عظات حول التطويبات للقديس غريغوريوس النيصي

التطويبة الخامسة

طوبى للرحماء

ا قد تكون مقابلة بين رواية يعقوب، حين رأى في الحلم سلما تنطلق من الأرض حتى أعالي السماء، والله على قمتها، وتعليم التطويبات الذي يرفعنا بدرجات باتجاه حقيقة أسمى.

في الحالة الأولى، رسم أبو الآباء الحياة الفاضلة، التي في رأيي ، تعلّمنا بصورة السلم وتفهم الذين يأتون بعده يستحيل الارتفاع إلى الله، إذا كنا لا نوجه دوما نظرنا نحو السماء، وبدون رغبة مستمرة نحو القمم. وهكذا لا نكتفي بالخير الذي سبق وعملناه، بل ننظر، وكأننا تعساء، حين لم نصل بعد إلى ما هو أسمى.

وهنا تدرج التطويبات، البعض بالنسبة إلى البعض الآخر، يعدنا للاقتراب من الله، المطوب بامتياز وأساس كل تطويبة.

وبما أننا نقترب من الحكمة بمن هو حكيم، ومن الطهارة بمن هو طاهر، ننمو بالله المطوب بطريق التطويبات.

أما التطويبة فتخص الله بشكل حقيقي. لهذا قال يعقوب إن الله يقف، في شكل من الأشكال، على قمة السلم. إذا، المشاركة في التطويبات ليست شيئا آخر سوى الاتحاد بالألوهة التي إليها يقودنا الرب بكلامه.

2- فيبدو لي أن يسوع حين أطلق التطويبة التالية ، اله في شكل من الأشكال، ذاك الذي يسمع ويفهم الكلمة : «طوبى للرحماء فإنهم يرحمون».

الله رحمة هو

في أماكن كثيرة من الكتاب المقدس، يدعو الناس الأتقياء باسم الرحمة، قدرة الله. فذاك ما فعل داود في المزامير، ويونان في النبوءات، وموسى الكبير، مرات عديدة، في لوحي الوصايا، حين دلُوا على الألوهة. فإذا كان اسم الرحمة يليق بالله، إلى ماذا تدعوك هذه التطويبة إلا أن تكون الله فتحمل الطابع الخاص بالألوهة؟

إذا كان الكتاب المقدس يدعو الله : الرحيم، وإذا كانت التطويبة هي الله ذاته ، فيتضح بشكل نتيجة، أن الإنسان الذي يجعل نفسه رحيما يغدو أهلاً بالتطويبة الإلهية لأنه بلغ إلى ما يميز الله : «الرب  بار ورحيم ، الله يرأف بنا» (مز 116: 5). 

فكيف لا تكون السعادة للإنسان حين يدعى، بفضل سلوكه، بالاسم الذي يدل على الله في عمله؟

فالرسول الإلهي يدعونا، عبر كتاباته، لأن نطلب أعظم النعم (1کو 12: 31). فينبغي علينا، لا فقط أن نقتنع بأن نتوق إلى الخير (فمن الطبيعي للإنسان أن يكون له ميل إلى الشر)، بل ينبغي أيضا أن نتجنّب الغلط في تقييم ما هو الخير.

 ففي هذه النقطة، بشكل خاص، نغلط غلطات كثيرة في حياتنا : فنستصعب التمييز بين ما هو خير بطبعه مما يفترض، خطأ، أنه خير، فإن قدم الشر نفسه عريانا وما تلون بمظهر الخير، لما كان يتجرأ الإنسان أن يستسلم له. فنحن نحتاج إلى العقل لنفهم النص الذي يعرض علينا بحيث نتعلم الجمال الحقيقي ونجعل حياتنا موافقة له.

فالاعتقاد بالله مولود مع كل إنسان. ولكن حين نجهل ما هو الله في الحقيقة، يحرك هذا لدينا أغلاطاً خطيرة بالنسبة إلى موضوع عبادتنا. فالبعض يشاهد الألوهة الحقيقية الآب والابن والروح القدس. أما في البعض الآخر فيضلون في تصورات عبثية ويبحثون عن الله في الخلائق بحيث إن ابتعادا قليلاً عن الحقيقة يفتح الطريق إلى الكفر.

ونقول الشيء عينه عن الحقيقة التي تعرض علينا هنا : إذا كنا لا ندرك معناها الحقيقي، فيمكن أن نتأسف أننا تهنا بعيدا عن الحقيقة.

ما هي الرحمة؟

فما هي الرحمة وكيف تمكن ممارستها؟ وكيف يكون سعيدا ذاك الذي يتقبل ما يعطي؟ فقال : «طوبى للرحماء، فهم أنفسهم ينالون الرحمة».

المعنى الأول الذي يطرق فكرنا هو التالي : تدعو هذه التطويبة الإنسان إلى المحبـة المتـبـادلـة وإلى الحنان، بسبب اللامساواة والاختلافات بين البشر: فوضعهم ليس هو هو، ولا تكوين جسمهم ولا ذات الاستعدادات في مختلف المجالات. ومرارا وتكرارًا تقدم لنا الحياة أصولاً متعارضة : القوة والعبودية، الغنى والفقر، الصحة السيئة والصحة الحسنة، وسائر الاختلافات كلها.

فلكي يُتاح للذين هم في حاجة أن يصلوا إلى المساواة مع الذين يمتلكون الموارد الوافرة، ولكي يقوم التوازن بين الكثير الكثير والقليل القليل، لا بد من الحنان باتجاه أفقر الفقراء. ولا يمكن أن نحاول التخفيف عن شقاء القريب إذا كانت التقوى لم تحنن النفس بحيث تلهمها الرغبة. فالرأفة تعارض القساوة. والإنسان القاسي والبهيمي، لا يصل إليه من يحيطون به. والإنسان الرؤوف والرحيم يتشارك مع الذين يتألمون، ويتحد بهم في موضوع ما يتوقون إليه. ونستطيع أن نحدد التقوى: الألم الإرادي الذي نشعر به أمام شقاء الآخرين. 

التعاطف يعني نتألم مع الآخر

4- إذا لم يبد الشرح السابق كله واضحا كل الوضوح، نستطيع أن نقدم شرحاً آخر أكثر إضاءة. فالشفقة هي مجموعة عواطف ودودة مع الذين تعذبهم محن تجعلهم يحزنون. فكما أصل القساوة والبهيمية هو في البغض، فالحب يولد، في شكل من الأشكال، التعاطف الذي لا يمكن أن يوجد بغير ذلك.

فإن تفحص الإنسان الطابع الخاص بالتعاطف، اكتشف أن ذلك هو محبة حارة ممزوجة بألم مقابل حزن الآخرين. كل الناس يهتمون في مشاركة الآخرين في سعادتهم، أعداء وأصدقاء، ولكن القبول بمشاركة الآخرين في شقائهم يخص فقط أولئك الذين يشتعلون بحب حقيقي.

من الأكيد أننا نعرف أنّ بين جميع الفضائل الممارسة في هذه الحياة، الحب هو أجملها. والتعاطف هو حب حار. إذا يكون في ملء السعادة ذاك الذي يحفظ نفسه في هذا الاستعداد، لأنّه يصل إلى قمة الكمال. 

فلا ير أحد هذه الفضيلة في وجهها المادي المحض. وإلاً تصبح ممارستها مستحيلة لمن لا يملك موارد ضرورية لعمل الخير. فيبدو لي أكثر صحة حين نكتشفها في النية. فالذي لا يريد سوى الخير، فإن كان لا يستطيع أن يقوم بإحسان، لعدم الموارد، ليس هو أقل في داخله، من الذي يستطيع أن يبرز لطفه بالأعمال.

والربح الذي يمثله لحياتنا تفسير هذه التطويبة، لا يحتاج أن يعرض ، لأن الحسنات تظهر بوضوح حتّى للذين لا يمتلكون حكمة. لنفترض أن مثل هذا الاستعداد تجاه الأدنى منا، يوجد لدى الجميع . لن يكون بعد رؤساء وأدنياء. فحتى هذان اللفظان يزولان، والفقر لا يجعل الإنسان يتألم بعد، والعبودية تزول ، ولا يكون إذلال بعد : كل شيء يكون مشتركا بين الجميع . فتملك المساواة أمام الشريعة، والحق يتساوى بالكلام، في حياة الناس. فالذي يرئس يجعل نفسه، بملء إرادته، مساويا للذي هو أدنى منه. فإن كان الأمر هكذا، لا سبب بعد للبغض، ولا وجود بعد للحسد، ولا بغض بعد، ويزول الحقد والكذب والغش والحرب، وكلها أولاد الجشع .

 نتخلص من كل ما يستبعد التعاطف بعد أن يصبح محظورا، وكأننا ننتزع عشبة رديئة بجذورها، من كل البذار معا. فحين تقتلع الرذائل تكثر الخيرات : السلام، العدالة وكل ما يرافق توقنا إلى الكمال.

هل يمكن أن تكون سعادة لنا أعظم من أن نعيش في طمأنينة بدون أقفال ولا حجارة، مع سلوكنا الذي يكون الكفالة الوحيدة؟ إذا كانت القساوة تولد القساوة لدى الذين هم ضحيتها، فالاستعدادات الصالحة لدى الإنسان المتعاطف، تلهم، بشكل طبيعي، المحبة لدى الذين ينعمون بها.

إذا، الرحمة هي أم الطيبة، وعربون المحبة، ورباط كل صداقة. ماذا نستطيع أن نتخيل شيئا أكثر يقينًا في الحياة من هذه الطمأنينة؟ فبحق أعلن الكلمة الإلهي «طوبى للرحماء». فهذا اللفظ يتضمن خيرات عديدة جدا. فعلى الجميع أن يروا أن هذه النصيحة هي مفيدة.

ولكن يبدو لي أن النص يعطينا أن نفهم، بشكل خفي، أكثر من الاعتبارات التي ترد طوعا إلى الفكر وتتطلع إلى المستقبل. قال : «طوبى للرحماء لأنهم ينالون بأنفسهم الرحمة». فكأن أجر الرحومين سوف يأتي فيما بعد.

وهكذا، بعد أن تركنا جانبا هذا المعنى السهل الإدراك، الذي يبدو مباشرا للجميع ، ينبغي علينا أن نقارب قدر المستطاع النص بشكل نكتشف فيه ما يختفي وراء الحجاب.

الأكثر هو فيك

5- «طوبى للرحماء لأنهم ينالون هم أنفسهم رحمة». يمكن أن نكتشف هنا تعليمًا أرفع . فالذي صنع الإنسان على صورته أخفى بذار جميع الأعمال الصالحة في الطبيعة التي جبلها بيده. وهكذا لا شيء مما هو صالح ينفذ من الخارج. فكل شيء يرتبط بإرادتنا. فتخرج الخير من طبيعتنا كما من بيت المونة.

ومن مثل خاص نستطيع أن نستخرج تعليمًا عاما. فلا يمكن أن نجعل الآخرين ينعمون بما لا نملك نحن. لهذا قال الرب يوما للذين يسمعونه : «ملكوت الله فيكم» (لو 7: 21). وقال : «من يسأل ينل، ومن يبحث يجد، ومن يقرع يفتح له» (مت 6: 7-8). أن ننال ما نرغبه، أن نجد ما نبحث عنه، أن نحقق ما نتوق إليه، كل هذا في مقدورنا كل مرة نريده، ويرتبط بإرادتنا.

والعكس هو صحيح أيضا : إن الميل إلى الشر يولد فينا، دون أن تُمارس من الخارج ضرورة وإكراه، ساعة نختار الشر. فالشر يظهر ويولد كل مرة نأخذ موقفا له. هو غير موجود في ذاته. ولا وجود خاصا له خارج خيارنا، ولا يثبت وجوده في أي مكان. وهذا ما يدل بوضوح على حرية الاختيار، الذي أعطاه رب الطبيعة للإنسان، لأنّ كل شيء يرتبط بإرادتنا، الخير والشر، فدينونة الله، بحكم عادل صادق، تحسب حساب نيتنا وتعطي كل إنسان ما يعد لنفسه : للبعض – كما يقول الرسول «الذين يطلبون بمثابرة المجد وكرامة الأعمال الصالحة، الحياة الأبدية» (رو 2: 7)، والذين يرذلون الحقيقة ويسمعون صوت الجور والغضب، العقاب بكل قساوته وهو الذي ننتظره بحسب سلوكنا.

كما أن المرآة تجعل الوجه بأمانة، فرحا إذا كنا فرحين، معتمًا إذا كنا حزانى – وما من أحد يسعه أن يتهم المرآة لأن ما تعكس هو صورة كئيبة لوجه يثقل الحزن عليه – كذلك عدالة الله تعيد إلينا باستقامة ما نأتي به نحن. فكما تكون أعمالنا تكون معاملة الله لنا. قال : «تعالوا يا مباركي أبي». ثم: «امضوا عني، يا ملاعين» (مت 25: 41،34)

 هل هي الصدفة أم ضرورة خارجية تثقل علينا، فتمنحنا عرضا كلمة طيبة إلى اليمين وكلمة قاسية إلى الشمال؟ أما هو بالأحرى، بسبب أعمالنا نال الأولون رحمة، ساعة الآخرون، بقساوتهم تجاه من يشبههم ، جعلوا حكم الله قاسيا؟

فالغني لم يشفق على الشحاذ المتألم عند بابه (لو 16: 19-20)، فتمرغ في الملذات. لهذا استبعد نفسه من الشفقة. وحين طلب الرحمة لم يسمعوه.

هذا لا يعني أن نقطة ماء واحدة تسبب ضررا للينبوع الكبير في الفردوس، ولكن لأن نقطة ماء الرحمة لا يمكن أن تتواجد مع القساوة : «أي شركة بين النور والظلمة؟» (2کو 6: 14). «والإنسان يحصد ما زرع. فمن زرع في الجسم البشري يحصد فساد الجسم البشري. ومن زرع في الروح، يحصد روح الحياة الأبدية» (غل 4: 6). فالبذار، الإنسان يصنعها. وأظن أنه هو من يختار. والحصاد هو المجازاة المقدمة له بحسب ما اختار. وافرة هي الثمار للذين اختاروا البذار الصالحة، ومتعبة تكون غله أولئك الذين زرعوا في الحياة بذار الشوك. فلا يمكن أن نتجنّب حصاد ما زرعنا. ويستحيل أن يكون الأمر غير ذلك. 

شقاوات الآخرين وتعاستُنا

6- «طوبى للرحماء لأنهم ينالون رحمة». أي لغة بشرية يسعها أن تقول عمق هذا الكلام؟ فالطابع المطلق واللامحدد لهذا القول يسمح لنا أن نبحث عن أكثر من ذلك. إنه لا يحدد تجاه من يليق أن يمارس الرحمة، بل هو يقول بكل بساطة : «طوبى للرحماء».

ربما يجعلنا هذا الكلام نفهم أن عاطفة الحنان ترتبط بتطويبة الذين يبكون (كما في التطويبة الثالثة). طوباه من يقضي حياته في الألم. وهنا يبدو القول وكأنه يقدم التعليم عينه. فنحن نتأثر بشقاوات الآخرين : حين بعض أقاربنا يتحملون فشلاً لامتوقعا، وحين ينجون من غرق فيجدون نفوسهم في فقر مدقع ، أو حين يسقطون في أيدي القرصان أو اللصوص فيمسون عبيدا بعد أن عرفوا الحرية، أو سجناء بعد أن عرفوا الازدهار. وهكذا يسقطون في العوز، أولئك الذين أنعمت عليهم الظروف. كل هذه الحالات تلهمنا التعاطف مع الحزن. وقد يكون أكثر ملاءمة أن نبكي خسارة كرامة حياتنا الخاصة، حين نفكر في المنزل الرائع الذي طردنا منه، وكيف سقطنا بين أيدي اللصوص، وكيف غطسنا في هاوية الحياة، بعد أن تعرينا كليا، وكم من الأسياد وأي أسياد نعطى لنفوسنا بدلاً من أن نحفظ الحرية والاستقلال في حياتنا، وكيف خسرنا السعادة على الأرض بالموت والفساد. فهل يمكن للفكر أن يمنح شفقتنا لشقاوات الآخرين ولا نشعر بالتعاطف مع نفوسنا حين نتطلع إلى الغنى الذي خسرناه .

وماذا يستحق شفقة أكثر من مثل هذه العبودية؟ بدل رفاه الفردوس، حصتنا في الحياة هي هذه الأرض العقيمة المتمردة. وبدل جهل الألم كما في الماضي، نلنا المشاركة في آلام لا عد لها. وبدل الحياة في مجتمع الملائكة الرائع ، حكم علينا أن نسكن مع الوحوش على هذه الأرض. وعلى أثر هذا الانزلاق من حياة الملائكة التي لا آلام فيها إلى حياة الحيوانات، من يستطيع أن يحصي الطغاة القاسين في حياتنا، الأسياد الغضوبين والمتوحشين الذين يحكموننا.

الغضب سيد قاس. وآخر هو الحسد. ثم البغض، والحقد وعدد من الأسياد الغضوبين والمتوحشين. والاستسلام إلى رخاوة الملذات التي نشتريها وندفع ثمنها بالفضة، يدل على نقص في التفكير يجعلنا عبيد الأهواء والشبق. أي إفراط في القساوة لا يتجاوز طغيان الشهوة؟ فهي تستعبد نفسنا المسكينة وتكرهها على إرضاء رغبات تفترسها بلا هوادة. هي تتقبل على الدوام ولا تشبع أبدا. إنها وحش برؤوس عديدة يغذي عبر أفواه لا عد لها، معدة لا يمكن إشباعها.

فلا شبع بالنسبة إلى الطماع : فهو يكدس الأطعمة ولا يتوقف، ويشحذ رغبة الامتلاك أكثر فأكثر. من يقدر أن يتطلع إلى هذه الحياة التعيسة ويبقى بدون شعور وبدون شفقة أمام مثل هذه الشقاوات؟

والسبب الذي لأجله نمتلك شفقة قليلة لنفوسنا، هو أننا . غير واعين بما فيه الكفاية لشقائنا. فنشبه تقريبا أولئك الذين أضاعوا عقلهم ، أولئك الذين جعلهم الألم المفرط يخسرون الشعور بألمهم. من يعرف نفسه، ما كانه في الماضي وما هو الآن؟ قال سليمان في مكان ما : «الذين يعرفون نفوسهم حسنًا هم حكماء» (أم 14: 8). وأقول : من يعرف نفسه يشفق دوما على نفسه. ومثل هذا الاستعداد يجتذب بشكل طبيعي رأفة الله. لهذا قال : «طوبى للرحماء فإنهم ينالون بأنفسهم رحمة»، هم، لا شخص آخر. وإليك الشرح. فكأننا نقول : طوباه من يعتني بصحة جسده !

وكذلك، من هو رحيم هو مطوب، لأنّ ثمرة تحننه تضحي رفاه ذاك الذي يشعر بها، سواء كان الحنان الذي تفحصناه الآن، أو ذاك الذي تفحصناه أعلاه، أي التعاطف مع شقاء الآخرين. 

رحمتنا تحكم علينا

7- فهذا وذلك هما أيضا صالحان : ذلك الذي نشعر بها تجاه أنفسنا. كما سبق وقلنا، وذلك التي نشعر بها تجاه الآخرين (مت 25: 40). ودينونة الله العادلة توافق على طريقة عمل الإنسان تجاه الأكثر وضاعة، فتمنحه خيرا متفوقا بلا حدود. وهكذا يكون الإنسان ديانه الخاص : تصرفه يحرك الحكم، وكذلك بالنسبة إلى الذين يرتبطون به. وهكذا، بما أننا نؤمن ونؤمن حقا أن كل إنسان يمثل أمام منبر المسيح وأن كل واحد ينال فيه ما تستحقه حياته، بحسب ما فعل، خيرا أو شرا، قد نستطيع أن نتجرأ ونقول هذا – إن كان بإمكان عقلنا أن يدرك ما هو مخفي ويفلت من الحواس، وأن نتخيل منذ الآن، التطويبة والجزاء الممنوح للرحماء : إن عرفان الجميل تجاه الذين يمارسون الرحمة ، يلبث بشكل مستمر في قلب الذين خلال حياتهم نالوا حصتهم.

وساعة تأدية الحساب، حين يعرف أولئك الذين نعموا بلطف الآخرين ممن أحسن إليهم، كم تكون حالة الغبطة لهذا الأخير حين أمام الخليقة كلها، المتنعمين ينشدون أمام الله مدائحه وعرفان يسمع ، جميلهم! هل نستطيع أن نتخيل غبطة أكبر من أن نرى نفوسنا معظمين على مسرح العالم؟ 

ساعة الاستحقاق

يعلمنا الإنجيل الذي يرينا دينونة الملك تمارس بالنسبة إلى الأبرار والأشرار، أن المديونين لحياتنا يكونون موجودين هناك. بالنسبة إلى البعض وبالنسبة إلى البعض الآخر، يستعمل الديان اسم الإشارة ويدل، في شكل من الأشكال، بإصبعه على الذين هم موضوع الكلام: «ما عملتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار». واسم الإشارة «هذا» يتحدث بوضوح عن حضور أولئك الذين نعموا بحسناتنا.

فليقل لي الآن من يفضل مادة لا حياة فيها على الغبطة المقبلة ، ماذا يمثل الذهب أمام مثل هذا المجد، وأية حجارة كريمة تشع بمثل هذا البهاء؟ أية ثياب مزركشة تقابل الجزاء الذي وعدنا به؟ وحين يتجلّى ملك الخليقة على المسكونة كلها، على عرش جلاله، تحيط به آلاف الملائكة. وحين ينكشف على عيون الجميع ملكوت الله الذي لا يوصف، ومقابله العقوبات الهائلة : تقف البشرية من الخلق إلى نهاية الأزمنة، في وسط المسرح، منقسمة بين الخوف والانتظار، مرتجفة أمام انتظارين اثنين وحكمين اثنين ممكنين.

فهؤلاء الذين لا شيء لهم يتهمون به نفوسهم، يبدأون بالخوف، حين يرون الآخرين مجرورين في الظلمات البرانية، لأنّ ضميرهم يتهمهم. وهؤلاء الذين يسندهم عرفان الجميل من قبل الذين ينشدون مدائحهم والأعمال الصالحة في حياتهم، يستطيعون أن يقفوا هادئين واثقين أمام الديان. أي غنى مادي يقابل مثل هذه الغبطة؟ هل يبادلون هذا الفرح بالجبال والسهول، بالغابات والبحر ولو تحولت إلى ذهب؟

فالطماع الذي سجن مامون مع أختام وأقفال وأبواب مصفحة بحديد في صناديق قوية، الذي فضل أن يكدس الخيرات الخفية والمخبأة، بدلاً من أن يتبع النصائح الإنجيلية، جهز لنفسه نار جهنّم.  وضحايا قساوته اللاإنسانية، خلال حياته على الأرض، سوف يقولون له : «تذكر أنك نلت خيراتك خلال حياتك» (لو 16: 23). أقفلت الرحمة مع كنزك في صناديقك القوية، احتقرت الرحمة على الأرض، ما عرفت ما هي المحبة خلال حياتك، فلا تستطيع أن تنتظر ما لم تملك، ولن تجد ما لم تختزنه، لن تلتقط ما لم توزعه، ولن تحصد ما لم تزرع.

القرار

الحصاد يقابل الزرع. زرعت القساوة فاحصد الآن حزمك. اخترت بأن تكون بلا شفقة، فامتلك الآن ما اخترت. ما نظرت إلى قريبك بعطف فلا تنتظر أن تجد العطف. نظرت بلا مبالاة إلى من يتألم، فينظرون إليك ماضيا إلى الهلاك باللامبالاة عينها. هربت من الرحمة فهربت منك الرحمة. احتقرت المتسول ، فالذي جعل نفسه متسولاً من أجلك سوف يحتقرك. ماذا ينفعك ذهبك أمام مثل هذا القرار؟

ماذا تفيدك أغراض البذخ والكنوز التي تكفلها الختوم؟ أين هي الكلاب التي تسهر في الليل، والأسلحة المعدة على السراق؟ ما قيمة كل هذا أمام البكاء وصرير الأسنان؟ من يضيء الظلمات؟ من يطفئ النار؟ من يسحق الدود الأبدي؟

لنفكر، يا إخوتي، في كلام الرب الذي يعلّمنا في ألفاظ قليلة ، أشياء كثيرة حول الحياة الآتية. ولنمارس الرحمة لنحصل بها على الغبطة في المسيح يسوع ربنا، الذي له القدرة والمجد إلى دهر الدهور. آمين. 

زر الذهاب إلى الأعلى