من مقالات الأنبا غريغوريوس أسقف عام البحث العلمي

البصر والبصيرة

يقـول النبي في المزمـور «لأن ينبوع الحياة عندك، بنورك يارب نعاين النور، فابسط رحمتك على الذين يعرفونك وعدلك على المستقيمين في قلوبهم»، (مز36: 9، 10).

 منك تنبع الحياة، فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس. نحن نأخذ منه الحياة، ومن هنا وصف بأنه رئيس الحياة، أصل الحياة، مبدىء الحياة، منشىء الحياة، لم يكن للحياة وجود قبله، فهو الأول والنبع الذي منح الحياة ويمنح الحياة، أما كل الكائنات بشرية وملائكية وحيوانية ونباتية ومادية، كلها تستمد حياتها منه لأنه هو أصل الحياة، هو الحي الأول، الحي بالألف واللام، الحي القيوم الذي به وعليه تقوم الحياة، الحي الأول وبعده كانت الحياة.

بنورك يارب نعاين النور، فلولا نورك لما استطعنا أن نرى النور، وهذه المسألة يمكن أن نفهمها بوسيلة إيضاح، في عالمنا في عالم المادة، عندما يكون الإنسان في حجرة أو في مكان أو في قاعة مظلمة تماماً، على الرغم من أن له عينين لا يرى، له عينان ولكنه لايرى، أما إذا كان هناك ضوء سراج أو مصباح أو ضوء آخر كضوء الشمس وما إلى ذلك، فهذا النور يعينه على أن يرى، ومن دونه لا يرى على الرغم من أن له عينين، فهنا الإستنارة: بنورك يارب نعاين النور، عيوننا من دون هذا النور لا ترى حتى لو كانت مفتوحتين، فنحن بمعونة منك بالنور الذي تعطينا إياه نستطيع أن نرى، ولكن من دون أن تعطينا أنت هذا النور لا يمكن لعيوننا أن ترى، وهذا الكلام أيضا ينطبق على نور البصيرة.

الرؤى والأحلام:

الإنسان له بصر وله بصيرة، له عينان خارجيتان، وله أيضا عين داخلية، بعينيه الخارجيتين يرى الموجودات إذا كان هناك نور يسمح لعينه أن ترياه، ولكن بالعين الداخلية عين البصيرة يرى الحق، يرى القيم الروحية، يرى الخير، يعرف أشياء غير الأشياء المادية، هذه المعرفة الروحية يعرفها الإنسان بالبصيرة الداخلية، ومن هنا حتى في تعبير اللغة يقول الإنسان: «أنا أرى»، بمعنى أنه يفهم، وهنا يقصد الصورة الذهنية، أرى الرأي الفلاني، أراه، أي يوجد رؤيا باطنية، رؤية البصيرة للأشياء التي هي غير مادية، مثل الحقيقة والقيم الروحية. ومثل الإدراكات في عالم الروح، يرى الله، والله لاتراه العينان الظاهريتان إنما يراه الإنسان بقلبه. يراه ويتعامل معه ويحس به. وهذه الرؤيا تأخذ صوراً مختلفة، في بعض الأحيان تتمثل بصورة ظاهرة لعينيه وهذا ما نسميه بالأحلام وأيضا بالرؤى، الحلم يراه الإنسان وهو نائم ولكن يرى صوراً، هذه الصور باطنية لا يراها بالعينان الظاهريتين، إنما يرى ويشعر أنه يتعامل مع أشياء محسوسة منظورة، لكن يراها لا بهاتين العينين الظاهرتين إنما يراها بقلبه، ويستيقظ ويتكلم عما رأى بيقين وحقيقة لأنه رأى.

رؤيا القديس بولس:

مستيقظ بحسب ولكن هناك أيضا على مستوى أعلى من الأحلام، الرؤى، والرؤيا يراها الإنسان وهو المناسبة، أحيانا وهو يصلي، وأحيانا بغير الصلاة، فمثلا القديس بولس الرسول يقول: «كنت أصلي في الهيكل … فرأيته قائلا لي: اسرع واخرج عاجلا من أورشليم لأنهم لا يقبلون شهادتك عنى» (أع22: 17، 18).رأيته وهنا الهاء المقصود بها المسيح، لكن المسيح كان في هذا الوقت قد صعد إلى السماء وجلس على العرش، لكنه يقول كنت أصلى في الهيكل، ورأيته قائلا لي، ففي أثناء الصلاة وهو مستيقظ رأى المسيح، هذه الرؤيا غير الرؤيا التي رآها وهو في الطريق إلى دمشق في رائعة النهار، عندما رآه في لمعان أعظم من لمعان الشمس حتى أنه أصيب بالعمى من كثرة البهاء والإضاءة، وقاده المرافقون له بيديه لأنه كان أعمى وظل أعمى ثلاثة أيام من بهاء المسيح على الرغم من أنه كان في رائعة النهار، لكن هذا الجمال وهذا البهاء كان أعظم من بهاء الشمس ومن لمعان الشمس.

رؤيا القديس بطرس:

وبطرس الرسول صعـد إلى سطح البيت في مدينة يافا، وفي وسـط النهـار نحوا الساعـة السادسـة ليصلي، وفي أثناء ما هو يصلى رأى «السماء مفتوحة وإناء نازلا عليه مثل ملاءة عظيمة …» (أع10: 11)،. وسمع صوتا يقول له «قم يـابطرس اذبـح وكل..» وكان هذا على ثلاث مرات إلى آخر هذه الرؤيا، فهذه الرؤيا رآها وهو مستيقظ وهو يصلى.

رؤيا الملاك للعذراء مريم:

والعذراء مريم لما دخل إليهـا الملاك، دخل بشكل ظاهـر من البـاب إلى غرفتهـا التي هي فيهـا، فتولاهـا الخوف فقـال لها «لا تخـافي يامريم» (لو1: 26- 38). إلى آخـر هـذا الظهور الذي فيه بشرها بأنها ستحبل وتلد إبنا وتدعو اسمه يسوع.

رؤيا الملاك لزكريا رئيس الكهنة:

وزكريا رئيس الكهنة في الهيكل ظهر له ملاك على يمين مذبح البخور فخاف عندما رآه رؤيا العيان، وكان يبخر وهو مستيقظ فرأى. (لو1: 8 – 22).

ما هذه الرؤى وكيف يراها الإنسان؟ هذا معناه أن هذا الإنسان موهوب، وممنوح له في ظروف خاصة وبمؤهلات خاصة أنه يمكن أن يرى، الرؤيا بالقلب غير الرؤيا بالعينين، الرؤيا بالعينين لو كان هناك واحد آخر موجود في المكان لا يرى ما يراه هذا الإنسان، إذن هذه الرؤيا ليست بمجرد هاتين العينين الظاهرتين، لأن هناك آخرين موجودين في المكان ولا يرون إنما هي رؤيا بالقلب تتمثل في شكل ظاهر. لشاول الذي هو بولس، يقول سفر الأعمال أن المرافقين له سمعوا الصوت (صوت بولس) ولم يروا أحداً، سمعوا صوت بولس وهو يقول له ماذا تريد يارب أن أفعل، رأوا نوراً فقط لكن لم يروا المسيح، ولا سمعوا صوته، لماذا هذا يرى وذاك لا يرى؟ لماذا هذا يسمع والثاني لا يسمع؟ هذا معناه أن الإنسان كإنسان موهوب من الله أنه يقدر أن يرى بغير العينين الظاهرتين في ظروف خاصة، وفي أحوال خاصة، رؤيا حقيقية ويقينية، لا هي خيالات ولا هي خزعبلات، بل يراها يقيناً وحقاً وصدقاً، إذن هناك قدرة موهوبة للإنسان.

هذه النفس، وهذه الروح الداخلية الممنوحة لنا من الله، التي هي على صورة الله وعلى مثاله، يمكنها أن ترى بالقلب غير الرؤيا الظاهرة بالعينين.

وهناك أناس عميان معوقون ليس لهم عيون، بمعنى أن العصب البصري جف أو توقف عن العمل، إما أن الإنسان يولد هكذا، أو فيما بعد يصاب بهذا العمى في الظاهر، ومع ذلك يمكن لهذا الإنسان الأعمى أن يرى، كيف يارب؟ إذن هذا الإنسان موهوب في أحوال خاصة يمكنه أن يرى غير المنظور بالعينين الظاهرتين، ولكن يرى على الحقيقة. 

رؤيا القديس ميخائيل البحيرى:

كان في دير المحرق راهب على درجة روحانية عالية جدا، كان يسمى القمص ميخائيل البحيرى، هذا الرجل كان وصل إلى مرحلة السياحة الروحانية، وتنيح سنة 1922م، ففي السن الكبير ونتيجة للنسك عندما تعدى سن ال80 تقريباً، فقد القدرة على الرؤية بالعينين الظاهرتين، فصار أعمى لايري، فعلى الرغم من أنه كان أب لرهبان الدير كله وأب إعتراف لهم جميعا، وكلهم في هذا الوقت كانوا تلاميذه وأولاده، لكنه بسبب فقده البصر كان عندما يصلي القداس يصلي ككاهن شريك لأنه لا يقدر أن يتسلم الذبيحة، قص علينا شيوخ الرهبان من أولاده أنه كان يصلى مرة ككاهن شريك، فبعد حلول الروح القدس، بدأ يصلي الأواشي ثم صمت، فالكاهن الأساسي وهو من أولاده تصور أنه الشيخوخة نسي، فذكر له بداية الفقرة لكي يساعده على أنه يكمل الصلاة، فأشار إليه بيده أن يكف عن الكلام، وظل واقف وكل الكنيسة صامته فترة من الوقت، فمن الواضح أنه كان رأى رؤية أو رأي الأسرار فلم يستطع أن يتحمل المنظر الذي أمامه فانتظر حتى اختفى المنظر، ثم أكمل الأوشية، وبعد ذلك ارتكن على جانب حامل الإيقونات واستمر يبكي إلى نهاية القداس، ولم يستطع أن يكمل صلاة القداس، هذا رجل أصبح أعمى لايرى، لكن استطاع أن يرى على الرغم من أنه لايقدر أن يرى بعينيه، لكن كشف عن عينيه فاستطاع أن یری. 

إذن هذه الروح الإنسانية ممكن أن ترى حتى لو كانت العيون مقفلة، إذن هي هبة، نحن كائنات روحانية محبوسة في الجسد مقفول علينا، الجسد بالنسبة لنا مثل إطار أو سور أو حوائط مغلقة علينا، لكن يوجد أشخاص معينين بروحانيتهم، الروح تقدر أن تشف وأن ترى وتخترق الحجب، وتخترق ما وراء الأسوار، مثل الزجاج رغم أنه جسم مادى ولكن عندما يكون أبيض ونظيف يمكن للإنسان أن يرى ما وراءه، يوجد أشخاص يصلوا لهذه المرحلة وتصبح أرواحهم شفافة، وأجسادهم أيضا، يمكن للروح أن تخترق ماوراء الحجاب وأن ترى.

هذا هو جمال الإنسان وهذا هو شرف الإنسان، كلنا لنا هذا الشرف، كل واحد فينا بفضل هذه الروح الإنسانية التي على صورة الله ومثاله لها هذا الشرف، أن لها عينين باطنيتين غير عينين الجسد ويمكنها أن تخترق ماوراء الحجاب وأن ترى.

رؤيا القديس يوحنا الحبيب:

القديس يوحنا صاحب سفر الرؤيا وفي الكتب القديمة يقال عنه سفر الجليان من كلمة تجلى والتجلي الذي هو الوضوح، يوحنا الذي نسميه يوحنا الرائي أو يوحنا الحبيب، كان في الجسد وكان في جزيزة بطمس من جزر الأرخبيل في بلاد اليونان، وكان في النفي وفي هذه الجزيرة يقول: كنت في الروح في يوم الرب، يوم الرب أي كان يوم أحد لأن يوم الأحد هو يوم الرب، لكن ماذا يعني بقوله «كنت في الروح»؟ يعني أنه كان غارق في الروح، مندمج في الروحيات من كثرة التأمل والصلاة والإرتفاع فوق المادة وفوق الحواس، كنت في الروح يعني في عالم الروح، ويقول: سمعت صوته كصوت مياه كثيرة، صوت رهيب، فخاف وسقط على وجهه عند رجليه، ثم يقول: فوضع يده اليمنى على رأسي، أي أن السيد المسيح نزل إليه من السماء إلى جزيرة بطمس، ورآه وهو يضع يده اليمنى على رأسه، وقال له لا تخف، أنا هو الأول والآخر، … أنا الألف وأنا الياء، أنا البداءة وأنا النهاية، أي أنا الأزلي وأنا الأبدى، وأنا الحي، الحى بالألف واللام، وقد مت أو ذقت الموت بالجسد من أجل الفداء أنا الحي إلى أبد الآبدين، والحي إلى أبد الآبدين هو الذي يحيى ويعطى الحياة، بیدی مفاتيح الهاوية والموت، أي صاحب السلطان، أي أنا مالك زمام الكون. الحياة بيدي والموت بيدي والهاوية بيدي، بيدي تعنى بسلطانی، بیدی مفاتيح الهاوية والموت.

يوحنا كان في الجسد وهذه الرؤيا رآها وهو مستيقظ ولم يكن نائماً، إذن في مقدور الإنسان أن يرى بغير العينين الظاهرتين، هناك عيون باطنة لو عرفنا أن نغذيها بالروحانيات، ولو أعطيناها طعامها الحقيقي، لأنه من دون هذا الطعام تضعف، فإذا عرفنا أن نعطيها غذاءها وانتعشت تستطيع أن ترى، وترى ما وراء الحجاب، وترى غير المنظور كأنه منظور تماماً.

فنحن لنا غير العينين الظاهرتين عيون باطنية.

بصيرة القديس ديديموس:

ديديموس كان رئيس المدرسة اللاهوتية في الاسكندرية في القرن الرابع للميلاد، وكان أعمى، أصيب بالعمى بعد سن 4 سنين، كما يحدث أن إنسان يحدث له مرض ويصاب بالعمى، لكن هذا العمى الظاهرى لم يمنع أن هذا الرجل يتقدم في العلم وفي المعرفة الروحانية أولاً، وفي المعرفة العلمية وكل أنواع المعارف، وهو أول من اخترع الكتابة البارزة قبل برايل الذي جاء في القرن الثامن عشر، ونحن نسمى مدرسة المرتلين معهد ديديموس، نسبة إلى هذا الرجل ديديموس، ديديموس كلمة معناها توأم، عندما فقد بصره أرسل إليه القديس الأنبا أنطونيوس يعزيه قائلا له: أنت حرمت من العينين الظاهرتين ولست وحدك، معك كثيرين حرموا منها حتى في الطيور، وفي عالم الحيوان، لكن عندك بصيرة ليس لها نظير بين الناس إلا بين الملائكة، أي أنت فقدت البصرحقا، فقدت العينين الظاهرتين، لكن اشكر الله لأن عندك بصيرة داخلية عظيمة جدا، حرمت أنت من النظر وفي هذا الأمر يشترك معك كثيرون حتى من بين الحيوانات والطيور، لكنك تخرجت ببصيرة ورؤية داخلية لا توجد إلا في عالم الملائكة، الأنبا أنطونيوس أراد بهذا أن يعزيه، أيضا كل إنسان منا ممكن أن يكون له هذه العطية، لأن أرواحنا على صورة الله ومثاله، هذه الروح الساكنة داخلك جوهرة ثمينة غالية لاتستهين بها، عندك هذه الموهبة لو عرفت أن تصقلها وأن تغذيها بالغذاء المناسب لها وبهذا تنميها وتقويها، يحدث لها هذا الصفاء الذي حدث لآخرين من الروحانيين والقديسين.

المولود أعمى والبصيرة:

في قصة المولود الأعمى، هذا الرجل ولد أعمى فاقد البصر، بل ويتضح من القصة نفسها أن هذا الرجل لم تكن له في مقلتيه عينان، بعض الناس تكون عندهم عينين لكن لا يروا لأن العصب البصري معطل، ويوجد معجزات صنعها السيد المسيح مع كثيرين بمجرد لمس العين أبصر، فأعاد للعصب البصرى قوته، لكن قصة هذا الرجل مختلفة جدا عن كل العميان، لأنه لم تكن له في مقلتيه عينان، كانت مقلتاه فارغتين، وهذا يفسر لنا لماذا تفل المسيح على الأرض وصنع من التفل طيناً، لماذا هذا الرجل شفاه بهذا الأسلوب؟، واحد قال له ابصر بالأمر فأبصر، والآخر لمس عيناه فشفاه باللمسة، لماذا هذا الرجل تفل على الأرض وصنع من التفل طينا وطمس به عينيه، وضع له الطين داخل مقلتيه، لماذا؟ لأن هنا عملية خلق لعينيه، وبهذا ألمح المسيح إلى قدرته الخلاقة وأنه الخالق، لأن على هذا النظام خلق الله آدم، جبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ فيه، فصار آدم نفساً حياً.

تركيبتنا هي أن الجسد من التراب، والنفخة الإلهية هي الروح التي على صورة الله ومثاله، وفي موضع آخر يقول الكتاب: «أنا من الطين تقرصت».

وفي موضع آخر يقول: نحن الطين وأنت جابلنا.

فهنا يثبت المسيح قدرته على الخلق وأنه الخالق، الكتاب يقول: «في البدء كان الكلمة، به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان»، أي هو الخالق، ولهذا السبب يسمى المسيح بالكلمة، الكلمة الفاعلة والكلمة الخالقة، فهنا تفل على الأرض وصنع من التفل طينا وطلى بالطين مقلتيه الفارغتين، فخلق له عينين، والسيد المسيح قال: «لدينونة أنا أتيت إلى هذا العالم، حتى يبصر الذين لايبصرون ويعمي الذين يبصرون»، هذه الآية يوجد فيها مقابلة لطيفة، يبصر الذين لايبصرون أي الذين لايبصرون بعيونهم مثل المولود أعمى أنا أعطيه . ” أن يبصر، ليس فقط بإعطائه عينين ولكن أيضا يعطيه بصيرة، فهذا الرجل الذي كان أعمى لم يتعلم، لأنه لم يكن هناك فرص للناس العميان أن يتعلموا، إنما هذا الأعمى في حواره مع العلماء من الكتبة والفريسيين، أخجلهم، وكان يكلمهم بمنطق أثبت فيه أنهم من الغباوة أن يقولوا عن المسيح أنه خاطىء، قال لهم: منذ البدء لم يسمع أن أحداً فتح عيني مولود أعمى، أخاطىء هو لست أعلم، لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئا فممكن العلماء والناس المرموقين تطمس بصائرهم لأن قلوبهم مثقلة ومطموسة بالرغبات والمصالح الشخصية والشهوات، وتطمس العين الباطنية، عيونهم الظاهرة مفتوحة ولكن القلب مطموس، والبصيرة مطموسة، فتصدر منه أشياء عجيبة، قد يدركها طفل صغير، ولا يراها هؤلاء العلماء البارزين لأن البصيرة من الداخل مطفية.

ياليتنا نقدر القيمة الكبيرة لهذه الروح التي أوهبت لنا من الله، أنت عندك جوهرة ثمينة تشترك فيها مع كل إنسان، كلنا بشر، وكلنا موهوبين هذه الهبة، يقول النبي زكريا في الأصحاح 12 «جابل روح الإنسان في داخله»، الروح تنزل في رحم الأم بعد تكوين بذرة الحياة الأولى بأربعين يوم، تنزل الروح من السماء وتتحد بالجسد، فكل واحد فينا بلا إستثناء يتكون من جسد ومن روح، وهذه الروح هي الجوهرة الغالية الثمن التي هي على صورة الله ومثاله، من الله تأخذ النور وتعطى العلم الذي تستمده من رئيس الحياة ومنشئ الحياة وينبوع الحياة، تأخذ منه وتعطى.

كمثال بسيط، العدسة لو تمت نظافتها بطريقة جيدة لكي تكون صافية ونظيفة. ووضعناها تحت الشمس وركزنا الشمس عليها بحيث أنها لا تتحرك بل تكون في درجة ثبات، تستطيع أن تجمع أشعة الشمس رغم بعدها ۹۳ مليون ميل ولإستطاعت أن تحرق الورقة التي تحتها، كذلك هذه الروح الإنسانية من الله عندما تكون في وضع الصفاء والنقاء والتركيز، والإنسان يحصر نفسه ويبعد عنه الشواغل والأشياء الأخرى الثانية التافهة، التي لو نظرنا إليها نظرة عميقة أبدية نجدها أنها تافهة لاتستحق، لو ارتفعنا عن مستوانا نستطيع أن ندرك أن كثير من الأمور المشغولين بها ومتحمسين لها نجدها تافهة.

هذه الروح هي بؤرة، لو سطعت عليها القوة الإلهية تنير وتجد فيها نوع من المعارف جاءت لك لا من طريق المعلمين ولا من طريق الكتب، بل كما قال المسيح أو الرسول في العهد الجديد «ويكون الجميع متعلمين من الله»، هذا هو ما يسموه العلم اللدوني، العلم الذي من لدن الله، هذا غير العلم الذي أخذناه عن طريق الكتب أو طريق المدارس، أو عن طريق المعلمين أو عن طريق الأب والأم إلى آخره، هناك نوع آخر من العلم ينبثق في النفس إنبثاقاً، يتولد من فوق، عندما تكون النفس في حالة من الصفاء، في حالة من التركيز وإستبعاد الشواغل والأمور التافهة والإدراك العميق في هذه الحالة يجعل القلب ينير.

كل إنسان فينا يقدر أن يصل لهذه المرحلة، إذا وصل لهذا التطهير لنفسه من الشواغل والأمور التافهة الكثيرة التي تشغل فكره، ويركز نفسه ليصل إلى هذه المرحلة لا من أجل المباهاه بها ولكن لكي يفهم أشياء، تجد أنه فهم أشياء انبثقت في نفسه بنوع من المعرفة غير المعارف التي نحن نتلقاها في الكتب.

ولاحظوا أننا أخذنا مسحة الميرون بالإضافة إلى الموهبة الطبيعية الأساسية، أخذنا قوة فوق الطبيعة وهي مسحة الروح القدس في الميرون بعد المعمودية مباشرة، هذا الميرون يقول عنه المسيح: «يذكركم بكل ما قلته لكم ويعلمكم كل شيء ويخبركم بأمور آتية»، ثلاث أشياء، ينير القلب لدرجة أنه يرى الماضي، النور يشمل الماضي فيذكر، ويشمل الحاضر فيعلم، ويشمل المستقبل فيخبر بأمور آتية، مثل قطار السكة الحديد عندما يضيء الكشاف تجد النور يشع للأمام، فيقدر السائق أن يرى على بعد أكثر من كيلو، الروح القدس الذي أخذناه كقوة فوق قوة الروح العادية، أي القوة الطبيعية الأساسية التي لأرواحنا، لذلك نرى بعض الآباء الروحانيين استطاعوا أن يتنبأوا عن أشياء، ونعتبرها نبوءات عن أمور مستقبلة بعد مئات السنين، من أين لهم هذا؟ ليس الفضل لأنهم حفظوا أنفسهم من دنس العالم فقط، لكن الفضل الأساسي لهذه الروح الإنسانية، ولمسحة الروح القدس، القـوة فوق الطبيعـة التي أعطيت للإنسان حتى يستطيع بها أن يرى النور. «بنورك يارب نعاين النور».

المعمودية ترد للإنسان البصيرة: 

 والكنيسة ترى في قصة المولود الأعمى إشارة إلى أن كل إنسان قبل أن يصبح معمداً في كنيسة المسيح، فهو مولود أعمي بالخطيئة الأصلية، «لأنه بالآثام حبل بي وبالخطيئة اشتهتني أمي»، وهو في حاجة إلى أن يغتسل في بركة سلوام، وبركة سلوام هنا يشار بها إلى جرن المعمودية، فإذا اغتسل عاد بصيراً ذلك لأن السيد المسيح له المجد، يقول: «إن كان أحـد لا يولد مـن المـاء والروح لايقدر أن يعاين ملكوت الله» لأنه مولود أعمى بالخطيئة الأصلية، لأنه «بإنسان واحد – وهو آدم – دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت وهكذا صار الموت إلى جميع الناس»، بالآثام حبل وبالخطيئة اشتهتني أمي، هي وصمة الخطيئة الأصلية التي وصلت إلينا بالدم وبالتوالد من الأبوين كما يقول القديس ديديموس الضرير رئيس المدرسة الإكليريكية في القرن الرابع: عن طريق هذا التوالد تصل وصمة الخطيئة إلى الإنسان المولود من أبويه، ويحتاج أن يتطهر منها، من أجل هذا كانت المعمودية ضرورية للخلاص، والطفل كيف تكون المعمودية بالنسبة له ضرورية للخلاص مع أنه لم يخطىء خطيئة فعلية؟ وصمة الخطيئة وصلت إليه بالوراثة وبالميلاد، وصل الدم ملوثاً فلابد أن يتطهر في سلوام في جرن المعمودية، ومن أجل هذا لم تكن المعمودية للأطفال زينة أو عملاً سطحياً خارجياً، إنما المعمودية أيضا للأطفال للخلاص من الخطيئة الأصلية، التي وصلت وصمتها إلى دم الطفل من آدم عبر والديه.

والكنيسة ترى أن كل إنسان يولد أعمى، والعمى هنا هو عمي البصيرة، هذا العمى الذي لا يقدر معه أن يرى ملكوت الله، لأنه قد صار أعمى بوصمة الخطيئة الأصلية فلابد أن يغتسل من هذا في بركة سلوام، لكي يرد إليه بصره ويصير قادراً على أن يدخل ملكوت الله، وقادراً على أن يعاين ملكوت الله.

ولذلك عندما يسأل إذا مات طفل بغير عماد ما هو مصيره؟ آباء الكنيسة أجابوا على هذا السؤال وقالوا: الأطفال غير المعمدين لا يعذبون ولكن لايمجدون، لايعذبون لأنهم لم يخطيئوا خطايا فعلية، إنما لايمجدون أي لا يعاينون ملكوت الله، لأنهم غير قادرين على أن يروا وعلى أن يعاينوا ملكوت الله، مثلهم مثل الأعمى الذي لايقدر أن يرى، لأن عضو البصر فيه معطل عن العمل، ولايكون لهم مجد الأطفال المعمدين الذين اغتسلوا في بركة سلوام، اغتسلوا في المعمودية فاستنارت بصائرهم وأصبحوا قادرين على أن يعاينوا ملكوت الله.

 لذلك الكنيسة فرضت عقوبة على الأم والأب إذا قصروا في تعميد الطفل ومات الطفل من غير عماد، لأنه إذا كان الطفل في حالة خطر، كان ينبغي أن الأب والأم يسرعا بتعميد الطفل على أن يدخل مع غير أمه إذا كانت لم توف أمه المدة المقررة لها لكي تدخل إلى الكنيسة، وهي أربعون يوماً إذا كان مولودها ذكراً وثمانون يوما إذا كان مولودها إنثى، إنما الطفل يمكن أن يعمد في حالة الإحساس بالخطر ولو كان ابن يوم واحد، فإذا قصرت الأم وقصر الأب في تعميد الطفل ومات بغير عماد، كانت الكنيسة تفرض على الوالدين عقاباً أو تأديباً كنسياً صوم لمدة سنة.

قصة المولود أعمى فيها إشارة واضحة بين الإنسان قبل العماد و الإنسان بعد أن يعمد وبعد أن يرد إليه بصره. لكن هناك زاوية أخرى، وهي أن الإنسان عموما محتاج إذا كان خاطئا أن يتوب لأن الخطيئة تعمى البصيرة، الحياة الخاطئة الفاسدة ترد الإنسان إلى حالة العمي، حتى لو كان قد استنار بالمعمودية وانفتحت عيناه، لأن الخطيئة من طبيعتها تعطى غشاوة على العينين الباطنيتين، الإنسان له عينان باطنیتان نسميها البصيرة غير الباصرة، فالإنسان الخاطيء في حالة الخطيئة يكون قلبه أعمى، لأن الخطيئة تصيبه بغشاوة على قلبه فتصير إدراكاته الروحية ضعيفة فاترة مظلمة، لايقدر معها أن یری الحق كاملاً. فيكون حكمه على الأمور حكم غير سليم، كالإنسان الذي على عينيه غشاوة فيرى الأشياء باهتة أو ضعيفة بحيث لايستطيع أن يميزها تماماً، أو يفصل فصلاً حاسماً في الأمور، لأن عينيه مظلمتان، وقد يكون هذا الإنسان في مركز مرموق ومتميز حصل على الشهادات العالية ويقود الآخرين وفي وضع المسئولية، ومع ذلك تغيب عنه أبسط الأمور التي لا تغيب عن طفل، حقا أن العينين الظاهريتان ترى، ولكن العين الباطنة والعين الداخلية أصابها إما حول أو عمى أو ظلمة، فمن هنا لا قدرة له على أن يرى.

فنحن محتاجين إلى التوبة وإلى أن نعترف بما في قلوبنا من ضعف وما اعترى العين الباطنية من ظلمة جعلت الرؤيا غير واضحة، فنحن نحتاج إلى مراجعة النفس، دعوا عنكم الغرور الروحي، الإنسان المغرور الذي يشعر أن هذا الكلام لاينطبق عليه بل على غيره، ويطلب الهداية للآخرين، وأما هو فليس في حاجة إلى هداية، لأنه يعلم ويعرف.

اليوم فرصة أن ندين فيها أنفسنا ونحكم على أنفسنا، وتقول في داخلك أنا الخاطيء وهذا الكلام لي، ولا تحول هذا الكلام إلى غيرك من الناس، احكم على نفسك، لك أن تدين نفسك، وأن تدينها بقسوة وبحق وبعدل ولاتشهد على نفسك شهادة زور، لا تداهن نفسك، لا تتملق ذاتك، لا تبرر ذاتك، لاتنتحل الغدر لذاتك، ضع في قلبك أنك أنت المدان، أنك أنت المخطىء، اطلب النور، اطلب المعرفة، اطلب التوبة الصادقة، ولا يمكن أن تكون توبة صادقة إلا إذا كان هناك إدراك حقيقي لمستواك الحقيقي، تكون قد امتحنت ذاتك وعرفت أنك مخطىء، في أعماق نفسك تقر بأنك مخطىء، وتنسحق بالتوبة وبالندم الحقيقي، وقبل أن تفكر في غيرك، فكر في نفسك ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، أو ماذا يعطى الإنسان فداءاً عن نفسه.

 هذا الكلام خصوصا للأتقياء منا أو الذين يرون في أنفسهم أنهم من زمرة الأتقياء، أو الذين يخدمون الآخرين، أو الذين دخلوا في مصاف الخدام بنوع أو بآخر وأيضا هذا الكلام موجه إلى كل أب وإلى كل أم، الأب الذي يشعر أن أولاده هم الذين يحتاجون إلى تقويم، إنما هو الذي يعلمهم وينصحهم، والأم أيضا التي تطلب الهداية لأطفالها، كل منا في حاجة إلى مراجعة لنفسه وإدانة لنفسه، وأن يذوب قلبه ندماً، وأن ينسحق من أعماقه وأن يخشى غضب الله عليه، وأن لايغتر بنفسه إذا كان یری ذاته مواظباً . الحضور إلى الكنيسة، أو أنه يصوم كغيره من الناس، ربما يرتفع قلبه إلى فوق ويحس أ أنه أعلى وأفضل من غيره، على الإنسان أن يدين نفسه ولا ينتحل الأعذار لنفسه، إنما يلوم نفسه ويقرع نفسه، ويحتاج إلى خلوة أن يغلق بابه، ويغلق أبواب الحواس ليستبطن نفسه، ويدخل إلى باطن نفسه، ليعرف ما في نفسه، وحقيقة ما في داخله بلا غرور، وبلا إدعاء، إنما يرى الأوساخ التي هو فيها، ويبدأ بالكنس والتنظيف والغسيل.

أليس من الحماقة أن نهتم بنظافة منازلنا ومكاتبنا من التراب العالق بها، ونترك نفوسنا عالقة بها أضرار الخطيئة. ربما أعطيت لي فرصة أحسن أشكر الله عليها، أشكر الله لأنه أعطاني يوماً جديداً، لكن هذا الشكر يقتضيني أن أستفيد من هذا اليوم الجديد، بتوبة جديدة عن خطاياي، وحينئذ يكون فعلا قد استفدت بما يحييني وما يبني حياتي الروحية.

يا أولادنا أكلم كل واحد منكم، أكلم كل قلب، نريد أن نضع الغرور جانباً ويشعر كل واحد منا بأنه خاطىء وأنه محتاج أن يتوب، توجد خطايا تعرفها، وخطايا لا تعرفها، خطايا خفية وخطايا ظاهرة، خطايا صنعتها بإرادة، وخطايا صنعتها بغير إرادة، ولا يكفي أن تقول أنني خاطيء بطريقة عامة، إنما لابد من الشعور بالخطيئة من الداخل، تكون حقيقة شاعر بندم، وأنك محتاج إلى أن تستنير عيناك، وإلا إذا تركت نفسك بهذه الحالة فإنه تتراكم عليك الأوساخ، ويزداد القلب عمى، ويفقد الإنسان أبسط البصائر والقدرة على التمييز. هي فرصتنا في هذه الأيام المباركة أننا نراجع أنفسنا، ونطلب الخلاص ونطلب التوبة ونطلب الرجوع إلى الله، ونستعد كعروس، الكنيسة كلها ينبغي أن تكون كعروس مهيأة لرجلها، مهيأة للمسيح في مجيئه الثاني.

نعمة ربنا يسوع المسيح تشملنا جميعا له الإكرام والمجد إلى الأبد آمين.

زر الذهاب إلى الأعلى