إن كان إنساننا الخارجي يفنى

 

 “إن كان إنساننا الخارج يفني ، فالداخل يتجدد يوماً فيوماً” (1 كو 4 :16)

إنساننا الخارج استلمناه من الزمن. وكل إنسان يعرف تاريخ ميلاده، و وكلما كبر الإنسان في العمر تتخلى عنه قوته قليلاً قليلاً دون أن يستشعر ذلك، إلى أن تأتي السنين فينظر الإنسان إلى حياته فيراها قد أكلتها السنين، ثم ينظر أمامه فلا يجد أملاً في الدنيا بعد. فإن كان قد اذخر شبابه سنين أعطاها للمسيح في تقوى وقداسة وصلاة وخدمة وتسبیح، تجدد أمله ورای أن حياته إنما ابتدأت تأخذ جدتها في المسيح، وكأنه أصبح إنساناً جديداً بشبابه ورجائه ونظرته للمستقبل القريب والبعيد سيّان، لأنه يسمع الصوت الأتي من فوق: تشجع، فإنك عن قريب ستكون معي. وهكذا يمتلئ سروراً عوضاً عن الحزن على الماضي، لأن في الحياة في المسيح تجدد شباب الإنسان فيزداد مع السنين حكمة ونعمة وقولاً سديداً، ويراه الناس فيمجدون الله فيه.

والإنسان الذي من الله عليه بيقظة الضمير واستنارة في معرفة أمور الله، هو ذخيرة لا يمكن التقليل من قيمتها للآخرين، لأنه يلزم أن يدرك الإنسان في المسيح أن هبة الإنسان الجديد هي عطية للآخرين أكثر منها للإنسان، فالخارج الذي يفنى أمام عين الإنسان هو ملكه الذي يحاول أن يمتد به إلى الأمام، أما الإنسان الجديد الذي يتجدد كل يوم حسب صورة خالقه في المجد فهو ملك الآخرين ونور للعالم، وإذا كان الإنسان العتيق هو فخر أمه، فالجديد الذي يتجدد كل يوم بانسكاب النعمة عليه واستقائه من ماء الحياة النابع من أمام عرش الله، هو فخر المسيح ومجد الله.

نحن إذا نظرنا إلى واقع الحياة في ظل الإيمان المسيحي ، يلفت نظرنا جداً مقدار الضغط الهائل الذي يسوقه العالم ضد أولاد الله . ولكنه بالحقيقة مُصوب بالأكثر إلى إنساننا الخارجي ، أما إنساننا الداخلي فهو مشغول بحياته في المسيح . نعم ربما يبدو أن الإنسان في الخارج يفنى تحت تلك الضغوط والآلام التي يحلو لأهل العالم أن يسوقوها علينا جزافا إلا أن الإنسان في الداخل ، المشتعل بالروح ، يشعر أنه أسعد إنسان على الأرض ، سعيد بالله ، وسعيد بتقديم حياته لله .

على أنه بالموازنة بين حياة تنقضي في العالم وإعواز العالم ، ومطالب الناس ومشاغل الأسرة والعناية بها ، وبين حياة تنقضي في التعزية بالإنجيل وخدمة إخوة الرب ، نعم بالموازنة نجد أن خفة ضيقاتنا التي نجوزها بالنعمة في تحصيل إعوازنا في العالم وخدمة الكلمة بالروح والحق ، أنها تنتهي بمكسب كبير عند الله بما يساوي أضعاف الأضعاف مما تقابله في حياتنا اليومية .

وعلى قدر فناء الجسد ، يتجدد الروح ، وتنتعش في خدمة الكلمة ، وإعواز الفقراء . ونحن لا نهتم كثيراً بحياتنا التي نقضيها في العالم ، بل عيوننا ناظرة إلى فوق منشغلة بما سنُحصله أخيراً إزاء حياة الإيمان بمستقبلها عند الله.

فنحن نحيا حياتين ، حياة الجسد للعالم ، وحياة الروح للإيمان بالمسيح . الأولى يأكل الدهر منها فتهزل على ممر السنين ، الثانية تنشط وتتشجع بمضي الأيام وقرب الذهاب إلى فوق ، حيث الموطن السعيد . 

فاصل

من كتاب الإنجيل في واقع حياتنا للأب متى المسكين

زر الذهاب إلى الأعلى