أعط حساب وكالتك

مجيء المسيح الثاني

للأب أنتوني كونيارس

(مت25: 31-46)

فرق كبير بين النظام المتبع في معهـدنا اللاهوتي في بروكلين Brookline بأمريكا وبين جامعة إنجليزية. يعيش الطلبة في معهدنا تحت نظام قاس، حيث لا يمكنهم أن يتخلّفوا عن المحاضرات، كمـا يجـب عليهم أيضا أن يقضوا ساعات محددة يوميا في الدراسة، ويجب أيضا أن يحضروا مرتين في الأسبوع في كنيسة المعهد، ولا يتخلفوا عن التواجـد في المعهد إلا بتصريح خاص وفي أوقات محددة.

الحياة في جامعة إنجليزية من جهة أخرى، هي على العكس تماما. لا أحد يفحص ما إذا كان الطالب حاضر ًا أم غائبا، كمـا لا توجـد ساعات محددة للدراسة حيث يذهب الطلبة ويجيئـون حـسبما أرادوا، وأيضا لا يوجد نظام محدد لتواجد الطلبة في الجامعة. ورغم الاختلاف البين في نظام الطلبة في المكانين، إلا أنه يتحــم أن يأتي وقت الامتحان الذي ينكشف فيه كيف قضى الطلبة أوقـاتهم، ومقدار ما تحصلوه من علم.

عندما خلقنا الله، أوجد معنا حرية الاختيار، فقد رتب الله لنا حياة تبدو في ظاهرها كما لو كانت تتشابه مع نظام جامعة إنجليزيـة. منحنا الله في الحياة قدرا عظيمًا من الحرية، حيـث يمكننـا أن نؤجـل أعمالنا أو نرفضها تمامًا؛ إلا أن الله قد عين زمنًا للفحص، وقتًا للدينونة، وأحد أهداف الدينونة هو معرفة الكيفية التي استخدمنا بها الحرية، والوقت، والوزنات، وأيضا البركات التي غمرنا الله بهـا. ويعتمـد نصيبنا في الأبدية على نتائج هذا الفحص.

 عند المجيء الثاني علينا أن نُفكر منذ الآن في أننا سنعطي حساباً عن كل ما عملناه أو ما قلناه، ولن يستطيع أحد أن يهرب من هذه المسؤولية. يقول الرب يسوع: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف مـن الجداء» (مت25: 31-32).

كرسي الدينونة:

المجد السماوي هو ما يتوق إليه المسيحي الحقيقـي، ومهمـا صعب الجهاد، إلا أن هذا المجد يظل هو الهدف الذي يتطلع إليه، وهو ينظر بشوق إلى يوم اللقاء حيث يقف فيه أمام الله ليسمع منه القول: «كنت أمينا في القليل، فأقيمك على الكثير. ادخل إلى فرح سيدك» (مت25: 23). اسمع بولس الرسول يقول: «لأنه لابد أننا جميعا تظهر أمام كرسي المسيح، لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع، خيراً كان أم شراً» (2کو5: 10).

كان القديس بولس يشعر بقوة بمسؤوليته الشخصية من جهة محاسبته ومطالبته أمام العـرش السماوي، فكتـب إلى كنيسة كورنثوس يقول: «وأما أنا فأقل شيء عندي أن يُحكم فيَّ منكم، أو من يوم بشر. بل لست أحكم في نفسي أيضا. فإني لست بذلك مبررا، ولكن الذي يحكم في هو الرب» (1كو4: 3-4). عاجلاً أو آجـلاً سيقف كل واحد منّا أمام كرسي الدينونة الـذي يعـده الله رب الخليقة.

يقول القديس بولس إننا سنحصد ما زرعناه: «لا تضلوا! الله لا يُشمخ عليه. فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضا. لأن مـن يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فسادا، ومن يزرع للـروح، فمـن الروح يحصد حياة أبدية» (غل6: 7-8).

قد يتأخر ذلك اليوم، لكنّه لابد آت، وعندما تفتح الأسـفار وتكشف الأعمال وتفحص الأفكار، أجر الخطية سيدفع بالكامـل وكذلك مكافأة الأبرار ستمنح. قد يتأخر الله أو يتمهـل، ولكـن ليست لديه هناك حلول وسط.

سجلات! سجلات!

هناك عدد كبير من السجلات في حياتنـا سـجلات في المدارس، سجلات في الجيش، سجلات في مكاتب العمل، سجلات في أماكن التوظيف، سجلات في الجيش، سجلات في الأرصـدة المالية، سجلات في مراكز البوليس… كما توجد أيضا سجلات محفوظة في الذاكرة لا يمكن أن ننساها ويصعب علينا أن نتناسـاهـا، فكل شيء مخزون في ملفات الذاكرة واللاشعور. يخبرنا الرب يسوع أن الله يحتفظ أيضا بسجلات، وهذه السجلات ستفتح في يوم مـن الأيام؛ وعندما تفتح، فحتى كأس الماء البارد الذي يعطى للمحتاج لن ينسى. لماذا يحتفظ الله بسجلات؟ هل الله شخص سادي يتربص بنا ويسر بعقابنا؟ طبعا لا، ولكن لأنه يهتم بما نفعله، ونحن نهمـه. إن كان الله لا يحبنا، فلن يديننا بينما في الحقيقة يريد مكافأتنا. الدينونة لن تكون بحسب عدل الله بقدر ما ستقاس على محبته: «إن كنـت تراقب الآثام يارب، يا سيد فمن يقف، لأن عندك المغفرة» (مز130: 3و4).

الإله غير المحبوب أو غير المألوف:

من غير المعتاد طبعا اليوم أن نتكلم عن الله كديان. شكل الله الذي نريده اليوم هو الله الكلي المحبة وليس الله الديان. الناس يريدون اليوم إلها يحب، ليس بلا حدود فقط، بل وأيضا يستحسن ما يفعلونه مهما كان، بل وعلى الله أن يوافق أيضا عليه! ولكن لأنه أيضا إله محب، فهو لا يتغاضى عما يحدث. الله الذي خلقنا، الله الذي أعطانـا كـل شيء، الله الذي أرسل ابنه إلى موت الصليب ليفدينا من خطايانا، هـو ينتظر منا الكثير لننجزه، فنحن لنا قيمة كبيرة عنده.

هل هناك أهم منه:

كل واحد منّا سيقف يوما ما أمام الله للدينونة. هـل هنـاك شيء في الحياة أهم من أن نستعد لهذا اليوم؟ أما يجب أن كل قـرار نتخذه، وكل فكر تفكر فيه، وكل كلمة نتكلم بها، وكل عمل نعمله، نزنه جيدا في ضوء وقوفنا أمام الله في ذلك اليوم؟

قال دانييل وبستر Daniel Webster يوماً ما:

“لم يكن يشغل فكري إلا أمر واحد، ألا وهو مسؤوليتي الكاملة أمام الله“.

دعنا ننظر بانتباه إلى المسؤولية كما هو معروف أثناء مباريات كرة القدم. يتكون الفريق من أحد عشر لاعبا، وكل لاعب له مكانه المحدد في الملعب، وفي أثناء المباراة، يجب أن يلتـزم كل لاعب بمكانه المضبوط بكل قوته، كما تُحسب عليه كل لعبة وكل تصرف، كما أن نجاح الفريق يتوقف على أمانة كل لاعب في مسؤوليته. بالمثـل تماما نحن مسؤولون أمام الله، وكل فرد له مكانه المحدد في الحياة، وفي اليوم الأخير سيقف كل فرد أمام الله ليؤدي حسابا عن كيفية تصرفه فيما أوكل إليه.

صاحب البيت الغائب:

مثلاً قال الرب يسوع عن صاحب البيت الغائب ليؤكد علـى مسؤولية الفرد الشخصية أمام الله، فنقرأ في إنجيل مرقص (مر13: 34): «كأنما إنسان مسافر ترك بيته، وأعطى عبيده السلطان، ولكـل واحـد عمله، وأوصى البواب أن يسهر». لا يتوقع صاحب البيت الغائب أن يكون خدامه يقظين فقط، متوقعين حضوره، بل وأيضا أن يكونـوا نشيطين في استثمار الوزنات. السيد الرب هو صـاحب المنـزل الغائب في هذا المثل، وهو الذي أعطانا وزنات، وتركنـا لـنـستثمر وزناتنا في حياتنا على الأرض؛ وفي يوم لا نعرفه، سوف يأتي ليسألنا كيف أدرنا ممتلكاته وتصرفنا فيها. جزء من عظمة الإنسان هو أنه لن يحاسب أمام أحد إلا أمام إله العالم، والله بسبب محبتـه يريد أن يكافئ الإنسان بالخير. ولأنه يهتم بنا ونحن ذات قيمة عنـده، فهـو يعنيه ما نعمله وما يشغل بالنا، حيث هنا تكون الأسس الحقيقيـة لكرامة الإنسان وأهميته. كل واحد منّا مسؤول شخصيا أمام الله.

التقليل من مسؤولية الإنسان:

نحن نعيش في أيام يحاول فيها علم الطب النفسي، والتحليل النفسي، وعلم الاجتماع باستمرار أن يقللوا مـن مـسؤوليتنا. حقيقة نحن ضحايا لقوى مختلفة في العالم، ولا يمكن لأحد أن يقول لأي درجة تكون إرادتنا مسؤولة عما نقرر أن نعمله. أنا لا أعلم لأي درجة يمكننا أن نلوم الجينات والكروموسومات التي ورثناها، أو على الحالة النفسية الرديئة التي دستها لنا في الطفولة، ولكـني متأكد الأفعال الخاطئة من تأثيرها علينا. ومع كثير من ذلك ففي التي نرتكبها بفكرنا وإرادتنا، نكون مسؤولين لأننا نفعـل هـذا بمحض اختيارنا، الأمر الذي يجعلنا مطلوبين للمساءلة. نحن نختار، ونعمل، فنحاسب. ليس أبي ولا أمي ولا طفولتي الرديئة، ولكن أنا الذي سأقف في حاجة إلى الغفران. لم يلم الابن الضال أباه على حاله، ولكن على العكس وضع كل المسؤولية على نفسه عنـدما قال: «يا أبي، أخطأت إلى السماء وقدامك، ولست مستحقا أن أدعى لك ابنا» (لو15: 21). وبسبب هذا الاعتراف بمسؤوليته الشخصية، غفر له أبوه عن سرور وره ورضا وفرح.

إعادة رؤية المباراة مسجلة على شريط الفيديو:

حقيقة أن يعيش الإنسان حياته كشخص مسؤول أمـام الله، استعدتُها عندما كنت في منـزلي بعد أن تفكرت في الطـرق الـتى يمارسها مدرب فريق كرة القدم حتى ينتصر لاعبوه. يتجمع جميـع اللاعبين ومعهم المدرب ليعيدوا رؤية المباراة المسجلة والتي أقيمت في الأسبوع الماضي. يرى اللاعبون تفاصيل المباراة، الجيد منها والرديء. سترى جيدا أن اللاعبين لم يكن يعنيهم وهم في أرض الملعـب مـا يقوله المتفرجون، ولكن تنفيذ تعليمات المدرب. لن يعرف أحد من المشجعين ما إذا كان كل لاعب قد نفذ التعليمات التي أنيط بها من المدرب أم لا، ولكن المدرب يعلم جيدا، وكل شيء سيظهر بوضوح عند إعادة رؤية المباراة.

نحن أيضا لدينا مدرب، وقد أعطانا خطة للمبـاراة الـتى نؤديها في رحلة الحياة، ومفردات هذه الخطة وتفاصيلها مذكورة في الكتاب المقدس، كما أعلن المدرب أنه يوجد يوم قد حـدده، حين تُعاد رؤية مباراة كل فرد منا، وسيظهر فيهـا الأداء الجيـد والأداء الرديء. في ذلك اليوم لن يكون الله هو المدرب فقط، بل هو نفسه سيكون القاضي أيضا. وبالنظر إلى ذلك، يصبح مـن الضروري علينا أن ندرك أهمية دورنا في مباراة الحياة، لنؤديهـا بأداء جيد، حيث لا يهمنا أن نسمع ماذا يقول الناس عنا، ولكن أن ننفذ تعليمات المدرب الذي سيكون هو نفسه قاضينا.

مما لا شك فيه، أنه لا يوجد فينا من هو كامل، فكـم مـن مرات كان أداؤنا في المباراة جيدا، وكم من مرات كان رديئـا. في اليوم الأخير، لن يحاسب الله أولئك الذين لعبوا أدوارا غبية، أولئك الذين أخطأوا، ولكنّه سيحاسب الذين لم يتوبوا بعـد أن أخطـأوا. سيسامح الرب الذين أخطأوا وقدموا توبة حقيقية. وأولاً وأخيرا، أما قد جاء أصلاً ليطلب ويخلص ما قد هلك؟ (لو19: 10). ما أجمل ما كتبه القديس بطرس: «الله لا يشاء أن يهلك أناس، بل أن يقبل الجميع إلى التوبة» (2بط3: 9).

فرح الله العظيم:

أعظم مسرة لسيدنا في اليوم الأخير تكون عندما يقول للذين ظلوا مخلصين في مسؤولياتهم تجاهه: «تعالوا يا مباركي أبي، رثـوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم» (مت25: 34). قال الـرب يسوع من قبل: : «لا تخف أيها القطيع الصغير فإن أباكم قد شـر أن يعطيكم الملكوت» (لو12: 32). كم ستكون مسرة الله اليوم عندما يعطي ملكوته لخدامه الذين ظلوا أمنـاء في محبتهم، في في ذلـك خدمتهم، وفي طاعتهم له.

دعني أتركك الآن مع سؤال واحد: “هل يمكـن أن تنتهي حياتك في لحظة غير متوقعة؟ الحياة هشة، ويمكن أن تنتهي في أيَّ لحظة؛ في نوبة قلبية، في حادثة أوتوبيس؛ وإن كان يجب عليـك أن تقف أمام الله في هذه اللحظة، أي نوع من الحساب عن حياتـك ستقدمه له؟

 صلاة

يا أبي السماوي،

كما استثمرت ابنك الغالي لحسابنا،

وأعطيتنا الغنى الذي لا يستقصى الذي للملكوت،

ليتنا نستثمر أنفسنا وكل ما لنا في محبتك وخدمتك،

وخدمة ومحبة أولادك المتألمين هنا على الأرض.

هبنا يا سيدنا ،

أن نقضي كل حياتنا في تكريس كامل وطاعة كاملة لك،

حتى متى جاء ذلك اليوم،

تحسبنا مع الخدام الأمناء.

لك كل المجد إلى الأبد.

آمین.

فاصل

روشتة للقلق كتب الأب أنتوني كونيارس طرود الإغاثة 
كتاب لقاء مع الرب يسوع في الأناجيل – ج1
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى