هوذا ابنك … هوذا أمك

 

هوذا إبنك … هوذا أمك  (يوحنا 19: 26 ،27)

     كان الاهتمام بالآخرين هو أول ما يشغل الرب على الصليب. فكما أهتم بصالبيه ، وقال ” يا أبتاه أغفر لهم “هوذا ابنك … هوذا أمك وكما اهتم باللص اليمين ووعده قائلا ” اليوم تكون معى فى الفردوس ” ، اهتم أيضا بأمه ، وعهد برعايتها إلى تلميذه الحبيب يوحنا.

     عهد بالبتول إلي تلميذه البتول…

     عهد بأمه التى حملته كثيراً على صدرها ، إلي تلميذه الحبيب الذي أتكأ كثيراً على صدره. عهد بأمه التى وقفت إلي جوار صليبه ، إلي تلميذه الوحيد الذي تبعه حتى الصليب.

     عهد بأمه التى حملت فى داخلها جمر لاهوته ، آلي تلميذه الذي كتب انجلا فيما بعد يثبت فيه لاهوته.

قال لها ” هذا هو ابنك. وقال له ” هذه هى أمك “.

ومن ذلك الحين أخذها التلميذ إلى بيته (يو47:19).

     وبهذا أعطانا الرب مثالا عن الاهتمام بالأقرباء حسب الجسد ، وبخاصة الأم. لقد اهتم بهذا المستودع الذي حمله تسعة أشهر ، وبهذه الأم التى اهتمت به قبلا ، والتى عاش خاضعا لها (لو51:2).

     ان الشخص فى آلامه يكون موضع اهتمام الناس به. اما المسيح فى آلامه ، فكان هو المهتم بغيره…

     كم بالحرى الآن وهو فى راحته ، يهتم بنا بالأكثر…

اهتمامه الأول وجهه إلى غفران الخطايا ، وبعد ذلك اهتم بالرعاية الاجتماعية. وكانت الأم هى أول من اهتم به فى هذه الرعاية .

     لقد ظن البعض – عن سوء فهم – أن السيد الرب فى تركيزه على العلاقات الروحية ، قد أبطل الاهتمام بهذه العلاقات العائلية فى قوله ” من هى أمى ، ومن هم أخوتى… الذي يفعل مشيئة أبى الذي فى السموات هو أخى وأختى وأمى ” (متى48:12،5.). ولكن هذا الفهم الخاطىء ألغاه الرب على الصليب.

     إن التكريس ، والتفرغ لخدمة الرب ، والانشغال بالأسرة الكبيرة التى هى الكنيسة الجامعة ، كل ذلك لا يعنى إهمال الانسان لأقربائه وخاصة ، ولا سيما أهل بيته. (1تى8:5) وكل ذلك لا يعفى الانسان من أكرام والديه أو من الاهتمام بأمه.

    وكأنما كان هناك موعد بين السيد المسيح وأمه القديسة العذراء. كان وجهها الطاهر أول وجه يراه عند مجيئه آلي هذا العالم بالجسد ، وكان آخر وجه يراه قبيل تسليمه الروح فى يدى الآب … إنه قلب الأم المحب الذي يسعى وراء الابن أينما كان ، ويلازمه فى آلامه فى حب.. ويناجيه بتلك العبارة المؤثرة ” أما العالم فيفرح لقبوله الخلاص. وأما أحشائى فتلتهب بالنار عند نظرى إلى صلبوتك الذي أنت صابر عليه من أجل الكل ياإبنى وإلهى” .

وهو أيضا قلب الابن الذي يهتم بأمه وهو فى عمق آلامه.

     وهكذا وجد السيد المسيح من اللازم أن يعتنى بأمه فى آلامه ، ويقول لها كلمة تعزية بينما يجوز فى نفسه سيف (لو35:2)… وجد من المناسب له كإبن أن يعزى أمه فى آلامها. وقد عزاها بثلاثة أمور : بالحديث معها ، وبالعناية بها وتدبير أمورها. وبمنحها ابنا روحيا يؤنس وحدتها..

     وحدث الرب مع أمه على الصليب ، يختلف عن حديثه مع اللص اليمين. هو الذي بدأ الكلام ، والرب رد عليه. أما مع القديسة مريم ، فالرب هو الذي بدأ الكلام… إنها أمه. لا ينتظر حتى تكلمه فيرد عليها. ولا ينتظر حتى تشكو إليه فينظر فى شكواها… وهى لن تشكو. فقد تعودت العذراء أن تصمت. حتى إلى جوار الصليب ، لم يقل أحد أنها كانت تصرخ أو تندب ، إنما كانت رصينة ورزينة فى ألمها ، وصامتة. وكان الرب يفهم صمتها ويسمعه ، ويعرف دواخل قلبها ومشاعرها. فكلمها دون أن تطلب. وأطاعت كلامه ، وذهبت مع التلميذ الحبيب آلي بيته… 

     وكانت العذراء بركة ليوحنا ، وبركة لبيته ، منحه المسيح اياها ، مكافأة له على حبه … أخذها التلميذ كجوهرة ثمينة أغلى من العالم كله… وظلت فى بيته وديعة غالية حتى تنيحت… ويقال أن يوحنا الرسول لم يبرح أورشليم إلا بعد نياحة العذراء… إن كان يوحنا قد وصل فى حبه أنه تبع المسيح إلى الصليب ، وظل واقفا إلى جواره ، فيجب أن ينال مكافأة على ذلك ، هنا وفى الأبدية… أما هنا ، فقد نال بركة العذراء ، وإقامتها فى بيته… إن كل الذين يتبعون المسيح ، لابد أن يأخذوا منه شيئا… لابد أن يغترفوا من بركاته ومن نعمه.

     والعذراء أخذت يوحنا لها ابنا. اعطاها الرب أكثر تلاميذه حبا وعاطفة ورقة وتعلقا واخلاصا… يوحنا الحبيب أكثر من تكلم من الرسل عن المحبة… هو الذي قال أن ” الله محبة ” (1يو16:4) ، هو التلميذ الذي ” يتكىء فى حضن يسوع ” ، وكان ” يسوع يحبه “. إنه أكثر إنسان يقدم للعذراء صورة إبنها…

     كان يبدو أن المسيح على الصليب لا يملك شيئاً. حتى ملابسه ، أخذوها واقتسموها فيما بينهم. ولكنه كان يملك يوحنا ، فأعطاه لأمه ، يوحنا الذي وهب قلبه للمسيح ، فأخذ المسيح هذا القلب ، ووهبه لأمه… وهكذا جمع الرب محبيه معا… واهتم بأمه عاطفيا ، كما اهتم بها ماديا…

     ترى من الذي كان يهتم بالآخر : العذراء أم يوحنا … كانت العذراء فى بيت يوحنا ، لا لتأكل منه ، وانما لتملأه بركة ونعمة… ولكى تمنحه أيضا معرفة بالمسيح ، أعمق من كل ما يعرفونه. وأوسع …

     نلاحظ أن كون المسيح يعهد بأمه آلي تلميذه يوحنا ، يحمل دلالة اكيدة على ان السيدة العذراء لم يكن لها أبناء آخرون بعد المسيح كما يدعى البروتستانت. لأ؟نه لو كان لها أبناء ، لكانوا أولى برعايتها وبنوال بركتها من آي شخص غريب… لقد كانت العذراء وحيدة فى ذلك الوقت : ليس لها أبناء ، ويوسف النجار قد تنيح منذ زمن . فعهد بها المسيح إلى تلميذه…

     وعبارة ” هذا هو أبنك ” تعطينا فكرة عن البنوة الروحية كما توضح لنا كرامة العذراء بالنسبة إلي آبائنا الرسل انفسهم …

فاصل

من كتاب كلمات السيد المسيح على الصليب لقداسة البابا شنودة الثالث

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى