عيد الختان وتمتُّعنا بالحياة السماوية

 

اليوم الثامن

 
كان أبونا أبرام في التاسعة والتسعين من عمره حين دخل في عهد مع الله، وخُتن هو وابنه ورجال بيته، وتغيَّر اسمه إلى إبراهيم بأمر إلهي (تكوين ١٧). في هذا السن كان إبراهيم يحسب نفسه كميتٍ، وكما يقول موسى النبي: “حياة الإنسان سبعون سنة ومع القوة ثمانون” (مز ٩٠: ١٠). فبعد أن صار في حُكْمِ الموت دخل في عهد ليكون أبًا لجمهور أمم كثيرة. وماذا وراء هذا الوعد. إنه وعد أن يتَّسِع حضن إبراهيم ليضم أممًا كثيرة كأبناء له، يحملهم في حضنه، ويدخل معهم إلى الحياة الأبدية، إلى ملكوت السماوات.
 
لهذا لا نعجب أن الختان كان يتم في اليوم الثامن من ميلاد كل ذكرٍ. فاليوم السابع يشير إلى كمال الأزمنة حيث الزمن مجموعة أسابيع (٧ أيام)، وكان اليوم السابع يُحسَب يوم الرب حيث يستريح الله في شعبه، ويستريحون في حضنه (تك ٢: ٣). أما رقم ٦ فيُشِير إلى النقص (لا يبلغ رقم ٧) لذلك فإن اسم الوحش أو ضد المسيح الناقص ٦٦٦ (رؤ ١٣: ١٨). أما رقم ٨ فيُشِير إلى العبور من رقم ٧ أي من كمال الأزمنة إلى ما وراء الزمن.
فالسيد المسيح قام في أول الأسبوع، أي اليوم الثامن، ليدخل بالبشرية إلى الحياة الأبدية، فوق حدود الزمن.
 
وجاء التطويب الثامن والأخير: “طوبى لكم إذا طردوكم… فإن لكم ملكوت السماوات” (مت ٥: ١١). وكأنه عندما يُطرَد المؤمن ويحسبه العالم أنه ليس منه، يُنتسَب إلى الدهر العتيد، أي إلى رقم ٨.
 
لقد خُتِن إبراهيم، وصار حضنه رمزًا للسماء المفتوحة لاحتضان أولاده المؤمنين. عندما تحدَّث السيد المسيح عن الغني ولعازر المسكين قال: “فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن ابراهيم، ومات الغني أيضًا ودُفِن” (لو ١٦: ٢٢). وعندما وبَّخ السيد المسيح اليهود المُعاصِرين له قال لهم: “لو كنتم أبناء إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم” (يو ٨: ٣٩)، فإنهم وإن كانوا قد خُتِنوا حسب الجسد كأبيهم إبراهيم، لكنهم لم يحملوا الحضن المُتَّسِع بالحُبّ لكل الناس مثله. كان يليق بهم أن يحملوا روحه المتسع بالحب!
 

صرخات الأنبياء المريرة!

 
عبَّر إرميا النبي عما في قلوب الأنبياء من مرارة حيث اهتم الشعب مع القيادات بختان الشعب، دون الاهتمام بختان الروح والقلب والأذن. حيث يبتر من إنساننا الداخلي كل ارتباك بالجسديات لتنطلق الأعماق بجناحي الروح كما إلى السماء. بختان الروح لا تبقى الروح حبيسة الجسديات وشهواتها، بل تنطلق لتتمتَّع بعربون السماء كل يومٍ! تتمتَّع بالتعرُّف على السماء عمليًا. وختان القلب نزع عنه كل غضبٍ أو حقدٍ أو مرارةٍ من جهة إنسانٍ ما، حتى كان يحمل عداوة ضده. ويتمتَّع القلب بحُبّ المسيح مُحِب كل البشرية، فيحب الجميع. وبختان الأُذُن لا تجد سعادتها في الحرف القاتل، إنما تسمع كلمة الله وتتفهَّمها بطريقة روحية. يسمع المؤمن صوت الرب صوت عريس سماوي.
 

إيليا النبي وعهد الختان

 
ارتبط الاحتفال بالختان بشخصية إيليا النبي، لأن في عصره كَرَّسَت إيزابيل الملكة كل طاقتها وإمكانيات رجلها أخآب الملك لإبادة العبادة لله الحي ونشر عبادة البعل، وكما قال إيليا: “هدموا مذابحك وقتلوا أنبياءك، وبقيت أنا وحدي، وها هم يطلبون نفسي” (راجع ١ مل ١٩: ١٠). لقد منعا ختان الجسد. بدأت حركة العودة إلى عبادة الله الحيّ، وعاد الشعب إلى ختن غير المختونين بفرحٍ عظيم. وحسب اليهود إيليا النبي شفيع كل طفلٍ عند ختانه. وصار من العادات اليهودية عبر الأجيال أن يتركوا كرسيًا فارغًا أثناء حفل الختان، ويدعونه كرسي إيليا، مُعتبِرين أن إيليا يأتي بنفسه متهللاً من أجل ختان الطفل.
 

ختاننا الروحي بالمسيح يسوع الصاعد إلى السماء

 
إيليا النبي الوحيد الذي أُرسِلَت إليه مركبة سماوية تحمله إلى السماء إلى حين مجيء ضد المسيح، فيعود إلى الحياة على الأرض كشاهدٍ للسيد المسيح حتى سفك دمه. وعند انتقاله كان لازمًا أن يسقط عنه ثوبه، فإن ثياب هذا العالم ليست دنسة لكنها لا تُستخدَم في السماء. ولعل سقوط ثوبه من على جسده يشير إلى الختان الروحي لمن يود أن يُرَدِّد مع الرسول: “أجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع (أف ٢: ٦).
 
مع عظمة إيليا النبي وانفراده بين الأنبياء بانتقاله المؤقت إلى السماء، فإنه يعجز أن ينطلق بقدرته الشخصية، وأن يحمل معه أحد إلى السماء، إنما كان رمزًا للسيد المسيح الذي قبل بإرادته أن يُختتَن حتى لا يُحسَب كاسرًا للناموس، مع أنه هو واضعه، واهبًا إيانا ختان الروح والقلب والآذن.
 

لماذا خُتِن السيد المسيح؟

 
يتعجب البعض أن يسوع الذي وحده بين كل البشرية بلا خطية، كلمة الله المتجسد، بلا لوم، أن يُختتَن في اليوم الثامن، مع أنه لا يحتاج كإبراهيم ونسله الدخول مع الآب في عهد، إذ هو نفسه مُخَلِّص العالم الذي يدخل بالمؤمنين في عهد جديد!
 
وربما يتعجب البعض أن تُقِيم الكنيسة في هذا الحدث عيدًا سيديًّا، يأتي ما بين عيدي الميلاد المجيد والغطاس المجيد.
 
هل كانت هناك حاجة لختان السيد؟ وهل من ضرورة للاحتفال السنوي بعيد بالختان؟
 
كان الناموس يُطالِب كل ذكر أن يُختتَن في اليوم الثامن، وهذا لم يكن له في ذاته قيمة، إلا من حيث هو رمز لقطع الشر، ونزع الإنسان العتيق، والتمتُّع بالشركة مع ربنا يسوع، وذلك بقوة قيامة الرب التي تمَّت في أول الأسبوع، أي في اليوم الثامن بالنسبة للأسبوع الذي سبقه كما يقول الشهيد يوستينوس والقدِّيس أمبروسيوس.
 
وإذ تحقَّق المرموز إليه، لم يعد الرمز – أي ختان الجسد – بذي نفع، بل ختان القلب والحواس. لقد صار مسيحنا نائبًا عنِّي، شاركني في حمل الناموس عنِّي، وتنفيذ الطقوس والفرائض، مع أنه لم يكن محتاجًا إليها!
 
+ الآن نجده مطيعًا لناموس موسى، وبعبارة أخرى نجد الله المُشرِّع يُنَفِّذ القانون الذي شاء فسنَّه! أو كما يقول الحكيم بولس: “لما كنَّا قاصرين كنا مُستعبدين تحت أركان العالم. ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبنِّي” (غل ٤: ٣-٥). فالمسيح إذن افتدانا من لعنة الناموس، نحن الذين كنا عبيدًا للناموس، وأظهرنا عجزًا تامًا في العمل بشرائعه.
 
كيف افتدانا؟.. بحفظه وصايا الناموس. وبعبارة أخرى، أطاع المسيح الفادي الله الآب إطاعة تامة عوضًا عنَّا، كما هو مكتوب: “لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد، جُعِل الكثيرون خطاة، هكذا أيضًا بإطاعة الواحد سيُجعل الكثيرون أبرارًا” (رو ٥: ١٩).
 
سَلَّم المسيح نفسه للناموس أُسوة بنا، لأنه يليق به أن يكمِّل كل برٍّ، واتخذ صورة عبد، وأصبح واحدًا منَّا نحن الذين بطبيعتنا تحت نير الناموس، بل دفع نصف الشاقل، وهو المقدار الذي فرضته الحكومة الرومانية على أفراد الشعب. مع أن المسيح هو ابن الله، ولكن لا مفر من دفع هذا الثمن، لأنه قبِل أن يتَّخذ صورتنا.
 
فإذا ما رأيت المسيح يطيع الناموس لا تتألم، ولا تضع المسيح الحر في زمرة العبيد الأرقَّاء، بل فكر في عمق السرّ العظيم، سرّ الفداء والخلاص! ترون أنه خُتِن في اليوم الثامن، وهو في اليوم الذي عين لختان الجسد طبقًا للناموس!
 
القديس كيرلس الكبير
 
+ أتى للختان لكيلا ينكر أحد تأنُّسه، وأتى بالذبيحة ليُرَى أنه ليس غريبًا عنَّا! تقدَّم باليمام الذي صاغ رمزه!
حملت مريم قابل الكل مع قربانه، ليأتي بالذبيحة لهيكل القدس حسب الناموس. حمل يوسف الفراخ، وجاء من أجل الصبي، ولبيت القدس صعد ليُقدَّم كالناموس.
 
القديس مار يعقوب السروجي
 
 
القمص تادرس يعقوب ملطي
عيد الختان المجيد
١٤ يناير ٢٠١٧

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى