من مقالات الأنبا غريغوريوس أسقف عام البحث العلمي

حياة الإنسان سفينة

 

بعد أن صنع رب المجد تلك المعجزة المشهورة، معجزة إشباع الجماهير من خمسة أرغفة وسمكتين، وكان عدد الناس كما أحصوهم خمسة آلاف من الرجال فيما عدا النساء والأطفال، وبعد أن أشبعهم أمر تلاميذه أن يسبقوه إلى الضفة الأخرى من البحيرة، هذه البحيرة التي عرفت بأنها بحيرة طبرية نسبة إلى طيباريوس قيصر، أو بحيرة جنيسارت أو بحر الجليل، فلسطين بها ثلاث مقاطعات، المقاطعة الشمالية واسمها الجليل التي فيها مدينة الناصرة التي تربي ونشأ فيها السيد المسيح، والمقاطعة الوسطى واسمها السامرة واليوم يسموها نابلس، والمقاطعة الجنوبية اسمها اليهودية، وعاصمتها أورشليم.

فأمر تلاميذه أن يسبقوه إلى العبر أو إلى الضفة الأخرى من البحيرة، إلى أن يصرف الجموع، وصرف الجموع أخذ وقت طويل، لأن كل واحد له طلب والسيد المسيح له المجد كان يحقق له هذا الطلب، سواء كان شفاء مرضى أو إخراج شياطين أو أي طلب آخر، وبعد ذلك صعد السيد المسيح إلى الجبل ليصلي، وقضى في هذه الصلاة إلى الهزيع الرابع من الليل أي إلى الفجر، وكان الليل يقسم إلى أربعة أقسام، من الساعة 6 مساءاً إلى 9 مساءً يسموه الهزيع الأول، من 9 مساءا إلى 12 مساءا يسموه الهزيع الثاني، ومن 12 إلى 3 صباحا يسموه الهزيع الثالث، ومن 3 إلى 6 صباحاً يسموه الهزيع الرابع.

فسیدنا صعد إلى الجبل وظل هناك إلى الهزيع الرابع أى حتى 3 صباحاً تقريباً، وبعد ذلك نزل من الجبل، وكان التلاميذ قطعوا مرحلة كبيرة جداً في البحر، وكانت السفينة معذبة من ريح مضادة، كلمة معذبة لها معنى معنوى، المعنى المادي لكلمة معذبة أي الريح تضرب فيها وهي تصعد وتنزل مع الموج، كلمة «معذبة»، تعبير عاطفي إنساني معنوي، وفي الحقيقة لو تأملناه نجد فيه إشارة إلى حياة الإنسان نفسه، كل إنسان فينا حياته كما لو كانت سفينة تعبر من مكان إلى مكان آخر، عندما نولد تبدأ حياتنا على الأرض ونمشي في الدنيا ونجاهد وآخر الأمر في نهاية الرحلة نفارق هذه الدنيا، فيوم المفارقة هو عبارة عن خروجنا من هذه الحياة إلى الحياة الأخرى، فكأن حياة الإنسان سفينة تعبر من شاطيء إلى شاطيء، فعندما نولد نبدأ من شاطيء حتى نهاية الحياة في الدنيا ندخل إلى شاطىء آخر، لذلك نصلي قائلين: قدنا إلى ميناء هادئة ميناء السلام، نريد أن نصل ونعبر بسلام إلى الشاطيء الآخر.

والحقيقة هذا المعنى ممكن أن تحس به تماماً عندما تسافر إلى الخارج بسفينة، فعندما تتحرك السفينة وتغادر الشاطيء، بعدها تختفى السفينة وهنا الإختفاء لا بمعنى الزوال، ولكن هي عبرت ولذلك عندما يغادر الإنسان هذا العالم يختفى من نظر الناس الأقرباء والأصدقاء، لكن هو في الواقع عبر إلى الشاطيء الآخر، وكلمة السفينة كانت معذبة لأن الريح كانت مضادة، فيها لمسة روحية وتشبيه بالنسبة لحياة الإنسان، الإنسان في حياته في الدنيا فيها مصارعات، والله له قصد أن نتعلم من هذه المصارعات، لانتعلم إن لم نتألم فلابد أن نصارع في الحياة، توجد صعوبات وضيقات، ومضايقات، ومنغصات، سواء أكانت من بشر أو من الشياطين، فكلمة السفينة معذبة في الحقيقة تلفت نظرنا إلى حياة الإنسان في الدنيا، لكن لا يجب أن ننظر لها نظرة متشائمة، لكن لكي نتعلم أن من هذا العذاب لابد أن نتقوى، بالضبط مثل الألعاب الرياضية، أنت في الألعاب الرياضية تمد جسمك طولا وعرضاً وهذا يكون فيه معاناة وفيه مجهود تقوم به، لكن هذا المجهود يقوى عضلاتك الجسدية كما قال الكتاب المقدس: «الرياضة الجسدية نافعة لقليل»، فالله لايتركنا للمصارعات وللعذاب، ولكن حكمته الكبيرة أن نتعلم من المصارعات مع الحياة، ونختبر عمل الله في حياتنا، وهذه تزيد الإيمان وتشعرنا أننا لسنا بمفردنا في الحياة، وأن هذه التجارب والآلام والمنغصات مقصودة لكي نتعلم منها في هذه المرحلة الأولى من حياتنا، وهذا سينفعنا وسيفيدنا في المرحلة التالية بعد حياتنا على الأرض، وأخيرا جاء السيد المسيح في الهزيع الأخير وسار على البحر، ورغم أن كل الذين في السفينة رجال كبار صرخوا لأنهم ظنوه شبحاً، فقال لهم: أنا هو لا تخافوا، وعندما دخل السفينة صارت في هدوء عظيم ووصلت إلى الشاطيء بأمان، لكن السؤال لماذا تركهم كل هذا الوقت؟ لكي يتعلموا، ولكي يرى كيف يتصرفون ولأن هذا ينفعهم فيما بعد.

وأيضا في حادثة أخرى يقول الكتاب المقدس: أن السيد المسيح كان في السفينـة نائماً على وسـادة وهـم معذبين، لدرجـة أنهم ذهبوا إليه وبشيء من قلـة اللياقـة، قالوا لـه: أما يعنيك أننا نهلك، فقام وانتهر الريح وصار هدوء عظيم. ونفس السؤال لماذا نام على وسادة وتركهم؟ الله لاينام ولايغفل لكنه صنع ذلك ليعطيهم فرصة، لكي يعرفوا أن يتصرفوا في الوقت المناسب، عندما يعجز الإنسان يمد الله له يد العون، لكن لابد أنت أن تصارع الحياة، لابد أن تشغل عقلك، وقلبك، والمواهب والوزنات التي أعطاها لك الله، وعندما تحس أنك عجزت اطلب المعونة، لكن لا تلغى دورك، مثل التلميذ الذي عنده امتحان، فيذهب إلى الكاهن ويطلب الصلاة ظناً منه أن الصلاة تغنيه عن المذاكرة، لا .. الصلاة مطلوبة لكن أنت يجب أن تذاكر والصلاة تجعل الله يشد أزرك، ويقويك، لكن أنت لابد أن تعمل، نحن موجودين في الحياة من أجل العمل، لماذا خلق الله الإنسان؟ خلقه للعمل، في مبدأ الأمر يقول: كانت الأرض خربة وخالية لماذا؟ لكي يعطى فرصة للإنسان أن يشتغل ويعمر الأرض، وفعلا حدث هذا والإنسان عمر الأرض وعمل الحضارة الإنسانية التي وصلنا إليها الآن، فلا تنتظر أن الله يعمل لك كل شيء، هذا مفهوم خاطيء، نحن خلقنا للعمل فلابد للإنسان أن يعمل، إن كان تلميذاً يذاكر، وإن كان عامل يعمل، إن كان أبا أو أماً أو مزارعاً فلابد أن يعمل، لاتعتمد على الله في كل شيء، هذا ليس تدين، بل هذا مفهوم خاطىء للحياة الروحية، أنت لك دور ياإنسان، الله له دور وأنت لك دور، لابد أن تؤدى دورك أولاً، والله يعاون أو يكمل الذي لا تقدر عليه، لكن هناك أشياء كثيرة نقدر عليها فلابد أن تمارسها، وتشغل مواهبك والوزنات التي عندك، في كل ناحية من النواحي، الرجل يعمل، والمرأة تعمل والصغير يعمل والشباب يعمل، هذا معنى أن السفينة معذبة، تركهم لكي يعملوا ولكي يتعلموا ولكي يتدربوا.

وفعلا بعد أن صعد السيد المسيح إلى السماء، ابتدأوا التلاميذ يعملوا، هكذا نحن بصفة عامة لابد أن نعمل روحياً وإجتماعياً وأدبياً وعملياً، ونشغل مواهبنا، قد يتركنا الله ولكن ليس إهمالاً لنا، بل عينه علينا ولكنه تركنا لكي يعطينا الحرية ويعطينا الفرصة والوقت، لكن لابد أن يأتى حتى في الهزيع الرابع، ولا يدخل إلى السفينة حتى يطلبوه، إنه لا يفرض نفسه، أنا واقف على الباب أقرع إن فتح لي أحد أدخل، أنا لا أفرض ذاتي عليه، الإنسان خلق حراً فهو الذي يطلب، أنا واقف على الباب، أنا مستعد أن أساعده، لكن عليه أن يطلب، إن فتح أحد أدخل وأتعشى معه وهنا ترمز إلى اللذات الروحانية، عندما المسيح إلهنا يدخل في قلب الإنسان، والإنسان يعيش هذه الحياة الروحية يتمتع باللذات الروحانية، هذا نتيجة إن فتح أحد أدخل، وهذه تجدها أيضا في نشيد الأناشيد، يقول: العريس يطرق على الباب، وطبعا العروس هنا تمثل النفس الإنسانية، فقال لها: افتحي لي يا حبيبتی یاکاملتی، قالت له: قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه وغسلت رجلي فكيف أوسخهما، حاولت أن تتعلل كما يتعلل البعض ويخلق لنفسه أعذار، كما نقول نحن أنا لا أقدر….، انتظر ولم تفتح فتحول عنها، فإلتهب قلبها فقامت فورا وفتحت الباب فلم تجده، فجريت في الشوارع، وهي تصرخ وتقول: يابنات أورشليم هل رأيتن حبیبی، حبيبي أبيض وأحمر معلم بين ربوة، يقول: فوجدوها الحراس فعروها، كل هذا يشير إلى النفس البشرية، المسيح لايفرض نفسه عليها، ولكن ينتظر أن الإنسان هو الذي يطلبه، إذا فقد الإنسان هذه الفرصة فقد يفقدها إلى الأبد، لأن العروس عندما قامت وفتحت الباب كان تحول وعبر عنها.

 المهم أن المسيح لا يفرض نفسه، الإنسان والملائكة كائنات حرة عاقلة مريدة مسئولة، لكن الحيوانات العجماوات والحشرات وما إليها تحكمها الغريزة المطلقة، إنما البشر لهم العقل الذي تقدر أن تستخدمه فتربط به، ما معنى العقل؟ الرباط، عقل الناقة ربطها، منها العقال الذي يستخدموه الفلسطينيين في ربط الرأس، الإنسان يعقل نفسه أي يربط نفسه، يريد أن يندفع فيحكم نفسه ويمسك اللجام، نحن والملائكة كائنات عاقلة حرة مريدة، أي لها إرادة. فتختار الشر أو تختار الخير، فهي مسئولة لها جزاء ولها عقاب. فالله في الوقت المناسب ممكن أن يتدخل بناء على طلب الإنسان، وهنا أهمية الصلاة عندما أشعر أنني في حاجة إلى يد الله معى، أصلى وأطلب القوة لكن لا أعفى نفسي من العمل وأقول الله يعمل،هذا خطأ، هذا رأى من يؤمنوا بالقدرية، الذين يقولوا أن كل شيء مقدر، لا .. الإنسان له إرادة وفي بعض الأحيان إرادة الإنسان تتعارض مع إرادة الله، كما قال الله لأورشليم «كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها ولم تريدي»، كل شيء بإذن الله، نعم لأن الله حاكم الكون، لا شيء يحدث بدون إذنه وبدون علمه، لكن ليس كل شيء يحدث بإرادة الله، يحدث قتل لكن هل الله يريد القتل؟ يوجد زنا، يوجد سرقة، يوجد ظلم في الدنيا هل الله يريد هذا؟ أبدأ أبدأ أبدأ، لكن الإنسان له دور، فإذن تنبه يا إنسان لأن لك دور، لا تتصور أن هذا تدين عندما تلصق كل شيء الله، لا .. هذا تنصل من المسئولية، كتنصل آدم الذي جعل المسئولية على حواء، وكتنصل حواء التي ألقت المسئولية على الشيطان، لا .. الشيطان مجرد أن أعطاها فكرة ولكن هي نظرت إلى الشجرة فرأتها شهية، ومن هنا الشهوة جعلتها مدت يدها وليس الشيطان، ثم أكلت وأعطت زوجها، فلا تتنصل من المسئولية وتلقيها على الله أو على الشيطان الذي أغواك وتسلط عليـك، لا .. أنت كائن حـر عـاقـل مريد مسئول، لذلك لم يقبـل الله منه هذه الأعذار، قال له: «ملعونة الأرض بسببك لأنك سمعت لقول امرأتك»، ممكن للإنسان أن يسمع رأي الآخرين لكن هو صاحب القرار يقبل أو لايقبل، فلماذا تتمحك أيها الإنسان وتقول الشيطان أغواني، هذا نوع من التنصل من المسئولية. يجب أن تشعر أنك أنت الإنسان المسئول، لذلك عاقب الله آدم ولم يقبل منه الإعتذار.

صعد السيد المسيح على الجبل وقضى الليل كله في الصلاة، والصلاة أنواع: صلاة الشكر، وصلاة التسبيح، وصلاة الطلب، وصلاة التأمل. ليس كل صلاة طلب، الصلاة من الصلة، فكون أن الإنسان يشكر الله وقد لايطلب شيئا تعد صلاة، فهو يتصل بالله للشكر.

وكون الإنسان يسبح بالتسابيح مثل الإبصلمودية وهي ليست فيها طلبات، هذا التسبيح وهذه المزامير وهذه الموسيقى هي نوع من الصلاة لأنها تصلنا بالله.

وكون الإنسان يتأمل، هذا التأمل الروحاني يجعل الروح تدخل إلى الحضرة الإلهية، وهذا مايحدث للآباء الروحانيين الكبار، أنه يستمر يصلي الليل كله، أو يصلى النهار كله أو يصلى أيام مثل السواح وما إليهم، هو يسرح في الله، لا يقف عن الصلاة، إنما هو يعطى فرصة للروح أنها تدخل داخل الحياة الروحانية،ولا يدرى بنفسه من كثرة التأمل ورفع العقل والقلب، كما قال يوحنا الرسول كنت في الروح، في يوم الرب، ما معنى كنت في الروح؟ يعني كان غارق في الروحانيات وفي التأمل العالي.

وتوجد صلاة الطلب، الطلب الذي فيه الإنسان يطلب شيء، لكن لاتتصوروا أن المسيح الله الظاهر في الجسد، عندما يصلي ويقال في الكتاب المقدس أنه كان يصلي، أنه كان يطلب شيء، لا .. لأنه مالك كل شيء، المرة الوحيدة التي صلى فيها صلاة الطلب كان في بستان جثسيماني لأنه كان في وضع النيابة عن الإنسان، لكن فيما عدا ذلك كانت صلاة المسيح عبارة عن مناجاة وتأمل، ولفت النظر إلى السماء لكي تتعلم الناس أن الله مصدر كل خير وكل بركة. فصلاة المسيح على الجبل هي مناجاة، هو لا يطلب شيئا، هي مناجاة بينه وبين الآب لكي يظهر أنه واحد مع الآب. المسيح لا يصلى صلاة الطلب، لكن في بستان جثسيماني كان بالنيابة عن الإنسان، وفيما عدا ذلك كانت صلاة المسيح عبارة عن مناجاة بينه وبين الآب لبيان الوحدة الإلهية.

زر الذهاب إلى الأعلى