أنواع الإيمان
الإيمان
أما الإيمان فهو فضيلة من فضائل الدين الكبرى بل هو الدين نفسه في مقابل العقل والعلم والفلسفة. ومن هنا فللإيمان معنيان أو مفهومان أساسيان :
المفهوم الأول : الإيمان هو حقائق الدين وتعاليم الديانة : تعاليم الإنجيل والكتاب المقدس ، “توبوا وآمنوا بالإنجيل” ( مر1: 15). جاء قول سفر أعمال الرسل أن الله “فتح للأمم باب الإيمان” ( أع14: 27). فالإيمان هنا هو الدين المسيحي . وحقائقه : الإيمان بالله ووحدانيته والتثليث ، والاعتقاد في المسيح وربوبيته وألوهيته ، وأنه الفادي ومخلص العالم ( يو12: 36) ، وسائر التعاليم التي علم بها المسيح كما جاء في الإنجيل ، الذي کرز به الرسل وتسلمتها عنهم الكنيسة المسيحية . وأما المقصود بالأمم فهو الشعوب الأخرى من غير اليهود ، ممن اعتنقوا دين المسيح.
وبهذا المعنى جاء في سفر الأعمال أيضاً عن رجل ساحر يهودي عارض القديسين بولس وبرنابا في كرازتهما ودعوتهما المسيحية ، وحاول أن يعطل حاکم جزيرة قبرص عن الإيمان بالمسيح “لكن عليما الساحر … قاومهما وحاول أن يصرف الوالي عن الإيمان” ( أع13: 8) .
كذلك قال الرسول القديس بولس عن نفسه “جاهدت الجهاد الحسن … وحافظت على الإيمان ( 2تي4: 7 ).
وبنفس هذا المعنى يستخدم في الكنيسة المسيحية لقب حامي الإيمان ، الذي أطلق أول ما أطلق على القديس أثناسيوس الرسولی ( 328- 373 ) م ، الذي دافع عن الاعتقاد المسيحي في ألوهية السيد المسيح وأزليته ، ووجوده مع الآب والروح القدس منذ الأزل . وصار لقب حامي الإيمان من بعد ذلك يطلق على باب الأسكندرية عامة ، تحديداً لمسئوليته في الدفاع عن الدين المسيحي وعقائده الإيمانية.
ولهذا السبب يسمى الرب يسوع بـ”رئيس الإيمان ومكمله” ( عب12: 2) . أي “رأس الإيمان ومتممة” ، إذ هو الأساس الذي قام عليه كل بنيان الإيمان المسيحي وحقائقه.
كذلك معنى الإيمان لمن يقال عنهم أنهم يرتدون عن الإيمان ، (1تی4: 1) أو أنكر الإيمان ( 1تی5: 8) أو اضلوا عن الإيمان ( 1تي6: 10).
المفهوم الثاني : الإيمان هو التصديق القلبی والنفسي والشعوری والروحي والباطني ، بالله وبالحياة الآخرة ، وبالتعاليم التي يعلم بها الدين :
التصديق القلبي والروحي بالعقائد الدينية واليقين في حقيقتها ، وعدم الشك في صدقها فمن قال أنه يؤمن بالله ( مر11: 22) ، وبالحياة الأخرى ، فقد برهن بقوله هذا على أنه يعتقد بوجود الله وبالحياة الأخرى إعتقاداً باطنياً جازماً. ولا يشك في حقيقة الله ووجوده ، وفي قيامة الموتی وخلود الروح ، وفي الحياة الأخرى بعد الموت . من ذلك قول القديس بولس الرسول ” لأنني عالم بمن آمنت وواثق بأنه قدير على أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم ” ( 2تي1: 12 ، فهنا الإيمان هو التصديق القلبي الباطني بالله ( يو14: 1) . والاعتماد عليه بيقين وثقة وإطمئنان ، والإعتقاد الراسخ في رحمته وعدله وصدق وعوده بالجزاء الأخروی.
ومن هنا جاء تعريف الإيمان في الكتاب المقدس بأنه “الثقة بما يرجي والإيقان بأمور لا ترى” ( عب11: 1) . فالإيمان تصديق باطنى ويقين نفسي بحقائق لا يدركها الإنسان بالحواس . ومن هنا فالإيمان هو غير العيان . ( 2كو7:5 ) فنحن نؤمن بالله وإن كنا لا نراه . ونؤمن بالروح وإن كنا لا نلمسها ، ونؤمن بالحياة الأخرى وإن كنا لا نشاهدها بحواسنا الظاهرة.
وبهذا المعنى جاء عن القديس اسطفانوس رئيس الشمامسة أنه كان رجلاً ممتلئاً من الإيمان ، ( أع 5:6 ) . وكذلك القديس برنابا الرسول “لأنه كان رجلاً صالحاً، وممتلئا من الروح القدس ومن الإيمان”( أع11: 24) .. وأمثالهما ممن يوصفون بأنهم : أغنياء في الإيمان ، ( ي5:2).
أنواع الإيمان
والإيمان أنواع ومستويات : فهناك الإيمان الساذج ، والإيمان المتعقل ، والإيمان الذي بلا فحص ، والإيمان الخلاق أو التوليدی .
1- الإيمان الساذج :
الإيمان الساذج هو الإيمان السطحي ، وهو إيمان العوام ، ويُبني على التصديق السريع ، وصاحب هذا الإيمان لا يقوى على أن يصمد أمام الشكوك التي يثيرها أعداء الإيمان ، فسريعاً ما يعلن مثل هذا الإنسان عن إيمانه ، وسريعاً ما ينهار إيمانه أمام صعوبة لأنه لا عمق له … ومثل هذا الإيمان نلحظه في العوام والجهال من الناس ، يُبني فيهم على مقولة جميلة أو قصة مؤثرة أو موقف قوى من بعض القيادات الروحية أو الدينية يذهلون له أو يبهرون به ، فيسرعون إلى الإذعان بما يقال لهم من ذلك القائد أو الزعيم ، وهم في فورة الإنفعال بالموقف ، فإذا بردت تلك الفورة العاطفية أو هدأت ، واصطدم ذلك المؤمن بموقف صعب وتجربة أليمة لا يقوي إيمانه على الصمود أمامها إنهار إيمانه . وقد يتحول تحت شدة الصدمة إلى کفران أو إلى جحود ، وربما إلى إنفعال مضاد ، فيلعن الإيمان الأول ويتنكر له.
يقول المسيح “مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟” ( لو18: 8) وأمثال المتلبسين بهذا النوع من الإيمان كثيرون ممن نراهم في كل يوم ، ممن يصيحون بالإيمان ويتشدقون بالشعارات ، ولا يلبثون طويلاً حتى تسمع منهم هم بذواتهم صيحات الاستنكار ، والتجديف ، حتى ليكاد من يسمعهم أن يشك في عينيه أو أذنيه ، ويتولاه الذهول والعجب مما يبدو أمامه محالاً لا يقبله العقل ولا يسيغه الحّس . ولعل هذا النوع من الإيمان يجد تفسيره فيما أورده المسيح له المجد في مثل الزارع أو البذار ، عن بعض البذور مما سقط على جانب الطريق فجاءت طيور السماء وأكلته ، أو بعض البذور مما سقط على البقاع الصخرية حيث لا تتوافر له التربة لإنعدام الرطوبة ، فسرعان ما نبت ، إذ لم يكن له عمق في الأرض ، حتى إذا أشرقت الشمس أحترق ، وإذ لم يكن له جذور جف … وقد قال الرب يسوع المسيح عن هذا الفريق من الناس أنهم يسمعون كلمة الملكوت ولا يفهمونها ، فيأتي الشيطان على الفور فيقتلع ما قد زرع في قلوبهم ، لئلا يؤمنوا فيخلصوا أو هم الذين يسعون الكلمة وسرعان ما يقبلونها ، ولكنهم إذ لا جذور متأصلة في ذواتهم لا يثبتون إلا إلى حين ، ثم إذا وقعت ضائقة أو اضطهاد بسبب الكلمة فسرعان ما يتزعزعون ويضعفون ، ( مت13: 3-21) ( مر4: 3-17) ، ( لو8: 5-13 ) .
2- الإيمان المتعقل :
وأما النوع الثاني من الإيمان ، فهو الإيمان المتعقل ، وهو أرقى وأعلى درجة من الإيمان الساذج ، لأنه يجئ بعد الشك وبالتالي بعد الدرس والفحص والامتحان ، فيكون إيماناً قائماً على أساس ثابت راسخ ، وقادراً على مواجهة الشكوك ، لأنه جاء بعد مرحلة من الشك ، وبالتالي فهو قائم على الاقتناع العقلي والقلبي بأدلة يرضى عنها العقل ، ويستند إليها الإيمان … هذا الإيمان هو إيمان المفكرين والعلماء والفلاسفة ، وهو إيمان قوی ، لا يتزعزع ، وقد قال فيه القديس أوغسطينوس مقولته المشهورة “العقل يسبق الإيمان والإيمان يسبق العقل . وإني أؤمن لكي أتعقل وأفهم” . والمعنى أن الفيلسوف والمفكر يستخدم عقله قبل أن يسلمه العقل إلى الإيمان . فالإيمان يجي بعد النظر العقلي ، وبذلك يكون إيماناً قوياً وراسخاً وقائماً على أدلة مقنعة للعقل والقلب. فهو يتأمل الكون بالعقل ، وهذا التأمل العقلي يقوده إلى الإيمان بوجود خالق الكون ، هو العلة الأولى للوجود … وبعد ذلك تأتي مرحلة ثانية بعد الإيمان ، للعقل أيضاً فيها عمل . ذلك أن الإيمان أو الدين يقدم للإنسان مسلمات دينية جاء بها الوحي ولم يأت بها العقل . ومع ذلك فالعقل يتلقفها من يد الإيمان محاولاً أن يتفهمها ويسيغها ويبرهن عليها ، بأدلة عقلية … وبهذا تتحول الحقائق الإيمانية بعد أن يهضمها العقل إلى حقائق إنسانية مقبولة للعقل ، ويمكن للعقل أن يدافع عنها ، ويبرهن على صدقها وصحتها ، وأنها لا تتعارض مع قوانین الفكر الضرورية وإن كانت مصادرها الأصلية سماوية وإلهية … وأخيرا كما يقول القديس أوغسطينوس “وإني أؤمن لكي أتعقل وأفهم” والمعنى من ذلك أن الإيمان وإن جاء بعد التعقل . لكنه ضروري للإنسان من أجل أن يفهم ما لا يستطيع أن يتوصل إليه من غير الإيمان . فالعقل الإنساني قاصر ومحدود ، وقد يتوصل إلى الإيمان بالله بتأمله في الكون ونظامه وقوانينه ، فيهتدي إلى أنه لابد من وجود خالق للكون عاقل وبصير ، كلى العلم وكلى القدرة ، وكلى الحكمة ، أزلى أبدي حاضر في كل مكان … وهنا يتوقف العقل عن أن يعرف عن طبيعة الله ، وحين يتوقف العقل يبدأ الإيمان عمله ، آخذا بيد العقل إلى ما بعد المشارف إلى شئ من المعرفة عن طبيعة الله فيكلمنا عن صفات الله ، وخاصياته الثلاث (وهو ما يعرف بالأقانيم الإلهية ) ، ويحدثنا عن الفداء والخلاص ومصير الروح بعد الموت والقيامة العامة وغيرها ، من الحقائق الدينية التي لا يستطيع العقل أن يتوصل إليها من تلقاء ذاته ما لم يتلقنها من الإيمان أو النقل. أي من الوحي والكتب المقدسة . على أن للعقل بعد ذلك عملاً آخر هو شرح ما يقدمه الإيمان وتفسيره وتقريبه إلى مستوى إدراك الإنساني بالأمثلة الموضحة والبراهين العقلية ، مما يفيد في فهم ما كان عالياً على الإدراك الإنسان ، فتصير بذلك الحقائق الدينية مفهومة ومساغة للعقل ومقبولة ، بل تصبح مؤيدة ومسنودة بالأدلة والمقارنات ، واضحة جلية للفكر ليس فيها ما يتعارض مع قوانين الفكر أو يتناقض مع النظر العقلي.
وبهذا يبدو واضحا أن ما يقدمه الإيمان قد أساغه العقل وبرره ، وصار على إمتداد خط واحد في طريق الفهم الكامل ، بمعنى أن ما يقدمه العقل قبل مرحلة الإيمان ، وما يقدمه الإيمان في المرحلة الثانية ، يتقدم بالإنسان في خط واحد ممتد إلى الأمام في خدمة الإنسان لإكتمال فهمه للوجود.
هذه الحركة العقلية الإيمانية تشبه ما يحدث للتلميذ الذي يتقدم إلى المعرفة. فهو يبدأ بنوع من المعرفة التلقائية الطبيعية لما حوله ، مما تقدمه له الحواس وما يمكن أن يستنبطه بعقله . ولكنه بالنسبة لبعض الحقائق يعجز عن التوصل إليها إلا من خلال المدرسة والمعلمين . وما يتلقاه من المدرسة والمعلمين يعمل فيه عقله ليسيغه ويفهمه ويهضمه ويستوعبه ، حتی يستحيل إلى حصيلة عرفانية تزوده بإضافة جديدة إلى معرفته الأولية . على أن المعرفة الأولية مضافاً إليها المعارف التي يتلقاها من المعلمين ، هذه وتلك جميعاً تتفاعل معاً وتندمج معاً وتتحول إلى جماع من المعرفة، يستعين بهما معاً على زيادة الفهم والمعرفة . فالمعرفتان الأولى والثانية تتضامنان معاً في خط واحد لبلوغ درجة عالية في المعرفة. هكذا العقل والإيمان، أو العقل والنقل ، يتعاونان ولا يتعارضان ، يتزاملان ويتفاعلان ، ولا يتعارضان ولا يتناقضان ، وهما معاً في خدمة الإنسان لزيادة المعرفة والفهم والإدراك ، وتنوير البصر والبصيرة.
3- الإيمان الذي بلا فحص :
وأما الإيمان الذي بلا فحص ، فهو مرتبة أعلى من الإيمان ، أسمي من الإيمان المتعقل ، وبالتالي من الإيمان الساذج .. فيه يبلغ المؤمن إلى ثقة بالله ويقين بوجوده وبحكمته وصدق وعوده وقدرته ، بحيث لا يعود يفتش عن دليل أو برهان ، ولا يحتاج إلى من وما يقنعه ويرسخ إيمانه في الله . لقد كان قبل ذلك في حاجة إلى دليل ولعله مر بمرحلة الشك فترة ما ، ثم تبدل شکه بيقين ، وصار إيمانه قوياً ومسنوداً بأدلة وبراهين . ولكنه بعد أن بلغ هذا اليقين لا يفتش عن دليل جديد ، فإذا صدر إليه أمر من الله صدع له مؤمنا في يقين أن الخير فيما أمر الله به ، ولسان حاله دائما وشعاره “المر الذي تختاره أنت لي يا الله خير من الحلو الذي أختاره أنا لنفسي” ، أو على حد تعبير القديس أوغسطينوس في صلاته : “مر بما تريد ، وافعل ما تأمر به”
وهذا هو النوع من الإيمان الذي نطلبه في القداس المرقسي أو الكيرلسی :. “إيمانا بغير فحص” ( عن الطلبة التي تتلی بعد حلول نعمة الروح القدس على المائدة الربانية ).
وليس معنى “الإيمان بغير فحص” ، أنه إيمان أعمى ، أو إنقياد بغير بصيرة أو وعی- ولكنه مرتبة من الإيمان تأتي بعد طول إختبار ، وبعد مرات من الشك والفحص تنتهي بالاقتناع والتسليم ؛ نعلم أن الله يسخر كل شئ لخير الذين يحبونه . ( رو8: 28).
وكمثال على هذا الإيمان الذي بلا فحص ، إيمان إبراهيم رئيس الآباء الذي كان يعيش في وسط عشيرته فيما بين النهرين . فتلقى أمراً من الله “اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك ، فأجعلك أمة عظيمة” (تك12: 1و2) ، ( أع7: 2و3) ، فما كان من إبراهيم إلا أنه أطاع أمر الله ولم يجادل فيه . ومما هو أوضح في الدلالة على التسليم المطلق والإذعان التام بغیر تحفظ للأمر الإلهي الصادر إليه قول الكتاب المقدس، “بالإيمان إبراهيم لما دعي أطاع أن يخرج إلى المكان …. فخرج وهو لا يعرف إلى أين يتوجه” (عب 11: 8) .
4- الإيمان الخلاق أو التوليدی :
أما الإيمان الخلاق أو التوليدي فهو أرقى أنواع الإيمان جميعاً، وهو إمتداد للإيمان المتعقل . فالإيمان الذي بلا فحص ، وهو تسليم مطلق لإرادة الله مع اسقاط تام لإرادة الإنسان بعد مسيرة طويلة في حياة الشركة المقدسة مع الله ، واختيار حكمته تعالى التي تعلو بما لا قياس على حكمة الإنسان وفهمه للتدبيرات الإلهية.
وكمثال على هذا النوع الممتاز من الإيمان الخلاق إيمان أبي الآباء إبراهيم الذي أمره الرب قائلا : “خذ إبنك وحيدك الذي تحبه اسحق وأذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أريك” ( تك22: 1و2) . وعلى الرغم من أن الله سبق فوعد إبراهيم ولم يكن له آنئذ ولد قائلاً : “بل سارة إمرأتك ستلد لك إبنا وتدعو اسمه اسحق ، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده”( تك17: 19) ، فإنه لم يتوان عن إطاعة الأمر الصادر إليه بأن يذبح هذا الإبن الذي وعده الله به ووعده بأنه ، به تتبارك جميع قبائل الأرض (تك12: 3 ) ، ( تك18: 18 ) ، ( تك22: 18 ) ،. “فبكر إبراهيم صباحاً وشد على حماره وأخذ معه إثنين من غلمانه ، واسحق إبنه ، وشقق حطباً لمحرقة ، وقام ومضى إلى الموضع الذي قال له الله ..” ( التكوين ۳:۲۲) ثم ” بني إبراهيم هناك المذبح ونضدّ الحطب وأوثق اسحق ابنه ، وألقاه على المذبح فوق الحطب ، ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح إبنه” (تك22: 9و10) فكيف تم كل ذلك ، ولم يعترض إبراهيم ولم يجادل ، ولم يناقش وعد الله السابق إليه بأنه باسحق يدعى له نسل ؟ والجواب على ذلك نجده فيما بعد ، في رسالة القديس بولس إلى العبرانيين :”بالإيمان قدم إبراهيم اسحق حين امتحن . ذاك الذي قد حصل على المواعد قرّب وحيده ، وقد قيل له أنه باسحق يُدعي لك نسل . واعتقد أن الله قادر أن يقيمه من بين الأموات” (عب11: 17-19) . والمعنى من ذلك أن إبراهيم عندما قدم إبنه اسحق ذبيحة لم يكن عنده شك في أن الله سیبر بوعده في اسحق ، وذلك لثقته التامة في صدق ما وعد الله به ، فإذا كان اسحق سيحرق حياً فإن الله لابد أن يقيمه من بين الأموات ، مادام قد وعده بأنه باسحق يُدعى لإبراهيم نسل . ومع أن عقيدة القيامة من الموت لم تكن قد عُرفت بعد ، ولا رأي إبراهيم أحداً من قبل قد قام من بين الأموات ، إلا أن إيمانه المُطلق بأن الله وعد ، وأنه لابد أن يبر بوعده هو الذي جعله يعتقد أن اسحق بعد أن يحترق بالنار سيقيمه الله من بين الأموات . وهكذا كان إيمان إبراهيم بالله عظيمة ، حتى أنه ولد عنده الاعتقاد بالقيامة من الموت ، وهو اعتقاد لم يكن معروفاً ، لكنه تولد ونشأ من يقين الإيمان بالله (عب10: 22) ، وطلاقة قدرته على كل شئ حتى لو كان يبدو للإنسان مستحيلاً أو محالاً .
هذه الأنواع الثلاثة الأخيرة ، الإيمان المتعقل ، والإيمان الذي بلا فحص ، والإيمان الخلاق والموّلد ، يوصف أصحابها بأنهم : راسخون في الإيمان ( 1بط9:5 ) وثابتون في الإيمان ، ( كو2: 5 ) ، (1تی15:2 ) ، و أصحاء في الإيمان ، ( تي1: 13 و 2: 2) ، وإيمانهم ، صادق وحقينی ویقینی ، ( 1تي2:1 ، 14 )
لذلك يتطلب فيمن يرسم أسقفاً . أن لا يكون حديث الإيمان( 1تي6:3) أي لا يكون حديث العهد في الإيمان ، لئلا يتصلف فيسقط في دينونة إبليس ، أي حتى لا تستولي عليه الكبرياء فيلقي العقاب الذي لقيه إبلي. الإيمان فضيلة عظيمة والإيمان فضيلة عظيمة ، من حيث هو ثقة في الله وفي قدرته ويقين في صدق وعوده ، ولذلك يحسب فعل الإيمان أمام الله عملا صالحا ، ويحسب المؤمن بالله من حزب الله ومن أتباعه المنتمين إليه ، فهم يسلكون في مسيرة الحياة بالإيمان ( 2كو7: 5 ) قال الكتاب المقدس . آمن إبراهيم بالله فحسبه له برا ودعي خليل الله ، ( تك15: 6 ) ، ( مز31: 10) ، ( رو3: 4 ، 5 ، 22) ، ( غلا3: 6 ) ، ( يع2: 23) . كذلك طوبت أليصابات بالروح القدس الذي حل عليها القديسة مريم العذراء ، ومدحتها لأنها آمنت وصدقت بشارة الملاك لها بحبلها وحملها لكلمة الله على الرغم من بتوليتها ، وأنها لم ولا ولن تعرف رجلا ، ولم تشك في قلبها في قدرة الله . قالت أليصابات لمريم العذراء ، فطوبى لك يامن آمنت بأنه سيتم ما قيل لك من قبل الرب ، ( لو49 : 1 ) .. كذلك طوب المسيح له المجد من آمنوا به ولم يروه طوبی للذين لم يروا وآمنوا ، ( يو20: 29) . وقد سلك المسيح له المجد ، الإيمان بین جوهريات الشريعة المسيحية الثلاث . قال : « جوهريات الشريعة هي العدل والرحمة والإيمان ، ( مت23: 23) . عدم الإيمان رذيلة وبينما يحسب الله للمؤمن إيمانه برا ، يحسب للإنسان عدم الإيمان أو نقص الإيمان رذيلة ونقيصة . قال الكتاب المقدس ويغير الإيمان لا يمكن إرضاؤه . لأن الذي يتقرب إلى الله لابد له أن يؤمن بأنه كائن وأنه يكافئ الذين يبتغونه ( عب11: 6) بل إن الله توعد من لا يؤمن بالدينونة لاسيما إذا سنحت له فرصة للإيمان فأهملها ، أو دعى إلى الإيمان فرفض الدعوة وتنكر لها . قال المسيح له المجد ، فمن آمن واعتمد خلص ، ومن لم يؤمن أدين ، ( مرقس ۱۹:۱۹ ) وقال ، فالذي يؤمن به لا يدان ، وأما الذي لا يؤمن به فقد أدين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد … فمن يؤمن بالابن له الحياة الأبدية ، ومن لا يؤمن بالابن لن يرى الحياة ، وإنما يحل عليه غضب الله ( يو18: 3 ،34 ) . انظر ( روم11: 20) ، ( عبر12: 3، 19) . وفي مواضع متفرقة من الإنجيل يظهر أن الله يغضب على غير المؤمن ، ويوبخ غير المؤمن على عدم إيمانه . قال المسيح له المجد . أيها الجيل غير المؤمن … حتى متى احتملكم ؟ ، ( مت17: 17 ) ، ( مر19: 9 ) ، (لو9: 41 ) . ولماقام من بين الأموات ظهر التلاميذه ، وبخهم على عدم إيمانهم وغلظة قلوبهم إذ لم يصدقوا الذين رأوه بعد أن قام ، ( مر19: 14) وقال التلميذه توما اولا تكن غير مؤمن بل مؤمنا ، ( يو27: 20) انظر ( مت30: 6 ) ، ( 8: 29) ، ( 31:14 ) ، ( 8:19 ) ، ( لو18: 8) . ( 1تس3: 10) . ومن آيات عدم رضاء الله على غير المؤمنين أنه يهملهم ( مت13: 8) . ( 17: 20 ) ، ( مر6: 9 ) . بل و فعاليات الإيمان إذا كان الإيمان صادقة وحقيقية وقوية وكاملا ، فإنه يصير قوة فعالة وخلاقة .
1- إن صاحب هذا الإيمان ينال أول ما ينال رضاء الله ومحبته : ، ويصبح ذا دالة وأثيرا لدى الله ، بل إن الله يكشف له ما لا يكشفه لغيره . قال الكتاب المقدس عن إبراهيم أبي الآباء إنه لإيمانه العميق بالله قد دعی خلیل الله ، أمن إبراهيم بالله فحسب له ذلك برا ، ودعى خليل الله ، ؟ ( يع2: 23) .. وبعد أن جرب بشدائد كثيرة صار خليلا لله ، ( یهودیت8: 22) ، ( 2أخ20: 7) ، ( إش41: 8 ) ، ( دا3: 35) وقال الكتاب المقدس أيضا عن إبراهيم ، فقال الرب هل أخفى عن إبراهيم ما أنا صانعه ، ( التكوين 17:18) .
2- إن الإيمان يرقى بالمؤمنين في علاقتهم بالله إلى مرتبة الأبناء : قال الإنجيل . وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم السلطان لأن يكونوا أبناء الله أولئك هم المؤمنون باسمه ، الذين ولدوا ، لا من دم ولا من مشيئة جسد ، ولا من مشيئة إنسان ، وإنما من الله ولدوا ، ( يو1: 12و13) فالذين يؤمنون يستحقون المعمودية فيدخلون بها إلى ملكوت الله على الأرض أي الكنيسة ، ويصيرون من شعب الله ، ومن رعويته وأبناء مملكته ، وإذا ثبتوا على الإيمان العامل بالمحبة ( غلا5: 6 ) ، ( كو1: 4 ) ، ( 1تس3: 1 ) إلى التمام ( يع2: 18 ، 20 ، 22 ) ، استحقوا الدخول إلى ملكوت الله في السماء . قال المسيح له المجد . من آمن بي وإن مات فسيحيا ، وكل من كان حيا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد ( يو11: 24و25) وقال أيضا ، إن كل من يرى الإبنقال المسيح له المجدد إن كل ما تطلبونه في الصلاة آمنوا بأنكم ستنالونه فيكون لكم ، ( مر11: 24) ، ( مت21: 22) . وجاء في رسالة القديس يعقوب الرسول ، إن كان أحدكم تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير ، فسيعطي له . ولكن ليطلب بإيمان غير مرتاب البتة ، ( يع1: 5، 6 ) .
5- ثم إن للإيمان فعاليات في نفس المؤمن : فإلايمان و يشدد ، الإنسان ( أع3: 16 ) ، ، ويقويه ( رومية 4 : 20) ، أو به يسترد الإنسان قوته التي يبددها الشك والاحباط النفسي ، وبه ر يثبت ، أمام التجارب والمحن والآلام ( رومية 20:11) ، ( 2كو1: 24) . والإيمان يعزي ، الإنسان ( رو12: 1 ) فيصبر على النوائب وتسكن نفسه وتهدأ ويصير في سلام وراحة قلب وإنشراح .
والإيمان درع للمؤمن ( 1تس5: 8 ) له به يحارب الشيطان عن نفسه ، فيطفئ به جميع سهام الشرير المشتعلة والملتهبة نارا ( أفس6: 19 ) .
6 – وبالإيمان يصنع الإنسان المعجزات : إن الإيمان ينقل الجبال : قال المسيح له المجد و الحق أقول لكم إنكم لو كان لديكم من الإيمان مثل حبة الخردل ، لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل . ولا يكون شئ غير مستطاع لكم ، ( مت17: 20 ) ، إذ الحق أقول لكم إن من قال لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر بدون أن يخامره الشك في قلبه ، بل يؤمن بأن ما يقوله سيكون ، فإنه يتم له ما يقول ، ( مر11: 23) ، ( مت21: 21 ) . قال الرب لو كان لديكم من الإيمان مثل حبة الخردل ، القلتم لشجرة التوت هذه إنقلعي من جذورك وإنغرسي في البحر فتطيعكم ،(لو6: 17 ) انظر أيضا ( 1كو2: 13 ) .والمعروف أنه قد تم فعلا بالإيمان نقل الجبل من موضعه كما حدث هذا بالنسبة إلى جبل المقطم في أيام البابا إبرام الثاني والستين من بطاركة الكرس الأسكندرى ( 970– 978 ) بناء على طلب الخليفة المعز الفاطمی ( 931- 975) . انظر أيضا ( يوحنا 6: 35) ، ( 7: 38) .
٧ – بل إن الإيمان يجعل الإنسان المؤمن قادرا على أن يصنع كل ما يريد : قال المسيح له المجد ، وستتبع المؤمنين هذه الآيات فيطردون الشياطين باسمى ، ويتكلمون لغات جديدة ، ويقبضون على الأفاعي ، وإن تجرعوا شيئا قاتلا فلن يؤذيهم ، ويضعون أيديهم على المرضى ، فيبرأون ( انظر أع19: 5 ) ، ( 18:19) ، ( 12:19) ، ( 9:19) ، ( لو10: 19) ، ( لو17: 10) ، ( يع5: 15 ) .ويزيد المسيح الرب على ذلك بقوله ، فكل شي مستطاع للمؤمن ، ( مر9: 23) ، ولا يكون شئ غير مستطاع لكم ، ( مت17: 20 ) .