القديس أرسانيوس

معلم أولاد الملوك

الامبراطور ثينودوسيوس يعين أرسانيوس معلما لولديه.

 كان أرسانيوس الذي جرى اسمه على لسان الأنبا ثيئوفيلس وهو على فراش الموت شريفاً من أشراف الرومان. وكان متعمقاً في العلوم والفلسفة. وقد ذاع صيته حتى بلغ أذني الامبراطور ثيئودسيوس الكبير فعهد إليه بأمر تربية أبنيه أركاديوس وهونوريوس. فكان هذا الاختيار سبباً في أن يعيش أرسانيوس فى البلاط الامبراطورى زمناً طويلاً حتى أطلق عليه لقب “معلم أولاد الملوك”.

السبب في التجاء أرسانيوس إلى صحراء مصر

وقد لاحظ أرسانيوس على الأمير أركاديوس شيئاً من الاهمال في المذاكرة والدراسة فلم يتردد فى أن يعاقبه على هذا الاهمال. وقد أحس في داخله بأن الأمير يضمر له الانتقام عندما يقبض على مقاليد الحكم فقرر أن يترك البلاط الامبراطوري وأخذ يفكر فى الوسيلة لتنفيذ قراره. وبعد تأمل طويل اهتدى إلى أن خير وسيلة للخروج من هذا المأزق هي الالتجاء إلى الصحارى المصرية وقضاء ما بقى له من العمر بين نساكها الآمنين. هكذا فكر وهكذا فعل. ومع أنه لجأ إلى الصحراء طلبا للسلامة لينجو من بطش أركاديوس إلا أنه حين عاش فيها استهوته قداسة سكانها فجاهد جهادهم وسعي سعيهم .

ولقد عاش أرسانيوس فى برية الأنبا مكاري الكبير حيث تدرب على النسك والصمت. وقد سأله أحد الاخوة ذات يوم عن الباعث على لزومه الصمت فقال له : “لقد تكلمت كثيراً، وكثيراً ما ندمت على الكلام، وهذا ما جعلني أوثر الصمت على الكلام”.

 استماع أرسانيوس إلى الراهب الفلاح

 وقد تجمل أرسانيوس بفضيلة الاتضاع وهو راهب بسيط، وظل متجملاً بها حتى بعد أن أسندت إليه رياسة أحد الأديرة. وحدث أن رأه أحد أصدقائه الشرفاء ذات يوم جالسًا إلى جانب راهب فلاح ساذج يسأله بعض الأسئلة عن الحياة الروحية. فأثار عمله دهشة صديقه الشريف الذي سأله : “أ أنت أرسانيوس معلم أولاد الملوك وأستاذ العلوم والفلسفة : فكيف تتخذ مثل هذا الجاهل لك معلماً ؟!” أجابه أرسانيوس قائلاً : “اني تضلعت في حكمة اليونان وعلوم الرومان ، ولكن الحكمة الروحية التي تزين هذا الراهب فإني أجهلها وفى احتياج إلى تعلمها”.

اعتباره بغيره 

 وكان أرسانيوس – بحكم الحياة التي قضاها في البلاط الامبراطورى – قد اعتاد الأكل الشهي . فلما جاء إلى الصحراء درب نفسه على أن يأكل الطعام البسيط . على أنه فى بادئ الأمر كان ينتقى ما يأكله من طبقه – فكان يأكل الفولة البيضاء الصحيحة ويترك الفولة الجافة السوداء ولاحظ رئيس الدير ما يعمله أرسانيوس، وخجل من أن يؤنبه مباشرة فقال لاحد الاخوة الشباب : “أجلس غداً ساعة الأكل إلى جانب أرسانيوس وانتق الفولة البيضاء لتأكلها ثم تحمل منى بعد ذلك ما سأفعله بك”. أجابه الراهب الشاب : “أفعل ما بدا لك فأنا تحت أمرك”. وفى اليوم التالي مر رئيس الدير بالاخوة وهم يأكلون، ووقف خلف الراهب الذي اتفق معه على الجلوس إلى جانب أرسانيوس، فوجده ينتقى الفول حسب الاتفاق. وعندها لطمه على خده قائلاً : “على الراهب أن يأكل كل ما في طبقه من غير انتقاء”. وفي الحال وضع أرسانيوس يده على خده قائلاً : “هذا على خدك يا أرسانيوس” ثم التفت إلى الاخوة وقال : “أرسانيوس معلم أولاد الملوك لم يعرف كيف يأكل الفول مع الرهبان المصريين” ومذاك ازداد فهماً ونعمة.

تواضعه الجم

 وكان أرسانيوس يداوم على الصلاة والعمل اليدوى متبعا في ذلك الخطة التي اختطها الأنبا أنطوني أبو الرهبان. وحدث ذات يوم أن جاءه الشرير ليجربه بعنف . ولما كان أرسانيوس قد أدرك أن الصلاة مع التواضع هما السلاح الذى به يغلب تجارب العدو فقد رفع صوته بالصلاة طالبا إلى الآب السماوى أن يعينه . ثم صرخ قائلاً : “ياربى اننى لم أفعل للآن شيئاً من الخير ، ولكن أعطنى بنعمتك أن أبدأ اليوم في عمل الخير”. وبهذه الكلمات سحق قوة عدو الخير.

 عناية قس شيهيت به

 ومرض أرسانيوس ذات يوم فحمله قس شيهيت إلى الكنيسة وأرقده على فراش ووضع تحت رأسه وسادة من جلد الغنم . وحدث أن دخل أحد الاخوة هذا البيت المقدس ورأى أرسانيوس راقـداً ، فخرج يقول : “إن أرسانيوس راقد على فراش”. وعند ذاك أخذه قس شيهيت على ناحية وقال له : “أرجو منك أن تقول لى ماذا كنت تعمل قبل مجيئك إلى هذا الدير؟” . أجابه : “كنت أرعى الغنم”. فسأله القس : “وهل كانت حياتك مريحة ؟” اجابه قائلاً : ” لا – بل كانت حياة كلها متاعب”. فقال له القس : “أأنت الآن مستريح ؟” أجابه : “نعم – لقد وجدت الراحة في هذا المكان المقدس”. واسترسل قس شيهيت يسأل : “وماذا كنت تلبس ؟ أجابه : « كنت البس جلود غنمي”. وهنا قال له القس : “لقد كان أرسانيوس يعيش في قصر الامبراطور، وكان يلبس البز والارجوان وينام على فراش وثير ويأكل من أطايب الملك. ولكنه ترك هذا كله وجاء ليعيش في هذه الصحراء القاحلة فأنت جئت إلى برية شيهيت لتجد الراحة من متاعب عملك ، أما هو فقد ترك بذخ القصور وراحتها ليشقى هنا ». فضرب الراهب الراعي مطانية قائلاً : اخطات يا أبي فأصفح لي.

معاملته للناس

وفى أحد الأيام جاء إلى شيهيت زائر، فأخذه واحد من الاخوة وادخله قلاية أرسانيوس لعله يسمع منه كلمة يتعظ بها. غير أن أرسانيوس صلى ثم جلس صامتا. فلما لم يجد دالة عنده خرج مع الأخ الراهب الذي صحبه بعد ذلك إلى قلاية موسى الأسود، ورحب موسى بالراهب وبضيفه وجلس يتحدث إليهما. ففرح الزائر بهذا الحديث وطالت زيارته. فلما خرج أخيرا قال له الراهب الذى صحبه : “ها قد أريتك الرومي والمصرى فأيهما ارضاك ؟” أجابه : ” المصرى” . فلما سمع أحد الآباء بما حدث أخذ يصلى قائلاً : ياربي إني متحير من أمرى لأنى أرى بعض النساك يهربون من الناس سعيا إلى الخلوة بك والبعض الآخر يرحبون بالناس مع أنهم هم أيضاً يسعون إلى الخلوة بك. وفى تلك الليلة رأى هذا الأب حلماً : رأى سفينتين عظيمتين تمخران عباب اليم. ورأى إحداهما تسير في هدوء وهي تحمل أرسانيوس ومعه روح الله، ورأى ثانيتهما تحمل موسى الأسود يحيط به الملائكة وهم يطعمونه شهدا. فاتعظ الآب بهذه الرؤيا إذ أدرك أن كليهما مقبول لدى الله

وصيته ثم نياحته

ولقد قضى أرسانيوس في رومية أربعين سنة ، كما قضى أربعين سنة أخرى فى وادى النطرون . فلما أغارت قبائل البربر على هذا الوادى رحل عنه إلى أحد الأديرة المتاخمة للاسكندرية حيث قضى سنين عاد بعدها إلى الصحراء وتوغل فيها وقضى بها ما يقرب من اثنتي عشرة سنة . وفي غضون هذه السنين الطويلة خضع خضوعاً تاماً للقوانين الرهبانية . ولقد فاضت عليه النعمة الالهية حتى زادته جمالاً على جمال .

ولما حضرته الوفاة دعا إليه تلميذيه المقربين إليه وأوصاهما قائلاً : “لا تبكونى ولا تقيموا لى قبراً يعرفه الناس، بل ادفنوني في مكان مجهول ويكفيني أن تذكروني في القداسات الالهية. ثم تنيح بسلام[1].

 حكمة الآباء المسيحيين المصريين وفطنتهم ، ترجمه إلى الانجليزية واليس بودج جـ 1 ص 152 فـ 502 – قارن هذه الوصية بوصية الأنبا أنطوني لتلميذه ساعة نياحته ص 106.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى