من مقالات الأنبا غريغوريوس أسقف عام البحث العلمي

الشر، أسبابه ونتائجه

 

لماذا يخاف الإنسان:

هنا سؤال. لماذا يخاف الإنسان؟ ما سر هذا التعب؟ لماذا يخاف الإنسان؟! الإجابة السريعة أن الإنسان يخشى شراً، يخشى أن يقع به شر، ولذلك يخاف. والشر الذي يقع بالإنسان قد يكون من خارج نفسه، وقد يكون أيضا من داخل نفسه. على كل الأحوال هو خوف من شر. ولكن مما وممن جاء هذا الشر؟ ما سر الشر في الوجود؟ سواء كان هذا الشر ألماً يقع على الإنسان يصيبه جسمياً، وطبيعياً، ومادياً، أو روحياً، أو نفسيا.

ما هو الشر

يوجد مايسمى بالشر، ولكن لو بحثنا في الكون لما وجدنا شيئاً معيناً واضحاً أمامنا له اسم الشر. جميع الأشياء لها أسماء، فحينما تقول هذا كرسي وهذه منضده، هذا كوب.. هنا شيء له كيان وجودي، لكن هل الشر له كيان وجودى؟ هل له وجود إيجابي؟ هل له وجود مشخص واضح أمام الإنسان؟ بالطبع كلا … إنما الشر في الواقع، شيء سلبي، ليس له وجود إيجابي. الشر هو عدم الخير. الله لم يخلق شيئا اسمه شر. إنما الشر هو عدم الخير. الله خلق موجودات، وكل موجود له غاية، وله هدف، وله خدمة وله وظيفة يؤديها في هذا الوجود. وطالما أن الكائن سائر في طريقه إلى غايته فهو في طريق الخير، لأنه بهذا يحقق وجوده ويحقق الغرض من وجوده، ويحقق الغاية التي من أجلها خلقه الله. فإذا إنحرف هذا الكائن عن هذا الهدف، سقط في الخطأ. هذا بالضبط كمن يصوب حجراً أو كرة نحو هدف، فإذا أصابت الكرة الهدف، فالكل يعلم ويقرر أن الكرة قد دخلت في مكانها الطبيعي. ويصفق الناس ويهللون لأنه لم يحدث خطأ في بلوغ الهدف. أما إذا حدث إنحراف يميناً أو شمالاً عن بلوغ الهدف، فيقولون لقد أخطأ فلان الهدف.

هذا هو الشر، إنه إنعدام الخير… إنه إنحراف عن بلوغ الهدف والوصول إلى الغاية. لأن كل ما خلقه الله، قد خلقه من أجل غاية، حتى العشب، له غاية من وجوده. نعم لا يوجد شيء في عالم النبات أو في عالم الحيوان أو في الأفلاك أو الكواكب أو النجوم إلا والخالق له قصد في خلقه… لا يوجد شيء مهما بدا لنا تافهاً أو صغير الحجم أو القيمة إلا وله هدف صالح من وجوده، ويخدم غرضاً في الكون.. يخدم غاية من أجلها خلق الله هذا الكائن أو هذا الشيء… فإذا إنحرف هذا الكائن عن غايته الوجودية صار إلى الخطأ، وصار له ضرر … والضرر معناه أن هناك إنحرافاً قد حدث سواء لسبب داخل الكائن، أو لسبب من خارجه.

الفرق بين الخطأ والخطيئة

الخطأ والخطيئة من اشتقاق لغوى واحد. إلا أن الخطأ عادة يكون عن غير قصد وعن غير عمد، ، بينما أن الخطيئة تكون عن عمد وعن علم وعن إرادة وعن رغبة باطنية في . الخطأ… ولذلك فإن الخطأ أقل خطراً من الخطيئة لأنه عن غير عمد وعن غير قصد وقد يكون عن جهل، وقد يكون عن عجز، عجز عن بلوغ الهدف. أما الخطيئة فهي عادة خطأ مقصود، خطأ مرغوب فيه، خطأ بشهوة من الإنسان في تحقيق هذا الخطأ، ومن هنا كانت مسئولية الإنسان في الخطيئة أكبر من مسئوليته في الخطأ.

تقييم الكائنات من حيث الخطأ والخطيئة

1 ـ النبات والحيوان :

بالنسبة للنباتات والحيوانات، نظرا لأنها ليست لها نية ولا قصد في الخطأ. فيكون الخطأ من خارجها. فلو هجم كلب على إنسان وعضه، لكان فعل العض شراً ولكن ليس من الكلب.. لأن الكلب له وظيفة في الكون وفي الوجود. فإذا عض إنساناً، فليس فعل العض خطأ من الكلب، لأن كل كلب في مثل هذا الظرف يتصرف نفس التصرف، إذ أنه يتحرك في تصرفه لغاية في الطبيعة، وهو مسوق بغريزته لتحقيق هذه الغاية خارج نفسه. ولذلك لا يقال في الحيوان ولا يقال في النبات أنه أخطأ أو ارتكب خطيئة.. فإذا أصاب النبات فساد أو احترق الزرع، فقد يكون مرد ذلك الفساد أو الحريق إلى المطر أو إلى تقصير من جانب الإنسان في إعطاء النبات حاجته من الماء اللازم، وليس السبب يرجع إلى النبات ذاته. هكذا في الحيوان، نحن لا نستطيع أن نقول أن هذا الحيوان أخطأ أو هذا الحيوان أصاب. ولكن ما يقع من ضرر من الحيوان، لا يكون مرده إلى الحيوان ذاته وإنما يكون مصدره کائن آخر له إرادة تدخلت، وحولت تصرف الحيوان إلى تصرف ضار.

٢ – الإنسان :

أما الإنسان فشيء آخر، إنه يختلف عن النبات، ويختلف عن الحيوان، ويختلف عن ظواهر الطبيعة من رياح وأمطار وحركات النجوم وما إليها.

الإنسان كائن يختلف عن كل هذه الكائنات في أن له إرادة، وله حرية، ومادام الإنسان حراً، فالحرية معناها قدرة الإنسان على أن يتصرف بإختياره هو تصرفاً يرضاه، ذات اليمين أو ذات اليسار. وهذا يعني، أن تصرف الإنسان يكون عن إرادة وعن رغبة وعن إحساس بالحرية. ومادام حراً فالحرية معناها القدرة على إختيار التصرف. أي أن قدرة الإنسان على الإختيار، هي التي تفرق بين إنسان وآخر، وتجعل هذا التصرف صواباً أو خطأ، ومن هنا يمكن الحكم على الإنسان بأنه أصاب أو بأنه أخطأ لأنه يملك أن يتصرف على كلا الوجهين.

أما الحيوان الأعجم فلا قدرة له اطلاقا على أن يتصرف على كلا الوجهين. ولذلك فإنه لا خطأ في عالم الحيوان الأعجم.. فكل أسد يتصرف تصرف الأسد الآخر إذا كان من نفس فصيلته.. وكل كلب، وكل حصان، وكل حمامة، وكل يمامة، وكل عصفور، وكل دودة، كل كائن من هذه الكائنات يتصرف تصرف زميله الآخر إذا كان من نفس فصيلته، ولا فرق بينها جميعا في التصرف، إطلاقاً… ولذلك لا يمكن الحكم على دودة القطن إذا أكلت القطن بأنها خيرة أو شريرة، لأن كل دودة في مثل هذه الظروف تتصرف نفس التصرف الذي تتصرفه أي دودة أخرى إذا وجدت في نفس الظروف.

إنما الإنسان وحده هو الكائن الأوحد بين هذه الكائنات الأرضية الذي يحكم الناس على تصرفه بأنه صواب أو خطأ نظراً لأنه يملك الحرية، ويملك أن يتصرف، ويملك أن يختار التصرف.

مصدر الشر :

لذلك كان الشر مرده إلى إرادة الإنسان.. وهنا نريد أن نصحح خطأ أو إتهاما يقع فيه الناس عادة… فمثلا إنسان يقول إن الشيطان أضلني. الشيطان دفعني، وقد يقول أحيانا ربنا (إبتلاني). وطبعاً أن يقول أحد الناس (ربنا إبتلاني) هذا تجديف، وكفر، وإهانة الله تعالى، لأن الله لا يمكن أن يكون مصدراً للشر إطلاقاً، ولا يمكن أن يكون الله علة أولى للشر بتاتاً.. إنما الشر يأتي من علة أخرى غير الله، لأن الله لايرضى بالشر، ولايريد الشر، إنما الشر يأتي من جانب آخر.. غير جانب الله.

لماذا يسمح الله بالشر؟

إن دور الله في الشر هو دور من يأذن أو يسمح بالشر، لكنه لا يريد الشر ولا يرضى به.. ولماذا يسمح بالشر؟؟ يسمح بالشر لأنه سبق فأعطى للإنسان حرية. وهو لايريد أن يقيد حرية الإنسان، وبخاصة لأنه جعل لتصرف الإنسان جزاءا بالثواب أو العقاب. فهناك حساب، وهناك ثواب، وهناك عقاب. فما لم يعط الله الحرية للإنسان فلا يكون مقبولا عقلا أن الله يحاسب الإنسان.. فلابد إذن أن يتركه حراً. فإذا حدث شر في الدنيا، فلا نقول أن الله أراد الشر. هذا مستحيل! لكن لماذا يسمح الله بالشر؟؟ ولماذا يسمح بالظلم؟؟ ولماذا يسمح بالفساد؟؟ ولماذا يسمح بالكفر والإلحاد والإباحية، وكل أنواع الشر التي يتحدث العالم كله عنها، بينما هي كلها في مملكة الله، والله في قدرته أن يمنع الشر فلماذا لا يمنعه؟!.

نقول إجابة على ذلك: لأن الله سبق فأعطى الحرية منحة للإنسان، وجعل في مقابل هذه الحرية، مسئولية، وعلى هذه المسئولية جزاء وحساب بالثواب أو بالعقاب. لذلك لايشاء الله أن يتدخل بالقهر والضغط والإلزام والجبر لتسيير الكون.. صحيح أن الله يتدخل أحياناً ليوقف شراً ولكن تدخله محدود بقانون معين.. الله لايتدخل باستمرار، لكنه في بعض الأحوال يتدخل.

ولنضرب لذلك مثلا للتقريب فقط، فالحكم في المباراة بين شخصين في ألعاب المصارعة… يترك المتصارعين يلعبان إلى أن يظهر المنتصر بينهما. إنه لا يتدخل في حرية اللاعبين لكنه يتدخل في حدود ضيقة جدا، حينما يجد أحدهما قد توحش أكثر من اللازم لدرجة الإنقضاض على غريمه. في هذه الحالة فقط يتدخل، لكن من دون أن يمنع تدخله حرية اللاعبين.

خذ مثلاً آخر ولو أنه بالقياس مع الفارق، لأن الله تعالى لا ينبغي أن نشبهه بتشابيه بشرية… عسكري المرور الواقف على منصة عالية لينظم حركة المرور. إنه يعطى الإشارة للسيارات، فتنطلق في إتجاه معين، ويوقف في الآن نفسه إتجاه السيارات الأخرى السائرة في عرض هذا الاتجاه. ومع ذلك فهو لا يتدخل في حرية راكبي السيارات السائرة في إتجاه معين، فلا يجبر هذه السيارة أو تلك على الذهاب إلى مكان لا يريده سائقها… كلا إنه لا يتدخل في توجيه السيارات إلى أماكن معينة، إنما تدخله قاصر على تفادي التصادم العام دون التدخل في حرية راكب السيارة في الذهاب إلى مكان معين دون آخر. هذا مجرد مثل نضربه.

إن الله في هذا الكون هو سيد الكون. وهو لاينام وكما قال سيدنا له المجد، «إن أبى حتى الآن يعمل وأنا أيضاً أعمل» (يو5: 17) فهو حاكم الكون، ولايحدث شيء في الكون بدون إذنه. وقد قال، «أليس عصفوران يباعان بمليم، ومع ذلك لا يسقط واحد منهما على الأرض بغير مشيئة أبيكم الذي في السّماوات» (مت10: 29) أي لا يسقط على الأرض من دون إذنه وسماحه. ولكن هناك فرق بين «إذنه» وبين «إرادته».

حينما يظلم إنسان أخاه، فإن الله لا يرضى بالظلم، ولا يريد الظلم، لكن الظلم مع ذلك يحدث ويكون الله غير راضي عن هذا الظلم. لأنه يقول «لاتظلموا» (زك7: 10، لو3: 14). إن في مقدور الله أن يمنع الظلم، لكنه يسمح به لأنه أعطى الإنسان حرية، ولأنه جعل ثمن الحرية، المسئولية والحساب بالثواب أو بالعقاب.

إذن هذا الكائن (الإنسان) حر، ولأنه حر، فهو الكائن الوحيد بين الكائنات الأرضية الذي يمكنه أن يخطىء ويمكنه أن يصيب، وهذه ميزة وشرف للإنسان إنه يمكنه أن يخطىء، ويمكنه أن يصيب، كما قال بعض الفلاسفة، الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يستطيع أن يخطىء، إنما النملة أو النحلة أو اليمامة أو العصفور أو الضبع أو الذئب لا يقدر الواحد منها أن يخطىء، لأنه تحكمه الغريزة، وليس هناك في هذا الموضوع فرق بين ذئب وذئب، لأن خصائص الذئب معروفة وهي قاسم مشترك بين جميع الذئاب.. فلا خطأ في عالم الحيوان الأعجم، وإذا حدث ما نسميه خطأ فهو إسقاط لما في نفس الإنسان على الحيوان الأعجم، أو هو بفعل عامل آخر خارج عن إرادة الحيوان يتدخل في تصرف الحيوان فيجعل في تصرفه ضرراً كما قلنا. فالكلب مثلا حينما يصيب أحدا بضرر، فإن الخطأ ليس من الكلب، وإنما هناك أسباب أخرى قد تكون من جانب الإنسان، وقد تكون بتدخل عوامل أخرى تجعل هذا الكائن يتصرف تصرفاً يعتبر ضاراً، لكن من دون أن تكون هناك نية شر في هذا الحيوان الأعجم.

دور الشيطان فيما يرتكب الإنسان من خطأ أو خطيئة :

إذن الشر في الإنسان مرجعه إلى حرية الإنسان. وقد قلنا إننا نقع في خطأ جسيم. وفي خطيئة عظيمة حينما ننسب إلى الله أنه مصدر الشر في الوجود. والخطأ الثاني الذي نقع فيه أيضاً هو أننا نظلم الشيطان، حينما ترجع الخطأ إلى الشيطان دائماً، فنقول “إنّ الشيطان أغواني” أو “إبليس إبتلاني”.. وهي مفاهيم عامة لدى الجميع تقريباً. ولماذا؟؟ ما ذنب الشيطان؟؟ ليس كل نوع من الخطأ أبدأ سببه الشيطان، فإذا ما رجعنا مثلا إلى خطيئة أبينا آدم وأمنا حواء، لانجد الشيطان قد أجبر حواء بالقوة أو قهرها على أن تأكل من الثمرة المنهي عنها؟؟ لم يحدث هذا.. إن ماحدث هو أن حواء نظرت إلى الشجرة فرأتها طيبة للمأكل وشهية لعينيها وأن الشجرة منية للعقل فأخذت من ثمرها وأكلت ثم أعطت رجلها أيضاً معها فأكل (تك6:3) وما كان دور الشيطان سوى دور التفاهم، كأنه صديق يحاول أن يتفاهم مع الإنسان، ولكن الإنسان في إمكانه أن يقبل المشورة وفي إمكانه أن يرفضها.. إنما الفاعل هو الإنسان وليس الشيطان.. والأمر تماماً كما يكون لشخص صديق يمشى معه، هذا الصديق يشير عليه بمشورة، لكن الإنسان هو الذي يختار أصدقاءه، ثم أنه يستطيع أن يرفض المشورة من ذلك الصديق. ولذلك أوصانا الكتاب المقدس بأن نتجنب المعاشرات الرديئة، «لاتضلوا، فإن المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة» (1کو15: 33) فالشيطان مثل أي كائن آخر، وكأى صديق آخر، يحاول أن يتفاهم مع الإنسان. يحاول أن يجمل له الطريق الشرير، ويقنعه به، لكن الشيطان لا يقهر الإنسان ولا يجبره على أمر أو يلزمه به. فالإنسان هو المسؤول أولاً وأخيراً.

لماذا خلق الله الشر «الشيطان»؟

– ومن أين جاء الشر للشيطان؟؟ هل الله خلقه شريراً؟؟ لم يحدث هذا.. إن الشيطان في البدء كان ملاكاً بل رئيس ملائكة فهو من عالم الملائكة.. إذن الله خلقه بقصد حسن، خلقه ملاكاً صالحاً. إنما هو ككائن حر – والحر دائماً له القدرة على أن يختار لنفسه – أن ينحرف عن الغاية من وجوده، وهذا الإنحراف هو الذي أوقعه فيما يعتبر إنه شر. إذن حتى الشيطان الذي نقول عنه دائماً إنه أصل لكل شر، لم يكن الشر الذي فيه من الله، إنما الشر فيه هو نوع من الإنحراف من جانبه عن الهدف من وجوده.

الإنسان والمسئولية :

الإنسان منا لا يختلف كثيراً عن الشيطان، في أنه هو الذي ينحرف وهو الذي يختار الشر لنفسه. وبناء عليه يكون هو المسئول عن أفعاله. لكن ما يحدث إن كل واحد منا يعلق الخطأ الخاص به على الشيطان كما يعلق حلته على شماعة أو مشجب، فينسب إلى الشيطان أنه هو السبب في وقوعه في الخطيئة… هذه إهانة لكرامة الإنسان، لأن هذا معناه أن الإنسان كالحيوان يجرونه ويقودونه إلى حيث لا يريد بل وليس له إرادة. وهذا غير صحيح. طبعا إنها إهانة للطبع الإنساني وإهانة للصورة الجميلة التي خلق الله الإنسان عليها، كائنا حراً مريداً مسؤولاً مناط أمره بيده هو الذي يصنع مصيره، وهو الذي يصنع مستقبله، وهو الذي يختار لنفسه، وليس الشيطان هو الذي يختار له ولا كائن آخر.. الإنسان هو المسؤول عن نفسه. فالشر في الإنسان مرجعه إلى الإنسان نفسه، وما الشيطان إلا مجرد ناصح أو مشير، والإنسان يملك أن يقبل مشورة الشيطان ويملك أن يرفضها كما يقول الكتاب المقدس «اخضعوا الله. قاوموا إبليس فيهرب منكم» (يع4: 7) «اصحوا واسهروا لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو. فقاوموه راسخين في الإيمان» (1بط5: 9،8).

إذن في قدرة الإنسان أن يقاوم إبليس لأنه يمتلك إمكانيات وقدرات ومواهب وعطايا ولديه أسلحة يستطيع أن يقاوم بها. «فقاوموه راسخين في الإيمان». نفهم من هذا أنه لا يصح إطلاقاً أن ينسب أحد منا الشر إلى الله. لأن الله لايمكن أن يكون علة أولى للشر.

الله إله الخير وكما قال الكتاب المقدس «لايقل أحد إذا جرب إني أجرب من قبل الله. لأن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحداً. ولكن كل واحد يجرب إذا إنجذب وإنخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطيئة، والخطيئة إذا كملت تنتج موتاً، ولاتضلوا يا إخوتي الأحباء، كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق، نازلة من عند أبي الأنوار» (يع1: 13-17) ولا ينسب كذلك الشر إلى الشيطان، لأن الشيطان كائن مثلنا.. وكائن حر كما أننا نحن أحرار. هو أخطأ وما زال مصراً على خطيئته، وهذا هو السبب في أن اسمه هو إبليس أي المعاند والمقاوم، لكن ليس هو المسؤول الأول عن الخطأ الذي يقع فيه الإنسان. ذلك لأن الإنسان كائن حر، كائن مخير، كائن يمثل الخليقة كلها، لديه قبس من الألوهية.. لديه هذه الروح التي خلقها الله على صورته ومثاله… إنه يملك هذه الحرية التي بها يشبه الله وعنده العقل، والعقل أيضاً قبس من الألوهة، وعطية من العقل الأعظم الذي يحكم الكون وهو الله، وفي قدرة هذا العقل – لو عرف الإنسان أن يستغله – أن يحكم تصرفاته وأن يبلغ به الهدف من وجوده فلا يقع في الخطأ أو الخطيئة.

إذن الخطأ في الإنسان ليس مصدره الله، وليس مصدره الشيطان، إنما الخطأ هو إنحراف.. هو إنحراف الإنسان نفسه عن الهدف من وجوده، وعن الغاية التي خلقه الله لكي يحققها ويتحقق بها. من هنا كان الإنسان هو المسؤول أولاً وأخيراً عن الخطيئة وعن الشر الذي يصنعه، تماما كما هو المسؤول عن الخير الذي يصنعه.

الجسد والخطيئة

كثيرون منا يعتقدون أن الجسد هو علة الخطيئة مستندين إلى قول الرسول بولس «الجسد يشتهى ضد الروح، والروح يشتهي ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر» (غل5: 17) إذن الجسد على ما يقولون هو مصدر الخطيئة، أقول إن هذه نظرية غير مسيحية…. الوثنيون من الهنود يقولون ويعتقدون أن الجسد هو علة الخطيئة، وبناء على هذا تقوم الأخلاق السامية عندهم على مبدأ تعذيب الجسد. ومن هنا كانت الرهبنة الهندية الوثنية تقوم على مبدأ تعذيب الجسد. لكن ليست كذلك الرهبنة المسيحية، إن الرهبنة المسيحية لاتقوم على تعذيب الجسد….. الرهبنة المسيحية تقوم على مبدأ ضبط الجسد وليس تعذيب الجسد. أن يسيطر الإنسان على الجسد بالعقل والروح، لأن العقل بيده الزمام، وبيده اللجام، فيسيطر على الجسد، لكن ليس تعذيب الجسد، . لأن الجسد عطية من الله، فمن الخطأ أن يظن الناس أن الجسد أصل الخطيئة.

 حينما يقول الكتاب المقدس «الجسد يشتهى ضد الروح، والروح يشتهى ضد الجسد» فالمقصود من الجسد ليس هو الجسد الصرف، إنما هو الجسد متحدة به النفس الشهوانية، أي أن الجسد صار كإطار خارجي يعبر به عن الجسد متحدة به الشهوة والنفس الشهوانية. إنما الجسد ذاته لا ذنب له، ولا يمكن أن يعتبر مصدراً أو علة للخطيئة. جسد الإنسان كجسد الحيوان يشتهي أن يأكل، عندما يجوع. فإذا أكل فليس في الأكل خطيئة إذا كان الأكل سداً لحاجة الجوع ولقيام الجسد بوظيفته. والجسد بمفرده لن يأكل أكثر من إحتياجه. فالحيوان مثلاً يأكل. فإذا أخذ حاجته من الطعام، فلا يأكل أيضاً حتى لو ضربوه. لأن الغريزة تحكمة. وبموجب الغريزة يتوقف عن الأكل إذا لم تكن له حاجة إلى الطعام.. لأنه ما هو الجوع؟ الجوع هو نقص كمية الغذاء في الدم. هذا هو الجوع الحقيقي. فإذا أكل الكائن بالقدر اللازم لطبيعته، ولما يلزم للدم من غذاء فليس في هذا خطيئة. وإنما العكس هو الخطأ أو الخطيئة وهو أن يحرم الجسد من الطعام اللازم لقيامه، وهذا ما قاله الرسول بولس «فإنه لم يبغض أحد جسده بل يقوته ويربيه» (أف5: 29) فإذا أكل الإنسان ليسد إحتياجات الجسد، ولقيام الجسد فليس في هذا خطأ من جانب الجسد. وليس في هذا خطأ من جانب الإنسان. إنما لو أخذ الإنسان من الطعام أكثر مما يلزم لجسده أو أقل مما يلزم لجسده فهنا الخطأ.. كذلك يشرب الحيوان الماء بقدر حاجته إلى الماء، لأن العطش الحقيقي هو نقص كمية الماء في الدم. فإذا شرب الحيوان رفع رأسه ولا يمكن أن يشرب بعد مرة أخرى حتى ولو ضرب.

وهكذا الغرائز الأخرى، مثل غريزة الجنس في الحيوان تحكمها حاجة في الطبيعة، فأنثي الحيوان إذا حملت لا يمكن أن تسمح للذكر أن يقترب منها إطلاقاً، إذ بمجرد الحمل تنطفىء منها الرغبة نهائياً. وليس كذلك الإنسان، لأن الإنسان عنده فكر، والفعل الأول الذي عمله صاحبته لذة. هذه اللذه موجودة في الفكر لأن الإنسان لديه ذاكرة، وبهذه الذاكرة يجتر من جديد ذكريات اللذة الأولى، فيشتهى ويطلب أن يأخذ من اللذة من جديد.

وليس الجسد هو المحتاج، كلا إنما الفكر هو الذي يجتر الذكريات، ويطلب المزيد. أحد الأشخاص مثلا يقول أني أشرب 17 كوب ماء أثناء الأكل. أفهل جسده محتاج حقاً إلى هذه الكمية من الماء؟ هذا غير معقول، إنه يحتاج إلى الماء في حدود ثمانية أكواب من الماء في اليوم فإذا قال بعضهم أنه يشرب17 كوب ماء، فهذا الشرب هو للذة، وليس لأن الإنسان في حاجة إلى هذه الكمية من الماء، ولكن لأن في الماء أو هذا الشراب لذة. فعندما يشرب الماء تتكون لديه من أول مرة خبرة ثم تتجمع في ذاكرته هذه الخبرة، ويجترها من جديد، وتتكون لديه جاذبية نحو الماء، فينجذب إلى الماء أو نحو الطعام أو نحو أي شهوة أو رغبة، لكن ليس هو الجسد الذي ينجذب، ولكن الجسد تحكمه الرغبة والشهوة والخبرة التي تكونت في الذاكرة. إذن الشر ليس أساسه الجسد إنما أساسه الروح.

الروح والخطيئة

لماذا كان الشر أساسه روح الإنسان؟

ذلك فعل الروح التي نسيت نفسها، ونسيت نسبتها إلى الله، ونسيت مصدرها الذي جاءت منه، وتبنت شهوات الجسد في مزاملتها ومصاحبتها للجسد. اقتنعت وتبنت الشهوات الجسدية فأصبحت الروح وقد تاهت ونسيت مركزها الأصيل. ونسيت نسبتها إلى الله، وتبنت الرغبات والشهوات فأصبحت هي التي تجر الجسد إلى أن يمتد في النهم ويغترف من الشهوات من أكل إلى شراب إلى غيرها من الشهوات. هذا إملاء من الروح التي ضلت. إملاء من الروح التي كان في يدها اللجام، ولكنها تركت اللجام وقالت للجسد : اغترف لأنى أنا أريد المزيد من الشهوات.

هنا الفرق بين تعليم المسيحية وتعليم الفلسفة الهندية الوثنية، ليس الجسد في مفهومنا المسيحي هو أصل الشر. أبدأ. أن يأكل الجسد بالقدر الذي يحتاجه، هذا أمر مفروض بل هو للصواب. ومن الخطأ أن يعطى الإنسان الجسد أكثر من إحتياجه أو أقل من إحتياجه. فشجرة الموز مثلا أو أي شجرة أخرى في الدنيا تمتص من التربة الأملاح المعدنية والمركبات التي تلزمها بحسب تركيبها الجزيئي أو الذرى، فهي تأخذ من التربة ومن الهواء ما يلزمها من ذرات الأوكسجين والأيدروجين والكربون والسكر وسائر الأملاح المعدنية إلى آخر الذرات المعروفة في التركيب الجزيئي للموز. وبجوار شجرة الموز أشجار أخرى قد تكون من التفاح أو البرتقال وقد تكون من الطماطم أو البصل أو الفول السوداني أو الليمون… كل منها يأخذ ما يلزمه من الأملاح المعدنية ومن الهواء ومن الضوء والحرارة . والماء، ولكنه لايزيد عن حاجته، فإذا أخذ ما يحتاجه فإنه يتوقف أوتوماتيكيا عن أخذ المزيد مهما كان عنده الكثير مما حوله.

هذا هو فعل الجسد البحث.. يأخذ من الطبيعة حاجته ولا يزيد عنها، كذلك الأمر في الحيوانات بأصنافها. كل حيوان يأخذ حاجته فقط من الطعام والماء ولايزيد عن حاجته بحال حتى لو ضربوه. إنه يتوقف عن أخذ المزيد أوتوماتيكيا وغريزيا، بل إن شهيته تنطفىء بمجرد حصوله على ما هو في حاجه إليه ولا يشتهى المزيد على الرغم من غنى الطبيعة من حوله في كل أصناف الطعام والشراب.

فلو كان الإنسان جسدا فقط بلا روح، لكان شأنه شأن النبات والحيوان، لايأخذ من الطعام والشراب أكثر من حاجته، ويتوقف عند ذلك، ولكن الواقع أن الإنسان لايكتفى بما هو في حاجة إليه من الطعام والشراب، ولكنه يغترف منه أكثر مما هو في حاجة إليه مما يدمر صحته عادة ويصيبه بالأمراض. وإذا مصدر هذا النهم في الإنسان ليس هو الجسد، ولكن هي الروح العاقلة التي نسيت طبيعتها ومركزها، وتلهت وتلذذت بالطعام الجسدي وانصرفت إليه عن طعامها الحقيقي، هذا هو علة الخطأ، وهذا هو السبب الذي يجعل الإنسان يخطأ. ولذلك نجد في عالم الحيوان، أن الحيوان يعيش مدة معينة معروفة. فالأسد مثلا يعيش 30 سنة، والكلب يعيش مثلا 15 سنة .. كل حيوان له مدة معينة، وهكذا النبات أيضا … لذلك نجد الفلاح يعرف المواعيد بالضبط، يعرف متى يزرع ومتى يحصد. ولأن النبات والحيوان يأخذ من الطبيعة ما يلزمه، ولا يأخذ أكثر. فإذا حدث قحط أو نقص في كمية الماء، وهو أمر غير طبيعي بالنسبة للنبات أو الحيوان، يترتب على . ذلك الموت بالنسبة للنبات أو الحيوان. أما في الأحوال الطبيعية، فالنبات والحيوان يأخذ من الطبيعة ما هو في حاجة إليه ولايزيد، ولذلك يحيا مدته المحدودة بحسب القوة الطبيعية المودعة فيه. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الإنسان. فالناس يختلفون في أعمارهم إختلافاً كبيراً في البيئة الواحدة وفي عصر واحد، وأحيانا في العائلة الواحدة .. وذلك مرده إلى نسبة الإختلاف بينهم في الأخذ من الطعام والشراب، وسائر الشهوات والرغائب المادية. فمنهم من يعيش سبعين سنة، ومنهم من يعيش ثمانين أو تسعين أو مائة ومنهم من يعيش أقل من ذلك، فيموت في الستين أو الخمسين.. نعم إن هناك أكثر من سبب لهذا الإختلاف في أعمار الناس، ولكننا لانجد مثل هذا الإختلاف في أعمار النباتات والحيوانات التي من فصيلة واحدة، مما يدل على أهمية عامل الأخذ من الطعام والشراب وسائر الشهوات والرغبات المادية، ولذلك يقول الكتاب المقدس «لاتكن شريراً كثيراً، ولاتكن جاهلاً، لماذا تموت في غير وقتك» (جا7: 17). 

إذن النبات يموت في أوانه، والحيوان يموت في وقته. أما الإنسان فقد يموت في غير وقته. وذلك لأن هناك عوامل لا ذنب للجسد فيها، ولا مسئولية عليه فيها. إنما المسئولية في يد الروح العاقلة التي تملك زمام اللجام إذا أرادت.. المسئولية مسئولية الجوهر الروحاني الذي مصدره السماء، والذي ينسى أحياناً مهمته وطبيعته ووظيفته، ونسبته إلى الله وإلى الكون وينسى طعامه الحقيقي، ويتبلغ بطعام الجسد، فيهواه، ويعشقه، ويطلب منه المزيد، وهو الذي يسوق الجسد إلى النهم فيه والإغتراف منه، ويتسبب في إصابته بالأمراض والعلل.

الخلاصة أنه إذا أردنا أن نجيب على سؤال. ما هو مصدر الشر؟ قلنا :

أولا : إن مصدر الشر ليس هو الله.

ثانياً :  يجب أن لا نهرب من تبعة المسئولية ونحيلها على الشيطان.

ثالثاً : ينبغي على الإنسان أن يعرف أنه كائن حر وأنه لهذا هو مسؤول، ولقد منحه الله العقل، ومنحه الإمكانيات والقدرات التي تجعله يملك زمام أمره، فيفعل الخير الذي يريده ويتجنب الشر الذي لا يريده.

لماذا أُعطيت الديانة للإنسان؟؟

فالمسئولية إذن تقع على الإنسان أولاً وآخراً، وهذا هو السبب في أن الديانة أعطيت للإنسان ولم تعط للحيوان الأعجم، إن الله أعطى للإنسان الوحى بهدف مساعدته لأنه حر، وإلا فلماذا كانت الكتب المقدسة؟ ولماذا كانت النصائح والتوجيهات والمواعظ إذا لم يكن الإنسان حراً؟ وما فائدتها لو كان الإنسان مسيراً شأنه شأن الحيوان الأعجم والنبات؟

إذ يمسي الوعظ في هذه الحالة لا قيمة له. وتصبح التوجيهات والنصائح لا معنى لها. وكذلك يصير الكلام عن الأبدية والآخرة والحساب والثواب لامعنى له، ولا جدوى منه.. ولكن لأن الإنسان حر مناط أمره بيده، وهو الذي يصنع مصيره، وهو المسؤول، لذلك تسدي إليه النصائح، وأوحيت إليه الكتب المقدسة، ووجه إليه الوحي، وقد جاء المسيح من أجله «أما أنا فأتيت لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل» (يو10: 10). هذا هو الغرض من أن الديانة أعطيت للإنسان لكي تكون له مع العقل نوراً يضيء طريقه، وبذلك يمكنه أن يحكم ذاته، ويحكم تصرفاته فيحقق الهدف من وجوده، ويتحقق بالغاية التي خلقه الله من أجلها.

زر الذهاب إلى الأعلى