كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار
المفاهيم الروحية للرياضة البدنية في رسائل القديس بولس لبرسول
اشتهرت اليونان قديماً بالألعاب الرياضية ، وكانت المهرجانات والدورات التي يتبارى فيها الرياضيون تحتل مساحة واسعة من حياة وتفكير الشعب اليوناني. ومن أشهر هذه الدورات المسابقة الرياضية التي كانت تُقام في سهل جبل الأوليمب تمجيداً للإله زيوس كبير آلهة اليونان، والتي اشتهرت فيما بعد باسم الدورة الأوليمبية، وكانت تقام كل أربع سنوات. هذا بخلاف ثلاثة مهرجانات كبرى كانت تُقام في كبريات المدن اليونانية .
لم يكن بولس الرسول في نشأته بعيداً عن هذا الجو الرياضي، لأنه تربّى في مدينة طرسوس ذات الثقافة اليونانية. ولم يجد حرجاً في استعمال لغة الرياضة ـ التي كان يألفها القراء – كإحدى وسائل الإيضاح التي تشرح لهم بعض الحقائق الروحية الهامة. فقد ذكر القديس بولس الكثير من المصطلحات الرياضية ، خاصة في رسائله إلى أهل كورنثوس وفيلبي ، حيث كان المؤمنون هناك من المسيحيين ذوي الثقافة اليونانية. كما أتى على ذكر مثل هذه المصطلحات في رسالتيه إلى تلميذه تيموثاوس الذي من كان أبوه يونانياً ( أع 1:16).
ومن أوضح الآيات التي ذكرها بولس الرسول متضمنة هذه المصطلحات ما ورد في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس ( 1 كو 24:9-27) :
+ «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي الْمَيْدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ، وَلكِنَّ وَاحِدًا يَأْخُذُ الْجَعَالَةَ؟ هكَذَا ارْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا. وَكُلُّ مَنْ يُجَاهِدُ يَضْبُطُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. أَمَّا أُولئِكَ فَلِكَيْ يَأْخُذُوا إِكْلِيلاً يَفْنَى، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِكْلِيلاً لاَ يَفْنَى. إِذًا، أَنَا أَرْكُضُ هكَذَا كَأَنَّهُ لَيْسَ عَنْ غَيْرِ يَقِينٍ. هكَذَا أُضَارِبُ كَأَنِّي لاَ أَضْرِبُ الْهَوَاءَ. بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ، حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضًا.».
الذين يركضون في الميدان :
كلمة الميدان “ التي وردت في هذه الآية تأتي في اليونانية ( ستاديون ) ، والتي منها أتت الكلمة المعربة ” الاستاد “ ( الرياضي ) . و’’الاستاد ‘ ‘ أساساً هو وحدة قياس طولية تبلغ حوالي 600 قدم يوناني ( 625 قدم روماني = 607 قدم إنجليزي – 192 متراً )، وهي تمثل تماماً طول الملعب الذي كان يتبارى فيه المتسابقون في الدورة الأوليمبية.
يبدأ القديس بولس في تشبيه الحياة بسباق في الميدان بين مجموعة من المتنافسين ، ولكن في النهاية تكون المكافأة للفائز فقط . والقديس بولس لا يقول إن هناك تنافساً بين جماعة من المسيحيين لنوال الإكليل ؛ بل إن الجميع – كل الناس – يركضون ، وعلى الإنسان المسيحي بالأولى أن يركض. لكنه يشجع المسيحي الذي يركض أنه هو الذي سينال الإكليل : « هگذا اركضوا لكي تنالوا». وسبب الثقة التي يتكلم بها الرسول أنه يعرف مانح الأكاليل معرفة شخصية ، ويثق في محبته وحكمه العادل : « لأنني عالم بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم » ( 2 تي 12:1).
ثم يعطي الرسول بعد ذلك من خبرته لكل إنسان مسيحي حتى يدربه على فنون الجهاد والركض، ولكن في مجال الروحيات .
” من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء “ :
الفعل ” يجاهد“ في أصله اليوناني يعني ” يحارب أو يقاتل أو يصارع ، أو يبذل أقصى ما في وسعه “ ، وفي مجال الرياضة يعني : ” يدخل في سباق محموم مع “
أما الفعل ” يضبط نفسه“ هنا يشير إلى مدة من الإعداد للمباريات ، والتي كانت تستمر عشرة أشهر ، يقضيها كل من الرياضيين والحكام في التدريب والمران القاسي . عن فترة الإعداد هذه يقول المؤرخ الروماني أبكتيتوس : “يجب عليك أن تلتزم بنظام قاس في الأطعمة ، وأن تزهد في الأطعمة اللذيذة ، وأن تمارس تدريباتك في جميع الأحوال الجوية ، المواتية والمعاكسة ، في الحر وفي البرد ، وألا تشرب الماء المثلج أو النبيذ بدون ضابط “ . ويشبه العلامة ترتليان حياة شهداء المسيحية بالرياضيين اليونان الذين ” يتعبون ويكابدون المشقات ويغصبون أنفسهم في كل شيء“.
فإن كان الرياضي يُخضع نفسه خلال عشرة أشهر لتدريبات قاسية ولنظام صارم مع حرمان كامل من الحياة الرغدة المرفهة ، لعله يفوز في سباق يدوم عدة دقائق ، أو على أكثر تقدير ساعة أو نحو الساعة ، ومن أجل الحصول على الجعالة أو المكافأة التي لا تزيد عن إكليل من الزهور ؛ ألا يخضع المسيحيون أنفسهم بإرادتهم لمتطلبات حياة القداسة من بذل للذات وزهد في الملذات من أجل أن يقدموا أجسادهم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله ( رو 1:12)!
إن الفترة التي يقضيها الرياضي في التدريب تعتبر فترة اعتكاف أجل مصلحته هو ، وفترة زهد في أمور قد لا تكون شراً في حد ذاتها ، ولكنها أمور تعوقه عن تحقيق هدفه . هكذا عندما يزهد المسيحي في أمور الحياة وملذاتها ، فهو لا يعتبر أن هذه الأمور خطيئة أو محرمة ، لكنها أشياء تقف حائلاً بينه وبين الخدمة الموكلة إليه. فإن وضع المؤمن مثل الرجل الرياضي أمام عينيه ، وحاول أن يجاهد مثله في زهد وابتعاد عن الملذات ، فأي حياة مقدسة قوية تمجد الله سوف يحياها!
إكليل يفنى ، وإكليل لا يفنى :
إن أقصى ما كان يتمنّاه الرياضي هو الفوز في السباق والحصول على الإكليل . والإكليل هنا ( ستفانوس ) هو إكليل الزهور الذي يوضع على جبهة الفائز ، والذي لا يدوم نضراً إلا بضعة أيام . ومن أجل هذا الإكليل الذي يفنى كان يجاهد ويثابر ويضبط نفسه في كل شيء . أما الإكليل الذي يجاهد من أجله المسيحي فهو إكليل يبقى إلى الأبد ، لأنه إكليل يكلل جهد وعرق العمر كله : « كن أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة » ( رؤ 10:2) .
” أركض هكذا كأنه ليس عن غير يقين“:
أي أركض أو أجري داخل ميدان السباق وأنا واضع أمام عيني الهدف الذي من أجله أجاهد . وكلمة ( أديلوس ) التي تُرجمت ” غير يقين “ تفيد أن الهدف غير واضح أمام عينيه ، أو أنه ليس في داخله وفي عقله غاية محددة يسعى إليها. كثيرون يركضون وكثيرون يجاهدون ، وربما يصل الجهاد والبذل عندهم إلى حد تسليم جسدهم حتى يحترق ( 1 كو 3:13 ) ، ولكن عندما يكون الهدف من الركض غير واضح ، أو عندما يكون هناك هدف لا يستحق كمية التعب والعناء المبذول ، سرعان ما يرتد المجاهد عن طريقه ويسلم سلاحه وهو ما زال بعد في منتصف الطريق.
ومن أجمل الشروحات التي قدمها الآباء بهذا الخصوص والتي توضح أن غياب الهدف من أمام عيني المتسابق سرعان ما يجعله يصاب باليأس ، ومن ثم بالارتداد ، ما قدمه القديس هيلاريون رئيس رهبنة فلسطين ، قال:
[يليق بنا أن نأخذ مثلاً لذلك من كلاب الصيد التي تنطلق وراء الأرانب البرية . فإنه يحدث أن أحد الكلاب يلحظ أرنباً بعيداً فينطلق وراءه ، وإذ ترى الكلاب الأخرى التي معه أنه يجري فإنها تنطلق تجري معه ـ دون أن تكون قد رأت الأرنب – فتظل تجري معه ولكن إلى فترة ما ، وحينما يصيبها التعب والإجهاد فإنها تتوقف وتعود ، بينما الكلب الذي يرى الأرنب يظل يتابعه بمفرده لا يعوقه التعب والجهد عن تكميل مشواره الطويل … هكذا الإنسان الذي يتبع وراء محبة المسيح ، ينبغي عليه أن يثبت نظره على الصليب حتى يفوز بالذي صلب عليه ، حتى ولو رأى الكل قد تخلفوا ورجعوا إلى الوراء].
وفي رسالته إلى أهل فيلبي ، يؤكد القديس بولس على أهمية تثبيت المتسابق لعينيه على الهدف ، وألا يلتفت إلى باقي المتسابقين معه ليرى مدى نجاحهم أو إخفاقهم ، كما أن عليه ألا ينظر خلفه ليستوضح المسافة التي قطعها . بالمثل يجب على من يجاهد أن ينسى تماماً ماضيه بما يحويه من عثرات أو كبوات ، واضعاً أمام عينيه دائماً الهدف والغاية التي من أجلها : « إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام ، أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع » ( في 13:3و14).
وفي الرسالة إلى العبرانيين ، يصور منظر المتسابق وهو يركض في الميدان ، ومن حوله ألوف المشجعين الذين يشدون من أزره ، ومع ذلك فعليه ألا يلتفت وينشغل بالتصفيق والهتاف ، بل ينظر إلى الغرض الذي يركض من أجله . هكذا على المجاهد أن يضع دائماً الرب يسوع نُصب عينيه كهدف وغاية وحيدة للجهاد، وعليه أن يتخلص من جميع الأثقال التي تعوقه وتحد من سرعة انطلاقه، متمسّكاً بالصبر حتى يتحمل صعاب الطريق وعنف السباق : « لذلك نحن أيضاً إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا ، لنظرح كل ثقل ، والخطية المحيطة بنا بسهولة ، ولنحاضر ( نركض ) بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا ، ناظرين إلى رئيس الإيمان ومُكمله يسوع » ( عب1:12و2).
“أضارب كأني لا أضرب الهواء”:
كلمة “أضارب“ هنا تعني ‘ ” أُلاكم “ ، أي أضرب بقبضة اليد . والرسول يتكلم هنا عن الملاكم الذي يسدد ضرباته في الهواء دون أن تصيب الخصم ، وبالتالي يضيع كل مجهوده هباء . الرسول في جهاده لا يشبه نفسه بهذا الملاكم ، لكنه في صراعه مع الشر فإنه يسدد ضرباته فتصيب هدفها . قد يظن أحدهم أنه ما دام يركض مع الراكضين ، أو ما دام يسدد ضرباته حتى ولو كانت في الهواء فهو سيكلل . لكن الرسول يقولها صراحة : « إن كان أحد يجاهد ، لا يكلّل إن لم يجاهد قانونيا » (2تي5:2) . جهادنا لا يعتمد على قوة عضلية أو أعمال جسد بطولية ، لكن اعتماده الأساسي هو على الله الذي يعمل فينا ويؤازرنا : « لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة » (في13:2).
” أقمع جسدي وأستعبده “ :
إذا تخيلنا الملاكم في حلبة الملاكمة وهو يسدد اللكمات لوجه الخصم ، نجد أنه نتيجة للضربات العنيفة في الوجه يُصاب الوجه بالكدمات ، خاصة في منطقة الوجنتين أسفل العين. هذا هو معنى الفعل اليوناني ( هبوبيازو ) الذي تُرجم هنا ” أقمع “ . ونلاحظ بولس الرسول لا يقول إنه في جهاده يصيبه العدو بالكدمات ويخرج من المعركة مثخناً بالجراح ؛ بل يقرر أنه هو الذي يقمع جسده ويخضعه بإرادته ولا ينتظر أن يسيطر عليه آخر : « قد تدربت أن أشبع وأن أجوع وأن أستفضل وأن أنقص » (في12:4). وهو هنا يقتدي بخطوات سيده الرب يسوع الذي قيل عنه : « الذي من أجل الشرور الموضوع أمامه ( أي بإرادته وليس بإرادة آخرين ) ، احتمل الصليب مستهيناً بالخزي ( وكان نتيجة ذلك ) فجلس في يمين عرش الله » ( عب 2:12 ).
والمقصود بقمع الجسد هنا ليس إضعاف الجسد أو قتله ، لأنه كما قال أحد القديسين : ” نحن تعلمنا أن نُميت الشهوات لا أن نميت الجسد “ ؛ بل المقصود ما أوضحه بولس الرسول في رسالته إلى أهل كولوسي : « فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض : الزنا، النّجاسة ، الهوى ، الشهوة الردية ، الطمع الذي هو عبادة الأوثان … » ( کو5:3).
” لا أصير أنا نفسي مرفوضاً “:
أخيراً ، أخشى أنني بعد أن دربت الآخرين وعلمتهم فنون الرياضة وطرق الحصول على الإكليل ، أرى أنني ما زلت غير صالح أو غير لائق لدخول السباق الأخير . هذا هو المقصود من كلمة ( آدوكيموس ) التي تُرجمت ” مرفوضاً “ ، وهذه الكلمة تستعمل في مجال الرياضة كاصطلاح يعني ” غير لائق “ ، لأن المتسابق كسر قوانين التدريب ، وبالتالي فهو غير لائق لدخول مسابقات الحصول على الإكليل.
عن إن الرسول بولس يضع أمامنا مثل الرجل الرياضي الذي يعزل نفسه عن ملذات العالم وشهواته ، زاهداً فيما لا ينفعه ، ناسياً بالتمام كل ما هو وراء ، ممتداً إلى ما هو قدام ، غير منشغل باهتمامات العالم ومعوقاته ، مثبتاً نظره على الهدف المحدد المثبت أمام عينيه. وهو وإن كان يخضع نفسه لتدريبات شاقة ، فهي في النهاية تؤهله للحصول على الإكليل.
ويلخص بولس الرسول كل هذه الفكرة في نصيحة يرسلها إلى تلميذه تيموثاوس : « ليس أحد وهو يتجند يرتبك بأعمال الحياة لكي يرضي من جنده. وأيضاً إن كان أحد يجاهد ، لا يكلّل إن لم يجاهد قانونياً» ( 2 تي 4:2 و5) . لكنه يشجع هذا التلميذ أنه إذا جاهد قانونياً فإكليله مضمون ، فقط عليه أن يكون مستعداً ومنتظراً مجيء الرب : « قد جاهدت الجهاد الحسن ، أكملت السعي ، حفظت الإيمان ، وأخيراً قد وُضع لي إكليل البر ، الذي يهبه لي في ذلك اليوم ، الرب الديان العادل ، وليس لي فقط ، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً » ( 2 تي 7:4 و8).
سفير يسوع المسيح | كتب أنبا إبيفانيوس | تأديبات الله |
كتاب مفاهيم إنجيلية | ||
المكتبة المسيحية |