كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار

تأديبات الله

انطلق القديس بولس الرسول في كرازته باسم المسيح شرقاً وغرباً ، وشهد للمسيح أمام ملوك وولاة وفلاسفة ، وأمام رؤساء كهنة اليهود وفي مجامعهم ، وتسبب في خلاص الكثيرين. واختُطف إلى السماء الثالثة ، وسمع كلمات لا ينطق بها ، ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها ( 2 كو 4:12 ) . بل أُعطي أيضاً موهبة إخراج الشياطين وشفاء المرضى حتى إلى إقامة الموتى. ومع ذلك نسمع أنه ” أُعطي شوكة في الجسد ” ، ومن أجلها تضرع إلى الله عدة مرات حتى يرفعها عنه، لكنه لم يستجب له.

فلماذا يجوز المسيحيون اختبار الألم ؟ ولماذا يمرون تحت تأديبات الرب ؟ ففي الرسالة إلى العبرانيين ، نرى أن المؤمنين قد قاسوا من التعيير والاضطهاد والسجن والسلب وذلك بسبب إيمانهم . فتذكر الرسالة أنهم جازوا هذه الآلام بعد أن نالوا الاستنارة أي المعمودية : «وَلكِنْ تَذَكَّرُوا الأَيَّامَ السَّالِفَةَ الَّتِي فِيهَا بَعْدَمَا أُنِرْتُمْ صَبَرْتُمْ عَلَى مُجَاهَدَةِ آلاَمٍ كَثِيرَةٍ. مِنْ جِهَةٍ مَشْهُورِينَ بِتَعْيِيرَاتٍ وَضِيقَاتٍ، وَمِنْ جِهَةٍ صَائِرِينَ شُرَكَاءَ الَّذِينَ تُصُرِّفَ فِيهِمْ هكَذَا. لأَنَّكُمْ رَثَيْتُمْ لِقُيُودِي أَيْضًا، وَقَبِلْتُمْ سَلْبَ أَمْوَالِكُمْ بِفَرَحٍ،» (عب 32:10-34)؛ حتى إن هذه الضيقات كادت أن تفقدهم ثقتهم في الإيمان ، مما حدا بالرسول أن يحثهم على التمسك بثقتهم بالله : « فلا تطرحوا ثقتكم التي لها مجازاة عظيمة . لأنكم تحتاجون إلى الصبر » ( عب 35:10و36).

قد يتساءل بعض المسيحيين أحياناً : ما الدرس الذي يريد الله أن يعلمنا إياه من خلال هذه الآلام ؟ فالمسيحي عندما يدرك مقاصد الله من وراء التجارب ، يقدر على الصبر وعلى تحمل الألم . ففي الرسالة إلى العبرانيين يصف الرسول الآلام بأنها تأديبات الله : « لأنّ الذي يحبه الرب يؤدبه ، ويجلد كل ابن يقبله » ( عب 6:12 ، أم 12:3). كيف تكون التجارب والآلام علامة على محبة الله ودليلاً على أننا صرنا أبناء له؟ للإجابة على هذا التساؤل يجب أولاً أن نعرف ما المقصود من كلمة ” تأديبات “ ، ثم نتفهم غرض الله من التأديبات ومن هدفها النهائي من نحونا!.

كلمة ” يؤدب “ هي ترجمة للكلمة اليونانية ( بيديفو ) ، ولهذه الكلمة معنيان أساسيان يكمل أحدهما الآخر . المعنى الأول : ” يربي “ أو يدرب “ أو ” يعلم “ . والمعنى الثاني : ” يؤذب “ أو ” يعاقب “ . وهذا المعنى يشير إلى عملية التأديب والإصلاح التي يخضع لها الطفل في حياته.

والاسم : ” التأديب “ هو ترجمة لكلمة ( بيديا ) والتي تضم المعاني السابقة للفعل ، وهي تعبر عن غاية التربية في العالم اليوناني وعملية تنشئة الإنسان وتكوينه . يظهر هذا المعنى في سفر أعمال الرسل عن موسى النبي : « فتهذب موسى بكل حكمة المصريين » ( أع 22:7).

في الكتاب المقدس في العهد القديم هناك كلمتان في اللغة العبرية يحملان معنى التعليم والتدريب مع العقاب والتهذيب ، وهما ” ( ياسار ) ومعناها يؤدب أو يهذب ، و ( موسار ) ومعناها تأديب أو تهذيب أو تعليم.

فأثناء إقامة الله لعهده مع شعب إسرائيل في القديم ، كان يؤدبهم بالمحبة حتى يجتذب إليه الشعب . فنسمع إرميا النبي يقول : « لأني أنا معك ، يقول الرب ، لأخلصك . وإن أفنيت جميع الأمم الذين بددتك إليهم ، فأنت لا أفنيك ، بل أؤدبك بالحق ، ولا أُبرئك تبرئة » ( إر 11:30 ).

وتظهر صورة الأب المحب في علاقته مع شعبه : « أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابناً . إن تعوج أؤدبه بقضيب النّاس ( أي بواسطة البشر ) ، وبضربات بني آدم ( أي بآلام يحتملها البشر ) . ولكن رحمتي لا تُنزع منه » ( 2 صم 14:7و15).  

وكلمتا ” ياسار وموسار‘‘ لا يستعملان في عقاب الحيوانات والبهائم ولا في العقوبات التي كان يوقعها الله على الأمم الغريبة ، لكنهما فقط يصفان تأديب الله لشعبه . فقد قال موسى النبي لشعب إسرائيل : « كما يؤدب الإنسان ابنه قد أدبك الرب إلهك » ( تث 5:8) . وبالمثل يقول سليمان الحكيم : « يا ابني ، لا تحتقر تأديب الرب ولا تكره توبيخه ، لأنّ الذي يحبه الرب يؤدبه ، وكأب بابن يسر به » ( أم 11:3و12) . كما يقول داود « تأديباً أدبني الرب ، وإلى الموت لم يسلمني » ( مز 18:118). 

وعندما تمت ترجمة العهد القديم إلى اللغة اليونانية فيما عرف باسم الترجمة السبعينية ، تُرجمت الكلمتان ” ياسار وموسار “ في أغلب الحالات إلى الفعل ( بيديفو ). وقد وضع المترجمون نصب أعينهم دائماً علاقة الله ومحبته كأب يؤدب أولاده ، أكثر من التجائهم إلى مفهوم التأديب أو العقاب حسب أصول التربية في العالم اليوناني.

فمحبة الله التي عبر عنها في تهذيبه لأولاده وتأديبهم تختلف تماماً ، بل وتضاد أحياناً ، موقف العالم القديم من ناحية تربية الأطفال وتهذيبهم . فلم يكن للطفل في القرن الأول الميلادي حقوق من جهة التعليم والتنشئة ، ولا حتى الحق في الحياة . فالوالدان في المجتمع اليوناني الروماني كان من حقهم التخلي عن أطفالهم وعدم الالتزام بالنفقة عليهم وتعليمهم . فمن الممكن أن يتلقى الأطفال في العالم القديم التعليم ( بيديا ) ، لكن لم يكن هذا التعليم يعبر عن محبة الوالدين.

بعكس الطفل في العالم المسيحي ( أو اليهودي ) الذي كان يتلقى التعليم ويخضع للتأديب لأنه نافع له في طريق خلاصه . فقد تلقى تيموثاوس تعليمه من الصغر وتأدب على مبادئ الكتاب المقدس ، لأن كلام الله : « … نافع للتعليم والتوبيخ ، للتقويم والتأديب الذي في البر » ( 2 تي15:3-17).

إن إرادة الله هي أن يرد قلوب الآباء إلى أبنائهم ( ملا 6:4 ) ليعلموهم وصاياه ( تث 7:6). وقد أوصى القديس بولس الآباء أن يربوا أولادهم « بتأديب الرب وإنذاره » ( أف 4:6 ) . فالأب يعبر عن محبته لابنه من خلال تربيته له وتعليمه ، حتى لو اضطر أن يستخدم أسلوب التأديب.

على نفس المنوال ، فإن تأديبات الله تعلن أن لنا أباً سماوياً يحبنا ويسهر بنفسه على تربيتنا وتهذيبنا . وكاتب الرسالة إلى العبرانيين كان يضع في ذهنه محبة الله لأولاده عندما اقتبس الآية : « الذي يحبه الرب يؤدبه » ليشرح لماذا يؤذب الرب أولاده . فالتأديب هنا هو أوضح تعبير عن محبة الله الأبوية لنا . فإن كنا نحترم آباءنا الجسدانيين عندما يؤدبوننا ، فكم بالأولى أبونا السماوي : «إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ التَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ اللهُ كَالْبَنِينَ. فَأَيُّ ابْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟ … قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِالأَوْلَى جِدًّا لأَبِي الأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟» ( عب 7:12و9) .

وإذا نظرنا إلى الرسالة إلى العبرانيين في الآيات ( 5:12-11 ) نجد أن الفعل ” يؤدّب “  يتكرر فيها ثماني مرات . وهذه الآيات تشرح بوضوح غرض الله من التأديب. وكان من الممكن لكاتب الرسالة أن يختار كلمات أخرى تُعطى معنى أكثر عنفاً للتأديب والعقاب.

فهناك الفعل ” كولازو“ الذي يؤكد على التأديب من أجل الإصلاح ، لكنه لا يفي كلية بغرض التنشئة والتربية. وهو الفعل الذي استخدم في سفر أعمال الرسل أثناء محاكمة الرسولين بطرس ويوحنا أمام رؤساء الكهنة : « وبعد ما هددوهما أيضاً أطلقوهما ، إذ لم يجدوا البتة كيف يعاقبونهما بسبب الشعب » ( أع 21:4) .

وهناك الفعل ’’ تيموريئو‘‘ الذي يشير إلى العقاب بغرض الانتقام . ويعطي معنى قيام المذئب إليه بتوقيع العقاب العادل : « فكم عقاباً أشر تظنون أنه يُحسب مستحقاً من داس ابن الله ، وحسب دم العهد الذي قدس به دنساً ، وازدری بروح النّعمة ؟ » ( عب 29:10 ) .

والفعل ” ديخوتوميئو “ يعني يوقع أقصى عقاب ، ومعناها الحرفي يقطع المذنب إلى قطع : « يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها ، فيقطعه ويجعل نصيبه مع المرائين » ( مت 50:24و51) .

والفعل  ” اكديكيئو “ يشير إلى العقاب بغرض الأخذ بالثأر : « لا تنتقموا لأنفسكم » ( رو 19:12).

والفعل ” زيميوأو “ يشير إلى العقاب الذي يؤدي إلى خسارة (1کو15:3).

والفعل  ” فاسانيزو “ يشير إلى العقاب بواسطة التعذيب والإيلام الجسدي ( مت 29:8).

ففي النصوص الأدبية القديمة تشير هذه الكلمات إلى العقاب الإلهي أو العقاب البشري على حد سواء. فغالباً ما كان يعاقب المجرمون بالضرب أو الغرامة أو بالعمل في المناجم أو بالعذابات الجسدية المختلفة. وكان العبيد يعاقبون بأية وسيلة يرضى بها السادة . أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فلم يختر أي واحدة من هذه الكلمات ليصف بها سر الآلام في حياة المسيحي . لكنه أورد صورة حية عن تأديب الله لأولاده بغرض تقدمهم الروحي. وكان الحب الأبوي هو الدعامة الأساسية التي يستند عليها الغرض الإلهي من التأديب.

إذن ، ما الغرض من الآلام بالنسبة للإنسان المسيحي ؟ الكتاب يصف من التأديب أنه مؤلم ومحزن ( عب 11:12 ) ، وهذه حقيقة لا يمكن أن نغفلها . لكن يجب ألا ننسى أن في الأوقات العصيبة تتجلى لنا محبة الله ونعرفه عن قرب. فالله يؤدبنا أولاً « لكي تشترك في قداسته » ( عب 10:12 ) ، ثم هو يريدنا أن نختبر كيف نحصد من التأديب السلام والبر ( عب 11:12 ) . كما أنه يقوينا ويشدّدنا بالتأديب حتى يستطيع أن يستخدمنا في علاج ضعفات الآخرين : « لذلك قوموا الأيادي المسترخية والركب المخلعة ، واصنعوا لأرجلكم مسالك مستقيمة ، لكي لا يعتسف ( ينحرف ) الأعرج ، بل بالحري يشفى » ( عب 12:12 و 13 ) . أو كما يقول بولس الرسول : « الذي يعزينا في كل ضيقينا ، حتى نستطيع أن نعزي الذين هم في كل ضيقة بالتعزية التي نتعزى نحن بها … » ( 2 كو4:1).

هذه البركات التي ينالها المؤمن من التأديب والآلام تجعل من الألم ضرورة يجب أن يحتملها . ولنضع أمام أعيننا البركات التي عادت علينا نتيجة الآلام التي جازها الرب يسوع : « مجروح لأجل معاصينا ، مسحوق لأجل آثامنا . تأديب سلامنا عليه ، وبحبره شفينا » ( إش 5:53 ) . لقد تحمل الرب يسوع الصليب والإهانات من أناس خطاة من أجل السرور الموضوع أمامه ،  ومن ثم جلس عن يمين العظمة في الأعالي ( عب 2:12 و 3 ) . فآلامه جلبت لنا الخلاص ، لذلك يجب ألا نيأس أو نضعف بسبب الآلام ( عب 3:12).

حقاً ، لقد جاهد بولس الرسول وكرز بالإنجيل ، ونال مواهب التعليم والشفاء وباقي مواهب الروح القدس . لكن كانت الشوكة التي نالها في جسده أعظم من جميع المواهب التي حصل عليها ، لأنها هي التي حافظت له على هذه المواهب . والقديس بولس نفسه يشرح هذه الحقيقة بأسلوبه قائلاً :
+ «إِنَّهُ لاَ يُوافِقُنِي أَنْ أَفْتَخِرَ. فَإِنِّي آتِي إِلَى مَنَاظِرِ الرَّبِّ وَإِعْلاَنَاتِهِ…
وَلِئَلاَّ أَرْتَفِعَ بِفَرْطِ الإِعْلاَنَاتِ، أُعْطِيتُ شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ، مَلاَكَ الشَّيْطَانِ لِيَلْطِمَنِي، لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ. مِنْ جِهَةِ هذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي. فَقَالَ لِي:«تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ». فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ. لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ.» ( 2 كو 1:12 و7-10) .

المفاهيم الروحية للرياضة البدنية كتب أنبا إبيفانيوس ذبائح الأوثان 
كتاب مفاهيم إنجيلية
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى