الألم حقيقة والنصرة اكيدة
يتصور البعض أن المسيحية ديانة رفاهية، وليس فيها الام مع أن ربنا يسوع المسيح وعدنا قائلا: “في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبت العالم” (يو 33:16 ).
كما أوصانا أيضا قائلا: “ومن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي لا يقدر أن يكون لي تلميذاً” (لو27:14).
وقد أجاب القديس بولس ممثلاً لكل الشعوب المسيحية “وأما من جهتي، فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم” (غلا14:6 ) فكيف أصبح الألم حقيقة وكيف تحول إلى شهوة ثم إلى نصرة أكيدة؟!
أولا: لماذا يسمح الله بالألم ؟
محبة الله للإنسان من البديهيات من بداية خلقته على صورته ومثاله، وبالاستمرار في العناية به في كل المجالات.. اتضحت هذه المحبة وضوحاً عجيبا في تجسد ابن الله الأقنوم الثاني، والفداء المجاني الذي تم على الصليب من أجل خلاص الإنسان … والخلاصة أن محبة الله للإنسان أمر مسلم به.
لكن الشئ الذي يحير عقل الإنسان، ويقف أمامه عاجزاً عن فهمه هو: لماذا يسمح الله بالألم – ليس للخطاة والأشرار والأثمة فقط، بل حتى لمحبيه…
وبدءً نقول إننا إذا سلمنا بكمال الله وبمحبته للإنسان، وجب أن نسلم بحكمته في كل ما يأتيه.. فكما أن الله كلى المحبة، فهو كلى الحكمة. وإذا انتفت الحكمة عن الله لأنتفى كماله الإلهي.. كما نقول: إن الضيقات والتجارب التي تحل بالإنسان، بما يصاحبها من آلام، ليست دليلاً على غضب الله على هذا الإنسان، إنما هي لخير هذا الإنسان كما سنوضح فيما بعد. لذا يقول يعقوب الرسول : “إحسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة، عالمين أن امتحان إيمانكم ينشئ صبراً. وأما الصبر فليكن له عمل تام، لكي تكونوا تامين كاملين غير ناقصين في شيء” (یع 2:1-4).
فالآلام إذن لا تتنافى مع محبة الله للإنسان. بل إن هناك حكمة إلهية وراء الآلام والضيقات… فما هي حكمة الله من الآلام؟
1- الألم للتأديب وتحرير الإنسان من قيود الخطية
يسمح الله بالآلام والضيقات للإنسان حتى ما يؤدبه ويحرره من قيود الخطية والعادات الرديئة… يقول المرتل: “طوبى للرجل الذي تؤدبه يا رب، وتعلمه من شريعتك. لتريحه من أيام الشر” (مز 12:94 ،13)… يقول اليفاز التيماني أحد أصحاب أيوب ناصحاً “هوذا طوبى لرجل يؤدبه الله. فلا ترفض تأديب القدير. لأنه هو يجرح ويعصب. يستحق ويداه تشفيان” (أي 17:5 ، 18)…
ونفس المعنى يورده معلمنا القديس بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين حينما يقول : “لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ». إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ التَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ اللهُ كَالْبَنِينَ. فَأَيُّ ابْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟ وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ الْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ. ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِالأَوْلَى جِدًّا لأَبِي الأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟ لأَنَّ أُولئِكَ أَدَّبُونَا أَيَّامًا قَلِيلَةً حَسَبَ اسْتِحْسَانِهِمْ، وَأَمَّا هذَا فَلأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ، لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ. ” (عب 6:12، 7، 10)…
والذهب الذي يحمي بالنار من أجل تنقيته من الشوائب، له وقت معين يتنقى فيه، إذا زاد هذا الوقت تلف، وإذا قل لا يتنقى الذهب.. ويقول خبراء صناعة الذهب: إن العلامة التى تدل على أنه تنقي، أن الصانع يرى صورته فيه بوضوح.. هكذا الإنسان تظل الآلام تفعل فعلها فيه، حتى تظهر صورة الله فيه.
وفي هذا يقول العلامة أوريجانوس “الله لا يعاقب الخطاة بسبب غضبه عليهم، كما يظن البعض، أو بمعني أخر إن الله عندما يوقع عقابًا بإنسان خاطئ، فإنه لا يوقعه بدافع الغضب من هذا الإنسان، بل على العكس، فإن علامة غضب الله على الإنسان تتمثل في عدم توقيع العقاب عليه. لأن الإنسان المُعاقب حتى ولو تألم تحت تأثير هذا العقاب، إلا أن القصد هو إصلاحه وتقويمه. بقول داود: “يا رب لا توبخني بغضبك ولا تؤدبني بسخطك” (مز 6: 1). لو أردت أن تؤدبني، فكما يقول إرميا: “أدبني يا رب، ولكن بالحق لا بغضبك لئلا تفنيني” (إر 10: 24). كثيرون أُصلحوا بسبب عقوبات الرب وتأديباته لهم. كما يقول الكتاب، إن أبناء السيد المسيح حينما يخطئون يتم عقابهم لكي تكون أمامهم فرصة للرحمة من قبل الرب: “إن ترك بنوه شريعتي، ولم يسلكوا بأحكامي، إن نقضوا فرائضي، ولم يحفظوا وصاياي، افتقد بعصا معصيتهم وبضربات إثمهم، أما رحمتي فلا أنزعها عنهم” (مز 89: 30-33). من ذلك نفهم أنه إذا ارتكب أحد الخطايا ولم يعاقب حتى الآن يكون علامة عن عدم استحقاقه للعقاب بعد.”
2- الألم يخلص الإنسان من البر الذاتی
والله يسمح بالآلام والضيقات للإنسان لكي يخلصه من البر الذاتي… هذا الأمر واضح من سقطات بعض الأبرار كأيوب وبطرس وبولس … إلخ
+ فأيوب تفاخر ببره الذاتي وأعماله مرات عديدة حتى قال: “كامل أنا” (أي 21:9)…
فكف أصحاب أيوب الثلاثة عن مناقشته “لكونه باراً في عيني نفسه” (أي 1:32). وحمی غضب اليهو بن برخيئل البوزی “لأنه حسب نفسه أبرّ من الله” (أي 2:32) … لكن أيوب بعد الآلام التي حلت به وعملت فيه عملها، قال مخاطباً الله في إنسحاق روح: ها أنا حقير، فماذا أجاوبك؟ وضعت يدي على فمي… بسمع الآذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني. لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد” (أي 4:40، 5:42، 6).
+ والقديس بولس الرسول كان معرضاً لنفس تجربة المجد الباطل. وعالجه الله بالألم ويكشف هو عن ذلك حينما يقول: “وَلِئَلاَّ أَرْتَفِعَ بِفَرْطِ الإِعْلاَنَاتِ، أُعْطِيتُ شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ، مَلاَكَ الشَّيْطَانِ لِيَلْطِمَنِي، لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ. مِنْ جِهَةِ هذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي. فَقَالَ لِي:«تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ». فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ.” (2كو 7:12-9).
3- الألم يربط الإنسان بالله
الآلام هي من العوامل الهامة جداً لإرتباط الإنسان بالله، فضلاً عن أنها تجعله يختبر الله ومعاملاته وتقربه إليه.. وحكمة الله، أن الإنسان أثناء الضيقة أو التجربة حينما يحس أنه عاجز عن التخلص منها، يلجأ إلى الله لكي ما ينقذه… بل إن الله نفسه يطلب ذلك: “ادعني في يوم الضيق أنقذك فتمجدني” (مز 15:50 )… ولإثبات صحة هذا الكلام نقول: إن أي إنسان يمكن أن يختبر نفسه في حالتين. يختبر نفسه حينما يكون مستريحاً، وحينما يكون متألماً. في الحالة الأولى ربما لا يفكر في الله. أما في الحالة الثانية فإنه يلجأ إلى معين. ولا شك أن أفضل معين هو الله… يقول داود عن اختبار: “في يوم ضيقي أدعوك، لأنك تستجيب لي” (مز 86:7)… لذا حينما ينسى الإنسان الله، فإنه يجلب عليه الضيقات بألامها لكي ما يتذكره… وما أكثر حنان الله. فحينما تُسد أمامنا كل الأبواب، يظل باب الله مفتوحاً أمامنا، وصوته يدعونا إليه.
4- الألم يذكر الإنسان بخطاياه السابقة
الله يسمح بالألم حتى ما نتذكر خطايانا السابقة… وهذا الأمر في غاية الأهمية.
فحينما ينسى الإنسان خطاياه الله لا ينساها له، وحينما يتذكرها يغفرها الله له… إن إخوة يوسف في مصر، بعد أن تعرف عليهم يوسف، ووقفوا أمامه كمتهمين، وأمر أن يحتجز واحد منهم وينطلق الباقون ليحضروا أخاهم الصغير، كما طلب إليهم يوسف دون أن يتعرفوا على شخصيته بعد – بدأ إخوة يوسف يقولون بعضهم لبعض: “وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «حَقًّا إِنَّنَا مُذْنِبُونَ إِلَى أَخِينَا الَّذِي رَأَيْنَا ضِيقَةَ نَفْسِهِ لَمَّا اسْتَرْحَمَنَا وَلَمْ نَسْمَعْ. لِذلِكَ جَاءَتْ عَلَيْنَا هذِهِ الضِّيقَةُ». 22فَأَجَابَهُمْ رَأُوبَيْنُ قَائِلاً: «أَلَمْ أُكَلِّمْكُمْ قَائِلاً: لاَ تَأْثَمُوا بِالْوَلَدِ، وَأَنْتُمْ لَمْ تَسْمَعُوا؟ فَهُوَذَا دَمُهُ يُطْلَبُ». ” (تك 21:42، 22)..
وأرملة صرفة صيدا التي نزل عندها إيليا النبي ضيفة وأطعمته… وحال وجود إيليا عندها مرض ابنها واشتد مرضه جداً حتى لم تبق فيه نسمة… وهنا أيقظ ألم ابنها ضميرها. فقالت لإيليا: “ما لي ولك يا رجل الله! هل جئت إلي لتذكير إثمي وإماتة ابني؟” (1مل 18:17 )… إن مرض ابن هذه الأرملة وآلامه جعلتها تتذكر آثامها السالفة…
5- الألم ينقى الإنسان ويكثر ثماره
يسمح الله بالألم من أجل تنقية أولاده من ضعفاتهم لكي يكثر أثمارهم… يتكلم ملاخی النبي بروح النبوة عن السيد المسيح فيقول: “ لأَنَّهُ مِثْلُ نَارِ الْمُمَحِّصِ، وَمِثْلُ أَشْنَانِ الْقَصَّارِ. فَيَجْلِسُ مُمَحِّصًا وَمُنَقِّيًا لِلْفِضَّةِ. فَيُنَقِّي بَنِي لاَوِي وَيُصَفِّيهِمْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِيَكُونُوا مُقَرَّبِينَ لِلرَّبِّ، تَقْدِمَةً بِالْبِرِّ.” (ملا 2:3، 3)… ويقول بلسان إشعياء النبي: “هأَنَذَا قَدْ نَقَّيْتُكَ وَلَيْسَ بِفِضَّةٍ. اخْتَرْتُكَ فِي كُورِ الْمَشَقَّةِ. ” (إش 10:48)…
ومتى تنقي الإنسان تزداد قيمته ويكثر ثمره… يقول ربنا يسوع: “أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرام. كل غصن في لا يأتي بثمر ينزعة، وكل ما يأتي بثمر ينقيه ليأتي بثمر أكثر” (يو 2:15)… وواضح أن نتيجة هذه التنقية التي يقوم بها الآب السماوي أن المؤمن يأتي بثمر أكثر”… بعدها مباشرة يقول ربنا يسوع: “بهذا يتمجد أبي: أن تأتوا بثمر كثير فتكونون تلاميذی” (يو 8:15).
إن التنقية هدفها كثرة الثمر. وهو موضوع في غاية الأهمية…
يقول يوحنا المعمدان لمن كانوا يأتون ليعتمدوا منه: “فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. 9وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَبًا. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدًا لإِبْراهِيمَ. 10وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. ” (مت 8:3، 10).
6- الألم موصل جيد للفضائل
بل للسماء ذاتها بكل أمجادها… يقول معلمنا بولس الرسول: “نفتخر أيضا في الضيقات، عالمين أن الضيق ينشئ صبرا” (رو 3:5)… وإذا كان الضيق ينشئ صبراً، فماهی أهمية الصبر كفضيلة… يقول رب المجد: “الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص” (مت22:10 )… “بصبركم اقتنوا أنفسكم” (لو 19:21 )… ولعل هذا يوضح لنا ماذكره القديس يوحنا في رؤياه، وهو يكتب إلى المؤمنين والكنائس: “أنا يوحنا أخوكم وشريككم في الضيقة وفي ملكوت يسوع المسيح وصبره” (رؤ 9:1)… نلاحظ هنا أن يوحنا يتكلم عن “الضيقة والصبر” وهما من مؤهلات ملكوت المسيح الأبدي… إن الصبر وثيق الصلة بالآلام والضيقات… وماذا يقول القديس بولس الرسول عن الصبر: “كنا نصبر فسنملك أيضا معه” (2تي 12:2 )… ويقول يعقوب الرسول عن الصبر أن : “له عمل تام، لكي تكونوا تامين كاملين غير ناقصين في شيء” (يع 4:1).
وفي آية واحدة يتكلم القديس بطرس الرسول عن عدة فضائل مرتبطة بالألم يقول: “كل نعمة الذي دعانا إلى مجده الأبدي في المسيح يسوع، بعدما تألمتم يسيراً، هو يكملگم، ويثبتكم، ويقويكم، ويمكنكم” (1بط 10:5 ). في هذه الآية نرى القديس بطرس يسجل أربعة نتائج هامة مرتبطة بالألم: الكمال – الثبات – القوة – التمكين.
7- الألم وثيق الصلة بالإتضاع
فالألم الذي يعاني منه الإنسان لأي سبب من الأسباب يجعل الإنسان يتضع أمام الله … فالإنسان حينما تواجهه الضغطات والضيقات والشدائد بما يصاحبها من الأم، وحينما تعييه الحيل والوسائل في التخلص من الآلام، ويصل إلى طريق مسدود، ينسحق أمام الله، طالباً إليه أن يرفع عنه هذه الآلام.. وإذا كان الألم يجلب معه الإنسحاق والإتضاع، فمرحباً به…
فمعلوم أن الإتضاع هو أساس الفضائل، ويشبهه القديسون بالأساس المخفي تحت سطح الأرض الذي يحمل البناء كله. والإتضاع يحفظ نعمة الله في الإنسان، وبه نقهر الشياطين…
والله نفسه يرفع المتضعين.. يقول القديس بطرس الرسول: “وتسربلوا بالتواضع، لأن: “الله يقاوم المستكبرين، وأما المتواضيعون فيعطيهم نعمة. فتواضعوا تحت يد الله القوية لكي يرفعكم في حينه” (1بط 5:5، 6).. .
يقول ماراسحق: (يسمح الله بالتجارب والعوارض – بما يصاحبها من آلام – أن تأتي علينا – حتى القديسين – لكي ندوم في الإتضاع. فإذا قسّينا قلوبنا تجاه العوارض والتجارب يشدد الله التجارب ويصعبها. أما إذا قابلنا التجارب – بألامها – بإتضاع وقلب منسحق، فالله سوف يمزج التجربة بالرحمة).
من المسابقة الدراسية – خدام – مهرجان الكرازة 2012