العبد الهارب ينحني ويصمت
في إبداع روحي فريد مع شعر سرياني مُرهّف يصعب ترجمته إلى أية لغة. يُسَجُل لنا القديس مار يعقوب السروجي قصيدة رائعة عن هروب يونان وتوبة أهل نينوى. لقد سجّل لنا القديس مشاعر خفية في قلب يونان. وكشف عن سر موت وقيامة المسيح في نبوة يونان.
يونان فى قاع السفينة نائم !
يتطلع القديس مار يعقوب السروجي إلى البحر وقد اشتد هياجه وكأنه يصرخ ليوقظ يونان. ويونان في قاع السفينة نائم! لم يطر نوم يونان بالريح الشديدة التي أقلقت البحر كله لأنه كان نوم الألم. لقد أغرقه الألم، وجعل نومه ثقيلاً على أعضائه. واضطجع المُتألم» ولم يعرف أن يستيقظ نهائيًا. حطّمته الكآبة وأخمده الحزن. وسقط عليه سُبَاتٌ عظيمٌ ليستغرق في النوم… خاف لأنه هرب. وارتعب لأن البحر اصطاده. ومن
الضيق حل به النوم، هذا المملوء آلامًا. ويتحيّر القديس مار يعقوب السروجي عن سبب وكيفية استغراق يونان في سبات عميق قائلاً: ” هل نام كثيراً بسبب الحزن؟ أم ربطه السر روحيًا بالنوم (أي سر موت المسيح)؟ فحينما اضطجع ربنا، هاج البحر (اليهود) على التلاميذ. وكما أيقظ رئيس النوتيَّة يونان قائلاً له: “ما لك نائماً. قم اصرخ الى الهك عسى ان يفتكر الإله فينا فلا نهلك”(يونان1:6). هكذا هتف داود النبي قائلاً: “قم يارب لماذا تنام. قم ولا تقصنا عنك إلى الانقضاء. قم يارب أعنا وانقذنا. من أجل اسمك القدوس” (مز 44: 23-25).
إذ أيقظ رئيس الملآحين يونان، فوجئ بالقبض عليه، فالبحر والأمواج والرياح تطلبه لتقتاده إلى ذاك الذي هرب منه.
القرعة تصرخ ضد يونان
صار يونان كمن في جبٍ حُبِسَ فيه. فالبحر والأمواج والرياح تشهد ضده. والملآحون في السفينة يطالبونه بالتحرك. والقرعة أعلنت أنه هو سبب الكارثة! والآن لم يَعُدْ أمامه سوى الاعتراف أنه مُذْنبٌ.
في وسط التيارات العنيفة والنوء الشديد والخطر المحدق كنا نتوقع في الملاحين أن يفقدوا سلامهم وهدوءهم، لكنهم أثبتوا أنهم حكماء. رأوا في يونان سرًا. سألوه عن كل حياته، طالبين معرفة الحقيقية. فكانت أسئلتهم توبيخًا لطيفاً استخدمه الله لإصلاح نفسه. ففيما هم يسألونه كان يليق بيونان أن يُراجِعَ نفسه في تصرّفاته.
وكما قال القديس جيروم: [كان هدف القرعة أن يضغط الملآحون عليه ليعترف بلسانه عن سبب هذا النوء وعِلَّة غضب الله]، أي ليعترف بعصيانه للرب وهروبه من ذاك الذي خلق البحر والبرّ.
جاءت الأسئلة بالنتيجة المَرَجُوَّة إذ اعترف قائلاً: “أنا عبراني. وأنا خائف من الرب إله السماء الذي صنع البحر والبر
يقول القديس جيروم أيضًا
إنه لم يقل “أنا عبراني” قاصدًا اللقب الخاص بشعبه الذي ينتمي إلى أحد أسباطه. إنما قصد أنه عابر كإبراهيم، وكأنه يقول: أنا ضعيف وراحل كسائر آبائي. وكما جاء في المزمور: “عبروا من مدينة إلى أخرى» ومن مملكة إلى شعب آخر ..”
إنني خائف من الرب إله السماء وليس من الآلهة التي تضرعوا إليها، العاجزة عن الخلاص.
إنني أتضرع إلى إله السماء الذي صنع البحر والبر، البحر الذي أهرب إليه. والبرّ الذي أهرب منه !]
يرى القديس مار يعقوب السروجي الفارق الشاسع بين مشاعر الملآحين ومشاعر يونان. فالأولون صرخوا إلى الآلهة الباطلة. لكن ليس من مُجيب. أما الأخير فاستيقظ ليرى الله قد حرّك الطبيعة للقبض عليه. أدرك أنه أخطأ بهروبه.
واستخف بالموت غرقًا في البحر عن أن يقاوم الله، ويرفض إرساليته
رعب الملاحين أمام يونان
يقول القديس جيروم: [كأنهم يقولون: إنك تقول بأنه بسببك صار الريح والأمواج والبحر في هياج. لقد كشفتَ لنا عن سبب المرض» فأفصح عن الدواء. هوذا البحر يرتفع ضدنا، وعَرفنا أننا صرنا موضع غضب لأننا أخذناك. أخطأنا إذ استضفناك. فماذا نفعل حتى يسكن غضب الله علينا؟ ماذا نفعل بك؟ هل نقتلك؟ لكنك من مؤمني الرب! هل نحتفظ بك؟ إنك هارب من الله! الآن ليس لنا إلا أن ننفذ أمرك. فلتأمر حتى يهداً البحر, فإن اضطرابه يشهد عن غضب الخالق… لا يمكن التأجيل بعد أمام انتقام الخالق؟
ويرى القديس مار يعقوب السروجي أن الملاحين ارتعبوا حين أدركوا أن البحر بقدرة عظمته يضطرب من أجل خطية إنسان؛ تُرَى من يكون هذا الإنسان الذي بسببه يتحرّك البحر؟ وما هي مدى خطورة خطيته؟ وما هو حجمها؟ لقد طلبوا منه أن يتحرك. فهو وحده يعرف كيف يُرضِي البحر الثائر عليه.
البحر الذى خدم بنى جنسى يلقى القبض على !
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [توقع يونان أن يهرب بواسطة السفينة. فإذا بالسفينة تكون له قيودًا.] ظن أنه قادراً على الهرب من إله البحر خلال سفينة. فأمسك به وسط المياه الثائرة داخل السفينة. ليحصره وسط الضيق، ويدخل به إلى التوبة. استخدم الله ذات الوسيلة التي ظنَّها يونان لهربه من يد الله لكي يمسك به ويرده إليه .
ما أجمل العبارة التي قالها القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم تكن هناك حاجة إلى أيام كثيرة. ولا إلى نصائح مستمرة؛ لكن في بساطة نقول كانت الحاجة أن يقودّه كل شيءٍ إلى التوبة (أي يستخدم الله كل الظروف لخلاصه). فالله لم يقده من السفينة إلى المدينة مباشرة. وإنما سلمه البحارة للبحر. والبحر للحوت. والحوت لله. والله لأهل نينوى. وخلال هذه الدائرة الطويلة رد الشارد. حتى يعرف الكل أنه لن يمكن الهروب من يد الله]
ويرى القديس مار يعقوب السروجي أنه إذ سُئِلَ يونان عن بني جنسة» تذكّر أنه من بني إسرائيل الذين انشق البحر أمامهم» ليسيروا فيه في أمان، وتقهقرت مياه الأردن امامهم ليعبروا إلى أرض الموعد وها هو البحر ثائر ضده!
+ بدأ النبي يتكلم بألم عظيم مُظهرًا من أي شعب هو، ومن أي مكان كما سُئلَ .
أنا عبراني من جنس إبراهيم، عبد أناء مولود في بيت أدوناي (الله) الحقيقى.
أنا ابن جنس موسى الذي شق البحر العظيم. ومن اجل إسرائيل الذي عبر البحر العظيم بدهشة.
أنا من جنس يشوع بن نون الجبَّار القوي الذي شق نهر الأردن واجتازه.
أنا عبراني من الشعب الذي جاز بين الأمواج ماشياً، ولم تَمُسَه نقطة ماءٍ
قبيلتي هي التي في وقتٍ ما قَهَرَتِ البحر وداست فيه كمثل اليابس، وجازت في طريق وسط البحر.
جنسي هو الذي خرج من مصر، وارتجفت أمامه مياه البحر، وأعطته مكانًا للعبور.
سيدي هو الذي صنع الأرض والبحر العظيم. وله أعبد.
ومنه هربت، ولهذا اصطادني. هو يجعل الريح تَهبُ على البحر وخارجًا عنه.
إن انتهر البحر يجعله كله يابسًا كأنه غير موجود…
إلهي عظيم. ولأني خالفتٌ وصيته أحاطت بي مَخَاوف البحر هذه
القديس مار يعقوب السروجي
كرازة للملاحين الأمميين!
يُعلق القديس جيروم على الكلمات التي نطق بها يونان مع البحارة. قائلاً: [إن هذا النوء يبحث عني، يُهَدَّدكم بالغرق لكي تمسكوا بي. وبموتي تحيون! إنني أعرف بالحقيقة أن هذا النوء العظيم هو بسبي… هوذا الأمواج تأمركم أن تلقونيٌ في البحر, فتجدون هدوءاً… لنلاحظ هنا عظمة الهارب. فإنه لا يراوغ. ولا يكتم الأمر, ولا ينكر بعدما اعترف بهروبه من الله وإنها يَتَقَبَلَ العقاب بقلب مُتَسِع. يُريد أن يموت ولا يتحطم الآخرون بسببه.]
ويبرز القديس يعقوب السروجي حكمة يونان الروحية. فقد سأله الملآحون عن شعبه وأرضه. أما هو فما كان يشغله إلهه. لهذا وإن كان كمن هو سجين وساقط تحت أيدي الطبيعة الثائرة والملاحين. كشف لهم أن إلهه هو خالق البحر والبر.
في تواضع وخضوعٍ لم يَثرٌ الملآحون على يونان. بل أدركوا من هو إلهه. فسألوه كيف يُمكِنُ للبحر أن يهداً. لقد هرب يونان من خدمة أهل نينوى وتعليمهم لأنهم اميون فإذا به يشهد لله وسط الملأحين الأممين! !
يونان يطلب إلقائه فى حبس البحر!
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن محبة الملآحين ورحمتهم وَبَختِ
النبي الهارب، وأن هؤلاء الوثنيين لم يريدوا أن يدينوا شخصًا مُعترفاً بأنه مُخطِيْ ومُذنِب؛ وقد أدانه البحر والرياح والقُرْعَة. بينما لم يبال هو بهلاك نينوى كلها.
ويرى القديس مار يعقوب السروجي أنه في حبٍ متبادلٍ مع صراحة. يتبادل يونان والملآحون المشورة، كل طرف يطلب ما لصالح الطرف الآخر .
ويُعَلَّقْ القديس جيروم على موقف الملآّحين الرائع. فإنهم لم يسألوا عما فعله يونان ولا طلبوا من الله توضيحًا للمَوْقِف. إنما وثقوا في عدالة الله في أحكامه”.
[كانوا يريدون أن يسحبوا المجداف ويهزموا الطبيعة حتى لا يفضحوا نبي الرب… ظنوا أنهم قادرون أن يُخَلَّصوا السفينة من الخطر. ولم يضعوا في اعتبارهم الدور الذي يقوم به يونان أنه يجب أن يتألم .]
القديس جيروم
العبد الشارب ينحنى و بصمت !
قَبلَ يونان الحْكُمَ عليه. وسلِّم نفسه للموت. ولم يكن أمام الملأحين سوى الصراخ إلى الله. لكي لا يُطلَب دم يونان منهم! صورة رائعة لأمميّين وثنيّين يتعرّفون لأول مرَّة على الله. فيطلبون مشورته ورحمته .
كما يقول القديس جيروم: [عظيم هو إيمان الملأحين. فقد كانوا في خطرٍ ومع هذا كانوا يُصَلُون من أجل حياة الغير. عرفوا جيدًا أن الموت الروحي أبشع من الموت الطبيعي، إذ قالوا: “لا تجعل علينا دما بريئاً”. يجعلون الله نفسه شاهدًا حتى لا يَتّهمِهم فيما لا يستطيعون عليه؛ وكأنهم يقولون له: لا تُرِيد أن نقتل نبيك. إنما هو أعلن عن غضبك عليه والنوء أكَدْ إرادتك يا رب» هذه التي نحن نُتَمَمها بأيدينا .]
استراحت السفينة المُضْطهده من الأمواج !
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في إلقاء يونان العاصي في البحر إشارة إلى طرد الخطية من سفينة حياتنا ليعود إلينا سلامنا الحق الذي نزعته آثامنا، إذ يقول: [اضطربت المدينة بسبب خطايا أهل نينوى. واضطربت السفينة بسبب عصيان النبي. لذلك ألقى البحارة يونان في العمق. فحُفظت السفينة. لنلق نحن أيضًا خطايانا فتبقى مدينتنا في أمانٍ أكيدً]
ويرى القديس جيروم في إلقاء يونان في البحر إشارة إلى آلام السيد المسيح، التي نزعت عن بحرنا هياجه. وخلصت السفينة ومن بها من الخطر. خلال آلام السيد المسيح امتلاً العالم سلامًا داخليًا فائقًا!
ويقول القديس مار يعقوب السروجي إنه إذ ألقيَ القبض على الهارب. هدأت الطبيعة الثائرة عليه. لأنها حققت رسالتها.
ها هي تُسَلَّمه في يد خالقها ليفعل به حسب أمره الإلهي. أما السفينة فاستراحت من اضطهاد الطبيعة لها، إذ طُرِحَ يونان من السفينة في البحر. وكأنها طفل حديث الولادة. خرج من رحم أمه. فاستراحت الأم من آلام الطلق.
ويرى القديس مار يعقوب السروجي أن الأمميين استطاعوا أن يدخلوا بيت الله وهم في السفينة في وسط البحر، وقدّموا ذبائح تسبيح وشكر مقبولة لدى الله. وتمتّعوا بمخافة الرب التي حُرمَ كثير من شعب الله أنفسهم منها .
القمص تادرس يعقوب ملطي
الثلاثاء 16 أمشير 1737 ش
23 فبراير 2021م