كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار

أوصنَّا لابن داود

من أبرز الآيات التي اقتُبست منها كلمة “أوصنَّا” اليونانية، ما ورد في العهد القديم في مزمور (١١٨: ٢٥) عندما أتت لتعبر عن صلاة توسل إلى الله من أجل طلب المعونة والخلاص: «آه يا رب خلص (يهوه هوشيعا نا)، آه يا رب أنقذ». كما أن هناك تعبيرات مشابهة مثل: “يهوه هوشيعا” وردت أيضاً في المزامير عدة مرات لتحمل نفس معنى طلب العون من الله:
+ «خَلِّصْ يَا رَبُّ(هوشيعا يهوه)، لأَنَّهُ قَدِ انْقَرَضَ التَّقِيُّ، لأَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ الأُمَنَاءُ مِنْ بَنِي الْبَشَرِ.» (مز1:12).
+«يَا رَبُّ خَلِّصْ(يهوه هوشيعا)! لِيَسْتَجِبْ لَنَا الْمَلِكُ فِي يَوْمِ دُعَائِنَا!» (20 :9)
+«خَلِّصْ شَعْبَكَ ، وَبَارِكْ مِيرَاثَكَ، وَارْعَهُم وَاحْمِلْهُم إِلَى الأَبَدِ.» (28 :9)
+«لِكَيْ يَنْجُوَ أَحِبَّاؤُكَ. خَلِّصْ بِيَمِينِكَ وَاسْتَجِبْ لِي!» (5:60 وقد تكررت في مز 108: 6)


وكلمة “أوصنا” اليونانية يقابلها كلمة في اللغة العبرية تتركب من مقطعين: الأول “هوشيعا”، ويعني “خلص أو انقذ أو أعن”؛ والثاني “نا”، وهو حرف يدل عل شدة الاحتياج. أما استعمال الكلمة الأصل – كما ورد في أفواه الذين استقبلوا المسيح عند دخوله أورشليم – فإنه يمكن ترجمته: “خلصنا الآن، يا رب”. ولكي نعرف أصل هذا النداء يمكننا العودة إلى طقوس بعض الاحتفالات اليهودية القديمة التي كان يتردد فيها هذا الهتاف.

كانت المزامير ١١٣ -١١٨ تكوَّن مجموعة من المزامير يطلق عليها مزامير الهليل، إذ أنها كانت تثرتل في عيد المظال وعيد الفصح، وكان على الجماعة أن ترد في نهاية عدة آيات أو في نهاية كل مزمور بكلمة “هلليلويا”. وكانت تُرتل مزامير الهليل بطريقة إيقاعية رتيبة جملة جملة كما يحدث اليوم في المجامع اليهودية، وكما هو متبع أيضا في صلوات التسبحة في الكنائس الآن.

وفي الأيام السبعة المخصصة للاحتفال بعيد المظال، يأخذ الكهنة أغصاناً من الشجر في أيديهم ويخرجون في موكب مهيب وهم يدورون حول مذبح المحرقة صارخين مراراً: «آه يا رب خلصنا؛ (هوشيعا نا)، آه خلصنا (وهوشيعا نا)». وكان هذا الموكب يتكرر سبع مرات في اليوم السابع من العيد، وكان هتاف الشعب المتكرر يعبر عن الصراخ إلى الله طلباً لسقوط الأمطار. وقد اطلق عل مجموعة الصلوات التي كانت تُتلى في موكب أو دورة عيد المظال اسم “هوشيعنات”، واليوم السابع من العيد كان يسمَّى “يوم هوشعنا”.

أما عادة التلويح بأغصان الشجر وفروع النخيل فترجع إلى تفسير خاص للآية: “ليجذل (ليفرح) الحقل وكل ما فيه، لتترنم حينئذ كل أشجار الوعر» (مز 96: 13). وقد ربط أحد الربيين القدامى بين تحريك الأغصان بابتهاج، وبين فرحة الشعب بحصوله عل التبرير أمام الله القاضي العادل. فقد كان من المعتقد أنه عندما ينزل الله لخلاص شعبه مانحا ًإياه الغفران والفداء، فإن الخليقة كلها سوف تشارك في الاحتفال به، فرحة بهذا الخلاص. كما أن المطر الذي يتوسل الشعب من أجل نزوله من عند الله سوف يبارك شعب إسرائيل ومعه كل الخليقة.

وفي الفترة الواقعة بين العهد القديم والعهد الجديد والتي تسمى فترة ما بين العهدين – ارتبط عيد المظال بعيد التجديد الذي كان يحتفل به في شهر الربيع احتفالاً بانتصار يهوذا المكابي في ثورته ضد أنطيوخس الرابع.
ففي عام 163ق. م، قاد يهوذا المكابي اليهود في تمرد ضد الملك السلوقي أنطيوخس الرابع، الذي قدم خنزيراً كذبيحة للأوثان في هيكل أورشليم، ما أثار عليه اليهود، فقاموا بثورتهم التي نجحت واستطاعوا فيها تطهير
الهيكل واحتفلوا بعيد المظال. وقد منحت هذه الثورة الشعب اليهودي فترة من الحرية السياسية والدينية، وصار يُحتفل بذكرى هذه الثورة سنوياً فيما عُرف باسم الحانوكاه أو عيد التجديد.

ومع الاحتفال السنوي بعيد التجديد، صارت كلمة أوصنا (هوشيعنا) هتافاً متميزاً في هذا العيد يتذكر بها الشعب الخلاض الذي قدمه الله لهم. وأصبحت أمنية الشعب أن يرسل له الله مخلصاً – مثل يهوذا المكابي – ليمنحهم عل يديه الحرية السياسية، ويقوم بتنقية العبادة من الشوائب التي لحقت بها.

أما في أيام الرب يسوع، فقد ارتبطت كلمة أوصنا ارتباطاً شديداً بفكرة ظهور المسيا، الذي سيمنح الأمة الحرية السياسية، وسيجدد الحرية الدينية التي نالها الشعب عل يدي يهوذا المكابي.

ومن الملاحظ أن هتاف الشعب “أوصنَّا” للرب يسوع أثناء دخوله أورشليم سبق مباشرة تطهيره للهيكل وطرده باعة الحمام والصيارف منه. فعندما صرخ الشعب مترنماً بأية المزمور (118: 25): «اوصنَّا لابن داود! مبارك الآتي باسم الرب؛ اوصنَّا في الأعالي» (مت 21: 9)، دخل الرب يسوع إلى الهيكل وطهره وأعاد إليه هيبته ووقاره كمكان يصلح للعبادة لله. وكان من المعروف عند عامة الشعب وعند رجال الدين أن المزمور
118 يمثل نبوة مباشرة تخص مجيء المسيَّا. لذلك كأن لهتاف الشعب صدى مسياني وتطلع لظهور المسيح – يشوع الجديد – الذي على يديه يتحقق الخلاص للأمة، والذي سيطهر عبادتهم وحياتهم السياسية، بل وقلوبهم أيضا مما علقت بها من شوائب، وما أصابها من نقائص.

وبالطبع لم يكن الشعب يعرف أن الداخل أمامهم أورشليم هو المسيَّا حقاً الذي طالما انتظروا مجيئه، وتوقعوا ظهوره ليتحقق على يديه آمال وتوقعات الشعب. فلم تكن شخصية المسيح بصفته المسيَّا واضحة في أذهان الشعب أوحتى في أذهان كثير من التلاميذ، حتى إن أحدهم باعه، والآخر أنكره، والشعب كله صرخ: اصلبه اصلبه.

“أوصنَّا” في إنجيل القديس متى :

إذا عدنا لهتاف الشعب كما أورده القديس متى، نجد أن عبارة “لابن داود” تأتي مباشرة بعد كلمة “أوصنَّا”: “أوصنا لابن داود”؛ مما جعلها تحمل بعض الغموض في المعنى. فإن كانت “أوصنَّا” تعني “خلص الآن”،
فما معنى “خلص الآن لابن داود”؟ من المرجح جداً أن يكون الشعب قد ردد هذا الهتاف باللغة العبرية كنوع من الغيرة القومية، لأن اللغة العبرية كانت هي لغتهم القومية، ولغة العبادة في الهيكل. حينئذ يكون الشعب قد استعمل الحرف “لامد” العبري (وهو مثل الحرف “لام” في اللغة العربية) قبل كلمة “ابن داود”، إذ أن هذا الحرف يعطي معى “لـ ” أو “إلى”. وقد أثبت بعض علماء اللغة أن هذا الحرف يمكن استعماله أيضا كحرف نداء “يا”، فيكون ترجمة الهتاف “أوصنَّا (خلصنا) يا ابن داود”، وهذا يعني أن الشعب كان قد قبل يسوع كقائد أو مسيَّا سياسي،
أتى ليخلصهم من الحكم الروماني .

ومع ذلك ما زال النص اليوناني يحتاج إلى تفسير، فعبارة “لابن داود” اليونانية لا تحمل معنى “يا ابن داود”. فلماذا أصر القديس متى عل ترجمة الهتاف العبري إلى هذه الصيغة اليونانية. واضح أن القديس متى كان يشير إلى الخلاص الذي أتمه المسيح على الصليب. فارتباط هتاف أوصنَّا قديماً مع النصر الذي حققه يهوذا المكابي، والاحتفال بعيد التجديد، ومع الآية: «مبارك الآتي باسم الرب» (مز 118: 26) أعطى لتعبير “أوصنا” معنى جديداً، وقد أراد القديس متى إبراز هذا المعنى.

وقد تجل هذا المعنى بأكثر وضوح بعد صلب الرب يسوع وموته وقيامته من بين الأموات، إذ صارت كلمة “أوصنا” تعبر أساساً عن هتاف الفرحة بالخلاص الذي حققه الرب يسوع، أكثر منها هتافاً لطلب المعونة. وهنا
يكون معنى عبارة القديس متى: “المجد لمن أعطانا الخلاص، المجد لابن داود” (أخذت بهذا المعنى الترجمة الحديثة للكتاب المقدس، وأوردت الآية هكذا: «المجد لابن داود، تبارك الآتي باسم الرب، المجد في العلى» (مت ٩:٢١)).

فعند القديس متى تحمل كلمة “أوصنَّا” معنى أن كل التوقعات والآمال المسيانية قد تحققت في يسوع. وقارئ إنجيل القديس متى باللغة اليونانية سيفهم مباشرة معنى كلمة “أوصنَّا” دون الحاجة إلى الرجوع لمعناها التاريخي العبري، لأنه يشارك القديس متى فرحة الخلاص الذي حققه الرب يسوع؛ إذ أنه يقرأ الإنجيل بعد قيامة الرب من بين الأموات، وهو قد قبل المسيح كفادي ومخلص من الخطايا، وليس كقائد ومخلص سياسي.

بالطبع لم يكن هذا المفهوم التسبيحي هو نفس المفهوم الذي صرخ به الشعب عند ملاقاته الرب يسوع. ولكن، كما هو متبع في كثير من مفاهيم العهد القديم، فقد أوضح الرب يسوع المعنى الحقيقي وراء هتاف الشعب. فبالرغم من أن أغلبية الشعب الذي رأى يسوع وسمع تعليمه وعاين معجزاته، لم يفهم المعنى الحقيقي لمجيئه، فإن الرب يسوع قد حقق وأكمل احتياج الشعب للخلاص بالطريقة التي أرادها هو، والتي لم يفهمها الشعب إلا بعد قيامة الرب من بين الأموات. وبعد حلول الروح القدس بدأ يزداد وعي الشعب بالخلاص الذي حققه لهم الرب يسوع؛
وأنه كان خلاصاً من الخطيئة، وتحررا من سلطان إبليس، وقوة منحها لهم الرب لكي يحيوا في حرية البنين كأولاد لله ومن أهل بيته.

“أوصنَّا” في الليتورجية والتقليد الكنسي

دخل التعبير “أوصنَّا” مبكراً جداً في صلوات الكنيسة. وكان المعنى التسبيحي هو الذي دخل الكنيسة المسيحية، وليس المعنى التوسلي. فقد ورد في كتاب الديداخي – الذي ينقل لنا الصلوات الليتورجية كما مارستها الكنيسة الأولى – أنه في بداية الاحتفال بصلوات عشاء الرب ترد هذه الفقرة:
[لتأت النعمة، وليمض هذا العالم، أوصنَّا لإله داود. من هو مقدس فليتقدم، ومن هو ليس كذلك فليتب. ماران آثا. آمين] (الديداخي 2:6).

وواضح أن هذه الفقرة غير مستقاة من الأناجيل، لكنها انتقلت بالتقليد الليتورجي الذي مارسه التلاميذ ولقنوه للكنائس الأولى.

كما دخلت نفس الكلمة في مردات القداس الغريغوري:
قدوس، قدوس، قدوس، رب الصباؤوت، السماء والأرض مملوءتان من مجدك المقدس. هوشعنا في الأعالي، مبارك الذي أتى ويأتي باسم الرب. هوشعنا في الأعالي.

كما أن كلمة “أوصنَّا” صار لها معنى اسخاتولوجي (أُخروي) في الكنيسة، وصار لها ارتباط واضح بتعبير “ماران آثا” الذي يعبر عن قرب مجيء الرب. فبالإضافة إلى فقرة الديداخي السابقة التي تورد التعبيرين
معاً، يحتفظ لنا تاريخ الكنيسة للأسقف يوسابيوس القيصري بقصة استشهاد القديس يعقوب البار أخي الرب التي يظهر فيها ارتباط “أوصنا” بقرب مجيء الرب. فعندما أوقف اليهود الرسول يعقوب على جناح الهيكل، وقبل استشهاده مباشرة:
[أجاب بصوت مرتفع: لماذا تسألونني عن يسوع ابن الإنسان؟ إنه هو نفسه يجلس في السماء عن يمين القوة، وسوف يأي على سحاب السماء. ولما اقتنع الكثيرون اقتناعاً كلياً وافتخروا بشهادة يعقوب، قالوا: “أوصنا لابن داود”] (تاريخ الكنيسة 2: 23: 10-15).

ويبدو أن المعنى الأصلي العبري لهتاف “أوصنا” اختفى مع مرور الوقت، وخاصة في الكنائس التي كانت تتكلم اللغة اليونانية. ففي كتاب “المربي” يشرح القديس كليمندس الإسكندري معنى تعبير “اوصنَّا” هكذا:
[نور ومجد وتسبيح مع تضرع للرب، هذا هو معنى تعبير“أوصنا”) .

وكما كان في الكنيسة الأولى، فمن الممكن استعمال كلمة “أوصنا” في العبادة الآن بكلا المعنيين: كصلاة لطلب المعونة من الله، وكتسبيح لله الذي صار لنا خلاصا. لقد أكمل لنا المسيح الخلاص بموته الكفاري على الصليب وبقيامته من بين الأموات. وهو الآن جالس عن يمين الآب ليشفع في المؤمنين به مقدماً الضمان لتبريرنا أمام الله:”مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟ اَللهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ. مَنْ هُوَ الَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ قَامَ أَيْضًا، الَّذِي هُوَ أَيْضًا عَنْ يَمِينِ اللهِ، الَّذِي أَيْضًا يَشْفَعُ فِينَا.» (رو 8: 33و34).

إن فرحة البشرية تتجلى في إيمانها أن المسيح نفسه هو الذي يشفع فيها أمام الله، وكأنه يقول للآب: “أوصنا” (خلص الآن) من أجل كل أولادي، أي المؤمنين باسمي”. ويمكننا أيضا القول إن الروح القدس أيضا يقدم شفاعة تحمل معنى “أوصنَّا” للآب من أجلنا، لأن «الرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا.» (رو 8: 26).

إن صراخ “أوصنَّا” الذي استقبل به الشعب المسيح عند دخوله أورشليم كهتاف لطلب المعونة وإن كأن في ذلك الوقت عل المستويين الجسدي والسياسي – صار هتاف الكنيسة الآن حى يتمم الله خلاصنا، كما صار تسبيحاً وشكراً لمن صار لنا خلاصا بموته من أجلنا: “لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد، آمين. يا ربي يسوع المسيح مخلصي الصالح. قوتي وتسبحتي هو الرب، وصار لي خلاصاً مقدساً” (تسبحة الكنيسة في ليلة ويوم الجمعة العظيمة).

 

زر الذهاب إلى الأعلى