضع بالأكثر، لأنّه إزاء قوة الله ينظر الإنسان سقطته. لكن كما اجتاز هو عبر الآلام والصليب وهكذا تمجد وجلس عن يمين الآب، كذلك يلزمك أنت أيضا أن تتألم معه وتصلب معـه وهكذا تصعد وتجلس معه وتتحد بجسد المسيح وتملك معه على الدوام في ذلك الدهر، «فإن كنا نتألم معه، لكي نتمجد أيضا معه»
2 – فإن جميع الذين استطاعوا أن يغلبوا ويجتازوا أسوار الشر، يدخلون المدينة السماوية الفائضة سلاما والمترعة خيرات وفيرة، حيث تستريح أرواح الأبرار. فيلزم إذا من أجل هذا، عظيم التعب والجهاد، لأنه ليس من العـدل في شيء أن يأتي الخـان مـن أجـلـك ويتألم ويصلب، ثم ترتخي العروس التي من أجلها قد جاء الختن وقيم طائشة. فكما أنه في الأمور الظاهرة، إن كانت هناك امرأة زانية تسلم ذاتها للجميع بلا ضابط؛ هكذا النفس أيضا قد أسلمت ذاتها لكل شيطان وأفسدتها الأرواح الشريرة. فثمة أناس تكون عندهم الخطيئة والشر باختيارهم، وآخرون على غير اختيارهم، فما معنى هذا؟ الذين عندهم الشر باختيارهم هـم هـؤلاء الذين يسلمون مشيئتهم للشر ويستطيبونه ويهادنونه، هؤلاء لهم سلام مع الشيطان، ولا يصنعون حربا مع إبليس في أفكارهم ؛ أما أولئك الذين على غير اختيارهم، فالخطيئة فيهم «تحارب في أعضائهم» بحسب قول الرسول (رو 7: 23)، وتكون فيهم القوة المظلمة والغشاوة رغمـا عـن اختيارهم، غير أنّهم لا يوافقونها في أفكارهم ولا يستطيبونها ولا يطيعونها، بل يناهضونها ويضـادون أفعالها ويقاومون السقوط فيها ويغضبون على نفوسهم؛ فهؤلاء أفضل كثيرا عند الله وأكرم من الأولين الذين بمحض اختيارهم يسلمون مشيئتهم للشر ويستطيبونه.
3 – كما لو أنّ هناك ملكا قد وجد فتاة فقيرة متزرة بثياب رثة، وما استحى بل أخذ ثيابها المتسخة، وغسل عنها سوادها، وزانها بثياب بهية، وجعلها شريكة للملك ولمائدته وقاسمها وليمته؛ هكذا الرب أيضا قد ألفى النفس مكلومة ومضروبة، فـداواها ونزع عنها ثيابها السوداء وقباحة شرها، وخلع عليهـا خللا ملوكية – خلل اللاهوت السماوية المنيرة المجيدة، وكلل بتـاج هامتها، وجعلها شريكة في مائدته الملوكية لأجـل فرحها وابتهاجها. وكما حينما يكون هناك روضة غناء بها أشجار مثمرة تبعث جميعها أريجـا زكيا، وبمـا مواضع عديدة جميعها بهيجة وبديعـة قـد عبقت بالشذا العـاطر وشملتهـا الراحـة، وكـل مـن مضى إلى هناك يجدل ويستريح؛ هكذا تغدو الأنفس في الملكوت، فالجميع يكونون في فرح وفي خبور وفي سلام، ملوكا وأربابا وآلهة، لأنه مكتوب إنّه «ملك الذين ملكوا ورب الذين غدوا أربابا» (رؤ 17: 14 حسب النص).
4 – فالمسيحية إذا مـا هـي بالأمـر العـادي، لأن «هذا السـر عظيم»؛ فـاغـرف كرامتك حق معرفتها أنك إنما دعيت إلى شرف ملوكي، إلى «جنس مختار، وكهنوت، وأمة مقدسة». ذلك أنّ سرّ المسيحية هو غريب عن هذا العالم، فمجد الملك المنظور وغناه إن هي إلا أمور أرضية فاسدة وزائلة، أما تلك المملكة وذلك الغنى فأمور إلهية، أمـور سماوية ومجيدة لا تزول قط ولا تنحل، لأنهم يملكون مع الملك السماوي في الكنيسة السّماوية، فهو «بكر من بين الأموات» وهم أيضا أبكار. لكن وإن كان مثل هؤلاء مختارين ومزگين عند الله، إلا أنهم عند ذواتهم دون الجميع وجـد مرذولين، وهذا يكون عندهم مثل أمر طبيعي وراسخ أن لا يحسبوا أنفسهم شيئا.
5 – سؤال: أفما يعلمون إذا أنّهم حازوا تقدما، واقتنوا ما لم يكن في حوزتهم وما هو غريب عن طبيعتهم؟
الجواب: ما أقوله لك هو أنهم ليسوا بمركين عند ذواتهم، ولا لهم في تقدم في أعينهم، ولا هم يدرون أنهم قد اقتنوا ما لم يكن في حوزتهم، بل – فيما – هـم كـذلك – تأتي النعمـة نفسها وتعلمهـم أن لا تكون نفوسهم ثمينة عندهم. فلئن كانوا في تقدم إلا أنهم – دونما تصنع – يعدون نفوسهم حقيرة؛ ومع أنهم عند الله مكرمون فإنهم عند نفوسهم ليسوا كذلك؛ ورغم أنهم في تقدم ويعرفون الله فإنّهم يكونون وكأنهم ما يعرفون شيئا؛ ومع كونهم أغنياء عند الله فإنهم عند نفوسهم مساكين! فكما أن المسيح «لما أخذ صـورة عبـد»، غلب الشيطان بالاتضاع؛ هكـذا منـذ البـدء، بالكبرياء والتصلف صرعت الحية آدم. والآن الحية نفسها، إن هي انسلت داخل القلوب، تطرح جنس المسيحيين وتُهلكهم بواسطة التّصلف.
6 – كما لو أن هناك إنسانا حرا شريف النسب بحسب العالم، له غنى جزيل ولا يني يستزيد من ربحـه ويستدر مكسبه. هذا يعتد بنفسه ويرگن إليها، وإذ لا يحتمله أحد، يقصي عنه الجميع ويدفعهم؛ هكذا يكون قوم ممن لا إفراز لهم، فحين يجدون راحة يسيرة وصلاة، يبتدئون في أن يتصلّفوا ويعتـذوا بأنفسهم ويحكمـوا عـلـى الآخرين، وبهـذا يهـؤون «إلى أسافل الأرض». لأن الحيـة نفسها التي طردت آدم بواسطة الكبرياء، قائلة: «تصيران كآلة» (تك 3: 5 س)، هي الآن أيضا تدس الكبرياء في القلوب قائلة: “كامـل أنت، وهذا حشبك! قد استغنيت ولست بحاجة لشيء، فطوباك!”. على أن هنالك قوما آخرين، رغم امتلاكهم للغنى بحسب العالم، . بل واستزادته بوافر الأرباح، يتمسكون بالإفراز في أنفسهم فلا ينتفخون ولا يترفعون بل يلبثون في اتزان، لأنهم يعلمون أن جذبا ينبع السعة؛ وكذا حين يتجشمون خسارة وجذبا لا يحزنون بل أيضا يلبثون متزنين، لأنهم يعلمون أن خضبا أيضا يعقب. وبتمرسهم كثيرا في هذه الأمور لا يؤخذون على غرة: فلا يتصلّفون في الخصب والرخاء، وكذلك لا تستولي عليهم الخيرة إذا ما لحقتهم خسارة.
ب النعمة تقي الإنسان شر الكبرياء
۷ – فحقيقة المسيحية إذا هي أشبه شيء بهذا: تذوق الحق، والأكل والشرب من الحق، أن تأكل وتشرب بالقوة والفعل. كما لو أنّ إنسانا ظمئا قد ورد غديرا وراح يشرب، وفيما هو يشرب رده أحد ولم يدعه يروي ظمأه كما يشاء. فهذا يتحقق عطشا بالأحرى عقب ذلك بسبب تذوقه الماء ويطلبه بأشد اجتهاد؛ هكذا أيضا في العالم الروحاني، فإن الإنسان يتذوق طعاما سماويا ويتناوله، وفيما هو على هذه الحال يرفع عنه الطعام ولا أحد يعطيه أن يشبع.
8 – سؤال: ولم لا يُعطى ليشبع؟
الجواب: لأن الرب يعلم ضعف الإنسان أنه سرعان ما يتشامخ، من أجل هذا يتوارى ويفسح لكي يتمرن الإنسان ويكابد الضوائق. لأنك إن كنت في حال تيلك القليل لا يحتملك أحد بل تتصلف، فكيف بك إن كان أحد يعطيك أن تشبع دفعة واحدة؟ فإذ ذاك لن يكون في طوق أحد احتمالك! لكن يعلم الله بضعفك يدير لك الضيقات لكيما تصير متواضعا وأشد اجتهادا في طلب الله. فلو أنّ إنسانا فقيرا بحسب العالم قد وجـد كـيس ذهب، فإنه في رعونة يبـدأ ينـادي: “قـد وجـدث كيسا، إني غني، وحينئذ يسمع الخبر ذاك الذي أضاع الكيس ويأخذه. وإنسان آخر غني قد اعتد بنفسه وابتدأ يشتم الجميع ويذلهم ويتعالى عليهم، فحين يبلغ ذلك مسامع الملك يصير أملاكه مشاعا. هكذا في العالم الروحاني، فإذا ما ذاق البعض راحة يسيرة، لا يعرفون كيف يتدبرون إزاءها بل يضيعون حتى هذا الذي قد نالوه، لأن الخطيئة بجربهم وتظلم أذهاتهم.
[ج] حرية الإنسان التامة في اختياره لدربه
9 – سؤال: كيف يسقط قوم بعد افتقاد النعمة لهم؟ أما أظهر الشيطان أنه أضعف كثيرا؟ فحيث النّهار كيف يمكن أن يكون ليل؟
الجواب: ليس أن النعمة تنطفئ أو تضعف، إنما هي تفسح للشر لكيما تمتحن إرادتك المخيرة وحريتك، أين تنتحي. لكن بعد ذلك، حين تدنو أنت بإرادتك من الرب، تشجع النعمة أن تفتقدك. لأنه كيف هو مكتوب: «لا تطفئوا الروح» (1تس 5: 19)؟ فإنّ ذاك غير منطفئ بل منير، لكن أنت، لأنك بإرادتك تهمل ولا تتجاوب معه، تنطفئ (مبتعدا) عن الروح. بالمثل يقول: «لا تحزنوا الروح القدس الذي به ختمتم ليوم الفداء» (أف 4: 30 – حسب النص)، فهـا أنـت تـرى أنّـه قـد تـرك لمشيئتك ولإرادتك الحرة أن تكرم الروح القدس ولا تحزنه. أما أنا فأقول لك إنه حتى من جهة المسيحيين الكاملين الذين سبوا وتملوا بالصلاح فإن حرية الإرادة تلازمهـم، ولهذا فإن كانوا يمتحنون بربـوات شرور إلا أنهم يتجهـون شـطر الصلاح.
10 – كما حينما يكون هناك أناس ذوو كرامة وأغنياء وشريفو النسب، هؤلاء، ء، بمشيئتهم الخاصة واختيارهم، يتركون غناهم وشرف نسبهم وكرامتهم ويمضون ويلبسون خرقا بالية وثيابا زرية وهوانا عوض مجد، ويقاسون البؤس والازدراء، وكل هذا قد ترك لمشيئتهم الخاصة. أما أنا فأقول لك إنه حتى الرسل المكملون في النعمة، ما كانت النعمة لتحول بينهم وبين فعلهم لما كانوا يريدونه، حتّى ولو كان أولئك أنفسهم يريدون أن يصنعوا أمورا غير مرضية للنعمة. لأن طبيعتنا قابلة للخير والشر، والقوة المعاديـة تغري دون أن تُلزم، فها إن لك حرية الإرادة تتجه أينما تشاء. أما ترى أنّ بطرس «گان ملوما»، فانبرى بولس يوبخه؟ فحتى إنسان مثل هذا كان بعد مستوجبا اللوم. وبولس – مع كونه روحانيا – تورط بمحض مشيئته في مجادلة مع برنابا، وبعد أن تشاجرا فارق أحدهما الآخر؛ وهو نفسه يقول أيضا: «فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا، ناظرا إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضا» (غل 6: 1)، فها إنّ الروحانيين يجربون من قبل إرادتهم الحرة التي لا تبرح تلازمهم، وطالما هم في هذا الدهر فالأعداء متربصون بهم.
11 – سؤال: ألم يكن ممكنا للرسل أن يخطأوا متى أرادوا، أم إن النعمة كانت أقوى من إرادتهم ذاتها؟
الجواب: أما أن يخطأوا فهذا ما لم يكونوا يقدرون عليه، لأنّهم ولا هذا كانوا يختارونه، لأنهم كانوا في نور وفي نعمة أيما نعمة. لكنّا لسنا نقول إنّ النعمة كانت تضعف فيهم، بل نقول إن النعمة تفسح حتى للروحانيين الذين بلغوا ذرى الكمال أن تكون لهـم الإرادة والسلطان أن يعملـوا مـا يريدون ويتجهوا أن يشاءون. أما الطبيعة البشرية نفسها، فلكونها ضعيفة، فإن لها الإمكانية أن تجيد، حتى مع ملازمة الصلاح لها. كما لو أن هناك قوما قد لبسوا عدة الحرب كاملة من دروع وعتاد وليثوا محصنين بالداخل، فلا تأتي عليهم الأعـداء؛ وإن أتـت، يكون في متناول إرادتهـم إما أن يستخدموا الأسلحة ويجاهدوا ضد الأعداء ويصارعوهم ويظفروا بهم، وإما أن يتنعموا مع الأعداء ويهادنوهم ولا يحاربوهم، رغم امتلاكهم للأسلحة؛ هكذا المسيحيون أيضا، مع لبسهم القوة الكاملة واقتنائهم الأسلحة السماوية، لهم – إن يشاءوا – أن يتنعمـوا مـع الشيطان ويهـادنوه ولا يحاربوه، ذلك أنّ الطبيعة البشرية هي متقلبة، فإن يشأ أحد، يغذ ابنا الله أو ابنا للهلاك من قبل إرادته الحرة التي أبدا تلازمه.
12 – فإن الحديث، ولو مشهبا، عن الخبز والمائدة شيء، وشيء آخر هو الأكل ونيل مذاقـة الخبز وشريان القوة في كل الأعضاء. وشيء هو التفوه بكلمات عن ألذ الشراب، وشيء آخر هو المضي إلى المنهل نفسه والعب منه والارتواء من مذاقة الشراب اللذيذ عينها. والقصص، ولو مطنبا فيه، عن الحرب والأبطال الشرفاء والأعداء شيء، وأن يمضي المرء ويصطف للحرب ويدخل حومة القتال مع الأعـداء، فيقبـل ويـذبر وينال ضربات ويسددها ثم يفوز بإكليل الظفر، هو شيء آخر. هكذا أيضا في الأمـور الروحانية، فالحديث بكلمات من المعرفة والعقل شيء، وشيء آخر هو اقتناء الكنز والنعمة ومذاقـة الروح القدس وفاعليته – اقتناء هـذه بالحق والعمـل واليقين، في الإنسان الباطن وفي القلب. لأن الذين يفوهـون بكلمات جوفاء إنمـا هـم يتباهون وينتفخـون مـن قبـل ذهنهم، فإنه يقـول: «گلامنا وكرازتنا لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع، بل ببرهان الروح والقوة» (1کو 2: 4 حسب النص)، وفي موضع آخر يقول: «أما غاية الوصية فهي المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء» (1تي 1: 5)، مثل هذا الإنسان لا يسقط. لأن كثيرين لما طلبوا الله انفتح لهم الباب ونظروا كنزا وولجوا إليه، وبينما كانوا – في غمرة فرحهم – يقولون : ها نحن واجدون گنزا، إذا به يغلق دونهم الأبواب، فيبتدئون يصرخون وينوحون ويطلبون: “قـد وجـدنا كنـزا ثم أضعناه!. فإن النعمة تنسحب تدبيريا لكيما يبلغ طلبنا أشده، لأن الكنز إنما يظهر لكي يستحثنا على طلبه .
13- سؤال: حيث إن البعض يقولون إن الإنسان بعد النعمة «ينتقل مـن المـوت إلى الحياة»، فهل يمكن لأحد وهـو في النور أن تكـون لـه أفكار رديئة؟
– الجواب: إنه مكتوب: «أبعد ما ابتدأتم بالروح تكملون الآن بالجسد؟» (غل 3: 3)، ويقول أيضا: « البسوا سلاح الروح الكامل لكي تقدروا أن تثبتـوا ضـد مكايد إبليس» (أف 6: 11 حسب النص). فوفقا لهذا هنالك وضعان: أحدهما حيث لبس الإنسان عدة الحرب، والآخر حيث يحارب قبالة الرؤساء والسلاطين، في ذاك يكون في النور وفي هـذا في الظلمة. وأيضا: «لكي تقدروا أن تطفئوا سهام الشرير الملتهبة» (أف 6: 16 حسـب النص)، وأيضـا: «لا تحزنوا روح الله القدوس» (أف 4: 30)، وأيضا: «لأن الذين استنيروا مرة وذاقوا مؤهبة الله وصاروا شركاء الروح القدس، وسقطوا، لا يمكن تجديدهم» (عب 6: 4 -6 – حسب النص). فهو ذا الذين استنيروا وذاقوا يسقطون! فها أنت ترى أن الإنسان له الإرادة أن يتوافق مع الروح القدس، وله الإرادة أن يحزنه. فقطعا إنه ينال الأسلحة لينطلق إلى الحرب ويجاهـد ضـد الأعداء، ولقد استنار بلا شيّ – لكي يحارب قبالة الظلمة.
[د] إمكانية سقوط الإنسان أيا كانت قامته
14 – سؤال: كيف يقول الرسول: «إن كان لي كل علم وكل نبوة، وأتكلم بألسنة الملائكة، فلست شيئا» (1کو 13: 1، 2)؟
الجواب: ينبغي ألّا نفهم هذا هكذا، أي أن الرسول ليس شيئا. لكن إزاء تلك المحبة، التي هي الكمال، تتضاءل هذه الأمور؛ والذي يكون في هذه الدرجات يمكن أن يسقط، أمـا الـذي يقتـني المحبـة فـهـو خـلـو مـن السقوط. وإني أقول لك إني رأيت أناسا أدركوا كل المواهب وصاروا شركاء الروح القدس، وهؤلاء، لأنهم لم يبلغوا المحبة الكاملة، سقطوا. فإن واحدا من لهم شرف الأصل قد تخلى عن مقتنياته وباعها وأعتق عبيده وكان حكيما وفهيما، ثم إنه أصبح ذائع الصيت بسبب سيرته الفاضلة، وفيما هو و هكذا، حين ظن نفسه شيئا وتصلّف، هوى أخيرا في فواحش وربوات من الشرور .
15 – وآخر إبان الاضطهاد سلم جسده وصار معترفا، وبعد ذلك عمّ السلام فأطلق وشاع اسمه، إذ كانت أجفانه قد تأذت جراء ما تعرض له من دخان (أثنـاء تعذيبـه). هذا أخيرا لما خلع عليـه المجـد وصـار يـدعى للصلوات، كـان يأخذ التقـدمات ويعطيها لخادمه، وهكذا بات عقله وكأنه ما سمع كلمة الله قط. وآخـر سـلم جسده أثناء الاضطهاد وعلق وكشط جلده وبعد هذا ألقي في السجن، ثم حدث أن مكرسة مـن أهـل الإيمان دأبت على خدمته، فأنس إليها بينما كان في السجن وسقط في الزنى. فانظر كيف أن الغني الذي باع مقتناه، وذاك الذي سلّم جسده للشهادة، كلاهما سقط.
16 – وآخر، ناسك حكيم، كان مقيما معي في مسكني وكان يصلي معي، هذا كان له من الغنى في النعمة بحيث إن قلبي كان ينخشني حين كان يصلي بالقرب مني لأن النعمة كانت مضطرمة فيه؛ وقد أعطيت له موهبة الشفاء، ومـا كـان يخرج الشياطين فحسب بل كـان يشفي ذوي الأرجـل المشلولة والأيادي اليابسة والذين يكابدون شـديد الآلام، بوضـع يديـه عليهم. ثم إنه لما سرقه التهاون وحفه العالم بالتمجيد وطابت نفشه به، تصـلف وتردى في مهـاوي الخطيئة – في أخـط مهاويهـا؛ فانظر أنّه حتّى الذي حظي بمواهب الشفاء قد سقط. أتـرى كيـف أهـم طالما لم يدركوا قامات المحبة يسقطون؟ لأن الذي بلغ المحبـة غـدا مربوطـا ومـلا ومغمورا ومسبيا إلى عالم آخر، وكأنه ما عاد يشعر بطبيعته الخاصة.
[هـ] فلنحرص لئلا نسلم آنيتنا بيد أعدائنا
۱۷ – سؤال: ما معنى «ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب إنسان» (1کو 2: 9)؟
الجواب: في ذلك الزمان، كان العظماء والأبرار والملوك والأنبياء يعرفون أن الفادي سيأتي، أما أن يتألم ويصلب ويسفك دمه على الصليب فهذا ما لم يكن يعرفونه ولا سمعوه. وكذلك لم يخطر على قلوبهم أنه ستكون هناك معمودية بالنّـار والـروح القدس(٢)، وأنه سيقدم في الكنيسة خبـر وخمر كـأعراض لجسده ودمه، وأن الذين يتناولون من الخبز الظاهر يأكلون روحيا جسد الرب، وأن الرسل والمسيحيين يقبلون المعزي ويلبسون «قوة من الأعالي» ويمتلئون من اللاهوتية، وأن نفوسهم تمتزج بالروح القدس، هذا لم يكن يعرفه الأنبياء والملوك ولا خطر على قلوبهم. فإن المسيحيين الآن يغتنون بطريقة مغايرة ويتحرقون شوقا إلى اللاهوتية، غير أنّهم، على اقتنائهم لمثل هذا الفرح والعزاء، يلبثون تحت «خوف ورعدة»
18- سؤال: تحت أي خوف وأية رعدة؟
الجواب: ألا يزلوا في أمر ما، بل يكونوا في تجاوب مع النعمة. كما لو أن إنسانا يملك كنوزا قـد سـافر إلى مواضع حيث يوجد لصوص، فبينما يكون فرحـا مـن أجـل غـنـاه وكنزه، فإنه يتوجس خيفة لئلا يأتي اللصوص ويسلبوه إياه، وكمثـل مـن يـحـمـل دمـه على يديه هكـذا تكـون حـالـه. فبحسب الظاهر من الأمور، كلنا قد ترك الكل وأضحى غريبا وفقيرا وعزف عن أية شركة جسدانية؛ لكن فيما يتخذ الجسد وضع الصلاة، ينبغي للإخـوة أن يتساءلوا أيتوافـق العـقـل أيضـا مـع الجسد. فكما أن الصـناع ورؤساء الأعمال في هذا العالم تكون أجسامهم، في معظم الأحوال، مربوطة بصنائعهم، وبالمثـل تكـون عـقـولهم أيضـا ليلا ونهارا؛ فأنت أيضا، يا مـن بجسدك غريب عن هذا العالم، تفقد ذاتك، ألك عقل مغاير لهذا الدهر ولست تطيش في العالم؟ فإن كل إنسان في العالم، جنديا كـان أم تاجرا، حيث يكون جسده، هناك يكون عقله مربوطا أيضا وهناك يكون كنزه، لأنه مكتوب: «حيث كنزك، هناك قلبك» (مت 6: 21 حسب النص).
19 – فإلى أي كنز إذا يصبو عقلك؟ هل هو بكليته وتمامه نحو الله أم لا؟ وإن لم يكن، فينبغي أن تقولوا لي ما الذي يحول دون ذلك. بلا شيّ هي الأرواح الشريرة، إبليس وشياطينه، أولئك الذين يمسكون العقـل ويطرحون النفس أرضا. لأن إبليس الكثير الحيل، الذي له عدة حربه وأبوابه الثلاثية وزخارفه الكثيرة، يمسك بمراعي النفس وأفكارها ولا يدعها تصلي باستقامة وتدنو مـن الله. فإن الطبيعـة نفسها لها أن تكـون شـريكة للشياطين ولأرواح الشر، كما للملائكة وللروح القدس؛ هي هيكل لإبليس، وهيكـل للروح القدس. فلتتفقدوا إذا عقولكم أيها الإخـوة، لمـن أنـتم شركاء، للملائكة أم للشياطين؟ هيكل ومسكن لمن أنتم، الله أم لإبليس؟ القلب ممتلئ بأي كنز، بالنعمة أم بالشيطان؟ كمثل بيت مملوء من النتن والقذر، يلزم أن يطهر بالتمام ويزين ويملأ مـن كـل رائحة زكية وكنوز، حتى يأتي الروح القدس عوضا عن إبليس ويستريح في نفوس المسيحيين.
[و] حرية الإرادة حجر المحل للإنسان
20– لكن ليس بمجرد أن الإنسان كلمة الله يكون للتو قد صار يسمع من النصيب الصالح، لأنه لو أنّ الإنسان حال سماعه يصير من النصيب الصالح، لما كان هناك جهادات ولا أزمنة حروب ولا سغي، بل لكان دون تعب يكفي الإنسان أن يسمع فقط حتى يأتي إلى الراحة وإلى درجـات الكمال. ليست الأمور هكذا لأنك هي، بقولك هذا تبطل إرادة الإنسان ولا تقر بأن هناك قوة معادية تصارع العقل. أما نحن فنقول هذا: إن الذي يسمع الكلمة يأتي إلى الندامة، وبعـد هـذا، حين تنسحب النعمة وفقا لتدبيرها، لأجل منفعة الإنسان، يخوض تدريب الحرب وتأديبها، ويصارع إبليس ويجاهده، ومـن بعـد سعي كثير وجهـاد ينـال الظفر ويغدو مسيحيًا (بالحق). لأنه لو أن الإنسان حين يسمع فقط يصير النصيب الصالح مـن دون تعب، لكـان حـتى الـممثلون والزناة جميعا عتيدين أن يدخلوا الملكوت والحياة، لكن أحدا لن يعطيهم هذه من دون تعب وجهاد، لأنّ «الطريق ضيقة وضاغطة»، وعبر ذات الطريق الوعرة ينبغي أن نسلك ونصبر وتلقى الشدائد، وهكذا ندخل إلى الحياة.
21- لأنه لو كان ثمة تقويم ونجاح دون تعب، لما كانت المسيحية «حجر صدمة وصخرة عثرة»، ولما كان هناك إيمان وعدم إيمان. أما أنت فتجعل الإنسان مسيرا، لا قدرة له على التغير نحو الخير أو الشر. فالناموس إنما قد أعطي لمن يمكنه أن يقصد أيا القسمين، لمن له الإرادة الحرة أن يصنع حربا مع القوة المعادية، لأنه لا ناموس يوضع لطبيعة مسيرة، فلا الشمس ولا السماء ولا الأرض قد وضع لها ناموس. فالخلائق هي من طبيعة مسيرة، ولذلك لا كرامة تنتظرها ولا قصاص. فالكرامة والمجد إنما هما معدان لمن يجعل وجهته صوب الصلاح، وأيضا جهنّم والقصاص معدان للطبيعة المتغيرة التي لهـا القـدرة أن تفـر مـن الشـر وتـيـم الجانب اليمين الصالح. أما إن كنت لا تقر بأن الإنسان ذو طبيعة حرة، فأنت إذ ذاك تجعل الإنسان الصالح غير أهـل للمديح. لأن الذي بالطبيعة صالح وخير ليس حقيقا بالمديح، وإن كان مرغوبا. فالصلاح الذي ليس عن اختيار، وإن يكن مشتهى، ما هو بالأمر الجدير بالمديح، بل إنّ ذاك بالمديح: من باجتهاده الخاص مع جهاده وقتاله، يحزم أمره على الصلاح هو الخليـق بإرادته الحرة.
22– فكما عندما يكون هناك معسكر للفرس ومعسكر للرومان، وقد برز منهما شابان متكافئا القوة واندفعا كأنهما أنبتا أجنحة واشتبكا في نزال؛ هكذا القوة المضادة والعقل هما متكافئان في القوة، أحدهما ضد الآخر. فإبليس له من القوة على الجنوح بالنفس وإغوائها إلى مشيئته الخاصة، ما للنفس أيضا من القوة على مقاومته وعدم إطاعته في شيء. فكلتا القوتين تخفزان إما للشر أو للخير، دونما قشر. فلمثل هذه النية تعطى معونة إلهية، ويمكنها حين تصارع أن تنال أسلحة من السماء، وبواسطتها تقتلع الخطيئة وتظفر بها، إذ إن مقاومة الخطيئة يمكن أن تضطلع بها النفس، أما غلبة الشر واجتثاثه فبدون الله لا يمكنها ذلك. أما الذين يزعمون بأن الخطيئة هي مثل جبار عات والنفس مثل صبي، إنّما هم يجانبون الصواب. لأنه لو كانت الأمور هي هكذا غير متكافئة، وكأنّ الخطيئة مثـل جـبـار والنفس مثـل صـي، لكـان واضـع الناموس ظالما في إعطائه ناموسا للإنسان بأن يحارب قبالة الشيطان.
23– أما أساس الطريق إلى الله فهو هذا: إنه في صبر كثير وفي رجاء وفي تواضـع وفي مسكنة بالـروح وفي وداعـة، نسلك طريـق الحيـاة، وبوار واسطة هذه الأمور يمكن للإنسان أن يبلغ البر في نفسه، ونعني بهذا البر الرب نفسه. فإن هذه الوصايا التي تأمرنا هكذا هي على غرار حجارة منصوبة وعلامات على الطريق الملوكية التي تفضي بالسائرين فيها إلى المدينة السماوية. فإنّه يقول: «طوبى للمساكين بالروح، طوبى للودعاء، طوبى للرحماء، طوبى لصانعي السلام» (مت 5: 3 – 9)، وهـذا هـو مـا يدعى المسيحية. أما إن كان أحد لا يسلك في هذا الدرب، فقـد ضـل وعدم الطريق واستعمل أساسا خاطئا. والمجد لرأفـات الآب والابن والروح القدس، إلى الدهور، آمين.