المعـرفـة والخطيـة

على مدى الـصـوم الكبير كله تتركز القراءات في الكنيسة
على كيف سقط آدم وكيف انتقل الموت للجميع تمهيداً
لعملية رفع الخطية بموت المسيح على الصليب .

المعـرفـة والخطيـة

أولاً: الخير عنصر طبيعي في الإنسان

الإحساس الداخلي يؤكد تأصل طبيعة الخير في الإنسان :
إن إحساس الإنسان بالراحة والطمأنينة بعد إتيان عمل من أعمال الخير والفضيلة يـقـابـلـه الإحساس بالأسف والندم والكآبة بعد التورط في عمل الشر . هنا يقوم الدليل العملي الـذي يـسـتـند إلى شاهد داخلي في النفس لا يخطىء على تأصل طبيعة الخير في الإنسان كجزء أصيل في كيانه الروحي .

وإن كان بعض العلماء يحاول التقليل من قيمة نوازع الخير في الإنسان، فيغزونها إلى التربية وعوامل البيئة وتهذيب الضمير بنواميس الأديان المختلفة، ويحاولون في نفس الوقت وصم الإنسان بتأصل الشر والحيوانية والشراسة في طبيعته ، مستندين في ذلك إلى حالة الهمجية والتوحش التي وجدت عليها بعض قبائل الإنسان في الجهات النائية والمنعزلة ، إلا أن هذا الإدعاء مردود عليه.

فأولاً :

إمكانية تهذيب الضمير البشري بالفضائل الروحية .. هي بحد ذاتها ــ دليل قائم على وجـود عنصر الخير ، بالإضافة إلى صلاحية طبيعة هذا الضمير . لأنه لو كان ضمير الإنسـان مـجـبـولاً على الشر ، لكان من المستحيل استحداث أي خير روحي فيه . أما وقد استوعب الضمير البشري كل عناصر الخير الروحي الأسمى، وارتاح إلى الفضائل الممتازة حتى وإن عـجـز عـن تـكـمـيـلها أحياناً ، ففي هذا كفاية للتدليل على طبيعة الخير الكامنة في الضمير ، بل وإشارة واضحة إلى الغاية السامية من خلقته . وواضح أن تهذيب الخير والـصـلاح الذي يستهدف له الضمير ويجوزه بنجاح مستمر ليس هو في الواقع مجرد انتقال مـن حـالـة إلى حالة تماثلها ، ولكنه يشكل في الحقيقة حالة فائقة بالإنتقال من مستوى طبائع جسدية إلى مستوى روحي من الفضائل السامية التي لا تمت إلى الطبائع الحيوانية على الإطلاق .

ثانياً :

قبول الفكر البشري للنواميس الأدبية قبولاً طبيعياً سهلاً، واستيعابها، والإنشغال بها أحياناً إلى حد يفوق جميع الإلتزامات الطبيعية الأخرى ، يحسب هو الآخر دليلاً على رقي الفكر الإنساني رقياً أصيلاً ومتجذراً في طبيعة الإنسان، وإن كانت قد طمسته معالم الـبـدائية والإهمال . أما لو كان الخير عنصراً غريباً عن طبيعة الإنسان أو ليس من طبيعة الفكـر الـبـشـري ، لما أمكن أن يستهويه التفكير إلى هذا الحد الذي يحتل أحياناً المكانة الأولى فيه .

 والـقـول بـأن الإنسان البدائي وجد لا يفكر ولا يحس بهذه النواميس ، فذلك يعود لا إلى غـيـاب هـذه الـنـواميس المطلق من طبيعته ، بل لأنه محروم منها وحسب تحت ظروف قاهرة، تماماً مثلما يوجد إنسان تكون الخطية قد استهوته ثم استعبدته ، فلا يحسب ذلك أن الخـطـيـة سـيـد مطلق يفوق سلطان الخير في الإنسان ، بل مردها أن الإنسان لم يتذوق بعد جمال الخير وسمو البر وقوته التي تفوق في سلطانها كل ما عداها .

ثالثاً :

البشرية في مجموعها لم تتقهقر، بل تمتد وتنمو في الخير كغاية. ونحن لم نسمع قط منذ الدهر أن إنساناً بعد أن يكون قد تذوق جمال الخير وأحبه واستوعب نواميس الفضيلة والأدب ، يـعـود فـيـرتـد و يصير إنساناً همجياً أو متوحشاً فاقدا للحس الروحي، لأن هذا يمكن أن يحدث فقط إذا كان الشر والتوحش والهمجية هي الطبيعة الأصيلة في الإنسان ، يعود فيرتد إليها تلقائياً !!

والحـقـيـقـة إنـنـا دائماً أبدأ نجد العكس ، فالشعوب كلها ترقى ، والإنسان في مجموعه الكلي يسمو بإنسانيته ، وفي هذا دليل على نزوع الإنسان دائماً نحو طبيعته الأصلية التي وإن كـان قـد مُحرم منها أجيالاً طويلة متعاقبة عن عجز أو إهمال أو لعامل طارىء ، فإنه بمجرد تعرفه عليها لا يرتد عنها .

وحالة النمو الدائم و بإطراد التي يمر فيها الضمير والفكر الإنساني عامة لإستيعاب الحق والخير يجعلنا نؤمن أن الخير والصلاح الروحي هما هدف أصيل في طبيعة الإنسان ، وقد وضـعـا فـيـه لسعادته ، لأن النمو الواعي يقوم أساساً على الإشتياق الطبيعي، ولا يمكن أن الشيء ينمو إلا فيما وضع له ، كنمو النبات الطبيعي نحو الضوء . والنمو يشير إلى غاية تلقائية يسعى إليها . فإذا انصاع الإنسان في تيار هذا النمو عن رضى وعن وعي، نجد أنه يتجه تلقائياً نحو مصدر راحته وسعادته .

وفي الحقيقة، نحن نجد أن الراحة والسعادة اللتين يستشعرهما الإنسان في استيعابه للحق وسـلـوكـه في الخير تـصـبحان في حد ذاتها الدافع الحقيقي الذي يشجعه للإستمرار والإستزادة من الحق ونموه في الخير، مهما واجه من المعاناة والمعوقات بل والمضايقات أيضاً التي لا يمكن أن يخلو منها طريق الحق والخير والصلاح !!

ومن هذا نرى أن نمو الإنسان في الحق والخير، واستشعاره الراحة فيها وتذوقه للسعادة الكامنة فيها ، مع احتماله للمعاناة بل وتضحيته أحياناً بكل لذة جسدية وسعادة زمنية في سبيل احتفاظه بالحق والخير الأسمى، لهو أكبر دعامة يمكن الإستناد عليها في تدليلنا على أن الخير عنصر طبيعي في الإنسان ! 

فالإنسان «مخلوق على غير فساد»، أو على الـوجـه الإيجابي هو مخلوق للسعادة والخـلـود ؛ لذلك إن هو فسد وتعطلت سعادته لعوامل عارضة، نجد أن بقاء إمكانية عودته للخير والبر والـقـداسـة لا تزال قائمة أبدأ وحتى آخر نسمة من حياته ، مما يشير بكل وضوح إلى صلاح خلقته وصلاح خالقه !!

أما الشر والخطيئة فليس لها طبيعة خاصة ثابتة :

لأننا إذا بحثنا في طبيعة الأعمال ، لا نجد للشر والخطية فيها طبيعة خاصة جامدة أو أصلاً ثـابـتـاً تـنـحـدر مـنـه . فالعمل الواحد يمكن أن يكون خيراً كل الخير تحت ظروف خاصه، فإن تـغـيـرت هـذه الـظـروف صـار نفس العمل شرأ مستطيراً. فالمحكوم عليه بالإعدام يـقـتـل، و يعتبر قتله عملاً من أعمال الخير لصالح المجتمع الإنساني . والرجل يعرف امرأتـه لينجب الأولاد ، وهذا خير . كذلك الإنسان يصوم متنسكاً متعففاً ممتنعاً عـن الأكل بإرادته ، وهذا أيضاً خير. أما إذا قام إنسان على أخيه وقتله ، أو إذا اغتصب رجـل امـرأة غيره، أو إذا منع الطعام قسراً عن إنسان جائع مسكين ، فهذه الأعمال كلها تحسب شرأ مستطيراً .

وهكذا إذا عدنا وفحصنا هذه الأعمال الخيرة وهذه الأخرى الشريرة، نجد أن طبيعة الـعـمـل فيها واحدة تماماً، ولكن حينا تغيرت الظروف التي لابست العمل ودعت إليه تغير العمل كلياً وأدرج بجملته تحت الشر الخطير بعد أن كان هو هو الخير الكثير .

و بـالـتـجربة والقياس على مدى الأزمان والقرون ، وجدنا أن ناموس الحياة الأصلح ومجـال الـعـمـل اللانهائي موضوع بل ومغروس في طبيعة الإنسان لسعادة الإنسان ، سواء كـان فـرداً أن جماعة أو شعباً أو شعوباً برمتها ، بل ووجدنا أيضاً أن هذه السعادة ليست جـزئـيـة بـل هـي سـعـادة متصلة أسبابها بين الجسد والنفس ، للحياة الحاضرة والمستقبلة أيضاً !! وما الشر والخطيئة إلا غياب جزئي في مسار ناموس الخير .

و بناء على ذلك ، نستطيع أن نرى الشر من حيث ظروفه وأهدافه أنه عمل مجرد عمل كباقي الأعمال، لا فرق ، ولكن يكون قد خلت منه عناصر الخير ، فآل هذا العمل إلى إساءة لفرد آخر أو لمجموعة أفراد ، أو حتى لنفس الإنسان ومستقبل حياته .

ويمكن أيضاً أن نـقـول عـن الخير أنه عمل أيضاً كباقي الأعمال إنما يستمد نوازعه وأسـبـابـه وغـايـاتـه مـن إلهام الخير الذي ينبع من المصدر الذي يقود الإنسان إلى مستقبل حياته الذي يفيض عليه بالخير والسعادة .

فالشر حالات سلبية لا أصل لها كطبيعة، ولا وجود لها في ذاتها ككيان قائم بذاته بدون فعل ، وإنما تقمّصت أعمالاً كانت للخير أصلاً وانحرفت بها عمّا وضعت له .

ومن ذلك تتضح نتيجة في غاية الأهمية وهي أن الخير عنصر طبيعي إيجابي أصيل، أما الشر فهو تكييف سلبي طارىء يتخذ وجوده وكيانه في غيبة من الخير باستحداث انحراف يسوقه على عمل أصيل من أعمال الخير.

فالكذب هو إخفاء للحق ، أو قلب لأوضاعه ، أو تغيير في مضمونه . أي أن الكذب يتخذ وجوده فقط من التعدي على الحق ، ولكن لا وجود له هو في ذاته . 

أما الحقيقة فهي حالة إيجابية موجودة، تستمد وجودها من مصدر الحق الثابت الأزلي أي الله .

لذلك يعتبر الإنسان الكاذب أنه متعد على الله باعتبار أن الله مصدر الحق والصدق . والذي يقول الصدق فهو يؤكد وجود الحق ، و بالتالي يؤكد وجود الله ذاته .

لذلك يتحتم بالتالي لكي يوجد الكذب أن يكون الصدق والحق موجودين أولا وجوداً ذاتـيـا مـطـلـقـاً وثابتاً ، حينئذ يتركب الكذب الذي لا يزيد عن كونه إنكاراً لوجود هذا الحق بأي صورة من الصور قولاً أو عملاً .

كذلك فـالـسـرقـة تـعتبر سلباً للأموال وللحقوق ، والأموال والحقوق أمران طبيعيان إيجابيان يلزم وجودهما أولاً حتى يمكن للشر أن يستغلها و يستحدث منها وجوده السلبي.

والـزنـا أيـضـاً هـو اضطجاع خلسة غير شرعي ، فالشرع قانون إيجابي للخير يلزم وجوده أولاً حتى يمكن أن نضبط الزاني كمخالف للشرع .

وهـكـذا يـتبرهن بوضوح أزلية الخير وأبديته وإيجابيته المطلقة ، كما يتبرهن استحداثية الشر وسلبيته وحتمية زواله !!

ولكن استحداث الشر السلبي من صميم الخير الإيجابي هو عملية لا تمس كيان الخير أو مـصـدره ، فلا يصح مثلاً أن يقال أن الخير سبب لوجود الشر ـ حاشا ! ـ فالخير خير ، ولا يمكـن إلا أن يـكـون خيراً فقط . إنما الشر استحدث وجوده فقط عندما نجح في إبطال أهـداف الخير في عـمـل مـن أعمال الخير . فالشر هو توقف أو انعدام للخير . فكيف يتولد منه ؟ فالشر كالظلمة تماماً، فالظلمة لا تشتق من النور ، ولكن تتخذ وجودها عند غيبة النور أو بإخفائه عمداً.

ثانياً : والمعرفة هي التي أولدت الخطية

لا يمكـن أن نفي مـوضـوع الـسـقـوط في الشر والخطية حقه من الجهة العملية، إلا إذا استعرضنا أمام ذهن القارىء الأصل الأول الذي دخلت منه الخطية إلى طبيعة الإنسان الأول .

فمـوضـوع الخـطـيـة الأولى ودخـولهـا العالم واجتيازها إلى جميع الناس أمر له شأنه في الـعـقـيـدة وفي الأبحاث الروحية واللاهوتية والفلسفية ، والذين خاضوا فيه وأدلوا برأيهم كثيرون ، روحيون ولاهوتيون وفلاسفة ، ووجهات آرائهم متعددة متباينة لا تخلو جميعها من طرافة وطلاوة وجمال ، غير أن بعضها قد حاد عن جادة الحق والذوق السليم .

والأمر كله يتعلق بموضوع « معرفة الخير والشر»، كما وردت في معاني وألفاظ قصة التكوين التي طرحها الوحي الإلهي أمام فكر الإنسان بعمق لا يجار يه إلا من كان على مـسـتـوى الـوعـي الـروحـي الـفـائـق، بـالـرغـم من بساطة مظهر القصة وألفاظها السهلة وتصويراتها البديعة المختصرة ، التي يمكن أن يحيط بها عقل الطفل .

ماهية الخطيئة الأولى :

خـطـيـة آدم الأولى لم تـنـبـع أصـلا مـن طـبيعة آدم . فالله خلقه على غير فساد ، وإلا حسبت طبيعة آدم سيئة الخلق . وحاشا لله ! فسفر التكوين يقول عندما خلق الإنسان : « ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا . » (تك 1: 31)

لذلك فإن خطية آدم الأولى لم تكن شهوة أكل أو كبر ياء أو زنا ، كما حاد بها بعض المـفـكـريـن، ولو أن هذه كلها هي بعينها الخطايا الفرعية التي تولدت من الأصل الذي يـتـفـرع و يتولد من منه جميع الخطايا الأخرى . إذ لو كانت الخطية الأولى شهوة أكل فكيف يستقيم أن شهوة الأكل يتولد منها كبرياء أو حقد أو زنا ؟

لذلك يتحتم أن الخطية الأولى لا تكون على مستوى أي خطية بل يلزم أن تكون على مـسـتـوى كـل الخطايا ، أي تصلح أن تكون الأصل الذي يتولد منه جميع الخطايا. ومعروف قطعاً أن المحرك الأول والأساسي للخطية هو العقل، أي المعرفة، التي يطلق عليها في الفكر الآبائي القديم كلمة vo5s وهي تترجم «عقل » » أو « قلب » . والمسيح أشار إلى ذلك بوضوح عندما قال إن « من القلب ( العقل ) تخرج أفكار شريرة قتل زنی فسق سرقة شهادة زور تجديف . » (مت 15: 19).

فالخطية الأولى كانت بلا شك مختفية في شهوة المعرفة « معرفة الخير والشر» في غيبة من الله .

من أين نبعت الخطيـة الأولى :

والأمر لا يحتاج إلى بـرهـان أو إثـبـات . فـالـقـصـة واضحة، والكلمات ليس فيها غموض . ولا تحتاج إلى تأويل . فالشجرة شجرة حقيقية اسمها «شجرة المعرفة » . هنا كلمة حقيقية dan0vév ضرورة مطلقة ، لأن الشجرة لا يمكن أن تكون معرفة ولا المعرفة شجرة، إلا إذا ارتفع مستوى الشجرة إلى مستوى الحالة المتجلية التي كان فيهـا آدم مع الله في الـفـردوس . والمثل عندنا ظاهر في قول المسيح عن نفسه إنه هو الـكـرمـة ( الـشـجـرة ) الحقيقية، وأن عصيرها هودمه المعطي الحياة، فهو شجرة الحياة ، ويمكن الأكـل منهـا « مـن يأكلني فهو يحيا بي » (يو6 : ٥٧). هنا الوصف أعمق من أن يـكـون رمـزا أو تأويلاً، بل حقيقة ، ولكن بصورة متجلية أي فائقة عن الحس البشري العادي .

فكما أن الحياة هي القوة السرية النابعة من شجرة الحياة ( المسيح ) ، كذلك معرفة الشر والموت بالتالي هي القوة السلبية النابعة من الأكل من شجرة ( الخير والشر)، وكا أن كـل مـن أكـل مـن شـجـرة الحـيـاة يأخذ حياة يحيا بها إلى الأبد « من يأكل جسدي و يشرب دمي فله حياة أبدية » (يو6: 54 ) ؛ كذلك كل من أكل من شجرة المعرفة فإنه يـأخـذ مـعـرفـة الشر، وفي معرفة الشرموت . أما شجرة الحياة فقد استُعلنت لنا بشخص المسيح ، ليس بالرمز ولا بالتأويل، بل بأكلنا أكلاً حقيقياً منها بقلبنا أي بفكرنا أي بإيماننا ثم بعد ذلك بفمنا ( الجسد والدم)، ولكي يكون أكلنا منها أكلاً حقيقياً يتحتم أن يكون أولا بعقلنا وقلبنا ( إيماننا ) ، وهكذا نستقبل بإحساسنا الداخلي الحياة الأبدية وهي تسري في كياننا .

كذلك شـجـرة مـعـرفة الخير والشر لم تكن بالرمز ولا بالتأويل بل كانت شيئاً شهياً للعين فعلاً كما كانت بالسابق شهية للعقل حتماً . فأكل منها آدم بعقله قبل فمه ، وإلا ما كان أكل إطلاقاً، وهكذا أحس بالمعرفة ، وعرف الشر ، وأحس في الحال أن الذي عمله كان مخالفة فذاق الموت ، أي غياب الحياة أي غياب الله عن كيانه ، ذوقاً مرا بعقله ثم جسده. ولا زالت شجرة معرفة الخير والشر بأثرها باقي فينا إلى اليوم ، نشتهي معرفة الشر بـعـقـولـنا ، ثم نشتهي بعيوننا وحواسنا فنميل إلى الشر فنتورط فيه ، فنحس بالمعرفة الخاطئة و بـالـخـطـية تسري في كياننا حاملة إحساس الإنفصال عن الله أي الموت تلقائياً. وهكذا تقودنا المعرفة كل يوم إلى فعل الشر ثم بالتالي إلى حكم الموت تلقائيا .

حالة آدم قبل السقوط من جهة المعرفة :

كان آدم يحيا في حالة معرفة الحق وحده والبر الكامل بلا انقسام يستمده من الله وحده ، لا شريك له ، بلا عناء ، بعقله الإيجابي أي المستقبل والمذعن للحق فقط ، فكان آدم عالماً بالحق، حكيماً. وإنما معرفته وحكمته لم تكن اختبارية من ذاته كأنها ناتجة من تجربته الشخصية عن طريق الخطأ والصواب ثم الإستنتاج ، وإنما كانت معرفته وحكمته قوة موهوبة له من الله مصدر الحق والحكمة .

 وكـان آدم يـحـيـا بمقتضى هذه المعرفة الحقة الإيجابية التي بلا أي انقسام والموهوبة له عـامـلأ بها بطبيعته دائماً بما لا يتعارض مع أي دافع أو هدف آخر مضاد للحق ، كما كان يـسـتـمـد نـوره من الله ، فكان يعمل الحق بحرية إرادته . وكان مظهر هذه الحرية هو استطاعته أن يعمل الخير و يفكر بالحق بإرادته وبسرور .

أما مجازاة آدم لعمله بمقتضى مشورة الخير التي كان يتقبلها من الله بعقله وقلبه فكانت دوام وجوده في ذلك الخير ونموه فيه !

كيف أن آدم كان قادراً تماماً أن لا يخالف أمر الله :

وحينما حذره الرب الإله أن لا يأكل من شجرة معرفة الخير والشر، كان هذا يحمل ضمناً تأكيداً أن آدم كان قادراً قدرة كاملة أن لا يخالف أمر الله ، بمقتضى إرادته الحرة ، لأن صنع الشر لم يكن حتى هذه اللحظة في طبيعة آدم الخيرة ، فآدم كانت تسنده موهبة الله وبـره كـامـتـيـاز يـلـيـق بطبيعة آدم ـ المخلوق على صورة الله ـ الخالية من كل شر . فطالما أن آدم يستمد من الله فكره وعمله وحريته ، فهو لا يمكن أن يقع في مخالفة الله أو في الشر أو الخـطـيـة ، ولـكـن الله كان يعلم أن في اللحظة التي يستقل فيها آدم عنه ، فإن نعمة الله ستتخلى عنه في الحال. آدم خلق كاملاً ، ولكن كماله كان بالله ومع الله فقط . فإذا استقل آدم بحريته عن الله وابتعد عنه بفكره أو إرادته أو حريته ، أصبح قابلاً للسقوط والفساد والموت .

وهـكـذا كـان آدم مـهـدداً، إن هو ترك الله ، أن يفقد هذه الهبة وهذا الإمتياز الذي يحفظه في الخير الكامل، وكان من صميم طبيعة آدم هذا الرباط رباط الإمتياز الفائق الذي كان على آدم دائماً الإحـتـفـاظ بـه بـحـر يـتـه . ولكن إن هو استهان بهذا الرباط ، واستقل بحريته ، فإنه يصبح في هذه اللحظة قادراً أن يخالف الله لأن «من ليس معي فهو علي» (لو11: 23). فالإنسان قد أعطي منذ البدء أن يختار إما أن يبقى مع الله فيقوده الله إلى الخير والـصـلاح أو يـصـبـح ضـد الله ، فيفقد قدرة الإنجذاب إلى الله فتقوده حرية إرادته إلى الخطأ .

لذلك سـبـق الله وحذره ، حتى إذا تورط في الدخول إلى الإستقلال بحريته التي هي مـن صـميم طـبـيـعـتـه أن لا يتمادى أكثر من ذلك إلى الفعل ويمد يده و يأكل ، فتنفصل حريته إلى الأبد عن الله ، وتصبح عودته إلى الإلتصاق بالله أمراً مستحيلاً، لأن الحرية والإرادة تـكـون قـد تـمـركـزت في داخله و يصير آدم شخصاً مستقلاً تماماً يستمد فكره وحركته من ذاته ، فيتعذر عليه بل و يستحيل أن يرتفع فوق ذاته .

كان لا يمكن لآدم أن يشتهي معرفة الشر،
لولا دخول عنصر إيحائي جديد على فكره :

وآدم لم يـشـتـه أن يـعـرف الخير والشر من ذاته، لأن شهوة المعرفة المنفصلة عن الله لم تـكـن مـن صـميم طـبيعته أصلاً ، لأن في مثل هذه الشهوة مخالفة مباشرة للذي قال له لا تأكل من شجرة معرفة الخير والشر ، والله لم يخلق آدم بطبيعة مخالفة في سلوكها.

ولـكـن أول تنبيه واجه ذهن آدم عن مدى وعظمة وأهمية معرفة الخير والشر ومقدار سمو درجة الإنسان إذا هو تحصل عليها ليصير في درجة الله الكلي الخير والكمال وصل آدم لا عن طريق تفكيره الشخصي أو تصوره الخاص بل عن طريق آخر غير ذاته . فلما أدرك آدم ـ إدراكـا مـشـوبـاً بـالخداع وإخفاء النتائج والمصائب ـ إمكانية بلوغ درجة الخير والكمال العظمى التي الله نفسه عن طريق هذه المعرفة الجديدة ، اشتهاها كأنها خير. علماً بأن الشهوة هنا لا تزال من طبيعة آدم الخيرة، فهي شهوة في نطاق الخير، ولكن السم المدسوس فيها والذي لم تلحظه طبيعة آدم هو أن هذا الخير متصل بالشر « معرفة الخير والشر معاً»، وفي نفس الوقت منفصل عن الله لأنه أمر منهي عنه ، و يستحيل أن يدوم خير مـطـلـقـاً إن كان منفصلاً عن الله . فآدم اشتهى معرفة الخير والشر المستقلة على أساس إمكانية دوام حالة الخير والسعادة التي كان يحياها في اتصاله بالله أيضاً. وكان يظن أن معرفته لما يسمى «بالشر» لن تؤثر عليه ، لأنه كان لا يزال متمتعاً في أعماقه بثقة امتيازات الصلة مع الله .

ولـكـن آدم لم يـكـن يـظـن أن اشتهاء معرفة الخير والشر معرفة شخصية ذاتية ، ليكون كالله عـن طـريـق اختباره الخاص، كان هو هو الإستقلال عن الله بالضرورة و بالتالي الإرتداد إلى الـذاتـيـة !! وكان يتبع ذلك بالضرورة أيضاً القيام بأعباء الحياة بمفرده على أساس معرفته الجديدة الخاصة . ولم يكن آدم يتصور أن مثل هذه الرغبة في الإنفراد بأعباء الحياة تحمل ما حملت من هموم وكوارث وعجز وقصور وخطايا بلا حصر وموت .

جـاز آدم على كل هذه الدرجات من التفكير قبل أن يمد يده و يأكل من الشجرة ، وكـان يمكنه بكل تأكيد أن يتدارك الأمر، حتى قبل لحظة الفعل ومد اليد والأكل، بأن يرفض هذه المشورة المسمومة ، وعلى أساس وجود هذه الإمكانية قال له الله سابقاً «لا تأكل من الشجرة . » (تك2: 17).

إن تركتموني أترككـم :

ولـكـن آدم كـان يباشر حريته في غير وضعها الأصيل عندما فتح أذنه وعقله ووعيه لـغـواية حواء والحية، عندما وجد أن هذه المشورة في دائرة حريته وإمكانياته ؛ فصمم على الحصول على معرفة الخير والشر لنفسه . وهنا بدأ العد التنازلي للسقوط المحتّم . وبمجرد تنفيذ الـفـعـل بمقتضى حرية شهوته ، فقد في الحال كل الإمتياز للوجود في الحضرة الإلهية التي كانت تسنده ، وانحل هذا الرباط العجيب الفائق الذي كان يجمعه إلى الله في ألفة المودة الفائقة .

لقد اشتهى آدم أن يعتمد على ذاته و يصير عارفاً الخير والشر بذاته ـ ولما تمّم وأكل بـالـفـعـل من ثمرة شجرة معرفة الخير والشر مؤكدا رغبته بحريته ، ومسجلاً على نفسه هذا الـفـعـل مع سبق الإصرار ؛ وجد نفسه وحيداً منفرداً و بدون الله و بلا حفظ ، عرياناً ، حيث الغزي هنا هو غري حقيقي أيضاً أي يشمل فوق العري الجسدي عرياً من كل ما هو حق !!

كل إيحاء ليس من الله ، لا يعتبر في مظهره خطيئة
ولكن يؤدي إلى الخطيئـة :

وقـد عـلـمـنـا أن آدم لم يكن يخطىء أو يخالف أو يشتهي غير ما يشتهي الله ، بحسب طبيعته الخيرة المخلوقة على غير فساد، ولا كان يستطيع ذلك قطعاً قبل أن يأكل من شجرة المعرفة و يعرف الشر، فيسوقه الشر إلى التورط في عمل حسب له على مستوى المخالفة أو العصيان. ومـن هـنـا بـدأ مسلسل الخطايا بأسرها . إذن ، فيتحتم منطقياً أن تكون نقطة البداية في مخالفة آدم لوصية الله شيئاً آخر غير الخطية نفسها التي انتهى إليها ، وشيئاً آخر غير المعرفة الخاطئة، وإلا نسب إلى الله أنه جبل آدم بطبيعة خاطئة ومعرفة خاطئة وحرية خاطئة ، وحاشا ! فالله خلق آدم على صورته وخلقه « حسناً جداً» .

ومـن ذلـك يـظـهـر أمـامـنـا تدخل عامل ليس من طبيعة آدم ، استقى منه آدم إيحاءً جديداً غير الذي تعود أن يستمده من الله للسير به في طاعته الخيرة المطلقة . وكان يشترط في هذا الإيحاء الجـديـد أن يـكـون خـالياً تماماً من أي تعارض مع الخير، وإلا تعذر على طبيعة آدم الخيرة قبوله . لذلك كان لابد ، لكي يخطىء آدم بواسطة الإيحاء الجديد، أن ينحصر هذا الإيحاء الخطير في مجرد إعطاء آدم إمكانية معرفة جديدة قد تسوقه للمعرفة الخاطئة فيخطىء .

وقـلـنـا «قد» لأنه لو كانت هذه الإمكانية ستسوقه حتماً للمعرفة الخاطئة لكانت تحسب خطية ، ولدت قبولها على استعداد طبيعي للخطأ والشر في طبيعة آدم ، وحاشا الله ! ولهـذا الـسـبـب بـالذات سبق الله وحذر آدم من قبوله الأكل من الشجرة لأنه كان يجهل الشر. لذلك فإن الله اكتفى بـإعـطـاء آدم كل الإمكانيات الإيجابية الطبيعية حسب خـيـريـة طبيعته لرفض أية فكرة من دون الله ، لكي يجنّبه خداع الشيطان لأن الله كان يعـلـم أن إيحاء الشيطان يكون دائماً على مستوى الخير الكاذب ، ولن يفلت الإنسان من إيحاء الشيطان إلا بالرفض القاطع .

الجزاء من نوع العمـل :

لذلك كان من جراء عدم استخدامه لهذه الإمكانيات المتاحة له ، أنه عوقب بالفعل عقاباً تلقائياً متساو يا تماماً مع شهوته وإرادته . فهو اشتهى أن يعرف الشر، فعرفه . وتمنى أن يستقل بمعرفته استقلالاً ليكون كالله عارفاً للخير والشر بذاته ومن نفسه ، فصار بالفعل وتـلـقـائـيـا عـارفـاً بذاته ومن نفسه، ولكن لم يستطع ولا إلى لحظة واحدة أن يحتفظ بالخير وحده فسقط في الشر وكانت النتيجة وبالأ عليه وعلى كل بني جنسه ، وكان الله في ذلك غير مجحف في حكمه ، بل عادلاً كل العدل .

الفارق بين الفكر بدون التصميم على الفعل ،
وبين الفعل ذاته مع سبق الإصرار:

و يلاحـظ مـن تسلسل قضية معرفة الخير والشر والسقوط ، أنه كان هناك فرق واضح بين فعل الأكل من الشجرة و بين مجرد الفكر والتمني للأكل من الشجرة. كما يوجد أيضاً فرق بين فـكـرة الأكل من الشجرة عن قصد المخالفة والخروج عن طاعة الله ، و بين مجرد التفكير للأكل من الشجرة بنية لا تحمل قصد المخالفة أو مقاومة الخير والحق.

لهذا نجد أن الله لم يحدد الجزاء أو العقوبة ( الموت ) على أساس مجرد فكرة الأكل ، ولـكـن حدد الجزاء على الأكل الفعلي . وذلك لأن مرحلة الفكر قابلة للتعديل بإمكانيات الـفـكـر الخير ذاته . من أجل هذا ، وبناء عليه ، سبق الله فحذر آدم لكي يستخدم قدرته الخـيـرة لـيـرفـض فكر الشهوة وحركة التمني في القلب حتى لا يقع تحت التصميم والإصرار على الفعل .

على أن نوع الفكر الذي كان يعانيه آدم قبل الأكل يهمنا جداً. إذ أنه يستحيل قطعاً أن يكون آدم قصد بالفعل مخالفة الله ، لأن طبيعته الخيّرة تمنع .

لذلك لابد أن تـكـون طـبـيـعـة الدافع الفكري الذي دفع آدم للتورط في الأكل لا تتعارض مع طبيعة آدم الخيرة، وفي نفس الوقت يمكن أن تحرر آدم من الإلتزام بطبيعة الخير وحده فيسقط فيها هو ضده .

وهـكـذا نـسـتـطيـع أن نحصر كيف قدم الشيطان إيحاءه الرقيق الخطر أن يأكل آدم ليصير كالله عارفاً بالخير والشر معاً ، عوض أن كان عارفاً بالخير فقط وليس في هذا أي شر ظاهري أو ما يمكن أن يتعارض مع طبيعة آدم .

ولـكـي يـنفي الشيطان أية خطورة من هذه المعرفة المنقسمة على ذاتها بين الخير والشر ، أعطى تعليلاً مناسباً وخيرا حسب الظاهر ليسهل قبول هذه المعرفة بما لا يحتمل أي شك بقوله : «تصيران كالله » . ومعلوم أن الإنسان مخلوق أصلاً على صورة الله ، فالمشورة هنا متناسقة مع الإمكانيات .

الأصل الذي انحدرت منه جميع أنواع الخطايا :

وهـكـذا نجد أن نـقـطـة البداية لحركة سقوط آدم لم تكن خطية في الأصل ، ولم تكن معرفة للشر، بـل قـبـول مـشـورة جديدة مصدرها ليس هوا والله، ولم يكتشف فيها آدم في الـبـدايـة المخالفة العقلية التي تضمنتها ؛ لأن كون آدم يسمع لغير الله فهذا هو بعينه بداية العصيان ، وقد قدم له الشيطان هذه المشورة بصورة تقبلها طبيعته لإشتمال المشورة على إمكانية وهمية للإرتقاء إلى حالة أعلى من طبيعته وأسمى، أي يصير كالله في معرفته للخير والشر .

«تفاحة » آدم لم تستقر في حلقه بل استقرت في عقله :

ونحـن لو حللنا هذا العرض في ظاهره وحسب غايته المزعومة وهدفه الموهوم ، لوجدناه عرضاً لا غبار عليه ، إذ سيكون آدم كالله نفسه عارفاً بالخير والشر من ذاته . ولكن ما هي العواقب الحتمية التي ستحدث بعد ذلك ؟ هذا ما أخفاه الشيطان عن آدم.

إذ بمجرد أن انصاع آدم للمشورة وانتقل من مجرد الفكر إلى التصميم ثم التنفيذ ، ومدّ يده بالفعل ليأخذ و يأكل، كانت المعرفة الشخصية والمنفصلة عن الله قد اتخذت مكانها في الـعـقـل قـبـل أن تصل الثمرة إلى البطن . فتفاحة آدم لم تقف في حلقه بل استقرت في عقله ، لأن إرادة آدم انصاعت للتنفيذ مع سبق الإصرار نحو طلب المعرفة ، بل واشتهاها آدم من دون الله قبل أن يأكل .

كان آدم يـظـن أن في إمكانه أن يعرف الشر كالله ولا يسقط فيه ، ولكن هيهات ! فـجـرد اسـتـقـرار معرفة الشر في عقل الإنسان كفيل بسقوط الإنسان ، فليس آدم كالله . والخير الواجب الوجود الذي لا يزول ليس كالخير المكتسب ـ أي المخلوق ـ الذي يهدد دائماً بـالـزوال . لأن الخير، الذي هو الحق الحافظ والساتر من الشر والخطية والذي يعتمد عـلـيـه آدم، كان مكتسباً من الله . وكان هذا الحق الحافظ مهدداً بالزوال بمجرد الإبتعاد والإنفصال عن مصدره .

لم تكن معرفة الشرخطية في حد ذاتها ، ولكن الخطية توجد رابضة دائماً أبدأ و بإصرار وعنف بباب المعرفة ، إن هي انحازت للشر، ولا مفر من السقوط فيها إذا لم تسند الإنسان مـعـونـة فائقة والإستماع المستميت لصوت الله . فلا ارتفعت المعونة الحافظة بالإبتعاد عن الله ، توقف صوت الله ، فكان لابد أن يسقط آدم في ورطة معرفة الشر التي أولدت له جميع أنـواع الخـطـايـا رغـم إرادته «لأن الإرادة حـاضـرة عندي ، وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد. لأني لست أفـعـل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل . » ( رو7: 18و 19)

هنا نستطيع أن نقول إن آدم تقبل إمكانية الخطأ لما تقبل معرفة الشر بإرادته الحرة كـشـهـوة ومن دون الله ، الأمر الذي حُسب له على مستوى العصيان . ومع أن معرفة الشر ليست خطية في حد ذاتها ، ولكن يستحيل على إنسان رفعت عنه القوة الحافظة أن يعرف الشر ولا يخطىء !! لذلك حذر الله آدم أن لا يأكل من شجرة معرفة الخير والشر … هنا الأكل المنهي عنه على مستوى العقل والفعل ـ لأن الله كان عالماً أن هذه المعرفة ستورده حـتـمـا مـورد الهلاك . ولـكـن الشيطان زين له المعرفة جيداً فرفعها إلى مستوى الشهوة ، فقبلها واشتهى أولاً بالعقل، فكان لابد أن يشتهي الأكل بالفعل، فأكل، فانفتحت عيناه وكل حواسه بعد أن انفتح عقله وعرف الخطية بالجسد . 

ملخـص :

أولا : الخير عنصر طبيعي في الإنسان :

الـدلـيـل الـعملي على تأصل طبيعة الخير في الإنسان هو الإحساس الداخلي بالراحة والطمأنينة بعد فعل الخير ، والأسف والندم والكآبة بعد فعل الشر. 

+ يحاول بعض العلماء التقليل من قيمة هذا الإحساس الداخلي فيعزونه إلى التربية وعوامل البيئة وتهذيب الضمير ، والرد على ذلك :

1 ـ إسـتـجـابة الضمير البشري للتهذيب وتقدمه في الفضائل الروحية بنجاح مستمر هو دليل قائم على وجود عنصر الخير في الإنسان أصلا .

2 ـ قبول الفكر البشري للنواميس الأدبية قبولاً طبيعياً سهلاً وانشغاله بها إلى الحد الذي يحتل أحياناً كل كيانه وتفكيره .

3 ـ تـقـدم الـبـشـريـة كـكـل وامتدادها ونموها في الخير والصلاح كهدف وغاية طبيعية يصبو نحوها تلقائياً كنمو النبات نحو الضوء كغاية يسعى إليها وحاجة لا يستطيع أن يحيا بدونها .

4 ـ تضحية الإنسان بكل لذة جسدية وسعادة زمنية في سبيل احتفاظه بالحق والخير الأسمى .

+ الشر والخطيئة حالات سلبية لا وجود لها في ذاتها أصلاً ، بل اتخذت وجودها من مخالفة الخير والإنحراف به عن غايته التي وضعت له ، فالشر كالظلمة تماماً التي لا تشتق من النور ولكن تتخذ وجودها عند غيبة النور أو بإخفائه عمدا .

ثانياً : المعرفة هي التي أولدت الخطية :

+ مـوضـوع الخـطـيـة الأولى ودخولها العالم تتعلق بموضوع «معرفة الخير والشر» كما وردت في الأصحاحات الأولى من سفر التكوين ، بمنتهى البساطة والعمق .

+ خطية آدم الأولى لم تنبع أصلا من طبيعة آدم ، فآدم خلق على غير فساد بطبيعة كاملة على صورة الله خالية من كل شر ، ومعرفة للحق وحده بلا انقسام ولا بمناء مستمدة من الله مصدرها وواهبها .

+ كان آدم يـحـيـا بمقتضى هذه المعرفة الإيجابية بحرية إرادته تسنده وصية الله الذي حذره من الأكل من شجرة «معرفة الخير والشر» ؛ تـأكـيـدأ لحـر بـتـه في طاعة الله مصدر كماله ومعرفته وسعادته ، وضماناً وسنداً له ضد الإنفعال لمؤثر آخر خلاف الله ، ودليلاً على قدرته الكاملة على عدم مخالفة الله .

+ قصة الـكـتـاب واضـحـة ولا تحتاج إلى تأويل . فالشجرة المحرمة حقيقية وهي شجرة معرفة الخير والشر، فكما أن المسيح قـال عـن نـفـسـه أنـه الـكـرمـة الحقيقية وكل من يأكله يحيا به والأكل هنا أكل حقيقي بالإيمان بالعقل و بالمحسوس بالفم ، هكذا أيضاً كان الأكل من شجرة معرفة الخير والشر مؤديا إلى الموت بالإنفصال عن الله مصدر الحياة الذي حذر آدم من الأكل منها ، لأن آدم لما أكل منها اشتهى أولا معرفة الشر بعقله ثم بعينيه وحواسه وهكذا تورط في المخالفة فأكل منها بفمه فانفصل عن الله فمات موتأ تلقائيا .

+ ولـكـن آدم لم يشته معرفة الخير والشر من ذاته، لأن شهوة المعرفة المنفصلة عن الله لم تكن في صميم طبيعته ، ولكنها جاءت إليه من خارجه كغواية من العدو مغلفة بهدف التشبه بالله « تصيران كالله » . وهكذا قبلها آدم كشهوة في نطاق الخير، ولم يلحظ الخدعة التي فيها أنها شهوة خير متصل بالشر ومنفصل عن الله

+ بمجرد استجابة آدم للعمل بمقتضى حرية شهوته بعيداً عن الله ، إرتد إلى ذاته وفقد في الحال كل الإمتياز للوجود في حضرة الله التي كانت تسنده وانحل الرباط الذي كان يجمعه إلى الله في ألفة المودة الفائقة ، ووجد نفسه تلقائياً وحـيـدا عـر يـانـاً عـريـاً جسدياً وروحياً ، وصار عرضة لكل إيحاء ليس من الله الذي وإن بدأ في مظهره أنه ليس خطية ولكنه يؤدي إلى الخطية… وهكذا بدأ مسلسل الخطايا بأسرها .

+ إيحاء الشيطان يكون دائماً على مستوى الخير الكاذب ، ولن يفلت الإنسان من إيحاء الشيطان إلا بالرفض القاطع .

+ أصل كل الخطايا إذن هو قبول مشورة جديدة ليس الله مصدرها .

+ الخـطـيـة تـبـدأ في العقل حيث إمكانيات التفكير الخير القابل للتعديل، ولكن بمجرد قبول الفكر للمخالفة يصير التصميم ثم التنفيذ . فتفاحة آدم لم تقف في حلقه بل استقرت في عقله !

+ كان آدم يظن أن في إمكانه أن يعرف الشر كالله ولا يسقط ، ولكن هيهات ! فالخطية رابضة دائماً و بإصرار بباب المعرفة إن هي إنحازت للشر ، ولا مفر من السقوط فيها إلا إذا سندت الإنسان معونة فائقة من الله ، واستماتة في سماع صوت الله .

زر الذهاب إلى الأعلى