كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار
موكب نصرة المسيح
في رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل كولوسي ، يقدم الرسول الشكر لله الآب الذي « أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور ، الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ، ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته » (12:1و13) . ثم يعقب الرسول على ذلك موضحاً ، فإن كان الله قد أنقذنا من الظلمة وحررنا من أسر العدو ، فيجب علينا أن ننتبه لئلا يحاول أحد أن يعود فيسبينا مرة أخرى بأقوال فلسفية وبغرور باطل وبكلمات منمقة تبدو منطقية فنرتد للخضوع للعالم وليس للمسيح (كو8:2) . لأنه قبل مجيء المسيح كنا أمواتاً في الخطايا ، لكنه بقيامته من بين الأموات ، أحيانا معه وسامحنا بجميع الخطايا ( كو ١٣ : ٢ ) . والمسيح بقيامته من بين الأموات انتصر على الموت ، وعلى من له سلطان الموت ، أي إبليس.
ولكي يقنع القديس بولس مؤمني كنيسة كولوسي بالنصرة التي حققها المسيح على الموت ، بالرغم من كل الضيقات التي يواجهونها ، يصف لهم المعركة التي انتصر فيها المسيح ، والأعداء الذين دخل المعركة ضدهم ، والساحة التي شهدت انتصاره. ثم يصور لهم موكب الانتصار الذي عاد به ظافراً إلى السماء : « إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهاراً ، ظافراً بهم فيه ( في الصليب ) » ( كو 15:2). فمن أين أتى القديس بولس بهذا التصوير ؟
لمحة تاريخية:
الكلمة اليونانية التي أوردها القديس بولس لوصف هذا الموكب الانتصاري هي الفعل θριαμβενω ومنها الاسم θριαμβος ( ثريامفوس ) . وهذه الكلمة دخلت إلى اللغة اللاتينية Triumphus ومنها إلى اللغات الأوروبية Triumph.
ويرتبط استعمال هذه الكلمة في الأدب اليوناني الكلاسيكي بمواكب الاحتفال التي كانت تجرى في أعياد الإله ديونيزوس Dionysus إله الكروم ، والذي كان يسمّى أيضاً الإله باخوس ، حيث كانت تجوب المواكب المدن إلى أن تنتهي عند المعابد المخصصة لهذا الإله.
بعد ذلك صارت هذه الكلمة تشير إلى مواكب انتصار القادة الرومان عند عودتهم من المعارك الحربية. فعندما كان يقهر القائد الروماني أعداءه ، يقفل راجعاً إلى روما في موكب احتفالي مهيب ، وهو محمل بالأسلاب التي اغتنمها من العدو ، ويجر خلفه الأسرى الذين تم أسرهم في المعركة.
وعند اقتراب هذا الموكب من روما يخرج كل الشعب لاستقباله ، حيث يدلف الموكب من بوابات روما ويتقدم في شوارعها . يتقدم قائد الجيش الموكب ، راكباً على عجلة حربية يجرها زوجان من الخيول ، مرتدياً رداء أرجوانياً ، ومتحلياً بالذهب ، وعلى رأسه إكليل الظفر ، حاملاً في يمينه غصناً ، وفي يساره صولجاناً عليه رسم صورة النسر . يتبع القائد في موكبه الجنود وهم يعرضون الأسلاب ، وفي بهجة انتصارهم يلوحون بالذهب والفضة واللآلئ والمجوهرات التي ظفروا بها . يأتي بعدهم الرومان الذين كانوا أصلاً أسرى وتم إنقاذهم من الأسر ، ثم يتبعهم الأسرى من جيش العدو وهم مصفدون بالأغلال . ويكتمل المشهد الاحتفالي بفرق الموسيقى والمغنيين والراقصين ، ثم الجموع التي ترافق الموكب.
ويصف لنا المؤرخ اليهودي يوسيفوس كيف كان يزين المواطنون الرومان المدينة بأكاليل الزهور أثناء هذه الاحتفالات . كما يصف لنا المواكب التي سار فيها قادة روما مثل : فاسباسيان وتيطس ودومتيان . فبعد الحصار الذي ضربه القائد تيطس على أورشليم وتم تدمير المدينة ، عاد تيطس في موكب احتفالي إلى روما ، وكان جنوده يحملون معهم ما تم نهبه من هيكل أورشليم مثل : المنارة ذات السبعة سرج ، والمائدة الذهبية ، مع بعض الألواح والأدراج التي كان مسجلاً عليها الناموس والتوراة.
وكان من أهم ما افتخر به القائد تيطس في موكبه الانتصاري اقتياده لأهم قادة الثورة اليهودية ، ومنهم شخص يدعى سمعان بن جيوراس كان قد أسره أثناء حصاره لمدينة أورشليم . فقد قام سمعان هذا ـ وقد لقبه يوسيفوس بالطاغية – بإخفاء كثير من أصدقائه في كهف تحت الأرض أثناء مدة الحصار ليخلّصهم من بطش الجنود الرومان. ولما نفذ ما لديه من مؤن وأطعمة ، خرج من الكهف لابساً ثياباً بيضاء عليها عباءة حمراء . وكان مصيره الوقوع في الأسر ـ مع أصدقائه – واقتياده أسيراً إلى روما كأهم أسير تمكن الجيش من اقتناصه . وفي روما بعد أن قام الجيش بالتشهير به أمام شعب روما ، اقتادوه إلى هيكل الإله جوبيتر حيث أعدموه هناك . وبذلك انتهى هذا الموكب الانتصاري.
عودة إلى القديس بولس :
لقد استعار القديس بولس مشهد احتفالات النصر الرومانية – بكل تفصيلاته ـ ليقرب إلى أذهان المؤمنين ما فعله المسيح من نصرة على قوات الشر الروحية ، إذ نراه يخاطبهم قائلاً : « إذ جرد الرياسات والسّلاطين أشهرهم جهاراً ، ظافراً بهم فيه ( في الصليب ) » (كو 15:2).
“إذ جرد الرياسات والسلاطين”:
لم تكن معركة المسيح ضد صالبيه من اليهود ، أو ضد من حكموا عليه بالصلب من الرومان ؛ بل كانت مع قوات الشر الروحية ، أي مع إبليس وأعوانه . أولئك الذين تكلم عنهم بولس الرسول قائلاً : « فإنّ مصارعتنا ليست مع دم ولحم ، بل مع الرؤساء ، مع السّلاطين ، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر ، مع أجناد الشر الروحية في السماويات » ( أف12:6).
وتصور كلمة ” جرَّد “ ، كيف تعامل الرب يسوع مع أولئك الرؤساء والسلاطين . فهذه الكلمة كانت تستعمل عندما كان يتم تجريد أحد القادة من رتبته . كما أنها كانت تُستعمل في قاعات المحاكم عندما يتم الحكم على أحد الأشراف بالخيانة ، فيتم تجريده من النياشين والأنواط الحاصل عليها مع حرمانه من درجته ومكانته التي يتمتع بها. هكذا عندما اصطدم الرب مع هذه القوات وهو على الصليب ، جرَّدهم من قوتهم ونزع سلاحهم الذي اتكلوا عليه . أليس هذا هو ما قاله الرب عن هذه القوات قبل أن يتم معركته معهم :
+ “حينما يحفظ القوي داره متسلحاً ، تكون أمواله في أمان . ولكن متى جاء من هو أقوى منه فإنه يغلبه وينزع سلاحه الكامل الذي اتكل عليه ويوزع غنائمه » ( لو 11 : 21 و 22).
+ « رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السّماء » ( لو 18:10).
يقول القديس أثناسيوس في كتابه عن حياة القديس أنطونيوس :
[إن الشياطين في غاية الجبن ، وتخشى جداً علامة صليب الرب ، لأن الرب قد جردها في الصليب حقاً ، وأشهرهم جهاراً ] “.
ففي الصليب انتهى زمن تسلط هذه القوات على الخليقة ، وتم إخضاعها للابن ، ليس طوعاً وعن إرادة ، بل غصباً أمام قوة لم يقدروا على مقاومتها . لقد تم إخضاعها ، ولم يتم إبادتها ، فهي ما زالت موجودة تقاوم الإنسان وتحاربه ، لكنها لا تستطيع أن تؤذي الإنسان الثابت في المسيح : « سمعان سمعان ، هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة ! ولكنّي طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك . وأنت متى رجعت ثبت إخوتك » ( لو 31:22 و 32).
يوضح القديس أثناسيوس دور الصليب في هزيمة الشيطان وكل أعماله:
[ بعلامة الصليب يبطل كلُ سحر وتتلاشى قوة العقاقير السامة ،
وتصير الأوثان خربة ومهجورة ، وتبطل كل الشهوات الدنيئة ،
وتتحول أنظار الجميع من الأرض إلى السماء !
وهذا هو ما قاله هو نفسه ( أي الرب )
مشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن يفدي بها الجميع :
« وأنا إن ارتفعتُ أجذب إلي الجميع » ( يو 12 : 32).
فقد جاء الرب ليطرح الشيطان إلى أسفل ويطهر الهواء ،
ويهيئ لنا الطريق الصاعد إلى السماء،
«عبر الحجاب أي جسده » ( عب ۱۰ : ٢٠ ) كما قال الرسول ( بولس ).
وهذا كان يجب أن يتم بالموت .
ولكن بأي موت إلا بالموت الذي يتم في الهواء أعني الصليب ؟
لذلك كان لائقاً أن يحتمل الرب مثل هذا الموت،
لأنه إذ رفع هكذا طهر الهواء من شر إبليس وجميع الشياطين ،
كما يقول : « رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق » ( لو ۱۰ : ۱۸ )
وكرَّس الطريق الصاعد إلى السماء ].
” أشهرهم جهاراً “ :
أي فضحهم علانية . ومعنى أن الرب شهر بالرؤساء والسلاطين ، أنه أظهر ضعفهم وعجزهم بعد أن جردهم من سلاحهم وحط من كرامتهم ورتبتهم ، وفضحهم أمام العالم كله ” . وبذلك أعطى للمؤمنين باسمه القوة على زجر إبليس وكل أعوانه : « ها أنا أعطيكم سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ، ولا يضركم شيء » ( لو 19:10 ) ، « قاوموا إبليس فيهرب منكم » ( يع 7:4).
يقول القديس الروسي يوحنا كرونستادت:
[إن الشياطين ترتعب من منظر الصليب ، وحتى من مجرد الإشارة به باليد . لأن السيد المسيح له المجد ظفر بالشيطان وكل قواته ورئاساته على الصليب ، وجردهم من رئاساتهم وفضحهم فصارت علامة الصليب تذكيراً لهم بالفضيحة وإشارة إلى العذاب المزمع أن يطرحوا فيه ]
” ظافراً بهم فيه “:
الكلمة ” ظافراً “ ، هي محور الآية كلها ، وهي الكلمة التي تشير إلى مواكب النصر. والترجمة الحرفية لهذه الكلمة تأتي هكذا : ” قائداً إياهم في موكب نصرته “ . فبعد أن جرد الرب الرؤساء ثم فضحهم علانية أمام القوات السماوية ، ها هو يقودهم كأسرى في موكب نصرته وهو في طريق عودته ليجلس إلى الأبد عن يمين الآب.
لقد أراد القديس بولس بهذه الكلمة أن يصور المعركة التي جازها المسيح من أجلنا ، لكنه يعود ويستخدم نفس هذه الكلمة مرة أخرى مظهراً دورنا نحن في هذا الموكب الانتصاري :
+« ولكن شكراً لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ، ويُظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان » ( 2 كو14:2).
كان يجب على قادة روما الاحتفال بمواكب النصر مراراً كلما أحرزوا نصراً على أعدائهم ، أما الرب يسوع فقد سار في موكب نصرته مرة واحدة ، لأنه حقق فداء أبدياً ، ثم جلس عن يمين العظمة : « ليس بدم تيوس وعجول ، بل بدم نفسه ، دخل مرة واحدة إلى الأقداس ، فوجد فداءً أبدياً» ( عب 12:9) .
وكان قادة روما يصطحبون معهم الرومان الذين كانوا أسرى وتم تحريرهم . هكذا يقودنا الرب يسوع في موكب نصرته بعد أن عتقنا من سلطان إبليس ونقلنا إلى ملكوته . ونحن لا نسير خلفه في موكبه ، بل نحن نسير معه وفيه : « أقامنا معه ، وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع » ( أف6:2) .
وكان قادة روما في زهوهم وكبريائهم يضعون على رأسهم أكاليل الغار ، ويلبسون الملابس الملوكية الحمراء وهم راكبون مركباتهم الحربية . أما الرب يسوع ففي اتضاعه كان تاجه من الشوك ومركبته هي الصليب الذي من فوقه حقق لنا الفداء الأبدي ، أما رداؤه الأحمر فكان دمه الذي تخضب به جسده ، ونضح منه على المؤمنين .
السيدة المختارة | كتب أنبا إبيفانيوس | البوق الأخير |
كتاب مفاهيم إنجيلية | ||
المكتبة المسيحية |