تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 16 للقديس كيرلس الكبير

الأصحاح السادس عشر

عظة 108 وكيل الظلم (لو16: 1-9)

 

وَقَالَ أَيْضًا لِتَلاَمِيذِهِ:«كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيلٌ، فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ. فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. فَقَالَ الْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي الْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ، وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ، حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ الْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ. فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ، وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاجْلِسْ عَاجِلاً وَاكْتُبْ خَمْسِينَ. ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاكْتُبْ ثَمَانِينَ. فَمَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هذَا الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ. وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ، حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ.

إن ربنا يسوع المسيح إذ يظهر مجده لجموع اليهود أو بالأحرى لكل من أمنـوا به، يقول: “أنا هو نور العالم” (يو 8: 12) وأيضا: “أنا قد جئت نورا إلى العـالم” (یو 12: 46)، لأنه هو يملأ ذهن من يخافونه بنور إلهي وعقلي لكـي لا يضلوا عـن الطريق الصحيح بالسير في الظلمة والكآبة، بل لكي بالأحرى يعرفون كيف يتقدمون باستقامة في كل عمل صالح، وفي كل ما من شأنه أن يعين الإنسان ليحيـا حيـاة القداسة. لذلك هو يريدنا أن نكون صالحين ومستعدين أن نتصل ببعضنا وأن نحـب بعضنا البعض، وأن نكون رحومين ومتزينين بمكارم الإحسان.

لذلك فإنه أعد لنا بمنتهى الحكمة المثل الحاضر، ولأننا مشتاقون أن نشرحه بأقصى ما عندنا من قدرة، لذلك فنحن بالضرورة نتكلم كما يلي لأولئك الذين يحبون التعلم.

وهكذا فإن الأمثال تشرح لنا بطريقة غير مباشرة ومجازية الكثير مما هو لبنائنا، على شرط أن نتأمل معناها بطريقة مختصرة وملخصة، لأنه ليس لنا أن نفحص كـل عناصر المثل بتدقيق وتطفل، لئلا تتسبب المجادلة الطويلة جدا بإفراطها الزائد، فـي تعب حتى أولئك المغرمين بالاستماع وتنهك الناس بازدحام الكلمات. لأنه لو أن واحد مثلاً يأخذ على عاتقه أن يشرح، من الذي يجب أن نعتبره الإنسان الذي كان له وكين، وهو الذي وشي به إليه، أو من هو الذي يمكن أن يكون قد وشي به ، ، وأيضا من هم المدينون له ثم خصم جزء من ديونهم، ولأي سبب قيل إن واحدا مدين بالزيت والآخر بالقمح، فإنه سيجعل حديثه غامضا وفي نفس الوقت مطولاً بغير داع وأيضا يجعلـه غامضا بأن واحد. لذلك فليست كل أجزاء المثل هي بالضرورة ومن كل جهة نافعة لشرح ما تشير إليه الأشياء، بل هي قد أخذت لتكون صورة لأمر هام معين وهو يقدم درسا لأجل منفعة السامعين.

لذلك فإن مغزى المثل الحالي هو شيء مثلما يأتي:
الله يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” (1تي 2: 4)، فمن أجل هذا السبب هو أعطى ” الناموس عونا ” بحسب تعبير النبي (إش 8: 20) والناموس فـي مثل هذه المقاطع التي نقولها لا يعني بالطبع ما جاء بواسطة موسی فقط، بل بالحري كل الكتاب الموحى به الذي بواسطته نتعلم الطريق الذي يؤدي باستقامة إلى كل شيء صالح وخلاصي. لذلك فإن رب الكل يريدنا أن نكون راسخين تماما في سعينا نحـو الفضيلة، وأن نثبت رغباتنا نحو الحياة المقدسة الأفضل وأن نحـرر أنفـسـنـا مـن ارتباكات العالم ومن كل محبة للغنى ومن اللذة التي تجلبها الثروة، لكي ما نخـدم الله باستمرار، وبعواطف غير منقسمة، لأنه يقول أيضا بقيثارة المرنم: “ثابروا واعلمـوا أني أنا هو الله” (مز 10:46) وأيضا فإن مخلص الكل يقول بفمه لكل من يقتنون ثروات دنيوية: “بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة، اعملوا لكم أكياسا لا تفنى وكنزا لا ينفد فـي السموات ” (لو 12: 33). إن هذه الوصية هي في الواقع لأجل خلاصنا، لكن ذهن الإنسان ضعيف جدا أو مثبت باستمرار على أمور أرضية وهو غير راغب في الابتعاد بنفسه عن لذة الغني. إنه ذهن يحب المجد الباطل ويرتضي جدا بمديح المنافقين، ويتوق إلى
التجهيزات الجذابة، ولا يحب شيئا أفضل من الكرامة المؤقتة. والمخلص نفسه لأنـه يعرف هذا، فقد قال عنه في موضع ما: “ما أعسر دخول ذوى الأموال إلى ملكـوت الله” (لو 18: 24)، وأيضا: “لأن دخول جمل من ثقب أبره أيسر من أن يدخل غنى إلـى ملكوت الله” (لو 18: 25). لأنه طالما أن الإنسان يعيش في غنى ولذة فإنه يهمل التقوى من نحو الله، لأن الثروة تجعل الناس متكبرين وتزرع في أذهان من يمتلكونها بـذار كل شهوانية.

إذن أليس هناك طريق لخلاص الأغنياء؟ وألا توجد وسيلة لجعلهم شركاء فـي رجاء القديسين؟ هل هم قد سقطوا تماما من نعمة الله؟ هل جهنم والنار معدة لهم بالضرورة مثلما هي نصيب إبليس وملائكته؟

لا، ليس الأمر هكذا، انظر فهوذا المخلص قد أظهر لهم وسيلة للخلاص في المثل الحاضر فقد جعلهم الله موكلين على ثروة عالمية بسماح ورحمة من الله القدير، لكـن بحسب قصده فقد جعلوا وكلاء لأجل الفقراء، لكنهم لم يقوموا بوكالتهم بطريقة صائبة فهم يبعثرون ما قد أعطي لهم من الرب، لأنهم يبددونه على ملذاتهم فقط، واشتروا به كرامات مؤقتة غير متذكرين الله الذي يقول: ” ابسط مراحمك لأخيـك، ذلـك الـذي يحتاج إليك ” (تث 8:15 س)، ولا متذكرين أيضا المسيح نفسه مخلصنا جميعـا والـذي يقول: “كونوا رحماء كما أن أباكم أيضا رحيم” (لو 36:6). لكنهم كما قلت لا يعملـون أي اعتبار لإظهار الرحمة لإخوتهم، بل يغذون فقط كبرياءهم. هذه هي التهمة التـي توجه إليهم أمام رب الكل. ومن الطبيعي أنهم عند اقتراب الموت يلزمهم أن يتوقفـوا عن وكالتهم، بإنتهاء الأعمال البحرية، لأنه لا يمكن لأحد أن يفلت من شبكة المـوت. فماذا يريدهم المسيح أن يفعلوا إذن؟ إنهم بينما هم لا يزالون في هذا العالم، حتى ولو كانوا غير راغبين في إعطاء كل ثروتهم للفقراء، فعلى الأقل عليهم أن يقتنـوا لـهـم أصدقاء بجزء منها، وأن يقتنوا لهم شهودا كثيرين لإحسانهم أي أولئك الـذين نالوا خيرا على أيديهم، حتى إذا انقطعت عنهم ثروتهم الأرضية، يمكنهم أن يقتنـوا لـهـم موضعا في مظالهم، لأنه من المستحيل أن تكون محبة الفقراء بلا مكافأة. لذلك سواء أعطى الإنسان كل ثروته أو أعطى جزء منها، فإنه بالتأكيد سوف ينفع روحه. لذلك فهو عمل يليق بالقديسين وجدير بالمديح الكامل والذي يـؤدي إلـى ربـح الأكاليل التي فوق، أن لا يكنز الإنسان ثروة أرضية، بل أن يوزعها على من هم في احتياج لكي يكنز بالأحرى ما هو في السموات، ويحصل على أكياس لا تفنـى (انظـر لو 12: 32)، ويقتنى كنزا لا يفنى، ويلي ذلك أن يستخدموا نوعا من التحايـل ليكسبوا القريبين من الله كأصدقاء لهم، بأن يعطوهم جزء من ثروتهم، ويريحوا كثيرين مـن الفقراء، لكي بهذا يمكنهم أن يشاركوهم فيما هو لهم. وينصح الحكــم جـدا بـولس الرسول بشيء من هذا النوع قائلاً للذين يحبون الثروة: “لكـي تكـون فـضالتكم لأعوازهم، كي تصير فضالتهم لأعوازكم” (2کو 8: 14).

لذلك فمن الواجب علينا، إن كان لنا قلب مستقيم، وإذا ثبتنا عين الذهن علـى مـا سوف يكون فيما بعد، وإذا تذكرنا الكتاب المقدس الذي يقول بوضوح: إننـا جميعـا سنظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرا كان أم شرا (2کو 5: 10)، إن كنا نخاف اللهيب الشديد الذي لا يخمد، أن نتذكر الله الـذي يريدنا أن نظهر رحمة نحو إخوتنا، وأن نتألم مع المرضى، وأن نبسط أيدينا لمن هم في احتياج، وأن نكرم القديسين الذين يقول المسيح عنهم: ” من يقبلكم يقبلنــي ومـن يقبلني يقبل الذي أرسلني” (مت 40:10) ولأن الرحمة للإخوة إنما هي ليست بدون فائدة أو نفع، لذلك يعلمنا المخلص نفسه ويقول: ” من يعطي كأس ماء بارد باسم تلميذ لـن يضيع أجره” (مت 10: 42). لأن مخلص الجميع هو سخي في العطاء: الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين.

عظة 109 الأمين في القليل “
لا تقدرون أن تخدموا الله والمآل ”
(لو16: 10-13):

اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ، وَالظَّالِمُ فِي الْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ الظُّلْمِ، فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى الْحَقِّ؟ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ، فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ لَكُمْ؟ لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ»

المعلمون الأكثر خبرة وامتيازا عندما يرغبون في تثبيت أي تعليم هام في عمـق أذهان تلاميذهم، فإنهم لا يغفلون أي نوع من التفكير يستطيع أن يلقي ضـوءا علـى الغرض الرئيسي لأفكارهم. فمرة ينسجون الحجج معا، ومرة أخرى يستخدمون أمثلة مناسبة، وهكذا يجمعون من كل حدب وصوب أي شيء يخدم غرضهم. وهذا ما نجد أن المسيح أيضا يفعله في أماكن كثيرة، وهو الذي يعطينا كل حكمة. لأنه كثيرا مـا يكرر نفس الحجج بعينها حول الموضوع أيا كان لكي ما يرشد ذهن سامعيه إلى الفهم لكلماته بدقة. لذا أتوسل إليكم أن تنظروا ثانية إلى مغزى الدروس الموضوعة أمامنا. لأنه هكذا ستجدون أن كلماتنا صحيحة، وهو يقول: “الأمين في القليل أمين أيضا في الكثير، والظالم في القليل ظالم أيضا في الكثير”.

لكن قبل أن أسترسل، أعتقد أنه من المفيد أن نتأمل في ما هي مناسبة مثـل هـذا الحديث، ومن أي أصل نشأ، لأن بهذا سيصير معنى الكلام واضحا جدا. كان المسيح آنذاك يعلم الأغنياء أن يشعروا ببهجة خاصة في إظهار الشفقة والعطف نحو الفقراء، وفي مد يد العون لكل من هم في احتياج، وهكذا يكنزون لهم كنـوا فـي الـسماء، ويتفكرون مقدما في الغنى المذخر لهم، لأنه قال: “اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلـم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية” (لو 9:16). لكن إذ هو إله بالطبيعـة، فهـو يعرف جيدا كسل الذهن البشرى من جهة كل عمل جاد وصـالح. ولـم يـغـب عـن معرفته، أن البشر في طمعهم في المال والثروة يسلمون ذهنهم لحـب الـربح، وإذ تتسلط عليهم هذه الشهوة، فإنهم يصيرون قساة القلوب ولا يبدون مشاركة وجدانية في الألم، ولا يظهرون أي شفقة أيا كانت للفقراء رغم أنهم قد كتسوا ثروات كثيرة فـي خزائنهم. لذلك فأولئك الذين يتفكرون هكذا ليس لهم نصيب في هبات الله الروحيـة، وهذا ما يظهره (الرب) بأمثلة واضحة جدا إذ يقول: “الأمين في القليل أمين أيضا في الكثير، والظالم في القليل ظالم أيضا في الكثير “.

 يا رب اشرح لنا المعني، وافتح عين قلبنا. لذلك أنصتوا إليه بينمـا هـو يـشرح بوضوح ودقة ما قاله. ” إن لم تكونوا أمناء في مال الظلم، فمن يأتمنكم على الحـق؟” (لو ١١:١٦)، فالقليل إذن هو مال الظلم، أي الثروة الدنيوية التي جمعـت فـي الغالـب بالابتزاز والطمع. أما من يعرفون كيف يعيشون بالتقوى، ويعطشون إلـى الرجـاء المكنوز لهم، ويسحبون ذهنهم من الأرضيات، ويفكرون بالأحرى في الأمـور التـي فوق، فإنهم يزدرون تماما بالغنى الأرضي، لأنه لا يمنح شيئا سوی الملذات والفجور والشهوات الجسدانية الوضيعة، والأبهة التي لا تنفع، بل هي أبهة مؤقتة وباطلة وهكذا يعلمنا أحد الرسل الأطهار قائلاً: “لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيـون وتعظم المعيشة” (1يو 2: 16).

لكن مثل هذه الأشياء هي لا شيء بالمرة لمن يحيون حياة رزينة وتقيـة، لأنهـا أشياء تافهة، ومؤقتة، ومملوءة بالنجاسة وتؤدى إلى النار والدينونة، ونادرا ما تستمر إلى نهاية حياة الجسد، وحتى إن استمرت، فإنها تزول على غير توقع عندما يحل أي خطر بأولئك الذين يمتلكونها. لذلك يوبخ تلميذ المسيح الأغنياء بقوله: ” هلم الآن أيها الأغنياء ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة، غناكم قد تهرأ وثيابكم قد أكلهـا العـث ذهبكم وفضتكم قد صدئا، وصدأهما يكون شهادة عليكم” (يع 5: 1-3). فكيـف صـدا الذهب والفضة؟ بكونهما مخزونين بكميات هائلة، وهذا بعينه هو شهادة ضدهم أمـام منبر الدينونة الإلهي، لكونهم غير رحومين، لأنهم جمعوا في كنوزهم كميات كبيرة لا يحتاجون إليها، ولم يعملوا أي اعتبار لمن كانوا في احتياج، مـع أنـه كـان فـي استطاعتهم ـ لو هم رغبوا ـ أن يصنعوا خيرا بسهولة لكثيرين، ولكنهم لم يكونـوا أمناء في القليل.

لكن بأي طريقة يمكن للناس أن يصيروا أمناء؟ هذا ما علمنا إياه المخلص نفسه بعد ذلك، وأنا سأشرح كيف…

طلب أحد الفريسيين منه أن يأكل خبزا عنده في يوم السبت، وقبل المسيح دعوته، ولما مضى إلى هناك جلس ليأكل، وكان كثيرون آخرون أيضا مدعوين معه، ولم يكن أحد منهم تظهر عليه سمات الفقر، بل على العكس كانوا كلهم من الوجهـاء وعليـة القوم ومحبين للمجالس الأولى ومتعطشين للمجد الباطل كما لو كانوا متسربلين بكبرياء الغني. فماذا قال المسيح لمن دعاه: ” إذا صنعت غذاء أو عـشـاء فـلا تـدغ أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء لئلا يدعوك هم أيضا فتكـون لك مكافأة، بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين الجدع والعرج والعمي، فيكون لـك الطوبي إذ ليس لهم حتى يكافئوك، لأنك تكافئ في قيامة الأبرار” (لو 14: 12 -14). هذا هو إذن ما اعتقد أنه معنى أن يكون الإنسان أمينا في القليل، أي أن تكون لـه شـفقة على من هم في احتياج، ويوزع مساعدة مما لديه لمن هم في ضيق شديد. لكن نحـن بازدرائنا بالطريق المجيد والذي له مجازاة أكيدة، فإننا نختار طريقا معيبا وبلا مكافأة، وذلك بأن نعامل باحتقار من هم في فقر مدقع، بل ونرفض أحيانا أن نسمح لكلمـاتهم أن تدخل آذاننا، بينما نحن من ناحية أخرى نقيم وليمة مكلفة وببذخ شديد إما لأصدقاء يعيشون في رغد، أو لمن اعتادوا أن يمدحوا أو يداهنوا جاعلين كرمنا فرصة لإشباع حبنا للمديح.

لكن هذا لم يكن هو قصد الله من سماحه لنا أن نمتلك ثروة، لذلك فإن كنا غير أمناء في القليل بعدم تكييف أنفسنا وفقا لمشيئة الله، وبإعطاء أفضل قسم من أنفسنا لملذاتنا وافتخاراتنا، فكيف يمكننا أن ننال منه ما هو حق؟ (أو ما هو حقيقي). وماذا يكون هذا الحق؟ هو الإنعام الفائض لتلك العطايا الإلهية التي تزين نفس الإنسان، وتجعل فيها جمالاً شبيها بالجمال الإلهي. هذا هو الغني الروحي، وليس الغنى الذي يسمن الجسد الممسك بالموت، بل هو بالأحرى ذلك الغنى الذي يخلص النفس ويجعلها جديرة بأن يقتدى بها، ومكرمة أمام الله، والذي يكسبها مدحا وأمجادا حقيقية. لذلك فمن واجبنا أن نكون أمناء الله، أنقياء القلب، رحومين وشفوقين، أبرارا وقديسين، لأن هذه الأمور تطبع فينا ملامح صورة الله، وتكملنا كورثة للحياة الأبدية، وهذا إذن هو ” الحق “.

وكون أن هذا هو مغزى ومقصد كلمات المخلص، فهذا هو ما يمكن لأي شخص أن يعرفه بسهولة مما يلي، لأنه يقول: ” إن لم تكونوا أمناء فيما هو للغير فمن يعطيكم ما هو لكم؟”. وأيضا نحن نقول إن “ما هو للغير” هو الغني الذي نمتلكه، لأننا لم نولد أغنياء بل على العكس، فقد ولدنا عراة، ويمكننا أن نؤكد هذا عن حق بكلمات الكتاب: ” لأننا لم ندخل العالم بشيء، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بـشـيء” (1تـي 7:6)، لأن أيوب الصبور قد قال أيضا شيئا من هذا القبيل: ” عريانا خرجت من بطن أمـي وعريانا أعود إلى هناك” (أي 1: 21). لذلك، فلا يملك أي إنسان بمقتضى الطبيعـة أن يكون غنيا، وأن يحيا في غنى وفير، بل إن الغنى هو شيء مضاف عليه من خارجه، فهو مجرد إمكانية (أي يمكن أن يوجد أو لا يوجد)، فلو باد الغني وضاع فهذا أمر لا يخل بأي حال بخصائص الطبيعة البشرية، فإنه ليس بسبب الغني نكون كائنات عاقلة وماهرين في كل عمل صالح، بل إن هذه هي خاصية للطبيعة البشرية أن نتمكن من عمل هذه الأشياء. لذلك كما قلت فإن ” ما هو للغير ” لا يدخل ضـمن خصائص طبيعتنا، بل على العكس فمن الواضح أن الغني إنما هو مضاف إلينا مـن الخـارج. ولكن ما هو لنا، وخاص بالطبيعة البشرية هو أن نكون مؤهلين لكل عمل صالح، كما يكتب الطوباوي بولس: “قد خلقنا لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها ” (أف 2: 10).

لذلك فعندما يكون البعض غير أمناء “فيما هو للغير”، أي في تلك الأشياء التـي هي مضافة إليهم من الخارج، فكيف سينالون ما هو لهم؟ كيف سيصيرون شـركاء الخيرات التي يعطيها الله والتي تزين نفس الإنسان وتطبع فيها جمالاً إلهيـا، يتـشكل فيها روحيا بواسطة البر والقداسة، وبتلك الأعمال المستقيمة التي تعمل في مخافة الله. لذلك ليت من يمتلكون منا ثروة أرضية، يفتحون قلوبهم لأولئك الـذيـن هـم فـي احتياج وعوز، ولنظهر أنفسنا أمناء ومطيعين لوصية الله، وتابعين لمشيئة ربنـا فـي تلك الأشياء التي هي من خارج وليست هي لنا لكي ما ننال ما هو لنا، الذي هو ذلك الجمال المقدس والعجيب، الذي يشكله الله في نفوس الناس إذ يصوغهم على مثالـه بحسب ما كنا عليه في الأصل. 

أما أنه شيء مستحيل لشخص واحد بعينه أن يقسم ذاته بين متناقضات ويمكنه مع ذلك أن يحيا حياة بلا لوم، فالرب يوضح هذا بقوله: “لا يقدر خادم أن يخدم سـيدين لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يكرم الواحد ويحتقر الآخـر” (لو 13:16). وهذا في الواقع مثال واضح وصريح ومناسب جدا لشرح الموضوع الذي أمامنا، لأن الذي يترتب على هذا هو خلاصة المناقشة كلها: “لأنكم لا تقـدرون أن تخـدموا الله والمال”، وهو يقول: لأنه لو كان لإنسان أن يكون خادمـا لـسيتين لهمـا مـشيئتان مختلفتان ومتضادتان، وفكر كل واحد منهما غير قابل للتصالح مع الآخـر، فكيـف يمكنه أن يرضيهما كليهما؟ لأنه بسبب كونه منقسما في سعيه أن يعمل ما يوافق عليه كل منهما، يكون هو نفسه في تعارض مع مشيئتيهما معا، وهكذا فإن نفس الشخص يلزمه حتما أن يظهر أنه شرير وصالح، لذلك يقول (الرب)، إنه لو قرر أن يكـون أمينا للواحد فإنه سيبغض الآخر، وهكذا سيعتبره طبعا كلا شيء، لـذلك يستحيل أن نخدم الله والمال. فمال الظلم، الذي يقصد به الغنى، هو شيء يسلم للشهوانية، وهـو معرض لكل لوم، ويولد الافتخار ومحبة اللذة، ويجعل الناس غلاظ الرقبة وأصـدقاء للأشرار ومتكبرين، نعم، أية رذيلة دنيئة لا يسببها في أولئك الذين يمتلكونه؟! 

لكن مسرة الله الصالحة تجعل الناس لطفاء هادئين متواضعين في أفكارهم، طويلي الأناة، رحومين، ولهم صبر نموذجي، غير محبين للربح، غير راغبين فـي الغنـى وقانعين بالقوت والكسوة فقط، ويهربون على الأخص من محبة المال الذي هو أصل لكل الشرور (1تي 10:6)، ويباشرون بفرح الأتعاب لأجل التقوى، ويهربون من محبـة اللذة، ويتحاشون باجتهاد كل شعور بالتعب والكلل في الأعمـال الـصالحة، ودائمـا يقدرون السعي إلى الحياة باستقامة وممارسة كل اعتدال باعتبار أن هذه الأشياء هـ التي تربح لهم المكافأة. هذا هو “ما هو لنا” وما “هو الحق “، هذا هو ما سيسبغه الله على من يحبون الفقر، ويعرفون كيف يوزعون ـ على من هم في احتياج ـ ” ما هو للغير” ويأتي من الخارج، أي غناهم الذي يعرف أيضا باسم المال. فليته يكون بعيـدا عن ذهن كل واحد منا أن نكون عبيدا له (المال)، لكي بهذا يمكننا بحرية وبدون عائق أن نحني عنق ذهننا للمسيح مخلصنا كلنا، الذي به ومعـه الله الآب يحـق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين أمين.

عظة 110 محبة المال ـ الكبرياء (لو16: 14-17):

وَكَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضًا يَسْمَعُونَ هذَا كُلَّهُ، وَهُمْ مُحِبُّونَ لِلْمَالِ، فَاسْتَهْزَأُوا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ:«أَنْتُمُ الَّذِينَ تُبَرِّرُونَ أَنْفُسَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ! وَلكِنَّ اللهَ يَعْرِفُ قُلُوبَكُمْ. إِنَّ الْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ رِجْسٌ قُدَّامَ اللهِ. «كَانَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا. وَمِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَغْتَصِبُ نَفْسَهُ إِلَيْهِ. وَلكِنَّ زَوَالَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ.

يا إخوتي إن محبة المال هي داء شرير جدا وليس من السهل التحرر منه، لأنـه بعد أن يزرع الشيطان هذا المرض في نفس الإنسان فإنه يبدأ أن يعميه ولا يسمح له أن ينصت إلى كلمات الوعظ لكي لا نجد لأنفسنا سبيلا للشفاء يستطيع أن يخلص من البؤس أولئك الذين وقعوا في شراكه. وأرجوكم أيضا أن تلاحظوا مدى صدق كلامي في هذا الموضوع من مثال الفريسيين، لأنهم كانوا محبين للمال ومغـرمين بـالربح وينظرون باحتقار إلى مجرد الاكتفاء، لأنه يمكن للمرء أن يري أنهم ملومـون لـهـذا السبب نفسه عندما يرجع إلى الكتب الإلهية الموحى بها. إذ قيـل بـصوت إشعياء لأورشليم أم اليهود: ” رؤساؤك متمردون وشركاء اللصوص، كل واحد منهم يحـب الرشوة ويتبع العطايا، لا يقضون لليتيم ولا يلتفتون إلى دعـوى الأرملـة” (إش 1: 23 س). وأيضا قال حبقوق النبي: ” حتى متى يا رب أدعو وأنت لا تسمع، أصرخ إليك مـن الظلم وأنت لا تخلص؟ القضاء أمامي والقاضي أخذ رشوة ولذلك فالشريعة لا تنفع ولا يصل الحكم إلى الاكتمال، لأن الشرير ينتصر على الصديق، لـذلك يخـرج الحكـم معوجا” (حب 1: 2-4 س). لأنه كما قلت بسبب كونهم محبين للربح، فإنهم يحكمون باستمرار في الأمور التي أمامهم ليس حسب ما يوافق شرائع الله، بل علـى العكـس يقضون بالظلم وبما يتناقض مع مشيئة الله.

ثم إن المخلص نفسه وبخهم هكذا قائلاً: “ويل لكـم أيهـا الكتبـة والفريسيون المراءون، لأنكم تعشرون النعنع والشبث والكمون وتركتم أثقل ما في الناموس، الحق والرحمة والإيمان” (مت 23: 23). لأنه إذ قد أعطاهم الناموس حق قبول العشور، فإنـه امتدوا ببحثهم وراء العشور بتدقيق حتى وصلوا لأتفه النباتات وأقلها أهمية، بينما لن يعطوا سوى اعتبار قليل لأمور الشريعة الأثقل، أي لتلك الوصايا التي كانت واجبـة وضرورية وكانت لخير الناس.

لذلك يقول الإنجيل: “لأن الفريسيين كانوا محبين للمال”، فإنهم استهزأوا بيسوع لأنه كان يوجههم بتعاليمه الخلاصية إلى طريقة سلوك جديرة بالمدح، وجعلهم راغبين في أمجاد القديسين. وهو يخبرهم بأنه كان يجب عليهم أن يبيعوا ممتلكاتهم ويوزعوا على الفقراء. لأنهم بهذا يقتنون لهم كنزا في السماء لا يمكن أن يسرق، وأكياس لا تبلى، وغنى لا يضيع ولا يفني، إذن فلماذا سخر منه الفريسيون؟ لأن التعلـيـم كـان خلاصيا بالتأكيد وطريقا للرجاء في الأمور الآتية وباباً يؤدي إلى الحياة غير الفانيـة. لأنهم كانوا يتعلمون منه أساليب النجاح الحقيقي، ويتعلمون كيف ينبغـي أن يمسكوا بإكليل الدعوة السماوية، وأيضا كيف يصيرون شركاء مع القديسين، وأبنـاء المدينـة التي فوق، أي أورشليم التي في السماء والتي هي حرة حقا وأم الأحرار. ولأنه هكذا يكتب بولس المبارك: “وأما أورشليم العليا التي هي أمنا جميعا فهي حرة” (غل 4: 26). فلماذا استهزأوا به إذن؟

لننظر إلى سبب شرهم. لقد تملك داء الطمع على قلبهم، وإذ صار ذهنهم مستعبدا للطمع فإنه أصبح خاضعا له حتى ضد إرادته، ومذلولا تحت قوة الشر، ومقيدا بقيود لا فكاك منها.

يقول كاتب سفر الأمثال إن: “كل إنسان مقيد بحبال خطاياه” (أم 5: 22 س). فكما أن أكثر أمراض الجسد خبثا لا تقبل علاجات الطب، وكأنها تهرب من الشفاء وحتى إن استخدم أحدهم ذلك العلاج الذي يؤدي إلى الشفاء بطبيعته، فإنها تتهيج أكثـر وتثـور مهما كان اللطف الذي يعاملها به فن الطب، هكذا أيضا تلك الشهوات التي تتعـرض لها نفوس الناس، فإنهم يكونون أحيانا معاندين ويرفضون الإنصات للنصح، ولا يسمعون كلمة واحدة تدعوهم لترك الشر وتوجههم إلى طريق أفضل. وكما أن الخيول الجامحة والمشاكسة والزائدة النشاط لن تطيع اللجم، كذلك أيضا ذهن الإنسان عنـدما يكون تحت تأثير الشهوة، وميالاً تماما للانقلاب إلى الشر، فإنه يكون عاصيا وعنيـذا ويرفض الشفاء بكراهية شديدة.

لذلك بعد أن كلمهم مخلص الجميع بكلمات كثيرة، ورأى أنهم لـم يتغيـروا عـن شهواتهم ومقاصدهم الماكرة، بل فضلوا بالأحرى أن يظلوا في حماقتهم الغريزية، فإنه لجأ أخيرا إلى توبيخات أشد. لذلك ففي هذه المناسبة يظهر أنهم مـراءون وكـذابون يستغلون” المذبح طلبًا للمديح ويتلهفون على الكرامة التي يستحقها الأبرار والصالحون دون أن يكونوا كذلك فعلاً وهم غير جادين في طلب رضا الله، بـل علـى العكس يفتشون بحماس عن المجد الذي من الناس. لذلك، يقول: “أنتم الذين تبررون أنفسكم قدام الناس. ولكن الله يعرف قلوبكم، إن المستعلي عند الناس هو رجس قدام الله” (لو 15:16)، وهذا ما يقوله لهم أيضا في موضع آخر: “كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدا بعضكم من بعض والمجد الذي من الله الواحد لستم تطلبونه” (يو 44:5)، لأن إله الكـل يكلل بالمديح للبر، الذين هم صالحون حقيقة؛ أما أولئك الذين لا يحبون الفضيلة، بـل هم مراعون، فإنهم يختلسون بأنفسهم وحدهم شهرة الكرامة. وربما يقـول الـبعض، ولكن أيها السادة المحترمون، ليس أحد يكلل نفسه، لأن الإنسان الذي يصطنع المديح لنفسه يستهزئ به بعدل، لأنه مكتوب: “ليمدحك القريب لا فمك أنـت، الأجنبـي لا شفتاك أنت” (أم 27: 2 س). لكن رغم أن المرائين يمكن أن يظلوا دون اكتشاف، ويأخذوا الكرامات التي من الناس، إلا أنه يقول هنا: “لكن الله يعرف قلوبكم”. فالديان لا يمكن أن يخدع؛ فهو يري أعماق ذهننا؛ ويعرف من هو المجاهد الحقيقي، ومن الذي يسرق بالاحتيال، الكرامة التي يستحقها غيره بحق، وبينما هو يكرم من هو بار حقـا فـهـو “يبدد عظام الذين يسعون لإرضاء الناس” بحسب تعبير المـرنم (مـز 52: 5 س)، لأن شهوة إرضاء الناس هي دائما أم الكبرياء الملعونة ورأسها وجـذرها، وهـي التـي يبغضها الله والناس على السواء. لأن من يقع ضحية لهذا الداء فإنه يشتهي الكرامـة والمديح؛ وهذا الأمر كريه لدى الله؛ لأنه يبغض المتكبر، لكنه يقبل ويرحم ذاك الذي لا يحب المجد (لنفسه) والذي هو متواضع القلب.

وعندما سحقهم المسيح بهذه التوبيخات، أضاف أيضا شيئا أكثر، وأعني بـه مـا كانوا مزمعين أن يعانوه بسبب عصيانهم وشرهم إذ يقول: “كان الناموس والأنبيـاء إلى يوحنا، ومن ذلك الوقت يبشر بملكوت الله وكل واحد يغتصب نفسه إليه، ولكـن زوال السماء والأرض أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس”. فهـو يخفـي أيضا وفي غموض ما سوف يسبب لهم ألما ويحجب تنبؤه بخصوص تلك الأشياء التي كانت عتيدة أن تحدث لكل الذين لن يطيعوه، وهو يقول: إن موسى ومعـه جماعـة الأنبياء القديسين أعلنوا من قبل مضمون السر الخاص بسكان الأرض. فالناموس يعلن بالظلال والمثالات أنه من أجل خلاص العالم ينبغي أن احتمل موت الجـسد، وأبيـد الفساد بالقيامة من الأموات، كذلك أيضا تكلم الأنبياء بنفس المعنى من كتابات موسى، لذلك يقول: إنه ليس غريبا أو ليس غير معروف من قبل أنكـم تـزدرون بكلامـي وتحتقرون كل ما هو نافع لخيركم، لأن كلمة النبوة عني وعنكم تمتد إلى القديس يوحنا المعمدان، ولكن ” من أيام يوحنا يكرز بملكوت السموات، كل واحد يغتصب نفسه إليه”. ويقصد هنا بملكوت السموات: التبرير بالإيمان، وغسل الخطيـة بالمعموديـة المقدسة، التقديس بالروح، العبادة بالروح، الخدمة التي هي أعلى من خدمة الظـلال والرموز، كرامة تبني البنين، ورجاء المجد العتيد أن يعطى للقديسين.

لذلك يقول: ملكوت السموات يكرز به، لأن يوحنا المعمدان وقف فـي وسـطهم وقال: “أعدوا طريق الرب” (لو 4:3)؛ وقد أظهر قائلاً: ها هو قد اقترب، وكأنه داخل الأبواب وهو الحمل الحقيقي الله، الذي يحمل خطية العالم، لذلك فكل من يسمع ويحب الرسالة المقدسة فإنه يغتصبها، وهو ما يقصد به: أنه يستخدم كل اجتهاده وكل قوتـه في رغبته للدخول داخل نطاق الرجاء. لأنه ـ كما قال في موضع آخر ـ ” ملكوت السموات يغصب والغاصبون يختطفونه” (مت 11: 12).

وهو يقول: إن “زوال السماء والأرض قبل اليوم الذي يأمر به الله فيه بهذا، أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس”، ويشير أحيانا بكلمة الناموس إلـى الكتـب الإلهية الموحى بها معا، أي كتابات موسى والأنبياء. فما الذي أنبأت به الكتب والذي يجب بالضرورة أيضا أن يكتمل؟ إنها تنبأت أنه بسبب كفر إسرائيل الشديد وفجـوره المفرط سيسقط من كونه من عائلة الله، رغم أنه الابن الأكبر، وأن أورشليم سـتُطرح بعيدا عن إمهال الله ومحبته، لأنه هكذا تكلم عنها بصوت إرميا”: ” هاأنـذا سأســج طريقها بالشوك وأسد طرقها وهي لن تجد مسلكها ” (هو ٦:٢س). لأن مـن يـخـشون الله فطريقهم مستقيمة ولا يوجد فيها أي موضع شديد الانحدار، بل كلها مستوية وممهـدة جيدا. ولكن طريق أم اليهود، مسيج بالشوك لأن طريق التقوى قد صار متعذرا السير فيه بالنسبة لهم.

وكونهم مظلمي الذهن ولا يقبلون نور مجد المسيح ـ لأنهم لم يعرفوه ـ فهذا ما سبق أن أعلنه بقوله لجموع اليهود: “أنا شبهت أمك بالليل، هلك شـعـبـي مـن عـدم المعرفة لأنك رفضت المعرفة أرفضك أنا حتى لا تكهن لي، ولأنك نسيت شـريعة إلهك أنا أيضا بنيك ” (هو 5:4و6).

أنت تسمع أن جموع العصاة يشبهون عن حق بالظلمة والليل. لأن كوكب الصبح العقلي، وشمس البر، يشرق ويضيء في ذهن وقلب من يؤمنون، أما ذهن أولئك الذين يزدرون بالنعمة العظيمة والتي تستحق أن نقتنيها، فقد اسود فـي الظلمـة، والعتمـة العقلية، فكثير إذن مما يختص بتلك الأشياء، سبق أن أعلنه جماعة الأنبياء القديسين من جهة إسرائيل.

ولكن الذين يعترفون باستعلان مجد المسيح مخلص الجميع، فـإن الله الآب وعـد بواسطة أحد الأنبياء القديسين هكذا قائلاً: ” وسأقويهم في الرب إلههم، وباسم الههـم يثبتون” (زك 10: 12 س). ويقول المرنم مخاطبا ربنا يسوع المسيح بالروح: “يا رب بنور وجهك يسلكون، باسمك يبتهجون اليوم كله، لأنك أنت فخر قوتهم، وببرك يرتفع قرننا ” (مز 15:88 -17س). لأننا نفتخر في المسيح، لأننا تبررنا بواسطته فإننا قد ارتفعنـا، وإذ طرحنا عنا ذل الخطية، ونحن نحيا في امتياز كل الفضائل فقد اغتنينا أيضا بالمعرفة الصحيحة والنقية لتعاليم الحق. لأن هذا ما وعدنا الله به حيث يقول بصوت إشعياء: وسأقود العمى في طريق لا يعرفونها. وسأجعلهم يمشون في مسالك لـم يعرفوهـا. اجعل ظلمتهم نورا، وكل مواضعهم المنحدرة أجعلها ممهدة” (إش16:44س). لأننا نحن الذين كنا مرة عميانا قد استنرنا ونحن نسير في مسلك جديد من البر؛ بينمـا الـذين افتخروا بالناموس كمعلم لهم، قد اظلموا كما قال المسيح نفسه: “قد أعمـت الظلمـة عيونهم” (انظر يو ٤:١٢) والعمى قد حصل جزئيا لإسرائيل (رو5:11) لأنهم مبصرين ولا يبصرون، وسامعين لا يسمعون (مت13:13). لأنهم أخطأوا ضد الأنبياء القديسين بـل وتجاسروا أن يرفعوا أياديهم ضد الذي كان يدعوهم إلى الخلاص والحياة. لذلك يقول، ولو أنكم عصاة، ورغم أنكم بحماقة تزدرون بكلماتي التي ستقودكم إلى بلوغ ما هـو نافع ولائق، إلا أن المسيح سبق فأعلن بواسطة الناموس والأنبياء أمرا يستحيل أن لا تكتمل فيه كلمات الله، لأنه أعلن ما علم أنه ينبغي حتما وبالضرورة أن يحدث. لذلك، فعدم الإيمان يجلب الهلاك على البشر، مثلما يفعل أيضا عنق الذهن المتعالي في تصلبه بسبب الكبرياء الزائد ضد المسيح مخلصنا جميعا الذي به ومعـه الله الآب يحق التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى أبد الآبدين. آمين.

عظة 111 الغنى ولعازر (لو16: 19-31):

«كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ الأَرْجُوانَ وَالْبَزَّ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهًا. وَكَانَ مِسْكِينٌ اسْمُهُ لِعَازَرُ، الَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوبًا بِالْقُرُوحِ، وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْفُتَاتِ السَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ الْغَنِيِّ، بَلْ كَانَتِ الْكِلاَبُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ. فَمَاتَ الْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضًا وَدُفِنَ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الجَحِيمِ وَهُوَ فِي الْعَذَابِ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ، فَنَادَى وَقَالَ: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ، ارْحَمْنِي، وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَِعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي، لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هذَا اللَّهِيبِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ابْنِي، اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَذلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا. وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ. وَفَوْقَ هذَا كُلِّهِ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ ههُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ، وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا. فَقَالَ: أَسْأَلُكَ إِذًا، يَا أَبَتِ، أَنْ تُرْسِلَهُ إِلَى بَيْتِ أَبِي، لأَنَّ لِي خَمْسَةَ إِخْوَةٍ، حَتَّى يَشْهَدَ لَهُمْ لِكَيْلاَ يَأْتُوا هُمْ أَيْضًا إِلَى مَوْضِعِ الْعَذَابِ هذَا. قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: عِنْدَهُمْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءُ، لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ. فَقَالَ: لاَ، يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ، بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ. فَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ، وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ».

عندما كان سليمان يقدم صلوات عن مملكته، فإنه قال لله في موضع ما: “أعطني الآن حكمة، تلك الحكمة التي تسكن في عرشك” (انظـر 2أخ 1: 10). فمدحه بسبب رغبته الجادة في مثل هذه البركات، لأنه لا يوجد شيء أنفع للناس أكثر من العطايا المقدسة، وإحدى هذه البركات التي تستحق أن نقبلها ـ والتي تجعل أولئك الذين قد حسبوا أهلاً لها كاملين في الغبطة؛ هي الحكمة التي يعطيها الله. لأن الحكمة هي بصيرة الـذهن والقلب، ومعرفة كل ما هو صالح ونافع.

وإنه من واجبنا أيضا أن نفـتـن بعطايا مثل هذه، حتى عندما نحسب مستحقين لها فإنه يمكننا أن نفهم كلمات المخلص باستقامة وبدون خطأ لأن هذا نافع لنا لأجل تقدمنا الروحي، ويقودنا إلى حياة بلا لوم وتستحق المديح. لذلك فإذ قد صرنا شـركاء في الحكمة التي من فوق، هيا بنا لنفحص معنى المثل الموضوع أمامنا الآن.

ومع ذلك، أظنه من الضروري أن نذكر أولاً ماذا كانت المناسـبة التـي قادتـه (المسيح) للكلام عن هذه الأمور، أو ماذا قصد أن يوضح وهو يصور ويصف بطريقة رائعة المثل الموضوع أمامنا. لذلك فالمخلص كان يحملنا فـي فـن فـعـل الـصـلاح ويوصينا أن نسلك باستقامة في كل عمل حسن، وأن نكون جادين في تزيين أنفسنا بالأمجاد التي تأتى من السلوك في الفضيلة. لأنه يريدنا أن نكون محبين ومستعدين للاتصال بعضنا مع بعض، مسرعين في العطاء، ورحومين، ومعتنين بعمل المحبـة للفقراء. ومثابرين بشجاعة في تأدية هذا الواجب باجتهاد. وهو ينصح أغنياء العـالم خاصة أن يكونوا حريصين على فعل هذا. ولكي يرشدهم إلى الطريق الذي يليق تماما بالقديسين، فإنه يقول: “بيعوا أمتعتكم وأعطوا صدقة، اصنعوا لأنفسكم أكياسا لا تبلى وكنزا في السموات لا يفنى ” (لو 12: 33). فالوصية بالحقيقة صالحة وحسنة ومخلصة ومفيدة، ولكن لم يغب عن علمه أنه من المستحيل للغالبية أن يمارسـوها. لأن ذهـن الإنسان قد صار منذ القديم عاجزا عن تأدية تلك الواجبـات الثقيلـة والـصعبة، وأن التخلي عن الثروة والممتلكات والمتع التي تعطيها، ليس أمرا مقبولا تماما لأي واحد يكون مغلفا ومقيدا كما بحبال لا تنحل، تلك التي تربط الذهن بشهوة اللذة.

ولأنه صالح ومحب للبشر، لذلك فإنه أمدهم بمعونة خاصة لئلا يأتي بعد الثـروة هنا، فقر أبدى لا نهاية له، ولئلا بعد ملذات الزمان الحاضر يأتيهم العـذاب الأبـدي. لذلك يقول لهم: “اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظـال الأبدية” (لو 16: 9).

هذه إذا هي نصيحة ذلك الذي يرشدهم إلى ما يمكنهم أن يعملوه لأنـه يقـول، إن كنتم لا تقتنعون بالتخلي عن الغنى الميال للذة وتقتنعوا ببيع مالكم، وتقتنعوا بـالتوزيع لمن هم في احتياج، فعلى الأقل اجتهدوا في ممارسة الفضائل الصغرى. “اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم “، أي لا تعتبروا ثرواتكم هي ملك لكم وحدكم، بل ابسطوا أيديكم لأولئك المحتاجين وساعدوا الفقراء والمتألمين، عزوا أولئك الذين قد سقطوا في ضيق شدید، عزوا الحزاني، والمضغوطين بأمراض جسدية والمحتاجين للضروريات، وعزوا أيضا القديسين الذين يعتنقون الفقر الاختياري حتى يمكنهم أن يخدموا الله بدون ارتباك. إن فعلكم هذا لن يكون بغير مكافأة لأنه عندما تفـارقكم الثروة الأرضية ببلوغكم إلى نهاية حياتكم، عندئذ فإن هؤلاء سيجعلونكم شركاء في رجائهم، وشركاء في العزاء المعطى لهم من الله. ولأنه صالح ومتعطف على البشر فإنه بمحبة وسخاء سوف يسكب فرحه على أولئك الذين تعبوا في هذا العالم، وخصوصا أولئـك الـذين بحكمة واتضاع وهدوء، حملوا حمل الفقر الثقيل. ويقدم بولس الحكيم نصيحة مماثلـة لأولئك الذين يحيون في غنى ووفرة، من جهة أولئك الذين يعيشون في بؤس: “لكـي تكون فضالتكم لإعوازهم. كي تصير فضالتهم لإعوازكم” (2کو 14:8). ولكن هذه إنما نصيحة من يأمر ببساطة بما نطق به المسيح: “اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم”، لكي بذلك تكون الوصية مستحقة جدا لإعجابنا.

ولكي يوضح أننا إن رفضنا أن نتصرف هكذا فهذا سيؤدي إلى دمارنا، وسـيهبط بنا إلى النار التي لا تطفأ وإلى حسرة لا تنفع، فإنه يرسم لنا المثل الحاضـر. لأنـه يقول: “كان إنسان غني يلبس الأرجوان والبز وهو يتنعم كل يـوم مترفهـا. وكـان مسكين اسمه لعازر الذي طرح عند بابه مضروبا بالقروح”.

أرجوكم أن تلاحظوا هنا وأن تنتبهوا بدقة إلى كلمات المخلص، لأنه بينمـا كـان سهلاً عليه أن يقول: ” كان هناك إنسان غنى اسمه كذا كذا، أي من كان، إلا أنه لا يقول هذا، بل يدعوه فقط ” إنسان غني”، بينما يذكر الإنسان المسكين بالاسـم مـاذا نستنتج من هذا؟ إن هذا الإنسان الغني بسبب كونه غير رحوم، لم يكن له اسـم فـي حضرة الله، لأنه قد قال في موضع ما بصوت المرتل بخصوص أولئـك الـذين لا يخافونه: “لا أذكر أسماءهم بشفتي” (مز 4:15 س)، بينما المسكين ـ كما قلت ـ يذكر بالاسم بلسان الله. ولكن فلننظر إلى كبرياء الغني المنتفخ بأمور ليـسـت لـهـا أهميـة حقيقية، إذ يقول إنه كان يلبس الأرجوان والبز، أي أن اهتمامه كان أن يتأنق بملابس جميلة، وهكذا فإن ثيابه كانت ذات ثمن غال، وكان يعيش في ولائم مستمرة لأن هذا هو معنى ” يتنعم كل يوم “، وبجانب هذا يضيف أنه كان ” يتنعم مترفها ” أي بإسراف. لذلك، فكل أبهة ذلك الإنسان الغني كانت من أشياء من هذا القبيل كارتداء ملابـس نظيفة ورقيقة، ومطرزة بالبز، ومصبوغة بالأرجوان، لكي يلذذ عيـون النـاظرين، وماذا كانت النتيجة إنه لا يختلف إلا قليلاً عن الأشكال التي في التماثيـل المنحوتـة، والصور الزيتية. فالذين يعجبون بالرجل الغني هم عـديمو الحـس الخـالـون مـن المشاعر، وأما قلب الغني فمملوء بالكبرياء والعجرفة، ويفكر أفكارا عالية ومنتفخـة عن نفسه، ورغم أنه لا يملك في ذهنه أي امتياز، فإنه يجعل من الألـوان المتدرجـة والمتنوعة سببا لكبريائه الفارغ. ولذته هي في الولائم الغاليـة، وفـي الموسيقى والعربدة، ولديه عديد من الطهاة، الذين يجتهدون في إثارة النهم بالأطعمة المجهـزة باهتمام كبير. والسقاة متزينون بملابس مزخرفة، وعنده مغنون ومغنيات وأصـوات المتملقين. هذه هي الأشياء التي كان يعيش فيها الغني. إذ أن تلميذ المسيح يشهد لنـا بهذا قائلاً: “كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة” (1يو 2: 16).

ويقول إنه في أثناء ذلك كان لعازر المضروب بالمرض والفقر، مطروحا عند باب الغني، وكان الغني يسكن في قاعات عالية ومساكن واسعة فخمة البنيان، بينما كـان المسكين مطروحا، ملقى هناك ومهملاً ولا يعطى له أي اعتبار. وإذ كان محروما من أي شفقة أو عناية، كان يشتهي أن يجمع الفتات الساقط من مائدة الغني ليشبع جوعه. كان المسكين علاوة على ذلك يتعذب من مرض خطير وعديم الشفاء، ويقـول إن ” الكلاب تأتي وتلحس قروحه”، وإنها، كما يبدو، لم تأت لتؤذيه بل بـالحري كأنهـا تتعاطف معه، وتعتني به، لأنها كانت تسكن الآلام بألسنتها، وتزيل المعاناة المصاحبة لها، وتهدئ القروح وتلطفها.

أما الغني فكان أكثر قسوة من الوحوش، لأنه لم يشعر بأي تعاطف مع المسكين أو أية شفقة عليه، بل كان مملوءا من عدم الرحمة، وماذا كانت النتيجة؟ إن موجز المثل يعلمنا الآتي، ولكنه أطول من أن أتحدث عنه الآن. ولئلا يكون حديثي أكثر مما يلزم لمستمعي، ومرهقا فوق الطاقة لمن يتحدث فإني أتوقف الآن لخيري وخيركم على أن أحدثكم مرة أخرى عن هذه الأمور في اجتماعنا القادم إن منحني المسيح مخلصنا جميعا المقدرة على فعل هذا، وهو الذي به ومعه الله الآب يحق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين. آمين”.

عظة 112 الغني ولعازر (تابع) (لو16: 19-31)

يقدم إشعياء النبي المبارك في موضع ما، أولئك الذين بواسـطة الإيمـان بالمسيح ثم ربحهم للحياة، على أنهم يدعون ـ إن جاز التعبير بعضهم بعضا ويقولون: ” هلم نصعد إلى جبل الرب وإلى بيت إله يعقـوب، فيعلمنـا طريقه ونحن سنسلك فيها ” (انظر إش 2: 3). ونحن نؤكد أن الجبل المقصود هنـا ليس هو أي جبل أرضي، لأنه من الحماقة أن نتخيـل هـذا، بـل المقصود بالأحرى هو الكنيسة التي خلصها لنفسه. لأنها عالية وواضحة جدا للناس في كل موضع، وهي ممجدة، لأنه لا يوجد فيها شيء يهبط بالناس إلـى الأرض. لأن الذين يسكنون فيها لا يهتمون أبدا بأي شيء من الأرضيات، بل بالأحرى يشتهون تلك الأشياء التي فوق، وكما يقول المرتم: “لأنهم قد ارتفعوا جدا فوق الأرض” (مز 9:46 س)، بسبب شجاعتهم الكاملة وبسالتهم، ويسعون بلا توقـف وراء كل ما يرضي الله.

ونحن نعتقد أنكم مثل هؤلاء، وأن رغبتكم للجادة في التعلم هـي بـرهـان واضح على هذا، لأنكم قد أتيتم طبعا تطلبون تحقيق الوعد الذي أعطي لكـم؛ لكننا لم ننس ما وعدناكم به، ولكننا نوفي ديننا بأن نضيف ما لا يزال ناقـصا من كلام إلى ما سبق أن قيل عن مثل لعازر والغني.

فالرب يقول: “مات لعازر وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم ومات الغني أيضا ودفن”. لاحظوا كلمات المخلص بعناية كبيرة، لأنه يقول عن المسكين إن الملائكة حملته إلى حضن إبراهيم، ولكنه لم يقل شيئا من هـذا القبيـل عـن الغني، بل قال فقط إنه مات ودفن. فإن أولئك الذين لهم رجاء في الله يجتون في رحيلهم من العالم خلاصا من الكرب والألم. ويعلّمنا سليمان أيـضـا شـيئا مثل هذا بقوله: ” وفي ظن الناس يبدون أنهـم (أي الأتقيـاء) يموتـون، وأن خروجهم يعتبر شفاء ورحيلهم عنا ضياعا، بينما هم في سلام، والرجاء فـي الخلود يملأهم” (حكمة 3: 2-4).

إذ يعطى لهم هناك قدر من العزاء يتناسب مع أعمـالهم، أو ربمـا يـفـوق أتعابهم ويزيد عليها، لأن المسيح قال في موضع ما: “كيلا جيدا ملبدا مهزوزا فائضا سيعطون في أحضانكم” (لو 36:6). لأنه كما أن السفن التي تمخـر فـي البحر تصمد أمام الأمواج العاتية وتقاوم عنف الرياح الشديدة، وفيما بعد عندما تصل إلى موانئ هادئة تصلح لراحتها، تكف هناك عن الاهتزاز. كذلك بنفس الطريقة أظن أن نفوس البشر، حينما تخرج من دوامة الأرضيات، فإنها تدخل المنازل التي فوق، كما في ميناء خلاص.

وهو يقول إن لعازر حملته الملائكة القديسون إلى حضن إبراهيم. أما عـن الغني فيقول إنه مات ودفن، لأنه بالنسبة لذلك الغني الذي أظهر نفسه قاسـيا وعديم الرحمة، فإن الانفصال عن الجسد هو موت. فقد خرج من التنعم إلـى العذاب، ومن المجد إلى الخزي، ومن النور إلى الظلمة. هذه هي الأشياء التي كان على الغني أن يعانيها، وهو الذي كان شهوانيا وبخـيـلاً وغيـر مـيـال للرحمة. وما كان يعذبه أكثر وهو في الجحيم أنه رأى لعـازر فـي حـضـن إبراهيم؛ وتوسل إليه لكي يرسل نقطة ماء على لسانه لأنه كان معذبا كما فـي لهيب مستعر. فبماذا أجابه رئيس الآباء إبراهيم؟: “يا ابني اذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا “. وكأنه يقول له: إنك كنت شغوفا بهذه الأمور الزمنية، وكنت متسربلاً بالبز والأرجوان، وكنت متفـاخرا ومتكبـرا، وكنت تصرف كل وقتك في ترف، وخصصت ثروتك لملذاتك وللمتملقين لك، ولم تتذكر مرة واحدة المرضى والحزاني، ولم تشفق على لعازر عندما رأيته مطروحا عند أبوابك. لقد كنت تراه يعاني من بؤس شديد، وكان فريسة لبلايا لا تحتمل، لأنه كان مصابا ببليتين بآن واحد، وكل واحدة أسوأ من الأخـرى وهما: ألم قروحه الشديد، وعوزه إلى ضروريات الحياة، بـل إن الحيوانـات أراحت لعازر لأنه كان في ألم، وكانت الكلاب تلحس قروحه. ولكنـك كنـت قاسي القلب أكثر من الحيوانات. لذلك فأنت استوفيت خيراتك فـي حياتـك، ولعازر استوفى بلاياه، والآن هو يتعزى وأنت تتعذب، وكما يقـول الكتـاب المقدس: “الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة” (يع 2: 13). فلو كنـت قـد قبلت لعازر ليكون شريكك في ثروتك لكنت الآن شريكا له، ولكان قد أعطاك الله نصيبا من عزاء لعازر، ولكنك لم تفعل هذا ولذلك أنت وحدك تتعذب، لأن هذا هو العقاب المناسب لعديمي الرحمة، ولمن لا يشعرون بأي تعاطف مـع المرضى. لذلك فلنصنع لأنفسنا أصدقاء بمال الظلم، ولننـصـت إلـى موسـى والأنبياء وهم يدعوننا إلى المحبة المتبادلة والمودة الأخوية، ليتنا لا ننتظر أن يعود أحد ممن هم في الهاوية ليخبرنا بالعذابات التـي هنـاك، إذ أن الكتـاب المقدس صادق بالتأكيد، ونحن قد سمعنا أن المسيح سوف يجلس على كرسـي مجده ليدين المسكونة بالعدل وأنه سوف يقيم الخراف عن يمينه والجداء عـن يساره، وسوف يقول لمن هم عن يمينه: “تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملـك المعد لكم قبل تأسيس العالم، لأني كنت جوعانا فأطعمتموني، وكنت عطـشانا أيضا فسقيتموني، وكنت عريانا فكسوتموني، مسجونا فأتيتم إلى”. لكن لمن هم عن يساره سوف يقضي بدينونة ثقيلة قائلاً: “اذهبوا إلى النار الأبدية المعـدة لإبليس وملائكته”، والتهمة الموجهة لهم هو أنهم فعلوا عكس ما قـد امتـدح القديسون من أجله تماما، “لأني جعت فلم تطعموني، عطشت فلم تـسـقوني.. وبما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا” (انظر مت ٣١:٢٥-٤٥). وربما يعترض البعض على هذا، ويقولون إنه توجد طرق كثيـرة للحيـاة الحسنة، لأن الفضيلة متنوعة ومتعددة، فلماذا حذف تلك الأنـواع الأخـرى، ويذكر فقط محبة الفقراء؟ نجيب بأن هذا العمل هو أفضل من أي نوع آخـر أعمال الخير، لأنه يجعل في نفوسنا مماثلة الله وهذه المماثلـة هـي التـي تشكلنا وتصوغنا حسب صورة الله، لأن المسيح أيضا قال: “كونوا رحماء كما أن أباكم الذي في السموات أيضا رحيم” (لو 36:6). لأن من يسارع إلى إظهار الرحمة، وهو شفوق وعطوف، فهو يحسب مع الساجدين الحقيقيين، لأنـه مكتوب أن “الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هـذه، افتقـاد اليتـامي والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس مـن العـالم” (يـع 1: 27). والحكيم بولس كتب أيضا في موضع ما: ” ولكـن لا تنسوا فعـل الخيـر والتوزيع، لأنه بذبائح مثل هذه يسر الله ” (عب 16:13)، فهو لا يحـب بخـور العبادة الناموسية بل يطلب بالأحرى عذوبة الرائحة الروحية الحلـوة. ولكـن الرائحة الروحية الحلوة لدى الله هي أن نظهر شفقة تجاه الناس وأن نحتفظ لهم بالمحبة، وهذا أيضا ما ينصحنا به بولس بقوله: “لا تكونوا مديونين لأحـد بشيء إلا بأن يحب بعضكم بعضا” (رو 13: 8)، فإن الشفقة على الفقـراء هـي وليدة المحبة.

لذلك هلموا أيها الأغنياء كفوا عن اللذة المؤقتـة وجـتوا نحـو الرجـاء الموضوع أمامكم، اكتسوا بالرحمة والعطف، ابسطوا أيديكم لمـن هـم فـي احتياج، وأريحوا أولئك الذين هم في عوز، واعتبروا أحزان من هم في ضيق شديد هي أحزانكم . 

تفسير إنجيل لوقا – 15 إنجيل لوقا – 16 تفسير إنجيل لوقا تفسير العهد الجديد تفسير إنجيل لوقا – 17
القديس كيرلس الكبير
تفاسير إنجيل لوقا – 16 تفاسير إنجيل لوقا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى