الشركة الوطيدة بين الله والنفس

‏العظة السادسة والأربعون من العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

[عن الفرق بين كلمة الله وكلمة العالم، وبين أولاد الله وأولاد هذا العالم]

 [أ] بُعد الشقة بين أولاد الله وأولاد العالم

1 – إن كلمة الله هو الله، وكلمة العالم هي العالم ، وشاسع هو الفارق والبون بين كلمة الله وكلمة العالم، وبين أولاد الله وأولاد العالم. فكل ذُرية تُشابه والديها، فإن كانت ذُرية الروح القدس تسلم ذاتها بإرادتها لكلمة العالم ولأمور الأرض ولمجد هذا الدهر فإنها تموت وتهلك ، لأنها لا تستطيع أن تجد راحة الحياة الحقيقية ، إذ إن راحتها هي هناك حيث وُلدت . فإن المرتبك بهموم الحياة والمربوط بالرُّبُط الأرضية يختنق – كما يقول الرب[1] – ويصير بلا ثمر من جهة كلمة الله . بالمثل أيضا الممسوك برغبة جسدية ، أعني إنسان العالم ، إذا ما رام أن يسمع كلمة الله فإنه يختنق ويصبح مثل إنسان لا عقل له ، لأن الذين اعتادوا غوايات الشر، متى سمعوا عن الله يضيقون ذرعاً كما بحديث کریه تنبو عنه عقولهم.

۲ – فإن بولس يقول أيضاً: « الإنسان الطبيعي لا يقبل الأمور التي لروح الله لأنها عنده جهالة » ( 1کو 2: 14 ) ، والنبي يقول : « صارت لهم كلمه الله مثل قيء » ( إش ۱۳:۲۸ ) )[2]. فها أنت ترى أنه لا يمكن الحياة بسبيل آخر إلا بمقتضى الكلمة التي قد وُلد منها كل واحد . ولكن يلزم فهم هذا بطريقة أخرى: إن كان الإنسان الجسداني يُسلم ذاته ليتغير ، فإنه يموت أولاً من هناك ويصير بلا ثمر من جهة حياته السالفة في الشر. كما لو أن أحدا يُمسك بمرض أو حُمی ، فحتى لو كان جسده مطروحاً على الفراش ، غير قادر على القيام بأي شيء من أعمال الأرض، فإن عقله ما كان ليهدأ بل ينشغل بما يصنعه (حیال مرضه) ويهتم به ، فيطلب الطبيب ويرسل إليه أحباءه ؛ بنفس الطريقة أيضا النفس التي قد صارت – منذ مخالفة الوصية – في ضعف الأهواء وباتت مُنحلة القوي : إن هي تقدمت إلى الرب وآمنت به فإنها تنال معونته ؛ وإن هي جحدت حياتها السابقة الشريرة ، فحتی لو كانت مضطجعة في سالف ضعفها وغير قادرة على القيام بأعمال الحياة بالحق ، فإن لها ، رغم ذلك ، القدرة أن تهتم جدَّ الاهتمام بالحياة وتتضرع إلى الرب وتطلب الطبيب الحقيقي. 

[ب] عمق الشركة بين الله والنفس

٣- وليس كما يزعم قوم قد انقادوا بتعاليم فاسدة أن “الإنسان قد مات مرة وإلى الأبد ، ولا يستطيع البتة أن يعمل صلاحاً”. فإن الطفل وإن كان لا يقوى على فعل شيء أو يقدر أن يذهب إلى أبيه على قدميه، فرغم هذا فإنه يتمرغ ويصرخ ويبكي طالباً أمه ، وفي هذا تتحنَّن[3] الأم وتفرح لأن صغيرها يطلبها في وجع وصراخ. ومع أن الطفل لا يستطيع أن يأتي إليها ، فإن الأم لأجل إلحاحه في الطلب تذهب بنفسها إليه – مأسورۂ بحبها لطفلها – وترفعه وتحتضنه وتطعمه في عطف[4] شديد ؛ هذا أيضا يصنعه الله محب البشر للنفس التي تتقدم نحوه وتتوق إليه . بل إنه بالأحرى جداً – مدفوعاً بحبه المتأصل ولطفه الخاص – يلتصق بفكرها ويصير معها « رُوحاً واحداً » كقول الرسول ( 1 کو 17:6 ) . فحين تلتصق النفس بالرب ، وحين يرحمها الرب ويحبها ويأتي إليها ويلتصق بها فيدوم فكرها بلا انقطاع في نعمة الرب ، حينئذ تغدو النفس والرب روحاً واحداً ومزيجاً واحداً وفكراً واحداً. وفيما يكون جسدها مُلقى في الأرض ، تعيش بفكرها بكليته وتمامه في أورشليم السمائية ، صاعدة « إلى السماء الثالثة »[5] ، وملتصقة بالرب تخدمه هناك.

4 – وهو كذلك ، فيما يكون جالساً في عرش العظمة في الأعالي في المدينة السماوية ، يكون بكليته عندها بل في جسدها ؛ لأنه بينما قد وضع صورها فوق ، في أورشليم ، مدينة القديسين السماوية ، وضع في جسدها صُورته الخاصة – صورة نور لاهوته غير الموصوف ! فهو يخدُمها في مدينة جسدها ، وهي تخدمه في المدينة السماوية ! هي ورثته في السماوات ، وهو ورثها على الأرض ! فإن الرب يصبح ميراث النفس ، والنفس ميراث الرب ! لأنه إن كان فکر و ذهن الخطأة المُتخبطين في الظلمة يمكن أن يكون هكذا نائياً عن أجسادهم ومرتحلاً بعيداً عنهم ، وله القدرة أن يمضي في لحظة من الزمان إلى أوطان قصية جداً، ومراراً كثيرة فيما يكون الجسد مُلقى على الأرض ، يكون الفكر في وطن آخر بالقرب من حبيبه أو حبيبته ويرى ذاته وكأنه عائش هناك – أقول إن كانت نفس الخاطئ هي هكذا خفيفة وذات أجنحة قوية حتى إنَّ ذهنها لا تمتنع عليه المواضع النائية ، فكم بالأحرى جداً النفس التي رُفع عنها برقع الظلمة بقدرة الروح القدس ، واستنيرت أعينها الروحية بالنور السماوي، وعُتقت بالتمام من « أهواء الهوان»[6] ، وجُعلت نقية بالنعمة ، تخدم بكليتها الرب بروحها في السموات، وتخدمه بكليتها بجسدها. ويبلغ بها امتداد فکرها مبلغاً تكون معه في كل مكان ، وتخدم المسيح أينما شاءت ومتى شاءت[7].

5 – فإن الرسول يقول : « حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ، ما هو العرض والطول والعلو والعمق، وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة ، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله » ( أف ۳ : ۱۸ ، ۱۹ ) . فتأمل مليا في الأسرار التي لا يُنطق بها – أسرار النفس التي ينزع عنها الرب الظلمة المُطبقة عليها ويُظهرها ويُستعلن لها ، كيف يوسع أفكار ذهنها ويمتد بها إلى عُروض وأطوال وأعماق وعلوات كل خليقة تُرى ولا تُری . فالنفس حقاً هي صنيع إلهي عظيم وعجيب ، لأن الله في خلقته لها صنعها هكذا ، إذ لم يغرس شراً في طبيعتها بل على صورة فضائل الروح القدس صنعها [8] ، فوضع لها نوامیس فضائل : إفراراً ، ومعرفة ، وفطنة ، وإيماناً، ومحبة ، وبقية الفضائل ، بحسب صورة الروح القدس.

6- والرب حى الآن أيضا لا ينفك يوجد لها ويُظهر لها في المعرفة والفطنة والمحبة والإيمان ، فوضع فيها ذهناً وأفكاراً وإرادة ، وملك عليها عقلاً مدبراً وخفَّة كثيرة من نوع جدید ، فجعلها سهلة التنقل ، مُجنحة جيداً، لا ينال منها العبت ، وأنعم عليها بأن تأتي وتذهب في لحظة وتخدمه بأفكارها هناك حيث يشاء الروح القدس . وقصارى القول إنه خلقها هكذا حتی تغدو عروساً وشريكة له ، كي يمتزج هو بها ، وتصير هي معه « روحاً واحداً» كما يقول : « من التصق بالرب فهو روح واحد » ( 1 کو 6 : 17) ، له المجد إلى دهور الأهور ، آمین . 


  1.  انظر : مت 22:13 ؛ مر 4 :7 ، لو 8: 14 ، حيث استُعمل نفس هذا الفعل (يخنق) في مثل الزارع في الأناجيل الثلاثة المتناظرة.
  2. هكذا وردت في ترجمة ثيئودوتیون للعهد القديم.
  3.  الفعل = يشفق ، يتحنن ، ورد اثنتي عشرة مرة في العهد الجديد ، جميعها موقوفة على الله فقط ( انظر : مت 9: 36 ؛ 14:14 ؛ 15: 32؛ 18 :27 ؛ 34:20 ؛ مر1 :41 ، 6 : 34 ؛ 8 : 2 ؛ 9 : 22 ؛ لو 7 : 13 ؛ 10 : 33 ؛ 15: 20) . 
  4. هذه الكلمة تصف على وجه الخصوص المحبة والعاطفة التي بين الآباء والأبناء ، وقد وردت مرتين في العهد الجديد مسبوقة بحرف α  ، الذي يحرمها معناها ، وترجمت ” بلا حنو ( انظر : رو  31:1 ، 2تي 3:3 )
  5. ۲ کو 2:12 .
  6.  رو 26:1.
  7.  النص اليوناني يحتمل أيضا : ” أينما شاء ( المسيح ) ومتى شاء “.
  8.  إذ قد خلق الله النفس البشرية على صورته ( انظر : تك 26:1).

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى