إلهى إلهى لماذا تركتنى
“إلهى إلهى لماذا تركتنى” (متى46:27)
هذه العبارة لاتعنى أن لاهوته قد ترك ناسوته ، ولا أن الآب قد ترك الابن… لا تعنى الانفصال ، وانما تعنى ان الآب قد تركه للعذاب.
أن لاهوته لم يترك ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين… بهذا نؤمن ، وبهذا نصلى فى القداس الإلهى… ولو كان لاهوته قد انفصل عنه ، ما اعتبرت كفارته غير محدوده ، تعطى فدءاً غير محدود ، يكفى لغفران جميع الخطايا لجميع البشر فى جميع الأجيال… إذن فلم يحدث ترك بين لاهوته وناسوته.
ومن جهة علاقته بالآب ، فلم يتركه الآب ، ” لأنه فى الأب ، والآب فيه ” (يو11:14).
اذن ما معنى عبارة ” لماذا تركتنى ” ؟
ليس معناها الانفصال ، وانما معناها : تركتنى للعذاب. تركتنى اتحمل الغضب اإلهى على الخطية. هذا من جهة النفس. أما من جهة الجسد ، فقد تركتنى أحس العذاب وأشعر به. كان ممكنا ألا يشعر بألم ، بقوة اللاهوت… ولو حدث ذلك لكانت عملية الصلب صورية ولم تتم الآلام فعلاً، وبالتالى لم يدفع ثمن الخطية ولم يتم الفداء…
ولكن الآب ترك الابن يتألم ، والابن قبل هذا الترك وتعذب به. وهو من أجل هذا جاء.. كان تركا باتفاق..
من أجل محبته للبشر ، ومن أجل وفاء العدل… تركه يتألم ويبذل ، ويدفع ،دون أن ينفصل عنه… لم يكن تركا أقنوميا ، بل تركا تدبيريا… تركه بحب ، ” سر أن يسحقه بالحزن ” (أش1.:53).
مثال لتقريب المعنى :
لنفرض أن طفلاً اصطحبه أبوه لاجراء عملية جراحية له ، كفتح دمل مثلا أو خراج. وأمسكه أبوه بيديه ” وبدأ الطبيب يعمل عمله ، والطفل يصرخ مستغيثا بأبيه ” ليه سبتنى “. وهو فى الواقع لم يتركه ، بل هو ممسك به بشدة ، ولكنه قد تركه للالم ، وتركه فى حب … هذا نوع من الترك ، مع عد:م الانفصال.. نقوله لمجرد تقريب المعنى ، والقياس مع الفارق…
ان عبارة ” تركتنى ” تعنى ان آلام الصليب ، كانت آلاما حقيقية. وآلام الغضب الإلهى كانت مبرحة.. فى هذا الترك تركزت كل آلام الصليب ، وكل آلام الفداء.. هنا يقف المسيح كذبيحة محرقة ، وكذبيحة اثم تشتعل فيه النار الإلهية حتى تتحول الذبيحة آلي رماد ، وتوفى عدل الله كامل..
كثير من المفسرين يرون ان الرب بقوله ” إلهى إلهى لماذا تركتنى ” إنما كان يذكر اليهود بالمزمور الثانى والعشرين الذي يبدأ بهذه العبارة. كانوا ” يضلون إذ لا يعرفون الكتب” (متى29:22) بينما كانت هذه الكتب ” هى التى تشهد له” (يو39:5) فأحالهم السيد المسيح إلى هذا المزمور بالذات. وكانوا لا يعرفون المزامير بأول عبارة فيه ، كما يفعل الرهبان فى أيامنا…
وماذا فى هذا المزمور عنه ؟
فيه ” ثقبوا يدى وقدمى ، واحصوا كل عظامى… وهم ينظرون ويتفرسون فى. يقسمون ثيابى بينهم ، وعلى قميصى يقترعون” (ع17،18). وواضح ان داود النبى الذي قال هذا المزمور ، لم يثقب أحد يديه ولا قدميه ، ولم يقسم أحد ثيابه ، ولم يقترعوا على قميصه… وانما هذا المزمور ، قد قيل بروح النبوة على المسيح… وكأن المسيح على الصليب يقول لهم : أذهبوا واقراءوا مزمور ” إلهى إلهى لماذا تركتنى” وانظروا ما قيل عنى… ترون أنه قيل فيه عنى أيضا :
عار عند البشر ، ومحتقر الشعب. كل الذين يروننى يستهزئون بى يفغرون الشفاه وينغضون الرأس قائلين : اتكل على الرب فلينجه ، لينقذه لأنه سر به (ع6-8)…
ويعوزنا الوقت أن فحصنا كل المزمور… أنه صورة واضحة لآلام المسيح على الصليب. وجههم اليه. وفتح أذهانهم ليفهموا الكتب (لو45:24).
كل نص المزمور بدأ يتحقق ، لذلك قال بعد حين ” قد أكمل “. ولكن لماذا لم يقل ” قد أكمل ” مباشرة بعد إلهى إلهى لماذا تركتنى” ؟ لأن هناك عبارة أخرى فى المزمور لم تكمل بعد وهى عبارة ” يبست مثل شقفة قوتى ، ولصق لسانى بحنكى ” (ع15). إن هذه ايضا ستحقق بعد حين عندما يقول ” أنا عطشان”. لذلك قال بعدها ” قد أكمل “
ولكن لماذا قال المسيح ” إلهى ،إلهى” ؟
لقد قالها بصفته نائبا عن البشرية. قالها لأنه “أخلى ذاته ، وأخذ شكل العبد ، صائرا شبه الناس ، وقد وجد الهيئة كإنسان ، ( فى7:2،8) قالها لأنه ” وضع نفسه ” و”أطاع حتى الموت ، موت الصليب ” (فى 9:2) أنه يتكلم الآن كابن للإنسان ، أخذ طبيعة الانسان، وأخذ موضعه ، ووقف نائبا عن الانسان وبديلا أمام الله ، كابن بشر ، وضعت عليه كل خطايا البشر ، وهو الآن يدفع ديونهم جميعا…
هنا نرى البشرية كلها تتكلم على فمه… واذ وضعت عليه كل خطايا البشر ، والخطية انفصال عن الله ، وموضع غضب الله ، لذلك تصرخ البشرية على فمه ” إلهى إلهى ، لماذا تركتنى “…
لقد ناب السيد المسيح عن البشرية فى أشياء كثيرة ، أن لم يكن فى كل الأشياء !!
ناب عنا فى الصوم : لم يستطيع آدم وحواء أن يصوما عن الثمرة المحرمة ، وقطفا وأكلا ، وبدأ السيد حياته بالصوم حتى عن الطعام المحلل. لم يكن فى حاجة إلى الصوم ، ولكنه ” صام عنا أربعين ليلة ” كما تقول تسابيح الكنيسة.
وناب عنا فى طاعة الناموس : ” الرب من السماء أشرف إلى بنى البشر ، لينظر هل من فاهم طالب الله. الجميع زاغوا وفسدوا. ليس من يعمل صلاحا ، ليس ولا واحد ” (مز2:14،3). وجاء المسيح ، فناب عن البشر فى طاعة الآب ، نفذ الناموس لكى ” يكمل كل بر” ( متى15:3). كما ذكرت وقت العماد… وهكذا ناب عن البشرية فى تقديم حياة طاهرة مقبولة أمام الله الآب…
وناب عنا أيضا فى الموت وفى العذاب وفى دفع ثمن الخطية و” الذي بلا خطية صار خطية لأجلنا ” (2كو21:5). واحتمل كل لعنة الناموس. واحتمل كل غضب الله على الخطاة بكل ما فيه من مرارة. وكنائب عن البشرية قال ” إلهى إلهى لماذا تركتنى “…
وهذا الذي اعان الكل ولم يترك أحدا ، تركه الكل حتى الآب… وبهذا دفع ثمن الخطية ، وتحمل الغضب وخرج منتصرا ، بعد أن جاز معصرة الألم وحده ، نفسا وجسدا…
وفى هذا كله أعطانا درسا. لكى نحترس نحن.
ان كانت الخطية تسبب كل هذا الترك وكل هذا التخلى ، وكل هذا الالم ، فلنسلك نحن بتدقيق (أف15:5) ولنخف أن نترك الرب لئلا يتركنا. فإن الإبن نفسه قد ترك. وألم الترك لا يطاق. وفى كل ذلك فلنشكر ربنا يسوع المسيح ونسبحه على كل هذاالحب وهذا البذل…
ان عبارة ” لماذا تركتنى” ، تعطينا الكثير من العزاء كلما نقع فى الصيقات… ان كان الله الآب” لم يشفق على ابنه ” (رو22:8). وسلمه لهذا العذاب والحزن ، فلماذا نتذمر نحن على الآلام التى يسمح بها الآب؟!… ان كان الآب قد سر ان يسحق بالحزن ابنه الوحيد الحبيب الذي قال عنه : ” هذا هو ابنى الحبيب الذي به سررت” (متى17:3). ومع ذلك فنحن لم نتعرض لشىء من كل آلام المسيح على الرغم من استحقاقنا لكل ألم فلماذا اذن نتذمر على الضيقات ؟.
ان الابن شرب الكأس التى قدمها له الآب ، وقال له ” لتكن مشيئتك “. وأطاع حتى الموت ، موت الصليب ، بكل خضوع. أما عبارة ” لماذا تركتنى ” ، فلم تكن نوعا من الاحتجاج أو الشكوى- كما قلنا- انما كانت مجرد تسجيل لآلامه ، واثبات حقيقتها ، واعلانا بأن عمل الفداء سائر فى طريق التمام…
من كتاب كلمات السيد المسيح على الصليب لقداسة البابا شنودة الثالث