كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار

رئيس المجمع

بعد أن شفى الرب يسوع مريض كورة الجدريين من الأرواح الشريرة التي كانت متسلطة عليه، ركب السفينة واجتاز إلى العبر، فاستقبله جمع كثير من الشعب لأنهم كانوا ينتظرونه، إذ أن نفوسهم كانت قد تعلقت به، خاصة بعد أن شاهدوا الآيات والعجائب التي صنعها بينهم. وهم اليوم قد أتوا ليشفوا من أمراضهم، وليسمعوا التعاليم التي اعتاد أن يعلمها لهم.

وفي وسط هذا الحشد الهائل وإذا برجل يجلله الحزن، قد انسل في وسط الجموع وأسرع وارتمى عند قدمي يسوع. لقد كانت ابنته الوحيدة في الرمق الأخير. وبالرغم من أن اليأس كان قد تملكه، وفقد أي أمل في شفائها، لكنه عندما سمع باقتراب يسوع من تلك النواحي، حثَّ الخطى لعل هذا الطبيب الشافي يستطيع أن يشفي له ابنته قبل أن يختطفها الموت منه. وفي صوت حزين قدم هذا الرجل، وكان اسمه يايرس، التماسه العاجل ليسوع (مر ٥: ٢١-٤٣).

لقد كانت لحظة تدعو إلى الأسى وتستدر الشفقة. فالرجل كان من الشخصيات الهامة التي كان لها وزن في المجتمع. فما بالنا الآن نراه راكعاً في حضرة كل هذا الجمع الحاشد على التراب أمام يسوع، مناشداً إياه إنقاذ ابنته: “ولما رآه خر عند قدميه. وطلب إليه كثيراً قائلاً: ابنتي الصغيرة على آخر نسمة. ليتك تأتي وتضع يدك عليها لتُشفى فتحيا”. وكلنا يعلم بقية القصة، فقد تحنن الرب يسوع على الرجل وأقام له ابنته من الموت. ولكن ماذا نعرف عن الرجل نفسه وعن المهنة التي كأن يمتهنها في المجتمع.

كآن يايرس أحد رؤساء المجمع اليهودي (السيناجوج)، وكانت هذه واحدة من المهن ذات المكانة والنفوذ في المجتمع اليهودي. وبالرغم من قلة المعلومات حول هذا المنصب، فإن ما تمدنا به المصادر المسيحية واليهودية والتاريخية العامة، وخاصة النقوش المكتشفة عل بعض الآثار، يكفي لكي يقنعنا بأن يايرس كان يشغل منصباً ذائع الصيت، وكان يتمتع بكرامة عظيمة واحترام زائد سواء من مواطنيه أو من رجال المجتمع عامة.

أما لقب “رئيس المجمع” فهو ترجمة للكلمة اليونانية(أرشي سيناجوجوس)، وهذا اللقب كان مستعملاً في اللغة اليونانية القديمة ليشير إلى رئيس الاحتفالات الدينية الوثنية أو رئيس مجموعة من العمال تشكل ما يشبه النقابة. ويحتوي الأدب اليهودي على إشارات متفرقة لهذه الوظيفة مستعملاً العبارة العبرية (روش ها – كنيسيت) أي رأس الكنيسيت أو الجماعة . وتكرم بعض هذه الإشارات وظيفة رئيس المجمع لارتباطها بالتوراة، لأن من يشغل هذه الوظيفة تكون إحدى مهامه الأساسية ترتيب فصول القراءات من التوراة أثناء إقامة الشعائر الدينية في المجتمع . وهناك بعض النقوش القديمة التي تشهد أن مهنة رئيس المجمع كأنت معروفة ومنتشرة في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية: في فلسطين ومصر وفينيقية وسوريا وأسيا الصغرى ومقدونية وتراقيا واليونان وقبرص وإيطاليا، وأنها كانت معروفة تماماً أيام المسيح وفي عصر الكنيسة الأولى.

مهام رئيس المجمع:

تتركز مهام رئيس المجمع – بالدرجة الأولى – في نطاق الخدمات التي كانت تُجرى داخل المجمع. ولأن الهدف الأساسي من المجمع كان قراءة التوراة عل الشعب وتعليم الوصايا التي نصت عليها الشريعة، لذلك كأن العمل الرئيسي للمسئول متابعة تنفيذ هذه المهمة بكل أمانة. فكان عليه أن يتابع كل تفاصيل الخدمة في المجمع، وعليه أن يختار من يقوم بقراءة فصل التوراة المنتخب للخدمة، ومن يقوم بقيادة الصلاة، وكان أيضا يدعو الشخص المناسب من بين الحضور لكي يعظ الشعب ويفسر لهم التوراة.

مهمة ثانية كانت ملقاة عل عاتق رئيس المجمع، وهي الاهتمام بعمارة المجمع وتأسيسه. فهناك بعض النقوش التي تمتدح أحد رؤساء المجامع في أورشليم، وكان يُسمى ثيئودوتس، لأنه اهتم بترميم مجمعه، وآخر لأنه أنفق عل إقامة أحد المجامع. وهناك نقش آخر يمتدح رئيس المجمع وابنه لأنهما اهتما بالإنفاق عل ترميم المجمع بعد تعرضه لبعض الأضرار.

ولم تكن مهام رئيس المجمع منحصرة فقط في نطاق المجمع وخدماته، بل كان أيضا يلعب دوراً هاماً في الشئون العامة للرعية. فلأنه كان مسئولاً عن مناهج التعليم داخل المجمع، فقد مارس بالضرورة بعض السلطات في المجتمع اليهودي، لأن اليهود عامة لم يكونوا يفصلون بين الحياة الدينية والواجبات المدنية في المجتمع. فكلا المجالين كانا خاضعين لشيوخ المجتمع. وهو النظام الذي أقامه موسى الني عندما عين سبعين شيخاً تكون مهمتهم حل جميع مشاكل الجماعة. وفي بعض الأحيان يكون رئيس المجمع من جماعة الشيوخ ثم يقام بعد ذلك ليتولى مهام الإشراف على خدمات المجمع.

ربما لم يكن لرؤساء المجامع أي سلطات رسمية تخولهم الحق للتدخل بالقوة لحل مشأكل المجتمع، ومع ذلك فقد كان ينظر اليهم كأشخاص ذوي دراية وحنكة في شئون الحياة، فهم من أصحاب العلم والمعرفة، ومن المسئولين عن رصد أي خرق للناموس والشريعة. وقد تطور منصب رئيس المجمع بعد ذلك، حتى أصبح رئيس المجمع من المتكلمين الرسميين عن الجماعة اليهودية، وذلك حسب قوانين الإمبراطور ثيثودوسيوس في القرن الرابع الميلادى.

اختيار رئيس المجمع

لا تمدنا المصادر اليهودية بقوانين محددة لاختيار رؤساء المجامع. بيد أن هناك بعض النقوش التي تظهر أن منصب رؤساء المجامع كان سارياً في بعض العائلات. فثيئودوتس الذي سبق ذكره كان ابناً وحفيداً لرئيسي مجمع. كما أن هناك شاهداً على أحد المقابر لطفل عمره ثلاث سنوات كان يحمل هذا اللقب، مما يثبت أن أطفال هذه العائلة كان من المتوقع أن يشغلوا هذا المنصب، مما جعل بعض الدارسين يعتقدون أن هذا المنصب كان وراثياً على الأقل في هذه العائلة. وهناك نقش آخر يتكلم عن تعيين واختيار أحد الرؤساء.

أما عن المدة التي كان يقضيها رئيس المجمع في منصبه فلم تكن محددة. فهناك ما يثبت أن البعض قد شغل هذا المنصب مدى الحياة، وآخرين لسنوات محدودة (سنة واحدة أو خمس سنوات)، وهذا معناه أن مدة الرئاسة كأنت تخضع لظروف وعادات كل مجتمع.

وكان اختيار رؤساء المجامع يتم عادة من بين الرجال، ولم يكن للنساء حظ في هذه الوظيفة، على الأقل في المجامع الكائنة داخل فلسطين. أما خارج فلسطين فيبدو أن هذه القاعدة لم تكن مرعية بكل صرامة. فهناك نقش أثري من جزيرة كريت يخلد ذكرى المدعوة “صوفيا من جورتن” التي شغلت وظيفة “شيخ (برسفيتيرا) ورئيسة مجمع بلدة كيزاموس”. ولا ننسى أنه فيما مضى شغلت النساء منصب “نبية وقاضية” في إسرائيل (قض ٤: ٤). ولكن يبدو أن هذا اللقب كان شرفياً أكثر من كونه لقباً رسمياً إذ أنه تم العثور أيضا عل بعض النقوش التي تحمل لقب “أم المجمع”

رئيس المجمع في العهد الجديد:

يأتي ذكر رؤساء المجامع في العهد الجديد في خمسة مواقف: اثنان منها في الأناجيل، والباقي أثناء خدمة القديس بولس الكرازية.
كان الموقف الأول في كفرناحوم عندما طلب يايرس رئيس المجمع من الرب يسوع أن يشفي له ابنته، كما سبق وذكرنا. والثاني تم في إحدى مدن اليهودية، فبينما كان يسوع يعلم في أحد المجامع في يوم سبت، نظر وإذا امرأة منحنية ولم تقدر أن تنتصب البتة. فتحنن عليها يسوع وأبرأها من مرضها دون أن تطلب هي منه ذلك. فاحتج رئيس المجمع واغتاظ من الرب يسوع لأنه أبرا في يوم سبت. لقد غلَّف رئيس المجمع احتجاجه بصورة الغيرة على الناموس والتصدي لأي محاولة يشتم منها خرق الشريعة أو انتهاك حرمتها. فوبخه الرب يسوع وبين له أن الشريعة التي لا تمنع الإنسان من أن يحل ثوره أو حماره يوم السبت ويمضي ويسقيه، لا يمكن أن تعترض عل شفاء امرأة قد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة، وكان ينبغي أن تُحل من رباطها في يوم السبت، وإذ قال هذا اخجل جميع الذين كانوا يعاندونه، وفرح الجمع كله بجميع الأعمال المجيدة الكائنة من يسوع (لو ١٣: ١٠-١٧).

حادثة أخرى تظهر إحدى مهام رئيس المجمع، إذ بينما كان الرسولان بولس وبرنابا في أنطاكية بيسيدية، دخلا المجمع يوم السبت وجلسا. وبعد قراءة بعض فصول من الناموس والأنبياء، طلب منهما رؤساء المجمع أن يقولا كلمة وعظ للشعب. وأتت دعوة رؤساء المجمع لبولس بثمارها المرجوة، إذ بعد أن أنهى بولس كلمته: «تبع كثيرون من اليهود والدخلاء المتعبدين بولس وبرنابا، اللذين كانا يكلمانهم ويُقنعانهم أن يثبتوا في نعمة الله» (أع ٣: ١٥و٤٣).

وبالرغم من أن هذه الحادثة لا تذكر لنا هل آمن رؤساء المجمع على يدي بولس أم لا، نجد أن الموقف في كورنثوس كان أكثر وضوحاً، إذ أن بولس قد ربح للمسيح اثنين عل الأقل من رؤساء المجمع. فبعد أن أخذ بولس يتناقش مع اليهود كل سبت في المجمع، وهم يقاومونه ويجدفون عل تعاليمه، آمن كريسبس رئيس المجمع هو وجميع بيته “وكثيرون من الكورنثيين إذ سمعوا آمنوا واعتمدوا» (أع ١٨: ٨). والعجيب أن كريسبس هذا كان من الأشخاص القليلين الذين عمدهم بولس الرسول بيديه: «أشكر الله أني لم اعمد أحدا منكم إلا كريسبس وغايس … وعمدت أيضاً بيت استفانوس. عدا ذلك لست أعلم هل عمدت أحدا آخرا” ( 1كو1: 14و16).

أما رئيس المجمع الثاني الذي آمن على يدي بولس الرسول في كورنثوس فهو سوستانيس. فبعد أن آمن كريسبس رئيس المجمع وكثير من اليهود، ظهر الرب لبولس في رؤيا وقال له: «لا تخف، بل تكلم ولا تسكت، لأني أنا معك، ولا يقع بك أحد ليؤذيك، لأن لي شعباً كثيراً في هذه المدينة فأقام سنة وستة أشهر يعلم بينهم بكلمة الله” (أع ١٨: ٩-١١). لم يحتمل اليهود كرازة بولس الرسول بينهم، فقاموا عليه وجروه أمام غاليون والي أخائية، ولما رفض غاليون أن يستمع لشكواهم، قاموا على سوستانيس رئيس المجمع وضربوه قدام كرسي الوالي (أع ١٨ : ١٢-١٧). ويبدو أن سبب اعتدائهم عليه، أنهم أحسوا بتعاطفه مع بولس وأنه كان يميل إلى تعاليمه. وبعد مرور الأيام يكتب بولس رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس ويفتتحها بهذه الآية: «بولس، المدعو رسولاً ليسوع الميسح بمشـيئة الله، وسوستانيس الأخ، إلى كنيسة الله التي في كورنثوس». لقد كان سوستانيس رئيس مجمع كورنثوس إحدى ثمار خدمة بولس الرسول في تلك المدينة.

آية يونان النبي كتب أنبا إبيفانيوس تجلي المسيح وتجلي التلاميذ
كتاب مفاهيم إنجيلية
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى