أبانا الذي في السموات

أبانا

 من مطلع الصلاة تنكشف العلاقة الحميمة والخاصة جداً التي تربطها الإنسان المسيحي بالله . فنداء  “أبَّا” هو أول ما يتعلمه الطفل الذي ينادي أباه . فإن استطعنا أن ننادي الله أبانا ، فهذا معناه أننا نلنا روح التبني ، وبالتالي صار الله أباً لنا : “ثم بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخا يا أبَّا الآب”.

لاحظ أن كلمة “أبانا” ، تأتي بالجمع ، لأن الآب السماوي هو أبونا كلنا . الله أب الجميع بلا نزاع ، فهو خالق الكل والراحم والمنعم . وأن يكون الله “أبانا ” فهذا تخصيص أبوة ، وهي ليست لكل إنسان ، بل اللذين تبناهم الابن للأب جديداً.

نحن حينما نقول لله ” يا أبانا ” فهذا النطق يحمل شخص يسوع المسيح ابن الله الذي به وفيه تكلم الله ، وبغيره ليس لنا كلام مع الله ، ولا الله له كلام معنا . فالمبادأة في مخاطبة الله ” يا أبانا ” هي كنز العهد الجديد ، هي دعوة للدخول لقدس الأقداس للوقوف أمام يهوه العظيم التي لم يكن يُسمح بها في العهد القديم. هذا عهد الحب والأبوة قد أشرق ويهوه يدعو الأولاد: “دعوا الأولاد يأتون إلىَّ ولا تمنعوهم”.

ومع أن الله له صفات أخرى كثيرة كخالق وديان ومؤدب ومدبر الكون ؛ ولكن أُعطي لنا أن نقف أمامه ونخاطبه كأب.

فيلزم أن نستحضر فينا روح البنين كأولاد مطيعين في الحق والمحبة الصادقة من نحو الآب ، نُقدم أنفسنا في طاعة الحق ومشاعرنا كلها مصبوغة بالحب ودالة البنين ، لكي تتحنن أبوة الله ، وتنسكب علينا بعطايا الأبوة التي تقرينا إليه فنقترب. 

الذي في السموات

 لأول مرة في التاريخ ينادي الإنسان الله وهو على الأرض كأب في السماء ، من أجل هذا يصرخ الشاروبيم في نبوة إشعياء أن : « مجده ملء كل الأرض».

لقد صرنا ، ونحن بشر على الأرض داخل دائرة المجد الإلهي ، وأُعطيت لنا الصلاحية والسلطان أن ننادي الله في السماء كأب . لقد زالت الفوارق التي بين الجسد والروح لما أُعطي للروح أن تصرخ لتنادي الله في السماء قائلة : ” أبانا ” ، لأن ابن الله الوحيد صار كواحد منا.

لم ترتفع الأرض إلى السماء بل السماء هي التي تطأطأت ، ونزل ابن العلي ليأخذ صورة إنسان . فكما صار هو صورة منا ، هكذا صرنا نحن في صورة الابن نرنو إلى السماء ، وننادي الآب كما ينادي الابن أباه بدالة الحب.

نحن حين نحقق قول المسيح ونقول : « أبانا الذي في السموات » فهذا يشير إلى الرباط الذي ربطنا بالسماء ، لأنه إن كان أبونا في السماء ؛ فحتماً يكون البنون أيضاً. والمسيح يشير بذلك إلى وطننا الآتي ، فنحن هنا غرباء نطلب وطناً أفضل أي سماوياً ، فلا نكره غربتنا ، لأن الغربة إن كانت ناظرة إلى فوق ، فهي حتماً ذاهبة إلى هناك . لذلك ، نحن حينما ننادي ” أبانا الذي في السموات ” ، فنحن نُقرب المسافة الشاسعة التي تفصل الأرض عن السماء.

يا أحبائي ، لا تهدأوا من مناداة الآب السماوي ، لأنه يسمعنا وينادينا : يا أبنائي المتغربين ، أنا أعددت حضني لكم لترضعوا من ثدي السماء ، وتشبعوا بملء العزاء “. 

 ليتقدس اسمك 

فاسمه قدوس ويتقدس من كل فم . فالسماويون لا يفتأون من تقديس اسم الله ، والشاروبيم يصرخون ويُصوتون هذا قبالة الآخر : “قدوس قدوس قدوس” ( إش 6 : 3 ) ، وهي التسبحة الشاروبيمية التي نرددها في القداس لكي يصير تسبيحنا نحن أيضا قداساً.

لهذا أمرنا الرب أمراً أن نكون قديسين كما هو قدوس ، بمعنى تقديس الله في قلوبنا وعقولنا وأفواهنا . فتقديس اسم الله قادر أن يُقدس حياتنا.

المسيح يطالبنا بأن نُقدس اسم الله ، أي نُحاكي الشاروبيم في السماء ، وهكذا نجعل أرضنا سماء . لذلك لا تستهينوا ، يا إخوة ، بتقديس اسم الله ، فهذه صنعة القديسين في السماء . ولن يكون لنا هناك إلا تقديس اسم الله بلا توان . فالذي يقدس اسم الله متواتراً؛ فهو يحقق صنعة الشاروبيم وكل القديسين ، ويسبق ويُعد لنفسه هذه الصنعة السماوية.

انظروا كم أعطانا المسيح سر السماويين والقُربى من الآب السماوي عن حق واستحقاق ؛ لأن الإنسان من تقديس اسم الله في قلبه بالروح والفم متواتراً ، يقترب من القدوس والقدوسية ، وتطبع على وجهه صورة القدوس.

إن تقديس اسم الله في ” أبانا الذي” هكذا كل يوم وكل ساعة وبلا ملل ، هو محاولة من جهتنا أن نغطي وجه زمان غربتنا وشقاء وتعب يومنا وعمرنا برؤية إيمانية حارة متلهفة لاستعلان مجيء المسيح في ملء مجده ليتحقق « مجد الرب ملء كل الأرض».

ليأتِ ملكوتك

ملكوت الله هو مُلكه الفائق القداسة الذي تطيعه فيه جميع خلائقه السماوية ، إلا أنه محجوز الآن عن أعين وآذان البشر بسبب ضعف الجسد وعدم اكتمال القداسة. فمُلكه يشمل السمائيين والأرضيين ، والكل خاضع له عن حب وفرح وتهليل.

وملك الله السماوي كامل متكامل في المجد والقداسة والطاعة ؛ إلا أن مُلكه الأرضي ينمو ويتكامل حتى يبلغ غاية الله في خلقته.

والمسيح يطالبنا أن نطلب ملكوته حتى يتخلص الإنسان من شقائه وينتهي العدو من تجاربه ويأخذ عقابه الأخير. فاستعلان ملكوت الله للإنسان مرتبط باستعلان إسقاط مُلك الشيطان. كما أن استعلان ملكوت الله يرافقه دخول الإنسان في الخلاص الكلي والسعادة الأبدية، حيث لا تجارب ولا أحزان ولا تعب ولا تنهد ؛ بل تهليل وأفراح الروح ومشاركة القديسين في مُلكه السعيد.

المسيح سبق وأن قال : إنه سيأتي في ملكوته ؛ إذن فملكوته آتٍ آتٍ حتما ؛ بل إن القديس بطرس يستحثا أن نطلب سرعة مجيئه. ولكن لمن يأتي وعلى من يملك؟ المسيح يطالبنا أن نكون شركاء في مجيئه هذا وشركاء في ملكوته أيضاً حين يأتي ، أن نكون كعملاء منظورين له ، وكموضع ارتكاز لقدميه ، عندما يحط على أرضنا.

المسيح عندما يقول : « ها ملكوت الله داخلكم » ، صار مجيء الملكوت تحصيل حاصل ، نطلبه لا لكي يأتي من خارج ؛ بل لكي يُستعلن فينا وبنا. 

أخيراً، نحن حين نقول : ليأت ملكوتك ، نقولها لا كعبيد يخدمونه بل كأولاد يرثونه .

لتكن مشيئتك

لقد صنع الابن مشيئة الآب : “هأنذا جئت .. أن أفعل مشيئتك يا إلهي ها سررت”. وحققها يسوع حينما أخذ الكأس من يد الآب وسلم نفسه لمشيئته وارتفع على الصليب من أجلنا.

والآن ونحن مُصالحون مع الآب في المسيح يسوع نطلب أن تكمل لنا مشيئة الآب كما تكملت عنده في السماء بحسب نبوة دانيال : “فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً .. أما قديسو العلي فيأخذون المملكة ويمتلكون المملكة إلى الأبد وإلى أبد الآبدين”. بمعنى أنه كما كملت مشيئتك في السماء من جهة ملكوتك بجلوس الابن المتجسد عن يمينك في عرشك ؛ هكذا لتكمل مشيئتك في تنفيذ استعلان ملكوتك على الأرض بشركتنا في نصيب الابن.

لاحظ أن عبارة “كما في السماء كذلك على الأرض” لا ينحصر معناها في عبارة ” لتكن مشيئتك” ؛ بل يمتد ليشمل أيضا ما قبلها أي « ليأت ملكوتك » . فالمعنى متصل : [ ليأت ملكوتك ، ليته يأتي كمشيئتك (كلاهما)، كما في السماء كذلك على الأرض]. وللتوضيح نقول: إنه كما كمل ملكوت الله بالمسيح في السماء ؛ ليأتِ كذلك على الأرض ليكمل بنا.

والآن إذا كانت المشيئة العظمى لله التي تمت على الأرض هي أن يموت الابن ويخلص العالم ، بكل ما استدعى ذلك من تأليم الابن : ألا يصبح علينا نا أن نستيقظ من نوم الغفلة ولا نطلب مشيئة الله على غيرهذا الأساس ؟ فإن نحن طلبنا تدخل مشيئة الله في حياتنا ، علينا أن نستمد هذه المشيئة عينها ، أي تسليم المسيح لحياته على الصليب وشربه كأس المرارة حتى الموت. 

 خبزنا كفافنا 

المسيح هنا يعلمنا أن نصلي ، والصلاة اختصت بتقديس اسمه ومجيء ملكوته ولتكن مشيئته ، كل هذا الدفع الروحي هل يمكن أن يسقط مباشرة إلى طلب رغيف العيش من الجالس على العرش، الذي قال وأكد : « اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم » ، وأيضاً « لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وتشربون … أليست الحياة أفضل من الطعام » ، « لا تهتموا قائلين ماذا نأكل وماذا نشرب..لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها » ، والرسول يقول : « لأن اهتمام الجسد هو موت » ؟؟؟

إذن ، الخبز هو خبز الملكوت الذي نموت لو لم نأكله كل يوم . لذلك لا يصح أن نأخذ المعنى الجسدي ونحن في صميم طلب الملكوت . نحن لسنا بصدد رغيف الخبز الذي يرد شهوة الجائع ، الذي تصوره الشيطان في هيئة حجارة جبل التجربة ، بل هو كلمة الله الخارجة من فمه التي بها يحيا الإنسان ولا يموت ، كما رد المسيح! ونعم ما كان الرد. فالذي يحيينا ليس حجارة تتحول إلى خبز بل كلمة تتحول فينا إلى حياة “وُجد كلامك فأكلته” ( إر 15: 16).

علينا بعد أن طلبنا مجيء الملكوت على الأرض حسب مشيئته كما هو في السماء علينا أن نطلب خبزه ، أي خبز الملكوت ، كل يوم وكلما جعنا وعطشنا إلى بره إلى أن يأتي! وحتما يُشبعون.

إن صلاة ” أبانا ” هي بحد ذاتها خبز الوجوه الساخن كل يوم بيومه الذي بعد عرضه على مذبح الله لا يحل أكله إلا للذين تطهروا. 

واغفر لنا ذنوبنا 

المسيح هنا يعطينا حقاً واستحقاقاً مذهلاً أن نقتحم مجال غفران الله، لنطلب منه الغفران بمقتضى وثيقة غفراننا نحن للذين أذنبوا إلينا. بمعنى : “لأننا نغفر ، فاغفر”.

هنا الزمن يقتحم الخلود! فالفعل الذي نأتيه زمنياً أي غفراننا نحن للمذنبين ؛ نأخذ بالمقابل فعلاً أبدياً، أي غفران خطايانا من لدن الله !!

نحن نشتري بالفعل الزمني فعلاً خالداً أبدياً. ما أعظم هذه المقايضة المغرية جداً.

الإنسان الذي استطاع أن يغفر خطايا الآخرين هو في الحقيقة إنسان لك تحدى العالم وصُلب له ، هو “ليس من هذا العالم” ، فقد بلغ قمة الصلب والمصلوب.

هذا العمل أي غفران خطايا الآخرين ، هو عمل لا يحتاج جهداً واجتهاداً، لا يعتمد على معرفة أو نسك ولا يستغرق أزمنة ولا أياماً، كما لا يحتاج إلى معلم. هو عمل تأتيه في لحظة من لحظات يقظة النفس ، وأنت رافع راسك وقلبك وروحك ويديك نحو السماء ممسكاً بالإنجيل ، وقابضاً بالروح على زمام الروح ، وهاتفاً باسم الله الحي أن تغفر كل الخطايا لكل الناس.

أما الذي لا يسامح ، بل يقاضي ويحاكم الذين يتعدون عليه ، فهو مُطالب بما يتعدی به هو من نحو الله . فالله في هذه الوصية يُعطي الدرس للإنسان لكي يكون رحوماً على الآخرين لكي يجد رحمة لدى الله. وبتساهله من جهة تعديات الآخرين عليه ، يجد مساهلة من الله من جهة تعدياته هو على حقوق الله والغير.

إن الذين يتقنون هذه الوصية يعيشون في سلام ولا يدخل بينهم العدو. 

ولا تدخلنا في تجربة

بعد أن كان المسيح يُحلق بأولاده في الأعالي ؛ إذا به يُحدرهم مرة واحدة إلى واقعهم الخطر ليدركوا أنهم غرباء في أرض الأعداء ، والشر محيط بهم يهددهم ويتحداهم ! فالمشتكي يجول يلتمس فيهم مدخلاً ومأكلاً ، يُطالب بحقه فيهم ليغربلهم كالحنطة ليسقط الضعيفة والمتواني منهم ، وهم كأطفال لا حول لهم أمام مجرب خطر متمرس في صناعة الغش والغدر والخداع . وهكذا بدأ المسيح هنا يُلقنهم “صرخة استغاثة ” يفزعون بها إلى الله لحظة الخطر عند مجيء ، ساعة التجرية العتيدة أن تأتي على العالم لتبتلي كل ذي جسد.

بهذه الطلبة نحن ندرأ التجربة بصراخنا للقادر أن ينجي . ولكن إن توانینا ؛ باغتنا العدو وأصاب منا مقتلاً. فإن اقتربنا إلى الله بصراخنا ،  ابتعد العدو مدحوراً: “قاوموا إبليس فيهرب منكم ، اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم”( يع 4:  7).

التجربة حتما آتية إلى العالم لا محالة ، سواء بصورتها المتجزئة التي تصدمنا كل يوم في كل ما يخصنا ، أو في صورتها الخطرة التي تهدف إلى انتزاع الإيمان من قلوبنا بضربتها المفاجئة المرعبة، فتبيع المسيح في لحظة. من أجل هذا وضع المسيح مُسبقاً نداء الاستغاثة في أفواهنا حتى ينجينا في يوم الشر ويحفظنا من الشرير.

كانت طلبة المسيح الوداعية من أجلنا : “أن تحفظهم من الشرير” ( يو 17: 15) . هذا هو هم المسيح الأول من جهة أولاده الصغار الذين تركهم في العالم يجاهدون من أجل حفظ الوديعة ، وهو عالم أنهم في مواجهة عدو مشتك ؛ لذلك هو لم يتركنا بدون كلمة سر نقولها فتنجو.

فطوبى لمن تعلم أن لا يكف عن طلب النجاة.

بالمسيح يسوع ربنا 

المسيح هو الذي أملانا هذه الصلاة “أبانا الذي” وتركنا في حضن الكنيسة التي هي جسده ، ملء كل نعمة وبركة ، لكي تضيف على صلاته :”بالمسيح يسوع ربنا”.

فالذي شق بطن الموت وداسه برجليه ، لا يتوانى عن أن يُنجينا حتى ولو كان الموت على قيد شبر منا. فالمسيح قاهر الموت وصاحب الحياة الذي هزم كراديس الظلام وظفر بهم على الصليب ، هو الذي قال لنا أن نصرخ نحوه ، لأنه ارتفع إلى أعلى السموات ، لكي يطأ أعداءه تحت رجليه ، ولكي يملأ الكل نعمة وقوة وخلاصاً ، كل من يُناديه ويصلي كما أعطانا وصية أن نصلي.

فالتجربة والخطية محيطة بنا ، والعدو الشرير متربص بنا مع كل الخطوة ؛ ولكن المسيح نجانا وسينجي أيضا لأنه قاس ضعف الإنسان بشبره وعرف عنف عدونا ؛ ولهذا سلم جسده على الصليب معرضاً إياه للموت لكي يكون فدية أمام الله ينجينا من كل تجرية ويغفر لنا كل خطية ، حتى صار الإنسان الضعيف أقوى من الشيطان طالما هو ماسك بالمسيح ، يناديه طالباً النجاة.

لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد آمين

هذه التسبحة الأخيرة هي سلاح كل مؤمن بالمسيح ، نعترف فيها أنه ممجد وصاحب كل قوة وسلطان . فمن قوة الله نستمد قوة ، ومن مجده نأخذ سلطان على العدو . فنحن في ستر العلي نبيت ونتيقظ مادحين لا له مجده ، الذي عبر بنا ليل العالم المظلم.

فإزاء قوة العدو المهزوم ، تقف قوة العلي شامخة غالبة إلى الأبد.

فاصل

من كتاب الإنجيل في واقع حياتنا للأب متى المسكين

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى