اجتهدوا ان تدخلوا

 

“اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق” (لو 13: 24)

ما هو الباب الضيق ؟ المسألة نسبية مطلقة ، فباب العالم واسع جداً ، دخل منه ويدخله الخطاة من كل صنف ، لا يمتنع بابه عن إدخال كل الناس ، لا فرق.

أما باب الملكوت ، فهو الباب الضيق بالضرورة ، ولا يدخله إلا الذين أُعطي لهم، لأنه ليس بالقوة ولا بالقدرة، ولكن هي نعمة الله التي تفتح وتغلق. والمجتهدون يحسبون مستحقين من أجل اجتهادهم ، واجتهادهم هو حفظ وصايا المسيح التي جعلها ثمناً لحبه، “الذي يحبني يحفظ وصاياي .. وأنا أحبه وأُظهر له ذاتي” ( يو 14 : 21). وماذا يشتهي الإنسان أكثر من هذا ؟ فمسألة الملكوت يسبقها حب المسيح ووصاياه. وهل يكون أعظم من حب المسيح شيء ؟

جِب ما شئت ، واملك ما شئت ، ولكن في النهاية سترى أنك خسرت كل شيء ، فلا يوجد بعد حب المسيح وامتلاك أقواله ووصاياه شيء.

والعجيب أن يكون باب الملكوت مفتوحاً لمن أُغلق عليهم باب العالم وهذه الدنيا الكاذبة . لذلك يؤكد المسيح لنا معطياً نفسه مثالاً “ثقوا . أنا قد غلبت العالم” وهذا أعطانا أعظم اطمئنان أن العالم هو مغلوب مغلوب لمن أمسك في المسيح ليدخل معه إلى الحياة . فهنا اختيار حياة أو موت؟ المسيح أو العالم؟

ولكن لماذا يقول المسيح اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق؟

ذلك لأن مغريات العالم والخطية الرابضة على الباب تترصدنا ، حتى نقع في فخ هذا العالم الشرير الموضوع في يد الشيطان.

اعلم ، أيها الصديق ، أن باب العالم الواسع لا يترك الناس أحراراً، يدخلون أو لا يدخلون ، بل يجذبهم بشدة ويغريهم بإغراءات يسيل لها لعاب الجهلاء.

لهذا ، ولهذا فقط ، يقول المسيح اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضّيق. واعلم ، أيها الصديق ، أن أعظم اجتهاد هو الاجتهاد ضد النفس ؛ فأمامنا الآن جهاد مرّ ، لأن الاجتهاد ضد النفس يجعلها تثور وتتمرد على صاحبها ، وليس ذلك فقط ، بل أمامنا ضيق الباب الذي نريد الدخول منه ، لأنه لا يسمح للمتسعين في الدنيا أن يدخلوا من الباب الضيق ، فهو لا يسعهم حتى لو أرادوا ، إذ يثقل عليهم جداً ترك اتساعهم والدخول في العوز والضيق . والمسيح نبه على ذلك خفيفاً إذ قال : « ما أعسر دخول ذوي الأموال ». 

مع العلم يا صديقي ، أن وراء الباب الضيق طريقاً ضيقاً أيضا وكرباً. والسير فيه ليس إلى يوم أو شهر أو سنة ، بل هو يستغرق عمر الإنسان كله. وهو طريق ليس فيه مسليات أو مشتهيات ، ولا استراحة للارتخاء ؛ ولكن سمته السهر وبذل الذات وبيع المحبة لكل الناس مجاناً، لا فرق بين عدو أو صديق. وطعام السائرين في الطريق الضيق هو التقوى وحفظ الإنسان لنفسه من دنس العالم.

ولكن الذي يطمئننا جداً أن كثيرين ساروا فيه وغلبوا ، واكتفوا بالقليل الذي يرزقهم به الرب. وكانت سعادتهم وتهليلهم وفرحهم لا تهدأ ولا تسكت ، لأنهم غلبوا العالم وصاروا أهلا للملكوت الذي يسعون إليه.

سهل أن يؤمن الإنسان بما قاله المسيح وما عمل ؛ فما أسهل أن يؤمن به الإنسان بالمسيح في قلبه ويعترف به بفمه . ولكن اختبار صدق الإيمان هو العمل به والسلوك بمقتضاه . إذ بعد الإيمان يوجد ” الباب الضيق ” ، “والطريق الكرب ” ، الذي يتحتم على كل من آمن بالمسيح أن يعبر منه. فالباب الضيق هو نقطة العبور الحرجة من الطريق الواسع المؤدي إلى الهلاك إلى الطريق الكرب المؤدي إلى الحياة ، حيث يُفحص القلب والضمير على ضوء الصليب.

وأشد أعداء الإنسان المؤمن المخفيين في داخله هم : البغضة ، والعداوة ، والخصام ، والغضب ، والدينونة ، ومحاكمة أعمال الآخرين دون محاكمة الذات ، وثلب أعراض الناس ، ومحاولة إخراج القذى من عيون الآخرين ، والخشبة مدقوقة في نني عين الإنسان.

هؤلاء هم الأعداء الجوانيون للإنسان المؤمن ، المتربصون به على عتبة الباب الضيق ، يمنعونه من العبور منعاً. والإنسان للأسف إما هو لاه عنها مستهتر بها ، أو أنها دخلت خلسة تحت جلده وصارت جزءا من طبيعته ، أو أنه يمارسها بفجور وكأن لا إنجيل له ولا ديان ولا يوجد أمامه باب ضيق.

هذا الإنسان لا يعود ينفعه إيمانه ، لأن الذي يصنع هذا يكون قد داس المحبة وافترى عليها وأهانها ، والمحبة هي الله ، وهي شهادة صدق الإيمان وفاعليته.

وستبقى تعاليم المسيح أعلى دائماً من مستوى أقصى جهد للإنسان!! ليبق الإنسان دائما منسحقاً أمام الله والمسيح ، متشبث بالنعمة. 

فاصل

من كتاب الإنجيل في واقع حياتنا للأب متى المسكين

زر الذهاب إلى الأعلى